الإصداراتالقوى الدولية الفاعلة في الملف السوريالمقالات التحليليةوحدة تحليل السياسات

نظرة على محركات العلاقات الإيرانية الأمريكية وتأثيرها في الملف السوري

مقال تحليلي صادر عن وحدة تحليل السياسات

يتعاظم الرهان الدولي على مفاوضات فيينا مع تعاضُد المؤشرات الإيجابية التي تشي بقرب التوصل إلى اتفاق نووي جديد بين القوى الدولية المشاركة في المفاوضات وإيران، بعد ترنّحٍ وجولات طويلة نسبياً من المحادثات بين أطراف المفاوضات؛ إذ تشهد البيئة السياسية والدبلوماسية في فيينا تفاؤلاً باقتراب انتهاء مسلسل المفاوضات بعد تأكيد القوى الدولية المشاركة إمكانية التوصل لاتفاق مع طهران يمكن من خلاله إعادة إحياء الاتفاق النووي لعام 2015م وعودة إيران والولايات المتحدة إلى الالتزام ببنود الاتفاق[1].

وعلى الرغم من تقدُّم المحادثات النووية وتحقيقها خرقاً واضحاً فما تزال هناك بعض المعضلات والملفات العالقة التي قد تنسف المحادثات وتأذن بتأزّم الوضع السياسي بين الولايات المتحدة وإيران مجدّداً، مع تمسُّك إيران بشروطٍ تعدّها الولايات المتحدة غير قابلة للتطبيق؛ إذ تطالب إيران برفع جميع العقوبات الاقتصادية التي فرضتها إدارة ترامب الأمريكية بعد انسحابها من الاتفاق النووي عام 2018م، وبتقديم الولايات المتحدة ضمانات سياسية ثابتة من الكونغرس الأمريكي تتعهد فيه بعدم انسحاب أي إدارة أمريكية مستقبلاً من الاتفاق مرّة أخرى[2].

تنبأت كثير من التحليلات والاستشرافات بتوقف عملية المفاوضات النووية مع عودة “الأصوليين” بقيادة الرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي” إلى الحكم في إيران؛ ولكن اتضح مبكراً استمرار المحادثات بين الطرفين وتجاوز عقبات عديدة على الرغم من معارضة أطرافٍ أمريكية وإيرانية، فضلاً عن رفض “إسرائيل” القطعي للاتفاق وتأكيدها أنها ليست معنية به؛ وبالتالي فإنَّ ما وصلت إليه الأوضاع بين الثالوث الإيراني الأمريكي “الإسرائيلي” ليس وليد اللحظة الحالية، إنما يعود ذلك في الحقيقة إلى تشابك العوامل المؤثرة في العلاقات وتنوّعها بينهم، لدرجة تجعل من الصعب على الباحثين حصرها بشكل شامل؛ تلك العلاقات التي بدأنا نشهد محرّكاتها الجديدة مع صعود الثورة الإيرانية عام 1979م.

في السطور اللاحقة محاولة سريعة لكشف الغموض عن العلاقة المعقّدة المتداخلة التي جمعت إيران و”إسرائيل” والولايات المتحدة الأمريكية؛ عبر التأمل في تاريخ العلاقات بين الطرفَين والمنعطفات المهمة فيها، بهدف بناء صورة شاملة لديناميكية العلاقة، وفهم العوامل المحرّكة لها توافقاً واختلافاً؛ بما يساعد على التعامل الأمثل مع تفاعلات هذه العلاقة، وفهم التقاطعات والمصالح المشتركة التي يمكن البناء عليها لصالح الشعب السوري وقضيته في مواجهة المشروع الإيراني في سوريا.

اختلاف مقاربات السياسة الأمريكية تجاه إيران وفقاً لطبيعةالنسق الدولي، وتغير الإدارة الأمريكية:

تركز النظرية الواقعية البنيوية على تأثير طبيعة النسق الدولي (أحادي أو ثنائي أو تعددي القطبية) على سلوك الدول في علاقاتها الدولية، وهو الأمر الذي يمكن من خلاله تفسير سلوك الولايات المتحدة و”إسرائيل” وإيران تجاه بعضها بعضاً؛ فمن خلال تتبع أبرز المنعطفات التاريخية في ديناميكية العلاقة بين هذه الأطراف نجد أنها تأثرت بهذا العامل بشكل ملاحظ، خاصة من طرف الولايات المتحدة باعتبارها زعيمة أحد القطبَين أثناء الحرب الباردة، ثم المتربعة على عرش العالم أحادي القطبية لاحقاً.

