آثار العقوبات الأمريكية على فصائل في الجيش الوطني السوري
تقرير صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري
مقدمة:
في 17 آب 2023 فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوباتٍ جديدةً على فصيلَين وقيادات في الجيش الوطني السوري بتهمة مسؤوليتهم عن ارتكاب “انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان” في شمال سوريا، إضافة إلى شركة (Al-Safir Oto) لتجارة السيارات التي قالت الخزانة الأمريكية: إنها مملوكة لقائد فصيل “سليمان شاه” محمد الجاسم المعروف بـ “أبو عمشة”[1].
وبموجب العقوبات سيتمّ حظر جميع الممتلكات ومصالح الأشخاص والكيانات الموجودة في الولايات المتحدة، أو في حوزة أو سيطرة أشخاص أمريكيين وإبلاغ مكتب مراقبة الأصول الأجنبية بها، كما يتمّ أيضاً حظر أيّ كيانات مملوكة بشكلٍ مباشر أو غير مباشر بنسبة 50% أو أكثر من قبل شخص أو أكثر من الأشخاص المحظورين.
وحملت تلك العقوبات العديد من التساؤلات عن آثارها على فصائل الجيش الوطني السوري ومستقبلها في إدارة المنطقة والمعارضة السورية بشكل عام، لاسيما وأن هذه العقوبات ليست الأولى من نوعها التي تُفرض على فصائل في الجيش الوطني تُتهم فيها بارتكاب “انتهاكات”[2]، رغم انطلاق مبادرات محلية العام الماضي سعت للتنبيه إلى وجود هذه الانتهاكات ومحاسبة المتورطين بها[3].
يناقش هذا التقرير بعض الآثار المحتملة لتلك العقوبات على المستويات السياسي والاقتصادي والعسكري، مستعرضاً أبرز ردود الفعل المحليّة عليها، ثم يقدّم جملة من التوصيات للحدّ من عزلة وتهميش مؤسسات قوى الثورة والمعارضة السورية محلياً ودولياً.
آثار سياسيّة واردة.. وردود متسرعة من مؤسسات المعارضة السورية:
مع إعلان الخزانة الأمريكية فرض العقوبات على قادة في الجيش الوطني السوري، الذي يُعد رسمياً من مؤسسات قوى الثورة والمعارضة السورية ردّت وزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة بإعلان رفضها تلك العقوبات ووصفتها بأنّها “ظالمة”[4]، كما قالت قيادة الفصيلَين المعاقبَين في بيان مشترك: إن القرار “غير عادل”، مُذكّرةً بأنها بذلت “جهوداً كبيرة” في سبيل تعزيز العمل التنظيمي الداخلي وضبط سلوك المقاتلين للخروج من حالة الفوضى الفصائلية والانخراط بعملية مأسسة حقيقية تحت مظلة وزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة. ولم ينكر البيان وقوع تجاوزات من قبل بعض العناصر، مشيراً إلى أنه “يتمّ متابعتها بشكل فوري”، معلناً في الوقت ذاته الجاهزية للتعاون مع المنظمات الدولية ذات الصلة بتطوير الخبرات القانونية.
ومع تلك البيانات الرسمية كان هناك موقف لأحد القياديين الذين تعرّضوا للعقوبات تُظهر أنه ليس بوارد مناقشة صحة ما ورد في تقرير الخزانة الأمريكية من الأصل؛ إذ عمد إلى السخرية والاستهزاء من الولايات المتحدة الأمريكية[5]. رغم أن بعض البنود التي أدّت إلى العقوبات ليست مفاجِئة؛ فهي مطروحةٌ بشكلٍ كبير من قبل وسائل الإعلام المحلية، بما فيها المعارضة، التي سعتْ إلى تسليط الضوء على جانب من الانتهاكات التي تقومُ بها بعض الفصائل[6].
المهمّ في هذا الأمر أن بعضاً من فصائل الجيش الوطني السوري التابع للحكومة السورية المؤقتة، مُمثّلة بالائتلاف السوري بعضوية 15 شخصاً محسوبة على مؤسسة ما تزال تحاول أن تصدّر نفسها على أنها “ممثلة للشعب السوري”؛ وهذا ما يضع الائتلاف أمام مشكلة الشرعيّة السياسية مع فرض عقوبات على بعض الأجنحة العسكرية “التابعة له”، وهو ما يهدّد بإمكانية فرض عقوبات على الممثلين السياسيّين لهذه الفصائل في المستقبل، في حال عدم وضع حدّ للانتهاكات المسبِّبة للعقوبات، فضلاً عن خلق إشكاليات في الوضع القانوني لهذه الفصائل واتهامها بالجرائم، مما قد يمهّد لملاحقات بحقها في المستقبل.
إضافة إلى أن العقوبات صدرت ضدّ فصائل تحظى بدعم مباشر من قبل تركيا؛ مما يجعلها رسالة غير مباشرة لأنقرة، التي تُعدّ دولياً وإقليمياً وحتى سوريّاً الطرف المسؤول عن تلك الفصائل، الأمر الذي يُفترض أن يدفع المسؤولين الأتراك إلى الوقوف على طبيعة الانتهاكات، وكفّ يد الأطراف التي تقف وراءها.
يبدو أن استمرار فصائل في الجيش الوطني بالديناميكية ذاتها في التعامل مع العقوبات الأمريكية أو الانتقادات الخارجية أو المحلية التي تتعرّض لها بشكلٍ عام من الممكن أن يقود إلى تداعيات أكبر؛ لأنّ دفاع مؤسسات المعارضة الرسمية مثل الائتلاف الوطني أو الحكومة المؤقتة عن تلك الفصائل -وإن كان في ظاهره حالة طبيعية بحكم أنها فصائل تقاتل استبداد نظام الأسد- دفاعاً مطلقاً دون الوقوف على ما يرد من أسباب أدّتْ إلى فرض تلك العقوبات قد يؤدي إلى احتمالية أن تتعرّض تلك الكيانات لعقوبات أيضاً بحكم علاقتها الوثيقة بتلك الفصائل، مثل الحكومة السورية المؤقتة والائتلاف الوطني؛ وهو مما يُضعف شرعية تلك المؤسسات أمام المجتمع الدولي[7].
تبعات اقتصادية وعسكرية محتملة:
ما سبق يقود إلى نتائج أبعد من سياسية، تتعلّق بإمكانية تقليص الدعم الذي تتلقّاه الفصائل المُعاقبة من الجهات الراعية لها؛ فثمّة مَن يرى أن فرض تلك العقوبات قد يؤدي إلى تضعضع علاقة تلك الفصائل بالجانب التركي الذي يُعدّ الداعم السياسي شبه الوحيد المتبقّي للجيش الوطني السوري، وسبق أن أثنى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عليه عدة مرات، وقال: “إنه يقاتل التنظيمات الإرهابية”[8].
ولكن مع تكرار تعرُّض تلك الفصائل للعقوبات الأمريكية -بسبب موضوع الانتهاكات تحديداً- ربما تضطرّ تركيا إلى تقليل اهتمامها بالجيش الوطني السوري، وهذا ما قد ينعكس بدوره على انخفاض حجم الدعم المقدَّم من جهة، ومن جهة أخرى يزيد الضغط على تركيا؛ لأنه سيضعُها أمام اتهامات بأنّها تحمي فصائل تقوم بارتكاب انتهاكاتٍ ضدّ السكان المحليين.
ومع الاختلاف في تقدير الموقف التركي الحالي من الثورة السورية وفي مكتسباتها منها؛ فإنه لا يُنكر أنها الحليف الأساسي للثورة السورية سياسياً، وحاضنة مختلف مؤسسات الثورة، والبوابة الوحيدة للشمال السوري؛ مما يضع كل ذلك في مأزق إن شعرت تركيا بضغط أكبر عليها بسبب فصائل الجيش الوطني، لاسيما مع ما تعيشه من ضغوطات داخلية وخارجية.
من جانب آخر قد تنعكس آثار تلك العقوبات على المنطقة ككلّ، وتؤدي إلى فرض قيود على عمل بعض المنظمات الإنسانية النشطة في مناطق نفوذ الجيش الوطني السوري؛ مما سينعكس بدوره على السكان المدنيين الذين يعتمد قسم كبير منهم على المساعدات الإنسانية[9].
في المقابل ينظر بعض المحلّلين من زاوية مختلفة لتلك العقوبات؛ إذ يرون أنها رسالة لبقية الفصائل، وأنّ الجانب الإيجابي فيها قد يتمثّل في كونها ستُشكّل ورقةَ ضغطٍ على الفصائل العسكرية للحدّ من الانتهاكات لأنها مُتابَعة من جهة كبيرة مثل الخزانة الأمريكية، الأمر الذي يُفترض أن يدفع بقيادة بعض الفصائل المنضبطة إلى محاسبة المسيئين وتطوير مكاتبها الحقوقية والقانونية، بما يساعد على توعية العناصر؛ وهذا ما يظهر على سبيل المثال في بيانات عددٍ من الفصائل تؤكّد فيها أنها تتخذ آليات لمحاسبة المتورطين بانتهاكات[10]. ولكن تبقى الإشكالية قائمة في إمكانية محاسبة رأس هرم أي فصيل إنْ ثبت تورطه بانتهاكات، وألا تطال المحاسبة – فحسب- العناصر الصغار الذين لا سلطة لهم.
ذريعة “التسييس“؛ إنكار الحقائق وهروب إلى الأمام:
ثمّة مَن يرى أن هذه العقوبات قادتها لوبيّات ضغط داعمة لميليشيا “قوات سوريا الديمقراطية-قسد” تملك تأثيراً في القرارات الأمريكية المتعلقة بسوريا، وتسعى إلى شيطنة مؤسسة الجيش الوطني السوري رداً على مشاركته بمعارك طرد “قسد” من مناطق ذات غالبية كردية مثل عفرين[11]؛ إلا أنّ فرضية اللوبيّات -وإن كانت أمراً وارداً- لا ينبغي أن يعني التعاطي مع العقوبات بحالةٍ من الإنكار، أو توقّع عدم حصول تأثيرات لها على مستويات مختلفة.
كما يقول مَن يُحاجج برفض النظر بأسباب العقوبات المباشرة: إن الولايات المتحدة الأمريكية لا تراقب انتهاكات “قسد” المُتّهمة بارتكاب آلاف الجرائم بحق المدنيين في مناطق سيطرتها شمال شرق سوريا؛ من قتل واعتقالات شبه يومية، إضافة إلى عمليات تجنيد إجباري بحق الأطفال تحصل بشكل متكرر، ولذلك يرى البعض أن الولايات المتحدة تكيل بمكيالَين، وتتغاضى عن انتهاكات حليفتها[12]. ولكن بغضّ النظر عن تلك السردية، ومع صحة كثير من الاتهامات الموجّهة ضد “قسد” فإن كثيرين يرون أنه لا يمكن أيضاً إنكار وجود انتهاكات من قبل بعض الفصائل في مناطق نفوذ الجيش الوطني السوري، لاسيما وأنها موثّقة من قِبَلِ منظمات وثّقت انتهاكات معظم الأطراف السورية، مثل الشبكة السورية لحقوق الإنسان، كما أنّ لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا سبق أن وثقت انتهاكات ارتكبتها فصائل تنتسب لمؤسسة الجيش الوطني السوري[13].
وليس بعيداً عن كل هؤلاء تلك المساعي المحلية الشعبية التي حاولت التنبيه للانتهاكات التي وقعت بها بعض فصائل الجيش الوطني والضغط من أجل استبعاد المفسدين؛ ففي عام 2022 أصدرت “اللجنة المشتركة لرد الحقوق في عفرين وريفها” المكلّفة بالنظر في شكاوى المدنيين والتحقيق في الانتهاكات التي ارتُكبت بحقّهم من قبل فصيل “السلطان سليمان شاه”، قراراً يقضي بعزل قائد الفصيل المعروف باسم “أبو عمشة” من منصبه، بالإضافة إلى خمسة قياديين آخرين بعد إثبات التهم ضدّهم[14]، ثم قالت غرفة القيادة الموحدة “عزم”: إنها تتعهّد بتطبيق قرار اللجنة الثلاثية بعزل “أبو عمشة” من منصبه بسبب تجاوزاته الواسعة؛ إلا أن أيّاً من تلك التعهّدات لم تجد طريقها إلى التطبيق، وعاد “أبو عمشة” إلى منطقة الشيخ حديد، وما يزال على رأس قيادة الفصيل حتى اليوم.
كل ذلك يقود إلى نتيجة مفادها أنّ رفض العقوبات الأمريكية من قبل الجيش الوطني السوري ومؤسسات المعارضة بشكل عام بدعوى أنها مُسيّسة بسبب موضوع “قسد” أمرٌ غير دقيق؛ لوجود إثباتات كثيرة من جهاتٍ سوريّة محليّة، بينها ما هو ناشط ضمن مناطق الشمال السوري يؤكد وقوع انتهاكات بحق السكان المحليين[15].
إضافة إلى ذلك فإن النفي المُطلق لتلك العقوبات يُضعضع علاقة الفصائل بالحاضنة المحلية، بسبب معاناة السكان من الانتهاكات المتكررة من قبل بعض الفصائل، ومن عدم وجود آليات محاسبة على قضايا أثارت الرأي العام، مثل قضية اغتيال الناشط “أبو غنوم” بأوامر من قادة في “فرقة الحمزة”[16]؛ إذ تم تمييع القضية، وحتى مَن تم اعتقالهم على خلفية القضية لا يُعرف مصيرهم وما الحكم الذي صدر بحقهم. وهذا الأمر تكرّر في العديد من القضايا دون وجود مساعٍ حقيقيةٍ للقيام بدور ما يثبت الجدية في وجود قضاء عادل يلاحق المجرمين الذين يقومون بالانتهاكات بحق المدنيين، وليس فقط الاكتفاء بالإعلان عن اعتقال المتسبّب بالانتهاك دون معرفة ما سيؤول إليه مصيره.
الخاتمة:
تعاطي فصائل الجيش الوطني السوري ومؤسسات المعارضة السورية بشكل عام مع قضية العقوبات بالرفض المتكرر لها ولعب دور الضحية ورمي اتهامات التسييس سياسةٌ بات من الواضح ضرورة التخلّي عنها، بل من الضروري التفاعل مع تلك العقوبات وإعلان القيام بخطوات للتحقّق مما يرد في أسبابها، وإيجاد حالة من الرقابة المحلية المستقلة التي تملك التأثير، لاسيما وأن استمرار الرفض والتعنّت قد يؤدي إلى تعرّض كيانات وشخصيات أخرى معارِضة عسكرية وسياسية للعقوبات الغربية.
والتعرُّض للعقوبات مشكلة أخرى تزيد من ضعف مؤسّسات المعارضة السورية التي تُعاني بالأصل من ضعفٍ في شرعيتها أمام المجتمع الدولي، بعد خسارتها أجزاء واسعة من مناطق سيطرتها، وتغوّل “هيئة تحرير الشام-هتش” في منطقة إدلب وإدارتها بشكل مستقل، وهو ما عقّد المشهد وأدّى إلى ضعف موقف مؤسسات قوى الثورة والمعارضة السورية في طاولة المفاوضات؛ ما سيدعم الرواية التي تتداولها بعض الأطراف الموالية لنظام الأسد بهدف شيطنة قوى الثورة والمعارضة السورية بالمجمل، ووصم آخر معاقلها في منطقة الشمال السوري بـ “الإرهاب”؛ مما يجعل من قضية مواجهة تلك العقوبات بالحقائق والخطوات العمليّة أمراً ضرورياً يقطع الطريق على أيّ جهة تحاول المساواة في الانتهاكات بين نظام الأسد والمعارضة؛ لأن مواجهة الأخطاء والسعي لتفكيك المشكلة من شأنه أن يزيد من ثقة المجتمع المحلي أولاً والدولي تالياً بمؤسّسات المعارضة، والاعتراف بها جهة فاعلة سياسياً ومحلياً.
كما أن تلك العقوبات تُظهر ضرورة الاهتمام أكثر بملفّ العلاقات الخارجية للفصائل، وعدم حصر قيادة الفصيل بتوجهات قائده على وجه الخصوص، بل إنشاء مكتب علاقات يقوم بالتواصل -ما أمكن- مع الجهات التي تطلب التحقّق من وجود انتهاكات، وتأمين الحماية لمن يرغب بزيارة المنطقة من الأطراف الخارجية.
والأهمّ من ذلك كله أن يتمّ السعي وبشكلٍ جادّ وحقيقيّ لتحقيق استقلالية قرار القضاء العسكري ومنحه صلاحية تطبيق الأحكام، وعدم ارتهانه لأي فصيل، وتعزيز دوره في متابعة الانتهاكات التي تتمّ من قبل بعض الفصائل العسكرية، ومحاسبة المتورطين بها، وكشف الأحكام التي ينالونها للرأي العام، وعدم إبقاء مثل تلك الأمور في ضبابيةٍ تُثير الشكوك بعدم وجود محاسبة في الأصل لمن يثبت تورّطه بارتكاب انتهاكات.
والانتهاكات بحق المدنيين في مناطق الشمال السوري سببٌ من أساب تراجع حاضنة الثقة بالفصائل؛ وكان هذا موضوع دراسة متعمقة صدرت عن مركز الحوار السوري في عدة أوراق، منها: سبل استعادة الثقة بين الحاضنة الشعبية وقوى الثورة والمعارضة، مركز الحوار السوري، 15/6/2022.