أولويات المثقّفين السوريين في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد.. استعادة الثقة المُمهّدة للفاعليّة
تقرير صادر عن وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري
تمهيد:
يتحمّل المثقفون الذين يتميزون عادة عن النخبة[1]، مسؤولية مهمّة في المراحل الانتقالية بحكم أن هذه الفئة هي التي تمتلك مخاطبة الرأي العام والفضاء العام. يتعزز الأمر في حالة مثل الحالة السورية حيث هنالك ضعف ثقة يكاد يصل إلى درجة الانعدام بمؤسسات الدولة بحكم اختطافها من نظام الأسد البائد، وشبه غياب لمنظمات المجتمع المدني التي يمكن أن تُقدّم خطاباً جامعاً وتوعوياً خصوصاً لدى السكان الذين كانوا يُقيمون في مناطق سيطرته[2]، وبالتالي يكون من الطبيعي -والحال كذلك- أن يكون الاعتماد على المثقفين بمختلف تخصّصاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية لمخاطبة الرأي العام والسعي لتوجيهه بما يؤدي إلى تجاوز المرحلة الانتقالية بكل تحدياتها الأمنية والسياسية والاقتصادية.
مع ذلك، لا تبدو أن الحالة مثالية بالنسبة لشريحة المثقفين، حيث هنالك الكثير من التحديات التي تعترض الأدوار المنتظرة منها في هذه المرحلة الحسّاسة من تاريخ سوريا، الأمر الذي يتطلّب البحث فيها، وتحديد المطبّات التي يجب ابتعاد خطابها عنها، واقتراح الحلول المناسبة لكي تقوم هذه الشريحة بالأدوار المنتظرة منها.
المثقّفون السوريون: صورة سوداويّة في أذهان الجماهير
عمل نظام البعث البائد على تقريب الشخصيات التي تخدم أجندته بالمقام الأول، واستبعد وهمّش أي شخصية وطنية تعارضه، خصوصاً أن الفضاء العام آنذاك -خصوصاً الفضاء العام السياسي- كان منحصراً بالسلطة وأجندتها، ولذلك حُرم المثقفون الوطنيون أي منبر أو مساحة عامة لتوجيه خطابهم.
إلى جانب ذلك عزّز جانب من المثقفين السياسيين والدينيين نفوذهم بالاستناد إلى الانتماء الطائفي؛ فقد واجه الزعماء الدينيون والسياسيون مجتمعين الحريات الفردية التي قد تُضعف المجموعة الطائفية، فأسهموا في تعزيز “الوعي الأقلّوي”[3]، حيث كان هنالك الكثير منهم من الذين ارتدّوا إلى انتماءاتهم الطائفية في تأييد سلوكيات السلطة المنتهكة للحقوق والحريات السياسية منها والدينية، في سبيل المحافظة على مكتسباتهم الناتجة عن انتمائهم الطائفي.
لم يتغير الأمر بالنسبة لقوى الثورة والمعارضة، حيث كان يُنظر لغالبية المثقّفين منهم على أنها شخصيات سعت إلى خلاصها الشخصي بعد يأسها من تحقيق التغيير وإسقاط نظام الأسد البائد، كما أنها أدارت خلافاتها من منطلق المزاجيات والتحاسد والغيرة والاستعلاء والمصالح الشخصية، وعجزها عن تقديم حلول ملموسة للأزمات التي مرّت بها الثورة، إلى جانب ضعف مستوى الشفافية لديها[4]. ترافق كل ذلك مع سياق ساهم في الانفصال بينها وبين الحاضنة، خصوصاً على مستوى التدخُّلات الخارجية التي جعلت من الملف السوري خاضعاً للمساومات الإقليمية والدولية، إلى جانب طول فترة الثورة؛ إذ إنّ عدم وجود حلول سياسية واضحة آنذاك، جعل الجماهير تفقد الأمل بالمثقفين، وتنظر إليهم جزءاً من المشكلة.
كل ما تقدّم، جعل هنالك انطباعاً عاماً لدى شريحة واسعة من السوريين بانقطاع العلاقة بينهم وبين المثقفين من مختلف التخصُّصات، الأمر الذي أفقدها الثقة التي تؤهّلها لمخاطبة التيار الشعبي العريض.
أولويات العمل: نحو استعادة الثقة بين المثقّف والشعب
مع سقوط نظام الأسد في 8/12/2024، وانفتاح الفضاء العام أمام جميع المثقفين لمخاطبة الرأي العام بعيداً عن سيف السلطة، تظهر هنالك فرصة استثنائية أمام هذه الشريحة لاستعادة العلاقة مع الجمهور ولو تدريجياً. حيث تشير الأدبيات عادة إلى أهمية اتخاذ عدة إجراءات لتجسير العلاقة بين المثقف وبين الشعب منها على سبيل المثال: فتح قنوات الحوار مع الجمهور الافتراضية منها والواقعية، وتبسيط الخطاب الثقافي، والتركيز على القضايا الحياتية اليومية …إلخ.
على الرغم من أهمية هذه الإجراءات جميعها، إلا أن السياق الحالي في سوريا يتطلّب من المثقّفين العمل على بعض الأدوات والوسائل باعتبار أن لها الأولوية لاستعادة الثقة، وفي الوقت نفسه، تجنُّب عدة محاذير بما يساعد على إنجاز الانتقال السياسي المنشود، والذي يُمهّد لسوريا الحرية والكرامة وسيادة القانون[5].
يبدو أن الخطوة الأولى التي تأتي على سُلّم الأولويات في طريق استعادة الثقة تبدأ بفتح قنوات تواصل فعليّة وواقعيّة مع الجمهور السوري بمختلف مكوّناته وأطيافه. حيث إن حالة العزلة التي فرضها نظام الأسد البائد على المثقّفين الوطنيين، وترويجه لشريحة كانت مرتبطة به مروّجة لسرديته داخل سوريا، وفي الوقت نفسه، تشويهه لأي صوت يُخالفه ويكشف بطلان تلك السردية، جعل الشعب المقيم في مناطق سيطرته مُغيّباً وجاهلاً بكثير من الأصوات الوطنية السورية، وبالتالي لابد أن تسعى هذه الأصوات بعد فتح المجال العام أمامها أن تُسارع إلى الوجود الفعلي بين الجماهير والتحدُّث إليها والاستماع لها ومناقشتها، بما يساعد بداية على التعرُّف على رؤاهم وأفكارهم، والذي غالباً سيُمهّد لبناء جسور الثقة تدريجيّاً فيما بين الطرفين، فالمثقف الحقيقي هو الذي يشعر بمسؤوليّته تجاه مجتمعه ويعمل على نقل المعرفة إلى الجمهور، وإقامة جسور للحوار بين الأفكار والنقد والحياة اليومية[6].
الخطوة الثانية، وهي مُكمّلة للخطوة الأولى، تتمثّل في تقديم حلول فعليّة وواقعيّة لمشاكل الشعب، أو لنُقل: الحديث حول المشاكل التي يعاني منها الناس في سوريا؛ وفي حال أراد المثقّف الحديث عن رؤية بعيدة المدى قد تظهر للشارع طوباويّتها، أن يربطها بالواقع ليكون الناس معه على أرض واحدة، أما استمرار حديث المثقّف عن قضايا تُمثّل ترفاً فكرياً في نظر الناس، سيُكرّس غالباً النظرة السلبية لدى الناس التي تُكوّنها عن المثقّفين بأنهم شريحة بعيدة عن الواقع، وتعيش أحلامها بعيداً عن آلام الواقع ومشكلاته، ولعل ما حصل من نقاش مؤخراً عن هوية الدولة في ظل انشغال الرأي العام بالكشف عن المجازر التي ارتكبها النظام البائد، والتحديات الأمنية والاقتصادية والمعيشية التي تمر بها البلد، يُمثّل نموذجاً واضحاً لهذه المشكلة التي تحتاج إلى اتخاذ خطوات لتجاوزها من قبل المثقّف، فدور المثقف أن يظل في حالة ارتباط وثيق بحياة الجماهير، ليكون صوتها في النضال من أجل التغيير، هادفاً صنع ارتقاء ثقافيّ من دون معاداة طوائف مجتمعه والتعالي عليها[7].
الخطوة الثالثة: غالباً ما تتصف المراحل الانتقالية بإمكانية طول مدتها، واستغراقها أوقاتاً طويلة نتيجة بطء الخطوات المتخذة من السلطة الجديدة، وسيطرة الصراعات بين عدة تيارات، سواء داخل طرف الثورة أو بين هذا الطرف وطرف السلطة البائدة[8].
في حالتنا السورية، أعلنت السلطة الجديدة أن المرحلة المؤقتة ستكون لمدة ثلاثة أشهر، من المفترض أن يتم الانتقال بعدها إلى المرحلة الانتقالية، غير أنه من الوارد والمتوقّع إمكانية تمديد المرحلة المؤقتة، ولاحقاً التوافق على مدة طويلة للمرحلة الانتقالية قد تصل إلى ثلاث سنوات، لذلك يجدر بالمثقفين التعامل مع هذا الاحتمال من خلال عدة أدوات أبرزها: التوافق على رفض تقييد -وليس تنظيم- العملين السياسي والمدني، والتمسُّك بوجود برنامج زمني واضح للانتقال السياسي. يُمثّل هذان المطلبان الخطوط الحمراء التي لا يمكن التفريط بها باعتبارها ضمانات أساسية وتُمثّل الحد الأدنى بين ما ستتمسّك به السلطة الجديدة من أن تحقيق الاستقرار واستعادة الأمن يتطلب وقتاً ليس بالقصير، وبين الخشية لدى الكثير من المراقبين أن يتحوّل الوضع الاستثنائي ووجود السلطة الجديدة بحكم الواقع والقوة، إلى حالة مستمرة، ففتح المجال العام هو الضمانة التي يجب على المثقّفين ومعهم الجماهير عدم التنازل عنها، لأنها إحدى الضمانات الأساسية لعدم عودة الاستبداد والدكتاتورية.
الخطوة الرابعة: يصعب في المراحل الانتقالية ما يُطلق عليها “الديمقراطية التوافقية” التي تُركّز على التمثيل الكامل لكافة فئات الشعب[9]، ومثالها الأبرز الحكومات الائتلافية؛ وذلك نتيجة عمق الصراعات التي تكون بين الأطراف، وضعف الثقة فيما بينهم، فضلاً عن ضعف الأحزاب والتشكيلات السياسية المترافق مع ضعف الخبرة السياسية.
إذا كان هذا هو الحال في السلطة، فإن ما يجب على المثقّفين العمل عليه هو السعي للبدء بتطبيق “الديمقراطية التوافقية” على مستوى الكيانات والشخصيات السياسية والمدنية من خلال مفهوم الشبكات والائتلافات كلٌّ في مجاله، خصوصاً أن تجربة العمل السياسي والمدني لدى الكثير من التيارات والمنظمات في تركيا خلال العقد الماضي تُمثّل إرثاً يمكن الاستفادة منه بإيجابياته وسلبياته داخل سوريا المحررة.
لا شك أن البدء بتشكيل هذه الشبكات والائتلافات على المستوى المدني والسياسي -وإن كانت تعترضه صعوبات متعددة- إلا أنه من الأهمية بمكان المبادرة إليها؛ لأنها ستُعطي خبرة جيدة للكثير من المثقفين لآليات العمل المشترك وبناء الثقة المتبادلة قبل الانتقال بها إلى مستوى السلطة، كذلك ستُعطي -في حال نجاحها- رسالة إيجابية للجمهور السوري حول قدرة المثقّفين والكيانات على إدارة خلافاتهم بطريقة حضارية بعيدة عن منطق الإكراه والاستبعاد من جهة، والاستنكاف والانشقاق و”الحرد السياسي” من جهة ثانية.
محاذير المرحلة المؤقتة: ما يجب على المثقفين تجنُّب الوقوع فيه
تتصف المراحل الانتقالية بوجود عدة تحديات ومخاطر، والحالة السورية ليست استثناء منها، من أبرزها: الثورة المضادة والتدخُّل الخارجي والثنائيات المتصارعة[10]. لا شك أن تجنُّب هذه المطبّات -إن صح التعبير- هو مسؤولية الجميع ابتداء من السلطة وصولاً إلى الأفراد، مروراً بالمثقفين والمؤسسات الوسيطة “المجتمع المدني والأحزاب”، إلا أننا سنُركّز في الأسطر القادمة حول مسؤولية المثقّفين.
تُثار خلال المرحلة الانتقالية احتياجات ومطالب فئوية وعامة لا نهائية، فالهدم والتفكيك أسهل وأيسر من البناء والتركيب، كذلك ترتفع الآمال وتصبح عادة غير واقعية، مما يُولّد ثورة “الآمال المحبطة” الناتجة عن البطء في تحقيق الأهداف المرجوّة، والتي ما يتم عادة توظيفها من قبل فلول النظام البائد للقيام بثورة مضادة[11].
يُلاحظ في الحالة السورية بعد سقوط نظام الأسد ارتفعت الآمال والمطالب لدى عموم السوريين، سواء داخلها أو خارجها، بالانتقال إلى حالة شبه مثاليّة على مستوى الخدمات والعمل السياسي والمدني والتطوّر الاقتصادي والحقوق والحريات ..إلخ، بدأ الكثير من المتابعين بالإشارة تباعاً إلى طوباويّتها وعدم واقعيّتها خصوصاً أن حجم التدمير الذي شهدته سوريا على يد نظام الأسد البائد يُعدّ كارثياً واستثنائياً إذا ما قورن بحالات عربية وأجنبية أخرى، مما يؤكد حتمية ارتفاع نسب “الآمال المحبطة” مع تقدُّم الوقت وضعف الإنجاز على الأرض.
لذلك يُفترض بالمثقفين العمل على ثلاث مسارات: الأول: موجَّه إلى الجمهور عبر تذكيره بالتحدّيات والصعوبات، وعقلنة الآمال بحيث تكون واقعيّة وقابلة للتحقيق. والثاني: موجَّه إلى السلطة الجديدة عبر ما يمكن تسميته بـ “الإصلاح الانتقالي” والذي يُقصَد به: دفع السلطة الجديدة إلى الإصلاح ومطالبتها بتحقيق مطالب الشعب عبر أدوات تتناسب وسياق المراحل الانتقالية والمؤقتة والتي تُمثّل الحدّ الأدنى للمساءلة والمراقبة مثل: توقيع العرائض وإصدار البيانات والدفع نحو تشكيل لجان تكنوقراط تخصُّصية تتوجَّه إلى الرأي العام برسائل حول سلوك السلطة الجديدة ومدى توافقه مع متطلّبات المرحلة[12]، كل ذلك بهدف توعية الناس من جهة، وتجنُّب التصعيد وصولاً إلى “ثورة جديدة” التي ربما تستفيد منها الفلول لتصبح “ثورة مضادة” من جهة أخرى. والثالث: توافقي بين الجمهور والسُّلطة بحيث يسعى المثقفون إلى إنضاج توجُّهات مشتركة خصوصاً على مستوى الرؤى، على اعتبار أن الاختلاف في الطرق والوسائل يبقى أمراً طبيعياً[13].
كذلك، تُعطي حالة الهشاشة التي تمرُّ بها الدول في المراحل المؤقّتة والانتقالية هامشاً كبيراً للدول للتدخُّل في الشؤون الداخلية، خصوصاً أن الإطاحة بالنظام القديم قد يكون مُهدِّداً لمصالح الدول الأجنبية في الدولة[14]. وفي الحالة السورية كثيرةٌ هي الدول المتضررة من انتصار الثورة وسقوط نظام الأسد البائد، خصوصاً أن السياق الإقليمي المحيط بسوريا الذي يغلب عليه مفرزات “الثورة المضادة للربيع العربي” كان مُهيّئاً للتعامل مع النظام البائد أكثر منه ترحيباً بانتصار الثورة. كل ذلك يجعل قابلية التدخُّل الخارجي مرتفعة، وهو ما يفرض على المثقّفين السوريين رفض أية محاولة لتعويم الشأن الداخلي السوري، والتحذير من تبعات ذلك، ولعل ما حصل إبان صدور بيان العقبة من رفض الكثير من الأصوات لمبدأ التدخُّل الخارجي وتعويم مسار الحل السياسي يُعدّ مؤشراً إيجابياً يجب الحفاظ عليه.
القضية الثالثة والأخيرة التي يجب على المثقفين تجنُّبها، وهي ربما الأهم: “الثنائيات المتصارعة” على مستوى الرؤية[15]. حيث تُشير التجارب في عدة دول سبقت الحالة السورية، إلى وجود انقسامات تظهر بعد سقوط الأنظمة، منها[16]:
- ثنائية الاستقرار- الفوضى: فبعيداً عن موقف المثقّفين المرتبط بالأنظمة الساقطة، تظهر هذه الثنائية حتى بين أولئك المحسوبين على السلطة الجديدة، بين من تكون أولويتهم استعادة الاستقرار الأمن ولو على حساب التغيير السياسي وتداول السلطة، وبين من يرى أن الأولوية لتحقيق التغيير وتكريس قواعد التعدّدية خشية من الوقوع في استبداد جديد.
- ثنائية الفئوي- الوطني: وهو ما ظهر -بشكل ضمني- وربما سيظهر لاحقاً في حالتنا السورية بشكل أوضح بين من يعطي الأولوية لتحقيق المصالح الوطنية، وبين من يتمسّك ببعض المطالب الفئوية؛ كالمطالب الطائفية والمناطقية والعشائرية ..إلخ.
- ثنائية العلمانية- الدينية: وأيضاً هذه من الثنائيات المرجّح حصولها في الحالة السورية، خصوصاً أن غالبية الدول العربية التي حدثت فيها مرحلة انتقالية، كانت هذه الثنائية من أكثر الثنائيات التي شغلت الرأي العام والمثقّفين، ولعل مصر وتونس تُقدّمان الأمثلة الأهم في هذا المجال.
إذا كانت الثنائيتان الأولى والثانية محاصرتان شعبيّاً وأخلاقيّاً؛ بالنسبة للأولى (ثنائية الاستقرار-الفوضى) هنالك رفض لها باعتبارها ليست حتميّة، فاستعادة الاستقرار والأمن أولوية يمكن العمل عليها ولا تتطلّب الاستعانة بأدوات الاستبداد والدكتاتورية. بالنسبة للثانية (ثنائية الفئوي-الوطني) هنالك تسليم بأن أولوية الوطني لا تعني انتهاك خصوصيات بعض المكوّنات، وبالتالي فإن الخشية الأساسية في الحالة السورية ربما هي من الثنائية الثالثة، خصوصاً أنها قد تُستخدم كحصان طروادة من قبل بعض الأطراف الخارجية للتدخُّل في الشأن الداخلي السوري، وهو ما يفترض بالمثقفين إدارة النقاش العام حولها تمهيداً للوصول إلى توافقات تغلق النقاش على مستوى العقد الاجتماعي، وتتجنّب الانقسام المجتمعي بخصوصها، وإن كان نقاشها في الفضاء العام سيبقى مستمراً.
خاتمة:
عموماً، تقع إدارة المرحلة الانتقالية على عاتق السلطة والمثقفين والجماهير على حدّ سواء، إلا أنها بالدرجة الأولى تكون على الطرفين الأوّلَين: السلطة والمثقفون. وإذا كان استقراء التاريخ الحديث منه والمعاصر يُشير إلى ميل السلطة دوماً إلى فرض رؤيتها وتهميش المثقّفين والمؤسسات الوسيطة كالأحزاب والتيارات السياسية ومنظمات المجتمع المدني، فإنه بقدر ما تستطيع هذه المؤسسات التشبيك فيما بينها وبناء توافقاتها يكون موقفها قوياً أمام السلطة. لا يعني ذلك افتراض حتميّة اختلاف الرؤى بين السلطة والمؤسسات الوسيطة والمثقفين، وإنما في حالة التوافق فيما بينهم يبقى حضور المؤسسات الوسيطة والمثقّفين في مواجهة السلطة، أية سلطة، مُهمّاً باعتباره أحد أعمدة المساءلة والمحاسبة.
إن فشل المثقّفين السوريين في تأدية الأدوار المنوطة بهم والمتوقّعة منهم أثناء المرحلة المؤقّتة والانتقاليّة فضلاً عن أنه سيُفوّت على هذه الشريحة فرصة إعادة تحسين علاقتها مع الجمهور السوري، فإنه ربما سيُكرّس وإلى فترة طويلة الصورة الذهنية الموجودة أساساً لدى شرائح واسعة من الجمهور عن انتهازية المثقّفين وانفصالهم عن الواقع وما إلى ذلك من انطباعات مسبقة.
إن حدوث ذلك -وهو ما لا يأمله أي إنسان سوري يريد الخير لمستقبل بلده- سيُمهّد الطريق مرة ثانية لتغوّل السلطة؛ تغولاً ليس المقصود به الظلم والقهر ربما، بقدر ما يعني السلطة الشموليّة التي تستولي على الفضاء العام إلى جانب وظائفها الأساسية في إدارة مؤسسات الدولة، وإنما هذه المرة ليس بسبب استبدادها وإقصائها للمثقفين، وإنما لعوامل ذاتية مرتبطة بالمثقف السوري نفسه.
مدير وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري، يحمل شهادة الدكتوراه في القانون العام من جامعة حلب، وحائز على اعتمادية المعهد العالي للحقوق في الشرق الأوسط، وعمل سابقاً مدرساً في كلية الحقوق في جامعة حلب الحرة. يركز في أبحاثه الحالية على دراسة ديناميكيات العلاقة بين المجتمع السوري والنصوص القانونية والدستورية منها على وجه التحديد.