
أدوار المجتمع المدني في إعمال حقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف والتأسيس المطلوب في سوريا الجديدة
تصدر أنباء بين الحين والآخر عن وجود ظروف غير سليمة في بعض السجون ودور التوقيف في سوريا اليوم من قبيل اكتظاظ الأعداد وضيق المساحات المخصّصة لكل سجين أو موقوف أو أشكال من المعاملة القاسية أو اللا إنسانية.. الخ، وهو ما يمكن تفهُّم أسبابه مبدئياً بالمستوى العام للسجون ودور التوقيف والتي يمكن اعتبارها منظومة منهارة في ظل سيطرة نظام الأسد البائد من جهة، ووجود تحديات عديدة تنظيمية وإدارية ومادية تعترض المرحلة الحالية بوصفها مرحلة تأسيسية لنظام العدالة الجنائي ككل في سوريا، وهو الأمر الذي لا يُعدّ من حيث المبدأ حكراً على الحالة السورية، إذ يُعدّ سمة عامة للبيئات الهشة.
بناء على ذلك، ثمة تساؤلات تتوارد في هذا الصدد حول الآليات التي تساعد على تفعيل ضمانات حقوق السجناء في بيئة مغلقة وشديدة الحساسية وبعيدة عن أنظار المجتمع وهي بيئة السجون، ليس من جانب القواعد القانونية والممارسات الإدارية والتي تحتاج لإصلاح شامل على غرار دول قريبة فحسب، بل عبر تطوير أدوار المجتمع المدني ليمارس أدواره بشكل معياري في هذا المجال.
عموماً، يتولّى المجتمع المدني وخاصة المنظمات غير الحكومية المعنيّة بحقوق الإنسان دوراً مهماً في الرقابة على القطاع الأمني ككل بما يشمل الإدارة الأمنية والأجهزة الشرطية وأجهزة إنفاذ القانون المختلفة، وذلك من خلال مجموعة من الأعمال والأنشطة المختلفة والتي تتدرّج في القطاعات الأمنية المحوكمة من الدراسات والاستشارات وصولاً إلى المراقبة، وبالتركيز على حقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف يمكن للمجتمع المدني أن يُسهم بأشكال متعدّدة في ضمان هذه الحقوق، وهو ما يمكن استعراضه عبر سبر مجموعة من الممارسات المختلفة في تجارب عربية ودولية.
على سبيل المثال، في تونس بدأت عدة منظمات حقوقية تونسية منذ عام 2012 القيام بزيارات رقابية، تطوّرت نحو طابع تحالفي عام 2015 عبر إنشاء فريق وطني تحت مُسمّى فريق “رصد أماكن الحرمان من الحرية” والذي تكوّن من 14 جمعية حقوقية، لتتبلور في الفترات اللاحقة هذه الرقابة على السجون من خلال اعتماد رسمي لهيئتين وطنيّتين، ومنظمة حقوقية غير حكومية واحدة فقط، وهي الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وذلك بموجب مُذكّرة تفاهم في عام 2015 تُخوّل المنظمة بإجراء زيارات استطلاعية وفجائية للسجون ومراكز الأطفال الجانحين، وفضلاً عن الدور الرقابي السابق ثمة تعاون واسع بين وزارة العدل والمنظمات والجمعيات الوطنية المختلفة من خلال اتفاقيات مُحدَّدة موضوعياً وزمنياً كبرامج ثقافية وسلوكية ومساعدة نفسية ومهنية.
أما في الأردن، فعلى الرغم من وجود قيود عديدة تشريعية وإدارية تواجه المجتمع المدني، توجد زيارات تُنظَّم بالتنسيق مع الأجهزة الحكومية للرقابة على السجون، كما يتم إصدار تقارير رصد حقوقية للضغط على السلطة وأشهرها تقرير: “على الحافة” الذي أصدرته 17 منظمة حقوقية غير حكومية عام 2020.
بالانتقال إلى تجارب غير عربية، تُقدّم أستراليا نموذجاً يضم مزيجاً من الهيئات واللجان الرسمية الوطنية لحقوق الإنسان مثل: المكتب الوطني لأمين المظالم الذي يتولَّى معالجة شكاوى المواطنين، واللجنة الاتحادية لحقوق الإنسان في عام 1981 إلى جانب عدد كبير من المنظمات ينشط في شتى مجالات حقوق الإنسان كتوثيق وكشف الانتهاكات في السجون ودور التوقيف، والضغط من أجل إقرار التشريعات الوطنية، فيما تُركّز برامج أخرى على دعم التدريب والتأهيل وإعادة الادماج، والتعاون مع المنظمات الدولية غير الحكومية لتنفيذ زيارات للتقييم في السجون.
بالانتقال إلى حالة الأرجنتين، وهي الدولة التي شهدت في حقب تاريخية سابقة “حقبة الحرب القذرة” انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، فقد تم العمل على رفع معايير حقوق الإنسان في البلاد بما فيها القضايا الخاصة بالسجون وأجهزة إنفاذ القانون، ومن أبرز الخطوات الحوكمية في هذا الصدد كان إطلاق خطة وطنية للأمن الديمقراطي في عام 2009 بمشاركة من السلطة والمجتمع المدني والمدافعين عن حقوق الإنسان، والتي تضمّنت عشرة مبادئ تنطبق على ثلاث قطاعات تُمثّل السجون واحدة منها، ومن أهم هذه المبادئ كان ترسيخ مبدأ الرقابة المدنية الداخلية والرقابة الخارجية على الأداء والشرعية.
استناداً إلى التجارب السابقة وغيرها يمكن أن يقوم المجتمع المدني السوري بممارسة أدوار عديدة بما يكفل دعم حقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف وضمانها، الأمر الذي يسمح بالتأسيس لعلاقة واضحة بين مؤسسات العدالة والمجتمع المدني من جهة، ورفع قدرات المجتمع المدني السوري في الأدوار الجديدة التي يمكن له أن يمارسها للمساهمة في ضمان عدم تكرار انتهاكات الماضي في سوريا.
أولى هذه الخطوات تكمن في تأسيس شبكة أو تحالف وطني يتكوّن من عدة منظمات وفرق وناشطين بحيث يتولّى تنسيق الجهود وتنظيم حملات جماعية للحشد والمناصرة بهدف المطالبة بالأدوار المحدّدة وتقديم المقترحات والأفكار من أجل تحديث الإطار القانوني السوري الذي يعود لعقود طويلة وعبر الاستناد إلى المعايير الدولية والممارسات الإيجابية في دول مختلفة.
كذلك يمكن لمنظمات المجتمع المدني السوري أن تُطالب بحق الوصول إلى أماكن الاحتجاز عبر مذكّرات تفاهم، بهدف تنفيذ زيارات دورية أو مفاجئة لرصد ظروف الاحتجاز، وجمع إفادات مباشرة من المحتجزين، وحتى إجراء الدراسات واقتراح الخطط والحلول والسياسات المطلوبة بما فيها كفاءات العاملين وبناء قدرات الكوادر، ومن ثم العمل بشكل دوري على إصدار تقارير عن واقع حقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف وتقديم تحليلات للرأي العام بناء عليه، وبناء مؤشرات واضحة تظهر التقدم والفجوات والخطوات المطلوبة، وعلى ذات النحو التعاون مع منظمات حقوقية دولية ذات مصداقية أيضاً في كل الأدوار السابقة وبما يُطوّر من قدرات المجتمع المدني السوري.
كما لا تقتصر هذه الأدوار على الرقابة والتقييم والمناصرة بل تمتد ليغدو المجتمع المدني فاعلاً عملياً يُساهم في تحسين واقع السجناء ويحمل أعباء مع السلطة العامة كشريك بما يُعزّز الكرامة الإنسانية ويدعم الإصلاح المؤسسي، وفي ذلك خطوات عديدة من قبيل تقديم البرامج النفسية والصحية والقانونية، وتقديم برامج خاصة بالتعليم المهني والثقافي والبرامج الواسعة للتغيير الذاتي للسجين كالأعمال الأدبيّة والفنون والمعارض والمسابقات.. الخ.
ختاماً، يمكن القول إن وجود أدوار فاعلة للمجتمع المدني في هذا الملف الحساس في سوريا لا يخلو من تحديات عديدة، وهي تحديات تكاد تكون متكررة في كثير من الدول غير المتقدمة في هذه المجالات، وأبرزها غياب الثقة بين مؤسّسات العدالة وبين المجتمع المدني، أو غياب الإرادة السياسية في تطبيق مثل هذا النهج التشاركي، إلا أن المجال اليوم في سوريا الجديدة يبدو مناسباً أكثر من أي وقت مضى ولربما أكثر من أي فترة لاحقة لأسباب عديدة في مقدمتها وجود الزخم العام لتأسيس ثقافة جديدة في سوريا؛ سواء على صعيد المؤسسات العامة، أو على صعيد أدوار المجتمع وقواه المختلفة، فضلاً عن ارتباط كل ذلك بقضايا العدالة الانتقالية من زاوية الإصلاح المؤسساتي وضمانات عدم التكرار، وانطلاقاً مما سبق من الضروري والمهم أن يبادر المجتمع المدني أيضاً بالتفاعل “التعاوني” مع السلطة عموماً ووزارة الداخلية على وجه الخصوص في أي جهود تقوم بها فعلياً على مستوى النصوص أو على مستوى الممارسات الواقعية، أو من خلال مد يد العون والمساعدة بالاقتراح أو التفكير المشترك أو الشراكة في التنفيذ في بعض الجوانب ..الخ وأن يسعى بذلك لبناء الثقة المتبادلة والتي تُشجّع لاحقاً على ترسيخ نهج جديد في سوريا التي يتمناها السوريون.
باحث في وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية