تشهد مناطق سيطرة نظام الأسد أزمةً غير مسبوقةٍ في ظلّ نقصٍ حادّ بالمحروقات انعكس سلباً على العديد من القطاعات الحكومية، فضلاً عن الواقع المعيشي والاقتصادي المتردّي وسط تدنّي الأجور وسلسلة من الانهيارات التاريخية لليرة السورية التي وصلت إلى أدنى مستوياتها متجاوزةً حاجز الـ 6 آلاف ليرة مقابل الدولار الواحد، مع توقّعاتٍ بمشهد اقتصادي معيشي أسوأ في الفترة المقبلة.
نحاول في هذا التقرير الإضاءة على أهم أسباب تلك الأزمة، وانعكاساتها على واقع المواطنين السوريين في مناطق سيطرة نظام الأسد، والانعكاسات المحتملة أيضاً على فرص إعادة اللاجئين السوريين في الوقت الذي يتم الحديث فيه عن ضرورة إعادة اللاجئين السوريين وتوفر شروط إعادتهم؛ إذ تفتح الأزمة الحالية الباب على مصراعيه لتساؤلات كثيرة مشروعة عن واقعية تعويل مختلف الفاعلين على نظام الأسد وأجهزته وحكومته للتعاون في مختلف القضايا، وأهمها قضية إعادة اللاجئين في دول الجوار خاصة، بوصفها إحدى أهم القضايا الجدلية التي باتت مطروحة سياسياً داخل العديد من الدول.
أولاً: أسباب الأزمة الحالية:
ثمّة عدة أسباب داخلية وأخرى خارجية تسبّبت بأزمة النفط الذي يُعدّ شحيحاً بالأصل ضمن مناطق نظام الأسد، وسط تنامي نشاط السوق السوداء، ومن أبرز تلك الأسباب[1]:
تراجع إمدادات النفط الإيراني:
في تشرين الثاني الماضي عمدت وسائل إعلامية موالية إلى الترويج بأن إيران تنوي زيادة كميات النفط الخام المورّد إلى نظام الأسد، مشيرة إلى أن الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي اتخذ قراراً بزيادة كميات الصادرات النفطية من مليونين إلى ثلاثة ملايين برميل شهرياً “لمساعدة سوريا على تجاوز أزمة الطاقة التي تعاني منها من خلال الخط الائتماني الإيراني”[2].
لكن ما جرى بعد ذلك أن الناقلات الإيرانية خفّضت وارداتها بشكل ملحوظ، وسط حديثٍ عن صعوباتٍ تواجهها طهران في النقل البحري إلى سوريا، في ظلّ مضايقاتٍ أمريكيةٍ لحركة الناقلات، لاسيما بعد أن أظهر نظام الأسد موقفاً منحازاً بشدّةٍ لصالح روسيا في الحرب الأوكرانية وأرسل مرتزقة للقتال هناك[3]، وفي ظل توتر أمريكي “إسرائيلي” – إيراني عموماً في مياه الخليج[4]. وفي هذا الصدد ذكرت وكالة رويترز أن ناقلة ترفع علم إيران احتجزتها الولايات المتحدة الأمريكية عدة أشهر قرب اليونان، قبل أن تفرجَ عنها في وقت لاحق وتسلّم نظام الأسد شحنة نفطية تُقدّر بحوالي 700 ألف برميل في ميناء بانياس[5]، مما يؤكد أن عملية نقل النفط الإيراني تواجه مشاكل حقيقية في التوريدات، وأن الناقلات الإيرانية مهددة بالاحتجاز عدة أشهر، وهو ما يُعدّ مزعجاً ومكلفاً في الوقت ذاته بالنسبة إلى إيران.
ويأتي ذلك وسط أزمةٍ داخليةٍ تُعاني منها إيران في ظل الاحتجاجات المستمرة منذ أكثر من 3 أشهر ضد النظام الإيراني، إضافة إلى استمرار العقوبات الغربية عليها لدفعها إلى تقديم التنازلات في الملف النووي، الأمر الذي لم يكن في صالح نظام الأسد الذي يعتمد على الدعم الإيراني في مختلف الجوانب الاقتصادية والمليشياوية العسكرية.
في المقابل يُشكّك خبراء اقتصاديون بقدرة الخط الائتماني الإيراني على تلبية حاجات نظام الأسد وحل مشكلة النفط التي يعاني منها[6]؛ إذ إن المشكلة لا تتعلق فقط بنقص المحروقات، وإنما بالبنية التحتية المدمرة وعجز مصفاتَي حمص وبانياس عن تكرير النفط الخام، وإنتاج كمية كافية لسدّ الحاجة اليومية في مناطق سيطرة نظام الأسد التي تُقدر بنحو 200 ألف برميل، في وقتٍ لم تُبدِ فيه روسيا أو إيران اهتماماً بتنمية البنية التحتية في سوريا، بقدر ما ركّزتا على ترسيخ وجودهما الدائم في سوريا والسيطرة على العديد من القطاعات في البلاد[7] مقابل عجز النظام عن دفع ديونه لهما، في وقتٍ انشغلت فيه كلٌّ من موسكو وطهران خلال الأشهر الماضية بأزماتهما الداخلية، خصوصاً بعد الغزو الروسي لأوكرانيا[8] والاحتجاجات في إيران.
الخلاف مع “قسد” واستخدامها النفط ورقةً للضغط:
على الرغم من صدور قانون “قيصر” وتحذيراته من التعامل الاقتصادي مع نظام الأسد فقد واصلت ما تُعرف بـ “قوات سوريا الديمقراطية” المعروفة محلياً بـ “قسد” والمدعومة أمريكياً تزويدَ نظام الأسد بالنفط، ولم تكن عمليات نقل النفط من المناطق التي تسيطر عليها “قسد” إلى نظام الأسد تتم عبر “طرق تهريب” كما يصفها الكثيرون؛ لأن الشاحنات تدخل بأعداد كبيرة تصل إلى المئات في اليوم الواحد أحياناً، وهي تدخل من المعابر والطرق الرئيسة التي تسيطر عليها “قسد”، كطريق M4 الدولي، فهي عملية منظّمة[9].
إلا أن تلك العملية المنظّمة تشهد تعثّراً بين الفينة والأخرى بسبب استخدام “قسد” النفط ورقةً للضغط ضدّ نظام الأسد لجملة من الأسباب، من أبرزها: الرد على انتهاكاته وحصاره لمناطق نفوذها في حيي الشيخ مقصود والأشرفية في مدينة حلب؛ حيث منع نظام الأسد مؤخراً دخول شاحنات صهاريج الوقود إلى الحيين، مما أدى لانقطاع طويل للكهرباء[10]، وهو ما يدفع “قسد” إلى التهديد بحصار مربّعات النظام الأمنية في مدينتي القامشلي والحسكة، الأمر الذي حصل بالفعل أكثر من مرة طوال السنوات الماضية[11]، قبل أن تتم تسوية الخلافات بين الطرفين بوساطاتٍ تكون عادة روسية[12].
يبدو أن تضييق نظام الأسد على “قسد” لا يخرج عن الضغوط الروسية على “قسد” لتسليم حقول النفط وعدد من المدن والبلدات في مناطق سيطرتها لصالح نظام الأسد؛ إذ تستغلّ موسكو التهديدات التركية بشنّ عمليةٍ بريةٍ ضد “قسد” لتحصيل أكبر قدرٍ من المكاسب الميدانية والاقتصادية لصالح نظام الأسد، إلا أن “قسد” ترفض الانسحاب، مستفيدة من بعض نقاط القوة لديها، بما في ذلك الموقف الأمريكي الذي يعارض حتى الآن أي عملية برية تركية شمالي سوريا[13]، رغم غضّ الولايات المتحدة الطرف عن الضربات الجوية التركية ضد “قسد” كونها جاءت ردّاً على التفجير الإرهابي في إسطنبول، في محاولةٍ لامتصاص واحتواء النقمة التركية[14].
في غضون ذلك شنّ الطيران التركي المسيّر غارات استهدفت حقولاً نفطيةً تحت سيطرة “قسد” في محافظة الحسكة، في استراتيجية جديدة من نوعها للعمليات التركية في الشمال السوري[15]، وهو ما يعطي دلائل باحتمالية وجود تنسيق تركي روسي في هذا الخصوص، من أجل تحقيق مزيد من الضغوط على “قسد” ودفعها للانسحاب من الحقول النفطية لتقليل مواردها المالية، لاسيما وأن روسيا لم تحققْ مكاسب اقتصادية بعدُ من منطقة شرق الفرات رغم انتشار قواتها في عدة قرى وبلدات بعد عملية “نبع السلام” التي أسّست لوجود روسي ضمن مناطق كانت تقع تحت سيطرة التحالف الدولي، مثل منبج وعين العرب[16].
لكنّ القصف التركي بالمجمل استثمره نظام الأسد ليدّعي أنه أحد أسباب الأزمة الحالية التي تعصف بمناطق سيطرته؛ فقد قال وزير النفط في حكومة نظام الأسد بسام طعمة: إن “الضربات الجوية التركية أحدثت ضرراً كبيراً في منشآت نفطية، بعدما طالت معملاً للغاز وآباراً نفطية”[17]، علماً أن الحقول التي استهدفتها تركيا تقع ضمن مناطق سيطرة “قسد”، وهذا ما يؤكّد من زاوية أخرى حجم الاعتماد الكبير الذي يعوّل عليه نظام الأسد من حقول النفط التي تسيطر عليها “قسد”؛ لذا فإن أي عملية حصار أو ضغط من نظام الأسد لا تستمر طويلاً ضد “قسد”، وفي الوقت ذاته فإن “قسد” أيضاً بحاجة لنظام الأسد في التنسيق ضد تركيا، وكثيراً ما أعلن قائد “قسد” مظلوم عبدي دعوته لنظام الأسد للتصدي للقوات التركية وإدخال قواته للمنطقة، ولكن بشكلٍ لا يؤدي إلى انحسار نفوذ “قسد”[18].
إذاً: كان لضغوطات نظام الأسد على “قسد” انعكاس على الأزمة النفطية التي تُعاني منها مناطق سيطرته، ويمكن القول: إن الضغط الذي مارسه نظام الأسد كان في التوقيت الخاطئ؛ لأنه تزامن مع انقطاع النفط الإيراني، لكنّ من غير المرجّح استمرار انقطاع نفط “قسد” لفترة طويلة، لاسيما مع وجود نفوذ لروسيا على “قسد” ووسائل ضغط يمكن من خلالها أن تدفع “قسد” لإعادة ضخ النفط، فضلاً عن مصلحة “قسد” نفسها من استمرار توريد النفط[19].
عجز حكومة نظام الأسد عن التسديد ومؤشرات للاستعداد لرفع الدعم:
من غير المستبعد أن يلجأ نظام الأسد إلى خصخصة القطاع النفطي، بما يُمهّد رسمياً لرفع الدعم عن المحروقات بحجة تخفيف الخسائر بعد أن ناءت حكومته بدعم المحروقات في ظل استشراء الفساد[20] وتراجع الموارد، رغم الكميات القليلة التي يتم تسليمها للمواطنين ضمن مناطق سيطرته، والتي يتم تخفيضها بشكل مستمر، ورغم الارتفاعات المتكررة في الأسعار التي فرضها على المحروقات طوال العام 2022[21]، لكن مع خصخصة القطاع سيتخلص نظام الأسد من عبء النفط ويفتح الباب أمام مافيات النفط والاقتصاد في مناطق نفوذه، والتي تنتشر بشكل كبير حتى ضمن أزمة المحروقات الحالية؛ إذ تتحدث مصادر عديدة عن توفر المحروقات في السوق السوداء بأسعار أكبر حتى من الأسعار العالمية، حتى وصل مثلاً سعر ليتر البنزين إلى 17 ألف ليرة (نحو 3 دولار)[22].
وخلال الفترة الماضية برزت مؤشرات عدة بتوجّه حكومة نظام الأسد نحو خصخصة القطاعات والشركات الحكومية[23]، وبحسب باحثين ومراقبين فقد تم رفع الدعم عن المحروقات بشكل شبه كامل منذ شهر آب الماضي، وبالفعل صدرت قرارات لوزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك التابعة لنظام الأسد بتحديد شركات معينة للتزويد بالمحروقات؛ مما يمهد الطريق تدريجياً لتسليم المشتقات النفطية لشركات معينة من القطاع الخاص مقربة ومتواطئة مع المتنفذين في نظام الأسد[24].
كل ذلك يُعطي مؤشرات بأن خصخصة القطاع النفطي لصالح متنفّذين مقربين من نظام الأسد باتت أمراً واقعاً، وإن كان معمولاً به بصفة غير رسمية حتى الآن، وذلك في ظلّ انتشار شبكات أمراء الحرب التي تبيع المحروقات في السوق السوداء بأسعار مرتفعة دون حسيب أو رقيب، لكن إقراره رسمياً سيُتيح لتلك الشبكات مزيداً من السطوة في استغلال الناس ورفع الأسعار على اعتبار أنها شركات خاصة.