فقديماً كان مناخ الحرب الباردة أحد أهم العوامل المؤثرة التي دعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى تمتين العلاقة مع الشاه في إيران؛ إذ كان جلّ الاهتمام الأمريكي حول الطريقة المثلى التي يمكن أن تحول دون انتشار النفوذ السوفيتي في العالم، ثم كان تربُّع الولايات المتحدة على عرش الأحادية القطبية بعد خروجها من الحرب الباردة في أوج قوتها أحد المؤثرات الرئيسة التي أعادت تشكيل السياسة الأمريكية تجاه التحركات الإيرانية الإقليمية، ونقلت العلاقة الإيرانية مع الولايات المتحدة إلى مستوى جديد من التوتر وتناقض المصالح أحياناً، والتعاون والتقارب أحياناً أخرى كما حصل في التنسيق والتعاون بين الجانبين في أفغانستان والعراق.

 ومن ثم جاء تبنّي إدارة أوباما الأمريكية مساراً استراتيجياً يهدف إلى تخفيف الأعباء التي تتحملها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بهدف التركيز على”محور آسيا”، واحتواء العملاق الصيني ليؤثّر بشكل كبير في العلاقة مع إيران؛ إذ آثرت إدارة أوباما في المسار الجديد الذي رسمته اعتماد الدبلوماسية والحوار والتفاوض المباشر مع إيران، بدلاً من التلويح بالخيار العسكري لإقناع إيران بالتخلي عن برنامجها النووي. وفي متابعةٍ للديناميكية ذاتها جادل المروّجون لإدارة بايدن الأمريكية حالياً بأنَّ الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني واتباع سياسة “الضغط الأقصى” قد دفع إيران نحو تحسين علاقاتها مع كل من الصين وروسيا، في عالمٍ بدأ يتجه إلى التعددية القطبية مرة أخرى،  في ظروفٍ ازدادت فيها التوترات بين الصين والولايات المتحدة وسط صعود الصين عالمياً.

 وعليه فإنَّ تفاعلات العلاقة الأمريكية الإيرانية تأثرت بشكل مباشر ببنية النظام الدولي وموقع الولايات المتحدة فيه؛ إذ إنها تنظر فيما يبدو إلى طبيعة علاقتها مع إيران من زاوية مكانتها في النسق الدولي، وصراعها مع القوى العالمية المنافسة الأخرى؛ فقديماً كان الاتحاد السوفيتي في تلك المعادلة وحديثاً نجد الصين، مع تفاعل إيران مع تلك التغييرات.

فضلاً عن ذلك تختلف مقاربات الولايات المتحدة في التعامل مع إيران بين الإدارات الديمقراطية والجمهورية، بل تختلف حتى بحسب العوامل الشخصية للرؤساء الأمريكيين؛ إذ كانت الإدارات الديمقراطية أكثر ميلاً إلى التعامل التفاوضي والحلول الوسط مع إيران، وقد وصل الأمر ذروته مع إدارة أوباما الديموقراطية الذي أكّد عزمه الوقوف ضد حصول إيران على سلاح نووي، مبتعداً عن الأساليب الأحادية والمقاطعة والتهديدات العسكرية التي تميزت بها سياسة إدارة جورج بوش الجمهورية في تعاملها مع إيران ومشروعها النووي، محاولاً رسم مسار جديد قائم على الدبلوماسية والحوار بدلاً عن الخيار العسكري لإقناع إيران بالتخلي عن برنامجها النووي.  كما يلعب اللوبي الإيراني في واشنطن دوراً مهماً في التأثير في عملية اتخاذ القرار الأمريكي؛ إذ إنَّ اللوبي الإيراني كان أكثر حضوراً وقدرةً على التأثير في الإدارات الديمقراطية منه في الجمهورية؛ التي تلعب اللوبيات الصهيونية دوراً في التأثير في قراراتها.

محددات الاستراتيجية الإيرانية في طبيعة علاقتها مع الولايات المتحدة:

بدايةً تُعدّ إيران دولة انتهازية استفادت من المتغيرات الدولية والإقليمية وتقلّبات النظام الدولي لتحقيق مكاسب عديدة؛ إذ استطاعت مثلاً انتهاز فرصة التحول باتجاه الحرب على الإرهاب وما تلاه من غزو الولايات المتحدة أفغانستان والعراق في سبيل تحقيق مصالحها الاستراتيجية وتوسيع نفوذها في كلا البلدَين الجارَين لها. وتستغلُّ إيران اليوم فيما يبدو تلهّف إدارة بايدن لإحياء الاتفاق النووي معها مجدداً في خضم انشغال الولايات المتحدة في صراعها الاستراتيجي مع الصين وفي حلحلة مشاكلها الداخلية. وقد تستثمر إيران أيضاً ــــ متابعة بالمسار السياسي نفسه ـــــ تصاعد حدّة التوتر بين روسيا والولايات المتحدة في أوكرانيا الذي من المحتمل أن يكون له تداعيات مباشرة على الاتفاق النووي، في سبيل تحقيق تنازلات أمريكية فيما يتعلق ببعض القضايا التي ما زالت عالقة بينهما، وأهمها: مخزون إيران من اليورانيوم المخصَّب، وقضية اختبار جدية إزالة العقوبات عنها.

بالعموم تمثّل طموحات إيران “الولي الفقيه” للحصول على دور القيادة الإقليمية عبر ما يُسمى “تصدير الثورة” أولويّةً على باقي الأهداف الاستراتيجية للنظام الإيراني، وتدخل حقيقةً في صميم تركيبة النظام الإيراني، وتخضع لمسارٍ ونهجٍ ثابتٍ غير قابل للتغيير، بغضّ النظر عن تقلبات السياسة الداخلية الإيرانية بين الإصلاحيين والمحافظين، الأمر الذي يحتّم بدوره على إيران التمسك بتفوقها ونفوذها الإقليمي، والمحافظة على دعم وكلائها وحلفائها في المنطقة، لاسيما بعد تحقيق جزء من طموحاتها التوسعية في سوريا والعراق ولبنان واليمن. وفي سبيل ذلك تستخدم إيران أوراقاً تعدّها قوّة داعمةً تمّكنها من تحقيق مكانة ريادية ونفوذ واسع في المنطقة واعتراف دولي بمكانتها وتأثيرها، ولذا فقد تتراجع إيران مؤقتاً عن الوصول إلى امتلاك سلاح نووي، وتقبل بتجميد مشروعها الصاروخي في حال تم الاعتراف بدورها ونفوذها الإقليمي في المنطقة، وهو ما أكده توقيع إيران الاتفاق النووي في العام 2015م وقبولها الحد من قدراتها النووية مقابل رفع العقوبات الاقتصادية عنها؛ والذي أدى إلى تحررها وزيادة توسعها إقليمياً.

ويمكن ملاحظة اختلاف مقاربات السياسة الخارجية بين الإصلاحيين والمحافظين في إيران على الرغم من محدودية الهوامش المتاحة للعمل التي تبقيها سلطة المرشد الأعلى؛ إذ يبقى للرئيس الإيراني هامش يستطيع من خلاله تحديد أوجه السياسة الداخلية والخارجية للبلاد وأولوياتها، وإدارة السياستين الخارجية والداخلية، وترك بصمته الخاصة على الفترة التي يتولى فيها الرئاسة؛ وكل ذلك بمصادقة “المرشد الأعلى” وموافقته. وقد أظهر قدوم روحاني “الإصلاحي” إلى السلطة في العام 2013م وتوقيعه الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة بعد فترة أحمدي نجاد “الأصولي المحافظ” (2005 ــــ 2012م) التي تميّزت بالعدائية والمناكفة مع الغرب حجم التغييرات التي طرأت على السياسة الخارجية الإيرانية مع انتخاب كلٍّ من الرئيسَين؛ فعلى الرغم من سيطرة المرشد إلا أن هناك حيّزاً لتمرير رؤية الرئيس والحكومة باختلاف توجهاتها.

النظرة الإسرائيلية لطبيعة علاقتها مع إيران:

تختلف النظرة “الإسرائيلية” عموماً عن النظرة الأمريكية في طبيعة العلاقة وتفاعلها مع إيران؛ فبينما تدخل العلاقة مع إيران ضمن حسابات الولايات المتحدة العالمية الأشمل فإن “إسرائيل” تنظر إلى إيران كونها منافساً إقليمياً يزاحم النفوذ “الإسرائيلي” الإقليمي في منطقة حيوية لـ “إسرائيل”، ويشكّل خطراً على أمنها. وعلى الرغم من الخطابات الإيرانية النارية ضد “إسرائيل”، والتضخيم الإعلامي لإيران بوصفها مهدِّداً للوجود الإسرائيلي فإن تطورات العلاقة بين الطرفَين تشير إلى خلاف ذلك؛ إذ بقيت النظرة العدائية الإيرانية ـــــ الإسرائيلية المشتركة إلى المحيط العربي المعادي محور العلاقة البراغماتية التي جمعت طهران وتل أبيب، سواءٌ قبل الثورة الإيرانية أو بعدها، على الرغم من تعاظُم وتنامي نظرة بعض الأطراف “الإسرائيلية” إلى التهديد النووي الإيراني تحديداً بوصفه تهديداً وجودياً لـ “إسرائيل”.

أدّى تقهقر العراق بعد حرب الخليج الثانية إلى حدوث فراغ إقليمي جعل كلّاً من إيران و”إسرائيل” تتنافسان على ملء هذا الفراغ؛ فوجدت “إسرائيل” في إيران قوةً إقليميةً صاعدةً يمكن أن تتمدد مستقبلاً ضمن مجالها الحيوي، وهو ما قد يهدّد بدوره التفوق الإقليمي “الإسرائيلي“ في المنطقة، حيث وفّر ذلك الفراغ  الفرصة لإيران لكي تستعيد الدور الإقليمي الذي فقدته بعد سقوط الشاه، وهو ما أثّر عملياً بشكل سلبي في العلاقة الإيرانية مع كلٍّ من الولايات المتحدة و”إسرائيل”، بسبب حرص الولايات المتحدة على تفوق “إسرائيل” في المنطقة وأمنها، وتأثير اللوبي “الإسرائيلي” في واشنطن.

عملياً تغاضت “إسرائيل” عن مشروع إيران التوسعي ومحاولتها التمدد إلى الجوار العربي، ولم ترَ “إسرائيل” تبنّي طهران مفهوم “تصدير الثورة” مهدداً لأمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية العليا في المنطقة، بل إنَّ أي خطوة إيرانية قادرة على زعزعة الاستقرار في المنطقة تصبُّ تماماً في مصلحة “إسرائيل” وهدفها الاستراتيجي؛ متمثّلاً بالضغط على الحكومات العربية لشرعنة وجودها والتطبيع العلني معها، وهذا يعني إخراج “إسرائيل” من العزلة التي تكبّلها وتمنعها من التمدّد في محيطها أيضاً، وكذلك الأمر بالنسبة للولايات المتحدة التي استثمرت في مشروع إيران الإقليمي التوسعي والخوف العربي من التهديدات الإيرانية؛ لشرعنة وجودها في منطقة الخليج العربي، وعقد العديد من الاتفاقيات وصفقات السلاح مع عدد من الدول العربية أبرزها دول الخليج.

ولكن الأمر تغيّر مع ظهور إيران منافساً إقليمياً لـ”إسرائيل”، واستخدامها أوراقاً داعمةً لتعزيز مكانتها على الساحة الإقليمية والدولية، كالملف النووي ومشروعها للصواريخ البالستية ودعم الجماعات المناهضة لـ”إسرائيل”؛ كل ذلك يبدو أنه شكّل خطراً فعلياً على مكانة “إسرائيل” الإقليمية ونفوذها، وهو ما أدّى بطبيعة الحال إلى وضع إيران في سلّم أولويات السياسة الخارجية لـ”إسرائيل”.

تأثير ديناميكية العلاقة الإيرانية مع الولايات المتحدة و”إسرائيل” على المشهد في سوريا:

تمثل سوريا نقطة ارتكاز مهمةً في حسابات إيران الاستراتيجية الإقليمية التوسعية، وقد حرصت إيران على تعزيز حضورها في سوريا والمنطقة عبر التحالف الاستراتيجي مع نظام الأسد؛ الذي بدأت معالمه تتضح مع صعود الخميني إلى سدّة الحكم في إيران بعد انتصار الثورة في العام 1979م. ومع التحولات التي شهدتها الساحة السورية لاحقاً، وانتقال الصراع لمستويات متعددة متداخلة استثمرت إيران ذلك بتغيير حجم وشكل تموضعها النوعي في بنى الدولة ومؤسساتها، لاسيما في مؤسسات الجيش والأمن، وزادت من انخراطها العسكري من خلال الدعم الميليشياوي الأجنبي والمحلي؛ وبالتالي تهدف إيران من خلال مدّ نفوذها في سوريا إلى امتلاك ورقة إضافية تعزز بها حضورها ضمن تفاعلات النظام الإقليمي، إضافة إلى حرصها على امتلاك ورقة أمن “إسرائيل” بوصفها ورقة مهمة تسهم في تحسين تموضع إيران التفاوضي مع الولايات المتحدة فيما يخص الملفات العالقة بين الطرفين كالاتفاق النووي، وهو ما كان له تأثير واضح في العلاقة مع “إسرائيل” والولايات المتحدة، وشكّل رؤيتهما للصراع في سوريا.

ومن جهتها ركّزت الاستراتيجية “الإسرائيلية” مع بدء الثورة السورية على إضعاف نظام الأسد دون الذهاب بعيداً لإسقاطه، متبعةً سياسة “الحياد/عدم التدخل”، في محاولةٍ لاستنزاف جميع الأطراف المتنازعة، ومن هنا تغاضت “إسرائيل” بداية عن التدخل الإيراني إلى جانب قوات النظام لدعمه ومساندته ومنع سقوطه، ولكن مع زيادة إيران حضورها العسكري في سوريا عبر نشر أعداد كبيرة من ميليشياتها، لاسيما “حزب الله” اللبناني، والمباشرة بتحويل مناطق انتشار تلك الميليشيات تدريجياً إلى قاعدة عمليات إيرانية متقدمة، والعمل على بناء قواعد عسكرية تتبع مباشرة لإيران؛ تركّز اهتمام صانع القرار “الإسرائيلي” على إدارة الوجود الإيراني في سوريا، خاصة في المناطق القريبة من الجولان المحتل، ومنع إيران من تشكيل تهديد عسكري ملموس على “إسرائيل”؛ وذلك من خلال الاستهداف المباشر للبنية التحتية للقوات الإيرانية وميليشياتها في سوريا، مع التنسيق والتعاون مع القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في المشهد السوري، كالولايات المتحدة وروسيا والأردن، بغية تأطير النفوذ الإيراني في سوريا.

ولا يبدو الوجود الإيراني بحد ذاته مستفزاً ومقلقاً لـ”إسرائيل”، كما لم يكن “النهج الطائفي” الذي تتبعه إيران في سوريا على صعيد سياستها الخارجية عموماً محل خلاف ”إسرائيلي” إيراني؛ في حين أنّ توسُّع إيران في التغلغل في مؤسسات نظام الأسد والتوغل عسكرياً عبر ميليشياتها إلى مناطق حدودية مع “إسرائيل” يثير فعلياً القلق ”الإسرائيلي”، لاسيما في حال امتلاك مليشيات إيران صواريخ وأسلحة يمكن أن تهدد أمن “إسرائيل”، وكان هذا عاملاً محركاً فيما يبدو للسياسات “الإسرائيلية” تجاه التحركات الإيرانية في سوريا، فتبنّت سياسة قصّ العُشب دون اقتلاعه، من خلال تكثيف هجماتها على المليشيات الإيرانية في مختلف المناطق السورية.

أمريكياً لا تنظر الولايات المتحدة إلى الصراع في سوريا بوصفه ملفاً مستقلاً بحدِّ ذاته؛ بل كونه جزئية من جزئيات تشكّل صورة أوسع عن طبيعة علاقاتها وتنافسها مع القوى الدولية الأخرى الفاعلة في مجريات الساحة السورية، وهو ما ينطبق تماماً على الموقف الأمريكي من التموضع الإيراني في سوريا؛ إذ ينظر صانع القرار الأمريكي (على اختلاف توجهاته السياسية؛ جمهورياً كان أو ديمقراطياً) إليه جزءاً من الملف التفاوضي الأوسع مع إيران، الذي يشكل الملف النووي الإيراني لبّ المفاوضات بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية لكونه يُعد خطاً أحمر بالنسبة إليها، ثم يأتي بعد ذلك ملف القوة الصاروخية وموضوع الانتشار الإيراني في الدول المجاورة، ومنها سوريا.

خاتمة:

على الرغم من التوترات التي شابت العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران فقد بات من المستبعد نشوب مواجهة عسكرية مباشرة بينهما، وعلى أقل تقدير لم يعد الخيار العسكري للتعامل مع إيران وملفها النووي متاحاً على طاولة صانع القرار الأمريكي خلال الفترة القادمة، لاسيما مع حساسية منطقة الشرق الأوسط وتشابك مصالح القوى الإقليمية والدولية فيها، وتصاعد حدّة نزاعات دولية وإقليمية حساسة بالنسبة للولايات المتحدة كما في أوكرانيا، وإمكانية تهديد سوق النفط العالمي، فضلاً عن الحضور القوي للتجارب الأفغانية والعراقية المريرة في الذهن الأمريكي، في ظل لجوء إيران إلى أساليب ردعية غير مباشرة باستخدام وكلائها من المليشيات في المنطقة، كما يحفل تاريخ العلاقات الإيرانية ـــ الأمريكية بالتسويات والمفاوضات والعلاقات البراغماتية؛ التي أتاحت تجاوز مواقف توتر عالية بينهما على امتداد عقود من الزمن.

في المحصلة فإن قرار الدخول في المفاوضات للتوصل إلى حلٍّ بخصوص الملف النووي يُنهي عُقدة العقوبات الجاثمة على الاقتصاد الإيراني منذ عقود هو في الغالب توُّجهٌ عامٌّ لدى النظام الإيراني، الذي يتربّع المرشد الأعلى (علي خامنئي) على قمة الهرم فيه، وهو أعلى سلطة في النظام وصاحب القرار الفعلي في إيران، بما في ذلك السياسة النووية والخطوط الرئيسة للسياسة الداخلية والخارجية وقرار الحرب والسلم، فضلاً عن السلطة المباشرة على المؤسسات البيروقراطية غير المنتخبة، كالجيش والحرس الثوري وأجهزة المخابرات والنظام القضائي، ولكنْ مع ذلك يبقى للرئيس الإيراني هامش يستطيع من خلاله تغيير أوجه السياسة الداخلية والخارجية للبلاد، وترك بصمته الخاصة على الفترة التي يتولى فيها الرئاسة، ومن ذلك تعيين المسؤولين وبناء قاعدة كبيرة ضمن الأجهزة التنفيذية تتيح له توجيه النظام وإعادة هيكلة السياسة الخارجية، وكل ذلك بمصادقة “المرشد الأعلى” وموافقته.

ويبدو أنَّ تصاعد حدّة الأوضاع في أوكرانيا بين روسيا والغرب سيلقي بظلاله على مفاوضات فيينا التي تتشابك فيها القوى المنخرطة في الملف الأوكراني بنسب متفاوتة، وعلى رأسها روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لذا من المرجح أن نشهد تسارعاً في وتيرة محادثات فيينا بعد دخولها الجولة الثامنة، لاسيما بعد الخرق الواضح الذي شهدته المفاوضات بين أطراف التفاوض، وقد تصب هذه التطورات في مصلحة الجانب الإيراني الذي قد يرفع سقف مطالبه للضغط على الولايات المتحدة والغرب لرفع العقوبات والحصول على ضمانات سياسية من الإدارة الأمريكية التوّاقة لإبرام اتفاق نووي جديد مع إيران.

في سياق متصل لا ينبغي التعويل كثيراً على الرغبة والجهود الأمريكية “الإسرائيلية” لإخراج إيران من سوريا؛ ولعلَّ تحجيم الوجود الإيراني ليأخذ دوراً مقبولاً بحيث لا يشكل تهديداً على الأمن “الإسرائيلي” وعلى المصالح الأمريكية الاستراتيجية في المنطقة هو ما تسعى إليه “إسرائيل” بدعمٍ من الولايات المتحدة.

ولابد من انطلاق أي عمل لمواجهة النفوذ الإيراني (كأحد أهم الأعمال في سياق نصرة القضية السورية) من فهمٍ عميقٍ لتعقيدات تلك العلاقة التي تحددها ملفات أوسع وأشمل من كونها محصورة في الجغرافية السورية، لاسيما فيما يتعلق بالعلاقة الإيرانية “الإسرائيلية”؛ التي غالباً ما تكون محلّ جدل مستمر بين بعض مَن يحاول نفي المنافسة والعداء الإيراني “الإسرائيلي” ومَن يتماهى مع البروباغندا الإيرانية التي تركز على ما يُسمى “محور المقاومة“، الأمر الذي يؤكد ضرورة بناء استراتيجية إعلامية توضح ارتباط تلك العلاقة المتناقضة بمشروع إيران الإقليمي التوسعي الذي يهدف إلى الوصول إلى سيادة العالم الإسلامي والمنطقة من خلال تبنّيها وتصديرها نموذجها الخاص عبر “ولاية الفقيه”، واستغلالها قضية فلسطين لترويج مشروعها في الهيمنة والتوسع، الذي يأتي ضمن أهداف سياسية محضة؛ ملخصها: محاولة غسيل سلوكها الطائفي الإجرامي الأسود، والحصول على صكّ براءة من الجرائم التي ترتكبها في سوريا والعراق واليمن ولبنان، وتلميع صورتها أمام الشارع العربي والإسلامي.

 في الختام: تتيح المتابعة الجيدة والفهم الدقيق للمشروع الإيراني وأهدافه إمكانية القيام بفعاليات توعية عامة إعلامياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً في سبيل مقاومة إيران ومشروعها في سوريا والمنطقة عموماً؛ المشروع الذي يفوق خطراً  أي مشروع احتلالي وجودي آخر في المنطقة، وهو ما ينبغي على القوى السورية المعارضة التركيز عليه، مع التركيز المستمر على توضيح السلوك الطائفي للنظام الإيراني، وطبيعة العلاقة البراغماتية التي ينسجها مع الفواعل الإقليمية والدولية الأخرى، لاسيما الولايات المتحدة و”إسرائيل”، وفهم تناقضات المصالح وتغيراتها وتلاقيها، والتركيز على الحقائق دون الركون إلى المبالغات أو نظريات المؤامرة، والتواصل المستمر مع الهيئات والمؤسسات الإقليمية والدولية، خاصة القوى العربية التي تعاني من التمدد الإيراني بشكل مباشر؛ فعلى الرغم من تزايد المؤشرات التي تشي بتحقيق نوع من الاختراق في العلاقات الإيرانية العربية (السعودية والإمارات ومصر تحديداً بدرجات متفاوتة) بعد قطيعة سياسية طويلة نسبياً، وتوقُّع بعضهم اقتراب حل الخلافات بينها تدريجياً؛ إلا أنَّ التناقضات في المصالح وإصرار إيران على مضيّها في مشروعها الطائفي المهدِّد لأمن ووجود دول المنطقة تعيق حدوث مسار تقارب حقيقي فعّال؛ إذ لا يُتوقع تراجع إيران عن أيديولوجيتها السياسية القائمة على “ولاية الفقيه” للوصول إلى تسيُّد المشهد في العالم الإسلامي، لاسيما بعد تحقيق بعض من أهدافها في سوريا والعراق واليمن ولبنان، وهو ما تنظر إليه العديد من الدول في المنطقة بوصفه تهديداً، وذلك بالتوازي مع ضرورة بناء سردية وخطاب إعلامي يفضح الأنشطة العدائية الإيرانية الخبيثة وممارساتها وانتهاكاتها في المنطقة عامة، وفي سوريا على وجه الخصوص، في سبيل حشد الرأي العام العربي والعالمي لكبح جماح النفوذ الإيراني، وحشد الجهود للتركيز على تجريم إيران وارتكابها جرائم حرب بحق الشعب السوري ومختلف شعوب المنطقة، ومحاولتها غسيل جرائمها من خلال التجارة بدعاية “المقاومة والممانعة“.


[1] US official: Vienna talks enter final stage; ‘Only a few weeks left’, BBC NEWS, 2022. At: https://tinyurl.com/2p85rads.  
[2] مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ الحزب الجمهوري (المعارض لسياسة بايدن في التعامل مع الملف النووي الإيراني) يحظى بنفوذ واسع داخل أورقة الكونغرس، وهو ما يشكّل عقبة حقيقة أمام إدارة بايدن الديمقراطية في إعطاء تلك الضمانات لإيران.
يُنظر: لإنقاذ الاتفاق النووي .. إيران تطالب بالتزام سياسي من الكونغرس الأمريكي، العربي، 16/02/2022م، على الرابط: https://tinyurl.com/yc3jhwyu. وواشنطن… نواب جمهوريون يهددون بإحباط “اتفاق نووي” مع إيران، Sputnık عربي، 08/02/2022م، على الرابط: https://tinyurl.com/37uvapwf.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى