القَبول الجزئي لمبادرة “خطوة مقابل خطوة”: ما هو الجديد في بيان هيئة التفاوض السورية؟
مقال صادر عن وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري
بعد أكثر من ثلاث سنوات على تعذُّر اجتماع الهيئة العامة لهيئة التفاوض السورية شهدت جنيف عقد أول اجتماع للهيئة يومَي 3 و4 حزيران الجاري، وذلك بحضور جميع المكونات وتشمل: منصتَي “القاهرة” و”موسكو”، و”هيئة التنسيق الوطنية”، و”الائتلاف الوطني السوري”، والأعضاء المستقلون، والفصائل العسكرية.
وحيث إنّ هذا الاجتماع يأتي في توقيت شديد الحساسية والأهمية تبعاً للتطورات الأخيرة في الملف السوري والتي ارتبطت بانفتاحٍ إقليمي متزايدٍ نحو نظام الأسد، تُوّج بقرار جامعة الدول العربية إعادة مقعد سوريا لنظام الأسد؛ فإنّ رصد المواقف الرسمية التي تبنّتها هيئة التفاوض بعد اجتماعها في جنيف يغدو مهماً أيضاً. وبناءً عليه يناقش هذا التقرير الرصدي بإيجاز أبرز مضامين البيان الختامي لهيئة التفاوض السورية ودلالاته بوصفه المعبِّر عن موقفها المعلن، وفي ضوء التطورات الأخيرة في المسار السياسي المرتبط بالقضية السورية.
السياق العام لاجتماع هيئة التفاوض؛ التوقيت الحَرِج
شهدت الأشهر الأخيرة تطورات متسارعة وغير مسبوقة في سياق مسار الحل السياسي السوري؛ إذ أعقب زلزالَ 6 شباط في شمال غرب سوريا وجنوب تركيا نشاطٌ دبلوماسي مكثف عنوانه التطبيع مع نظام الأسد. فعربيّاً مرّ التطبيع عبر محطتَين هما[1]: الاجتماع التشاوري في جدة بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية والأردن ومصر والعراق منتصف نيسان الماضي[2]، واجتماع عمّان التشاوري بحضور نظام الأسد مطلع أيار الماضي[3]، ومهّدت هاتان المحطتان عملياً لإعادة نظام الأسد إلى الجامعة العربية وحضور رأس النظام اجتماع القمة العربية في جدة[4]. وتركيّاً تُوّجت حركة التطبيع بلقاء وزراء خارجية الدول الأربع “إيران، روسيا، سوريا، تركيا” منتصف شهر أيار/ مايو 2023 في موسكو[5].
بشكل عام ركّزت الخطوات التطبيعية العربية والتركية[6] على الملفات الأمنية والإنسانية التي كانت لها الأولوية، خصوصاً ما يتعلق بإعادة اللاجئين والميلشيات ومكافحة المخدرات واستمرار دخول المساعدات[7]، والتي تتقاطع بالمجمل مع أفكار المبعوث الدولي الخاص إلى سوريا المسمّاة “خطوة مقابل خطوة”[8].
قُوبلت التحركات الأخيرة باهتمامٍ ودعمٍ من المبعوث الدولي؛ فقد عبّر عن ذلك في إحاطته الأخيرة نهاية أيار أمام مجلس الأمن باعتبارها “فرصة”، داعياً إلى اقتران ذلك بأفعال ملموسة وتوظيفها لدعم مسار الحل السياسي، معلّقاً ذلك بشرطَين
هما: “بناء الثقة على الأرض ومسار سياسي حقيقي”[9]؛ في موقفٍ يتسق مع نهج المبعوث الدولي الذي يتبنّاه مسبقاً عبر مقاربة “خطوة مقابل خطوة” بوصفها رؤية تنفيذية للحل السياسي[10].
في ظل هذه التطورات المتسارعة في الاندفاع الإقليمي نحو نظام الأسد لم يكن هنالك -في المقابل- الاهتمام ذاته بقوى الثورة والمعارضة، الأمر الذي دفع الأخيرة للاتجاه نحو الدول المصرِّحة بموقفها الرافض للتطبيع “دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة”؛ حيث عقدت هيئة التفاوض السورية بجميع مكوناتها اجتماعها في جنيف بدلاً من الرياض “المقر الرسمي لها”، تحت عنوان “إعادة توحيد موقف المعارضة السورية والدفع بالعملية السياسية”، لِيُتوَّج هذا الاجتماع ببيان صحفي شدّد على أهمية أن تصبّ الجهود المبذولة عربياً في دعم القرار الأممي 2254 وتنفيذه كاملاً، بما يضمن الانتقال السياسي[11].
ما هو الجديد في بيان هيئة التفاوض السورية؟
جاء بيان هيئة التفاوض السورية ليركّز على مضامين الخطوات العربية والتطورات الخاصة بالمسار الرباعي في موسكو من جهة، مع طرح مجموعة مواقف يغلب عليها إعادة التأكيد على لبّ التسوية السياسية في سوريا والمرتبطة بتحقيق الانتقال السياسي وتحسين الأوضاع الإنسانية:
- تمسكت هيئة التفاوض بالقرار 2254 بشكل واضح عبر الدعوة لتنفيذه بشكل “كامل وصارم” بوصفه سبيلاً وحيداً لتحقيق انتقال سياسي، والقضاء على الإرهاب وضمان انسحاب المليشيات والجيوش الأجنبية ووحدة سوريا ودورها العربي والإقليمي والدولي، وهو ما يُعدّ ردّاً ضمنيّاً على الطروحات العربية التي تسعى للتركيز على الملفات الإنسانية والأمنية وتجاهل الانتقال السياسي، بمعنى آخر: كانت الهيئة واضحة في رفض إيجاد بدائل عن القرار 2254 تحت أي مبرر؛ في إعادةٍ لمواقفها السابقة التي أعلنتها عقب اجتماع الرياض2[12].
- أكّدت الهيئة أن تقديم “مكاسب مجانية” لنظام الأسد عبر التطبيع معه وإعادته للجامعة العربية هو “ثقة مسبقة” تحمل مخاطر رفضه المضي في الحل السياسي، ورفعه المعاناة عن الشعب السوري.
- ركّز البيان أيضاً على ملف المعتقلين والمختفين قسراً باعتباره أهم القضايا لدى السوريين، وترافق تركيز الهيئة على الملف الحقوقي برفع السقف من خلال إعادة تأكيد ملف المحاسبة والمساءلة كشرط لازم للتسوية السياسية، مع دعوة للتحرك الفعلي فيه. وهو ما يتوافق مع المواقف الغربية المعبَّر عنها مؤخراً في بيان قمة الدول الصناعية السبع[13]، ومن قبلها بيان الرباعي الدولي (الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا) بمناسبة الذكرى الـثانية عشرة لانطلاق الثورة السورية) في آذار الماضي[14].
- انتقدت الهيئة خضوع الأمم المتحدة ووكالاتها الإنسانية لابتزاز نظام الأسد وإملاءاته، والتي أدت إلى اختراق منظومة فساده آليات توزيع المساعدات.
في مقابل ذلك أبدت الهيئة مجموعة مواقف مرنة نسبياً تجاه التطورات السياسية، والتي تمثلت بموقفها من ملف اللاجئين والتعاون مع تحريك ملف التفاوض، على النحو الآتي:
- أبدت الهيئة موقفاً مسايراً للتوجهات الإقليمية بخصوص ملف اللاجئين السوريين من حيث عدم إظهار ممانعتها لعودتهم وفق شروط واضحة متمثلة بأن تكون العودة آمنة وطوعية إلى أماكن سكناهم، مع إدانتها الممارسات العنصرية والانتهاكات التي تطالهم في تلك البلدان وتمسكها بمبدأ حظر الإعادة القسرية[15].
- عبرت عن الانفتاح للتعاون مع تحرك الدول حول الملف السوري من بوابة الأمم المتحدة واستئناف جولات التفاوض دون التركيز على ملف اللجنة الدستورية المعطل، مع حصر ذلك بمنطوق قرار مجلس الأمن الدولي.
- حرصت هيئة التفاوض على تجنب ذكر كلمات النقد والإدانة، مبدية استعدادها للتفاوض المباشر مع نظام الأسد من خلال مطالبتها بأن يكون ذلك عبر دعم جهود الأمم المتحدة، ووفق منطوق ومندرجات قرار مجلس الأمن 2254.
- تجنب البيان الإشارة إلى العقوبات على نظام الأسد سلباً أو إيجاباً، أو الحديث عن دور نظام الأسد في تهريب المخدرات؛ القضايا التي تأتي في صلب التحركات العربية الأخيرة.
مجمل هذه المستجدات في مواقف هيئة التفاوض السورية تبيّن أن ثمّة تراجعاً جديداً في مواقفها السابقة؛ فبعد إعلانها بداية عام 2022 رفضها مقاربة خطوة مقابل خطوة[16] يبدو أن الهيئة قبلت جزئياً هذه المقاربة، وذلك من خلال إبدائها ليونة تجاه قضية عودة اللاجئين، وعدم التمسك بضرورة عدم إعادتهم حتى تحقيق الانتقال السياسي، والتعاطي بواقعية مع المطالب المرتبطة بتيسير دخول المساعدات الإنسانية مع تأكيد أهمية توزيعها بشكل عادل ومتوازن بين المناطق السورية كافة، في مقابل إظهارها التمسك بجوهر قرار 2254 الخاص بالانتقال السياسي.
هل يمكن أن يؤثّر موقف هيئة التفاوض الحالي في مسار الحل السياسي في سوريا؟
تُظهر هيئة التفاوض السورية من خلال بيانها الأخير ومجمل مواقفها المصرَّح بها موقفاً يمكن أن يُوصف بالمبدئي؛ من حيث التمسكُ بمفردات الحل السياسي الرسمية وفق القرارات الدولية، مع انفتاحها للاستمرار بمسار التفاوض من جهة، وإبداء حرصها -في الوقت نفسه- على استمرار صلاتها بالدول الإقليمية الفاعلة في الملف السوري رغم انفتاحها على نظام الأسد، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية وتركيا من جهة أخرى.
غير أن النظر إلى هذه السياسة التي تنتهجها هيئة التفاوض السورية من منظور القراءة التاريخية يُظهر أنها كانت على الأقل سياسة غير فاعلة في التأثير على المواقف الدولية المرتبطة بالملف السوري وحتى على نظام الأسد نفسه؛ في عام 2017، وفي خضم التوجهات الدولية لمسايرة الرؤية الروسية للحل في سوريا من خلال اختصار مسار الحل السياسي باللجنة الدستورية سايرت الهيئة بعد إعادة هيكلتها وإدخال منصة موسكو _التي هي بالأساس أقرب في مطالبها إلى النظام منها إلى المعارضة[17]_ هذه التوجهات، وقبلت الانخراط في اللجنة الدستورية قبل الحديث عن الانتقال السياسي تحت عنوان “الواقعية السياسية”؛ إلا أن ذلك لم ينعكس على مسار الحل السياسي بشكل إيجابي، بل على العكس سمح بالتحول نحو التركيز على اللجنة الدستورية، واختصر القضية السورية في مجموعة نصوص مختلف عليها تناقشها “السلطة مع معارضيها”، بعيداً عن جوهر القضية المتمثل في مطالب شعبية محقة في الحرية والكرامة وتجاوز حقبة الاستبداد المتمثل في سلطة طائفية تحتكر مؤسسات الدولة السورية الحالية.
بعيداً عن العوامل الذاتية المرتبطة بهيكلية قوى الثورة والمعارضة ومواقفها يبدو أن السياق الموضوعي له أثرُه كذلك في الحدّ من قدرة هيئة التفاوض على إحداث تغيير في المقاربات الدولية والإقليمية الحالية؛ نظراً لخضوع الملف السوري كاملاً _بما فيه الحل النهائي_ للتوازنات الدولية، والتي أدّت سابقاً إلى التحول التدريجي من الانتقال السياسي في بيان جنيف 1 إلى ملفَّي الدستور والانتخابات، وحالياً إلى مقاربة “خطوة مقابل خطوة” التي شهدت تباعاً تنازلات من الهيئات الممثلة لقوى الثورة والمعارضة ضمن إطار “الواقعية السياسية” والحفاظ على صوت المعارضة في المسار السياسي الدولي[18].
كل ذلك يُظهر أن هامش تأثير المواقف الموضوعية الحالية لهيئة التفاوض ومكوناتها يكاد يكون معدوماً في مسار الحل السياسي، وأن التركيز على المضامين بما في ذلك التمسك بالقرار 2254 يُعد أمراً جيداً وإيجابياً؛ ولكنه غير مؤثّر، الأمر الذي يتطلب إعادة التفكير بالهيئة ذاتها وتكوينها، والدفع نحو إيجاد جهة سورية تتمتع بالشرعية الداخلية وتضمّ شخصيات سورية وازنة تسمح بردم الفجوة الأساسية والمستمرة بين الهيئات الرسمية والحاضنة الشعبية في شمال غرب سوريا.
في ظل معاناة هيئة التفاوض السورية _حالها حال مكوناتها مثل: الائتلاف الوطني والمنصّات وهيئة التنسيق_ من حالة ترهُّل بنيوي، وأثر ذلك في ضعف تأثيرها في الحاضنة الشعبية، وبالتالي قدرتها على الفعل السياسي المنظم والقادر على التأثير في ظل التعقيدات التي تحيط بالملف السوري؛ فإن الخيارات التي يمكن أن تسهم في تغيير الواقع حالياً لا تتمثل في إبداء مواقف موضوعية جديدة بقدر الالتفات نحو تقوية البيت الداخلي؛ وذلك بين القوى والحاضنة الشعبية وليس بين قوى المعارضة ذاتها، من خلال السعي لاستعادة ثقتها من جهة[19]، ومن ثم الانتقال إلى تشكيل جسم أو هيئة سياسية تنسيقية يمكن أن تقود لاحقاً إلى قيادة سياسية وازنة لقوى الثورة والمعارضة من جهة أخرى.
لمشاركة المقال:
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة