مقدمة:
بعد سلسلةٍ من التصريحات التركية خلال الفترة الماضية عن التقارب مع نظام الأسد وإمكانية فتح قنوات تواصل معه جاءت تصريحات أخرى ذات دلالات تبدو متضاربة أو غير متّسقة مع التصريحات المحفّزة لبدء التقارب؛ منها تصريح المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن الذي هاجم نظام الأسد واتهمه بتعطيل الحل السياسي وأكّد أن المعارضة السورية لا تثق به[1]، في وقتٍ غاب فيه تماماً الحديث عن الملف السوري عموماً وموضوع التطبيع خصوصاً عن تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخراً[2]؛ مما قد يوحي أن ثمّة اضطراباً وعدم وضوح في الرؤية التركية تجاه هذا الملف حتى الآن.
يأتي الغموض حول هذا الموضوع خلال فترةٍ توالت فيها التصريحات التركية التي تحدثت عن موضوع التطبيع، من ضمنها تصريح وزير الخارجية التركي الذي أكّد أنه يجب إيجاد “توافق” بين المعارضة ونظام الأسد في سوريا من أجل الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، ولم يستبعد اتصال أردوغان ببشار الأسد[3]، فيما أكدت مصادر تركية عديدة انعقاد اللقاءات على المستوى الاستخباراتي بين تركيا ونظام الأسد، ونقلت وكالة رويترز عن 4 مصادر أن رئيس المخابرات التركية حقان فيدان عقد عدة اجتماعاتٍ مع مدير “مكتب الأمن القومي” لدى نظام الأسد علي مملوك في دمشق خلال الأسابيع القليلة الماضية[4]، وحسب الوكالة فإن فيدان ومملوك أجريا تقييماً لإمكانية وكيفية أن يلتقي وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو ووزير خارجية نظام الأسد فيصل المقداد في نهاية المطاف[5].
تطورات إقليمية ذات صلة:
مع قيام حركة حماس الفلسطينية بالتطبيع مع نظام الأسد بعد مفاوضات ووساطات طويلة الأمد وراء الكواليس امتدت لخمس سنوات[6] تبرز تساؤلات مجدداً عما يتم خلف الكواليس بين أنقرة ونظام الأسد، لاسيما مع تصريحات القيادي في حماس خليل الحية -الذي زار دمشق- وتحدّث فيها عن تشجيع تركيا وقطر خطوتهم في التطبيع، وإنْ تراجعَ عنه لاحقاً في تطوُّرٍ مثيرٍ للتساؤل والاهتمام[7].
في الوقت ذاته تسير أنقرة بخطى ثابتة متّسقة في العودة إلى سياسة التوافق مع مختلف الفاعلين، وكان لافتاً مؤخراً زيارة وزير الدفاع “الإسرائيلي” إلى أنقرة، واستقباله بحفاوة بالغة من قبل وزير الدفاع التركي ومن الرئيس التركي أيضاً، في الوقت الذي تحدثت فيه بعض المصادر عن أن “اسرائيل” ليست بعيدة عن الجهود الروسية في الوساطة بين أنقرة ونظام الأسد؛ إذ أكّد مصدر أمني أن التفاوض بين أنقرة ودمشق يتم بتنسيق مباشر مع “إسرائيل”، التي تتفق مع موسكو وأنقرة وحتى دمشق على ضرورة منع إيران من التوسع، وعزّز تلك التكهنات مطالبة بشار الأسد الميلشيات الموالية لإيران بعدم التصعيد ضد “إسرائيل”، وتجنُّب استهدافها من مناطق سيطرته رغم تصاعد ضربات “الإسرائيلية”[8].
منذ بدء التدخل الروسي وتنسيقه بشكل مكثف مع “الإسرائيليين” كان التوافق الروسي “الإسرائيلي” قد شكَّل عنصراً جاذباً تدور في فلكه قوى الإقليم المحيطة، وتحاول مقاطعة أمنها الوطني مع توجهاته في بيئة حضور أمريكي هشّ[9]، وهو ما ينطبق على تركيا أيضاً بوصفها فاعلاً إقليمياً، وتأتي الخطوات التركية في وقتٍ تتعرض فيه الحكومة لتحدّيات داخلية تتمثل باقتراب الانتخابات وضغط قضية اللاجئين، وبرود العلاقات التركية الأمريكية.
مفاوضات بالتزامن مع تحركات على الأرض:
وسط مفاوضات ما زالت فيما يبدو تراوح مكانها ظهرت ملامح واضحة في السياسة التركية خلال الأسابيع الماضية عن أن أكثر ما يهم أنقرة هو “مكافحة الإرهاب”، في إشارةٍ خاصةٍ إلى مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية-قسد” التي تُصنّفها أنقرة تنظيماً إرهابياً تابعاً لمليشيا حزب “العمال الكردستاني”، وهذا ما جاء في تصريحات لأردوغان أكّد فيها أن تركيا لا يهمّها الفوز على الأسد وإنما “مكافحة الإرهاب” في إشارة منه إلى مليشيا “قسد”، فيما أعلنَ وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو استعداد أنقرة لدعم نظام الأسد سياسياً فيما لو قرّر طرد “قسد” من الحدود[10]، يُضاف إلى ذلك ملف اللاجئين السوريين الضاغط على الحكومة مع اقتراب الانتخابات.
لكنّ الرسائل والتصريحات التركية -التي يرى مراقبون أنها بتشجيعٍ ودفعٍ روسي لإحياء علاقات أنقرة ودمشق- جاءت في وقتٍ بدت فيه أواصر العلاقة بين “قسد” ونظام الأسد قويةً، فقد فتحت “قسد” أبوابها لدخول مجموعات كبيرة تابعة لنظام الأسد والمليشيات الإيرانية إلى عدة مناطق تحت سيطرتها، كما وجّه قائد “قسد” مظلوم عبدي دعوةً رسميةً لنظام الأسد لمواجهة العملية العسكرية التركية التي سبق الترويج لها، داعياً إلى استخدام أنظمة الدفاع الجوي ضد الطيران التركي، في وقتٍ تمَّ فيه إنشاء غرف عمليات مشتركة بين مليشيات “قسد” ونظام الأسد والمليشيات الإيرانية[11]، كما جرت تدريبات برمائية تُعد الأولى من نوعها بين عناصر من نظام الأسد و”قسد” برعاية روسية[12].
فضلاً عن ذلك فإنّ وتيرة الهجمات ضد مناطق النفوذ التركي والأراضي التركية ازدادت بشكل ملحوظ بعد دخول مجموعات من نظام الأسد والمليشيات الإيرانية إلى مناطق “قسد” وانتشارها في عدة قرى وبلدات حدودية، وشهدنا تبنّي “قسد” رسمياً لأول مرة شنّ هجمات مباشرة على عدة مناطق في الداخل التركي[13]، إضافة إلى وقوع عمليات قصف استهدفت مناطق تعدُّها أنقرة آمنة في الشمال السوري انطلاقاً من النقاط المشتركة الخاضعة لسيطرة نظام الأسد و”قسد”[14]، مما يوحي بوجود تنسيقٍ عالي المستوى بين تلك الأطراف للتصعيد ضد مناطق النفوذ التركي شمالي سوريا، وذلك في الوقت الذي كانت تنتظر فيه تركيا من نظام الأسد شنّ هجوم ضد “قسد” وإنهاء وجودها من المنطقة الحدودية، معوّلة فيما يبدو على وعودٍ روسيةٍ بذلك، لاسيما وأن موسكو لم تُبدِ موقفاً ليّناً فيما يخص بدء تركيا عمليةً عسكريةً جديدة ضد “قسد”[15]، وتسعى إلى جعل أكبر المكاسب لصالح نظام الأسد عبر تخويف “قسد” بتركيا، والتأكيد لتركيا أنه لا يمكنها حل مشكلتها دون التنسيق مع نظام الأسد.
هل تختبر تركيا العرض الروسي؟
تمارس أنقرة مع روسيا سياسة النّفَس الطويل والصبر الاستراتيجي لإظهار جدّيتها أمام الضغط الروسي، ووضع الكرة في ملعب روسيا ونظام الأسد، لاسيما في أهم محدّدَين تريدهما أنقرة من نظام الأسد، وهما ما جاء في تصريحات وزير الخارجية التركي الذي أكد أن بلاده مستعدة للتفاوض مع نظام الأسد[16]؛ أولهما: تأكيد وحدة الأراضي السورية؛ في إشارة إلى ضرورة محاربة “قسد”، وثانيهما: تحقيق عودة الناس إلى بلادهم؛ في إشارة إلى اللاجئين السوريين في تركيا. وهذان الشرطان يبدوان هدفين مُهمّين لأنقرة؛ إذ إن غرض المحادثات بالنسبة إلى الحكومة التركية تقديم أوراق تُقوّي موقفها داخلياً مع اقتراب الانتخابات، وبالتالي فإنّ ذلك يعطي إشارة واضحة إلى أنّ هدف تركيا في هذه المرحلة الحالية على الأقل هو العمل على التخلص من “قسد” وإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم. ولكن هل يمكن تحقيق ذلك عبر نظام الأسد؟ تبدو هذه هي النقطة الجديرة بالاهتمام، إذ تعني استحالة تحقيقها ضرب الخطط الروسية الساعية إلى فتح قنوات التطبيع بين نظام الأسد وتركيا.
لابد ابتداءً من التأكيد أن نظام الأسد كان هو المسؤول عن سيطرة مليشيا حزب الاتحاد الديمقراطيpyd على مناطق الشريط الحدودي منذ العام 2012، ما مهّد تدريجياً إلى انتشار الحزب ونشوء تنظيم “قسد” في العام 2015 الذي يقوده من الخلف حزب العمال الكردستاني pkk[17]، الذي كان هو الآخر يحظى بدعم من قبل نظام حافظ الأسد قبل أن يُضطر للتخلي عنه بسبب تهديد تركيا بشنّ عملية عسكرية عام 1998، وهو ما دفع حافظ الأسد إلى طرد أوجلان من الأراضي السورية عقب توقيع اتفاقية أضنة التي تعطي تركيا حق التوغل مسافة 5 كم داخل الأراضي السورية إذا ما وجدت تهديداً لأمنها القومي[18].
بعد توقف عملية “نبع السلام” التي أطلقتها القوات التركية ضد “قسد” عام 2019 بموجب اتفاقية سوتشي مع روسيا تم التوافق بين أنقرة وموسكو على انتشار قوات نظام الأسد في مناطق الشريط الحدودي وانسحاب “قسد” بمسافة 30 كم عن الحدود التركية[19]؛ لكنّ هذا لم يحصل لجملة من الأسباب، على رأسها عجز نظام الأسد فعلياً عن طرد “قسد” من الشريط الحدودي، لاسيما وأن بعض المناطق واقعة تحت النفوذ الأمريكي لا الروسي، وحتى المناطق الواقعة تحت النفوذ الروسي لم يكن لدى نظام الأسد رغبة أساساً في مواجهة “قسد” فيها، مثل منطقة تل رفعت التي ليس فيها أي خطوط إمداد لـ “قسد”، وتمرّ جميع القوافل العسكرية التابعة لـ “قسد” عبر مناطق سيطرة نظام الأسد للوصول إلى تل رفعت.
لا يغيب ذلك عن صانع القرار التركي، وهذا ما يطرح تساؤلاتٍ عما إذا كانت أنقرة تعوّل جدّياً على نظام الأسد في هذا الخصوص، أم أنّ كل تصريحاتها السابقة في موضوع التقارب تهدف إلى إحراج روسيا لتؤكد لها أنّ نظام الأسد غير متعاون في فتح قنوات حوار على اعتبار أنه وضع شروطاً أشبه ما تكون بالتعجيزية لعودة العلاقات إلى ما قبل عام 2011، وعلى رأسها الانسحاب الكامل للجيش التركي من سوريا، ووقف دعم المعارضة المسلحة في سوريا وفق ما جاء في تصريحات وزير خارجية نظام الأسد فيصل المقداد[20]؛ وهو ما يبدو مستبعداً إلى حدٍ كبير بالنسبة إلى تركيا بعد سنوات من تأسيسها لوجود طويل الأمد في سوريا يحفظ أمنها القومي ويضمن سلامة خططها الرامية لإعادة اللاجئين السوريين. فمن دون الوجود العسكري التركي ستزداد عوامل رفض اللاجئين السوريين للعودة إلى شمال سوريا، علماً أنها مرتفعة أساساً لجملة من العوامل الموضوعية[21].
يُضاف إلى ذلك كله أنّ نظام الأسد نفسه يبدو أنه لا يملك القدرة أساساً على اتخاذ قرار بطرد “قسد” من مناطق نفوذها، لاسيما وأنّ وجودها يحظى بالحماية الروسية في بعض المناطق والأمريكية بمناطق أخرى، كما قد لا يبدو نظام الأسد راغباً بذلك على اعتبار أن “قسد” تنظيم معادٍ للثورة السورية وأسهم في مساندة نظام الأسد في العديد من الميادين، خاصة في معركة السيطرة على مدينة حلب عام 2016[22]، بعكس تركيا التي أعلنت إلى الآن مواقف تؤكد فيها عدم تخليها عن دعم المعارضة السورية[23]، رغم الحديث عن التقارب المحتمل مع نظام الأسد؛ وهذا ما يدفع نظام الأسد إلى الاستمرار بموقفه المتُعنّت لأنه يرفض الأطروحات التركية التي ذُكِر من ضمنها المضي بالحل السياسي وكتابة الدستور.
أما موضوع عودة اللاجئين فإن عرض نظام الأسد أراضي المهجرين في مزادات علنية وفق ما أفادت به بعض التقارير[24] لا يبدو استجابة إيجابية للتقارب مع تركيا؛ بل على العكس من ذلك يعطي إشارة سلبية للتعاطي مع تركيا.
وفق كل ما ذكر يمكن القول: إن ثمّة عدة سيناريوهات متوقعة فيما يخصّ قضية التقارب بين تركيا ونظام الأسد، أكثرها قرباً هو توسيع هوامش التنسيق الأمني وصولاً إلى التطبيع الجزئي[25].
الخاتمة:
في ضوء ما سبق فإن من الصعب الحديث عن حصول تقارب سريع بين أنقرة ونظام الأسد، ولكن في الوقت ذاته لا يمكن القول إن ذلك التقارب غير ممكن مطلقاً، ومن المهم استمرار مراقبته رغم خفوت التصريحات حوله، خاصة مع الدفع الروسي من جهة، ورغبة تركيا في اختبار إمكانية تحقيق شروطها الممثّلة بمحاربة “قسد” وإعادة اللاجئين السوريين من جهة أخرى، وهما شرطان لا قدرة لنظام الأسد على حلّهما أو حتى الرغبة بهما، بل إن مما لُوحظ ورُصِد عرقلة حقيقية من قبل نظام الأسد في تحقيق ذلك، عبر زيادة تنسيقه مع “قسد” لمحاربة الجيش التركي وضرب مشروع المنطقة الآمنة، مما يعني عدم إمكانية تحقيق الأهداف التركية.
فضلاً عن ذلك فليس من الممكن فصل ملف إدلب عن منطقة النفوذ التركي في ريف حلب؛ فنظام الأسد أيضاً لم يُبدِ إلى الآن سياسات تشي بأنه سيتعاون مع أنقرة في تحقيق بيئة مواتية لإعادة اللاجئين السوريين أو عدم حصول نزوح جديد نحو مناطق ريف حلب الشمالي والشرقي، وذلك بسبب القصف الممنهج الذي تتعرض له منطقة إدلب ومحيطها منذ توقيع اتفاق موسكو عام 2020، ولعل هذا ما يدفع تركيا إلى إبقاء جيشها في إدلب لمنع تقدم قوات نظام الأسد، لعدم وجود أي مؤشر ثقة بنظام الأسد وحلفائه، وهذا يدعم القول بأن أنقرة ستظل تُناور في هذا الملف حتى تحسم موضوع الانتخابات في العام 2023.
2 تعليقات