ثانياً: أزمة المحروقات؛ الانعكاسات والنتائج:
تسبب نقص المحروقات وعجز نظام الأسد عن توفيرها بأسوأ أزمة تمرّ بها مناطق سيطرته منذ اندلاع الثورة عام 2011، وهذا ما تجلى في:
1-شلل المواصلات، وفرض عطل رسمية غير مسبوقة ورفع لأسعار المحروقات:
من أهم الآثار الأساسية لأزمة المحروقات هو الشلل التام في المواصلات؛ فلم يعد المواطنون قادرين على الوصول إلى أماكن عملهم بالمواصلات العامة ولا المواصلات الخاصة[25]، ولذا أعلن نظام الأسد فرض عطلةٍ لجميع الجهات العامة والمدارس لمدة أسبوع كامل اعتباراً من يوم الأحد 25 كانون الأول 2022 ولغاية يوم الأحد 1 كانون الثاني[26]، متذرّعاً بأن سبب العطلة هو قدوم رأس السنة، وذلك بعد عدة أيام من إعلانه عطلة غير مسبوقة من حيث السبب تشمل يومي الأحد 11 كانون الأول و18 من الشهر نفسه بسبب عجزه عن توفير المحروقات[27]؛ مما يدلل على أن الأزمة آخذةٌ في التوسع لا الانفراج، وأن ما يملكه نظام الأسد من حلول مؤقتة هي فرض العطل فحسب، فيما أعقب ذلك قرار جديد لحكومة الأسد رفعت بموجبه أسعار المحروقات اعتباراً من الثلاثاء 13 كانون الأول، رغم أن وزير التجارة الداخلية في حكومة نظام الأسد عمرو سالم نفى في وقت سابق أي توجه لرفع أسعار المازوت أو المحروقات بشكل عام[28]، ما قد يعكس التخبط في سياسة نظام الأسد، في وقتٍ تحدثت فيه وسائل إعلامية موالية عن وصول ناقلة إيرانية إلى سوريا[29]، الأمر الذي يُشير إلى أن نظام الأسد يستغل الأزمة الحالية -رغم فداحتها- لرفع أسعار المحروقات، وهو سيناريو سبق أن تكرّر من قبل في الأزمات السابقة التي مرت بها مناطق سيطرته[30].
2-شلل قطاعات حكومية وخدمية:
عاشت مناطق سيطرة نظام الأسد بسبب أزمة المحروقات حالةً من الشلل في العديد من القطاعات التي لا يمكن الاستغناء عنها، كالمشافي[31] والمقاسم الهاتفية[32]، والأفران المنتجة للخبز (المادة الأساسية)؛ فقد أكّد عدد من أصحاب الأفران في العاصمة دمشق أنهم اضطروا لوقف أعمالهم نتيجة عدم قدرتهم على تحمل تكاليف الإنتاج بسبب ارتفاع أسعار المحروقات في السوق السوداء والسوق الرسمية أيضاً، كما نقلت وسائل إعلامية موالية أن قرابة 50% من الأفران الخاصة توقّفت عن العمل في دمشق، و30% منها “شبه تعمل” بسبب عدم توفر المازوت، و20% تشتري المحروقات بأسعار مرتفعة لأن زبائنها تشتري بجميع الأسعار ولا يهمها الارتفاع[33]، في حين أن الكثير من أرباب العمل ليس لديهم القدرة على تحمل تكاليف العمال وفق الظروف الحالية.
وما أزمة الأفران إلا جزء من أزمات أخرى، كشلل حركة المواصلات العامة والانقطاع الطويل للكهرباء في ظل دخول الشتاء وانعدام وسائل التدفئة لدى الكثير من العوائل، ولكن مما يمكن اعتباره أحد العوامل الأكثر سوءاً في أزمة المحروقات هو توقف العديد من القطاعات الصناعية والمهن التي تحتاج للكهرباء، كالمعامل الصناعية، الأمر الذي ينعكس بدوره على العمالة؛ إذ يضطر أصحاب المنشآت والمعامل إلى تسريح العمال[34]، علماً أن هذه العمالة تعاني في الأصل من تدنّي الأجور، خاصة في ظل الانهيارات المتسلسلة في سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار، وهذا ما سيزيد عدد مَن هم تحت خط الفقر في مناطق نظام الأسد بسبب ازدياد حجم العاطلين عن العمل.
ومما يجدر التنبيه إليه أيضاً أن اتحادات كرة القدم والسلة في مناطق سيطرة نظام الأسد أعلنت تعليق الفعاليات الرياضة وتأجيل الجولات حتى بداية العام القادم بسبب أزمة المحروقات، وهذا ما يُشكّل مفارقة مع ما خرج به لاعب كرة السلة التركي الموالي لنظام الأسد “جان بولات”، الذي ادّعى في مقابلة أجرتها معه نائبة رئيس الحزب الديمقراطي “إيلاي أكسوي” المعادية للاجئين: أنّ “الحياة في دمشق تسير بشكل طبيعي جداً، ومرتفعة الرفاهية، وأن الناس دائماً في الشوارع، والمطاعم والمقاهي مكتظة، والناس تعيش حياتها تماماً”[35]، ويندرج ذلك ضمن سياسة “أكسوي” وبعض الأحزاب المعارضة الأخرى في تركيا التي تسعى لتسويق ادعاءات مغلوطة عن أن الوضع في مناطق سيطرة نظام الأسد ملائم لعودة اللاجئين، في وقتٍ تتجاهل فيه تلك الأحزاب الوضع المعيشي الكارثي، فضلاً عن الواقع الأمني والتهديدات بالاعتقال والتغييب القسري في سجون نظام الأسد، وهو ما حصل مؤخراً بعد عودة بضع مئات من اللاجئين السوريين من لبنان[36].
3-هجرة عكسية من مناطق نظام الأسد:
في الوقت الذي يكثر فيه الحديث في بعض الدول المجاورة لسوريا عن نيتها إعادة اللاجئين السوريين شهدت مناطق سيطرة نظام الأسد هجرة عكسية؛ فقد نشرت صحيفة “الشرق الأوسط” مؤخراً تقريراً أكدت فيه أن مناطق المعارضة في شمال غرب سوريا تشهد تدفق مئات المواطنين والعوائل من مناطق نظام الأسد بشكل يومي، على الرغم من مخاطر الموت أو الاعتقال؛ وذلك هرباً من الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي لم يسبق لها مثيل منذ عام 2011[37]، ونقلت الصحيفة عن أحد الأشخاص الذين فرّوا إلى الشمال السوري تأكيده أن “خيار الفرار من مناطق نظام الأسد الآن هو القرار الصائب لكل إنسان سوري عاقل، وخصوصاً بعدما دخلت تلك المناطق نفق الفقر والجوع والغلاء الفاحش لكل السلع الغذائية وانعدام الثقة بحكومة النظام في إنقاذ الاقتصاد وتوفير مستلزمات المواطنين الضرورية، كالوقود والخبز والدواء وحليب الأطفال وتوفير فرص العمل للسوريين”.
إضافة إلى ذلك فإن حالة الهجرة من مناطق سيطرة نظام الأسد لم تتوقف بشكل دائم، وغالباً ما يقصد المهاجرون مناطق المعارضة بهدف الدخول إلى تركيا ثم السعي للوصول نحو أوروبا، ومؤخراً رصدت مصادر محلية حالات فرار شملت حتى عناصر في قوات نظام الأسد، مؤكدة أنهم يسعون أيضاً للهروب من مناطقه بهدف الوصول إلى أوروبا[38].
كل ذلك يعطي مؤشرات بأن مناطق سيطرة نظام الأسد لم تعد صالحة للعيش ولو بالحد الأدنى؛ إلا أن الأغلبية التي تقطن في تلك المناطق ممن ليس لديهم البديل الآخر، فيما تشير تقارير إلى أن قرابة 70% من السوريين يعتمدون على الحوالات المالية من أقربائهم في الخارج[39]، حيث باتت تلك الحوالات عصب الحياة بالنسبة إليهم، في وقت يستثمر نظام الأسد حتى في تلك الحوالات ويسعى للاستفادة من الفروقات في سعر الصرف، فيما تشير تقديرات إلى أن حجم الحوالات المالية عموماً إلى سوريا تصل إلى ما يزيد عن 5 ملايين دولار يومياً[40].
4- احتجاجات السويداء حالة خاصة من تداعيات الأزمة:
تأثّرت مناطق سيطرة نظام الأسد كافة بأزمة المحروقات الحالية وما أدت إليه من أزمات معيشية، لكن ردة الفعل الشعبية الواضحة المعارضة على الأرض كانت محصورة تقريباً ضمن منطقة السويداء؛ إذ شهدت المدينة توتراً أمنياً كبيراً في مطلع شهر كانون الأول بعد أن هاجم محتجون مبنى السرايا الحكومي بالحجارة، واقتحم بعض الشبان المبنى، ومزقوا صورة رأس النظام بشار الأسد الموجودة على واجهته، وطالبوا بإسقاط نظام الأسد، فيما ردّت قوات النظام بإطلاق النار على المتظاهرين، مما أدى لوقوع ضحايا[41].
ويمكن القول: إن ما جرى في السويداء حالة خاصة لا يمكن تعميمها على بقية المحافظات السورية؛ فنظام الأسد لا يتعامل فيها بمنطق القمع والوحشية المفرِطة ذاته الذي تعامل به مع المدن التي ثارت عليه خلال السنوات الماضية، في مراعاةٍ لما يبدو من خصائص الوضع الطائفي في المحافظة (الأغلبية الدرزية)، وكذلك قربها الجغرافي من “إسرائيل”، لاسيما وأن قضية “حماية الأقليات” جزء أساسي من خطاب نظام الأسد؛ ولذا فإنه يتعامل بما يمكن وصفه “قمعاً منضبطاً” عند خروج أية احتجاجات في السويداء، وهو ما شهدناه خلال أكثر من احتجاج في السنوات الماضية[42].
يُضاف إلى ذلك أن نظام الأسد ضعيف الحضور أمنياً في مدينة السويداء وريفها، لاسيما مع تنامي دور فصائل محلية خاصة “حركة رجال الكرامة” التي ليست على علاقة جيدة مع نظام الأسد[43]، وهي التي يُعوّل عليها المجتمع المحلي في ضبط الأمن والوقوف في وجه مليشيات النظام؛ ولذا فإننا شهدنا صداماً حقيقياً بينها وبين مليشيات “الأمن العسكري” و”الدفاع الوطني” أكثر من مرة، خاصة في النزاع الذي أفضى لطرد تلك المليشيات من السويداء بعدما عاثت فساداً وأكثرت من جرائم الاختطاف ونشر المخدرات[44]، ومع هذا فإن نظام الأسد لم يُقدِم على التصعيد ضد الحركة وأبقى لها هامشها في الحكم المحلي، طالما أنها لا تمسّ مؤسسات نظام الأسد ضمن السويداء وريفها.
كل ما ذُكِر من تصعيدٍ على المستوى الشعبي أو الفصائلي في السويداء يبقى حالة خاصة لخصوصية وضع السويداء، لا يمكن تعميمها على بقية المحافظات السورية؛ لذلك فإن بعض الشرائح الموالية باتت توجّه انتقادات لـ”الأداء الحكومي” وفشله في معالجة الأزمة دون المسّ بشخص بشار الأسد[45]، بل تتم مناشدته باعتباره “الأمل الأخير” في الحل[46].
خاتمة:
متابعةً في السقوط نظام الأسد إلى الأسفل مع الدخول في كل عام، ومع اقترابنا من نهاية العام 2022 يبدو أن الوضع في مناطق نظام الأسد في العام المقبل سيكون أشدّ سوءاً؛ وذلك بسبب فداحة الأزمة الاقتصادية التي يُعاني منها، والسقوط الحرّ لليرة مقابل الدولار، إضافة إلى انشغال الداعم الروسي بالحرب الأوكرانية والإيراني بالاحتجاجات الشعبية المندلعة منذ نحو 3 أشهر، في وقتٍ لم يكن للتطبيع الذي حصل عليه نظام الأسد مع بعض الدول العربية أثرٌ في تحسين وضعه الاقتصادي، لاسيما مع استمرار استشراء الفساد المترافق مع العقوبات الأمريكية الأوروبية، خاصة في ظل شبه انهيار في البنية التحتية، وانتشار الفقر والفساد والعصابات التي تعتاش على عمليات السطو المسلح والخطف والابتزاز.
بالنتيجة فإن كل ذلك يعطي مؤشرات لفشل تعويل دول جوار سوريا على نظام الأسد في موضوع إعادة اللاجئين؛ إذ إنه عاجزٌ عن توفير أبسط المستلزمات لمن يقطنون في مناطق سيطرته، فكيف لو أُعيد الملايين من تركيا ولبنان والأردن؟ وهذا ما أشار إليه العديد من الخبراء والمحللين، ومنهم المبعوث الأمريكي السابق إلى سوريا جيمس جيفري خلال زيارته الأخيرة لتركيا؛ حينما أكد أن تركيا لن تستفيد أيّ شيء من التقارب مع نظام الأسد أو حتى اللقاء مع بشار الأسد[47]، وذلك بعدما برز مؤخراً توجُّهٌ تركي للتقارب مع نظام الأسد لمناقشة قضايا عدة على رأسها موضوع اللاجئين.
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة