إيران؛ وأبرز المتغيّرات الفاعلة في الشرق الأوسط للعام 2023
تقرير أعدّه مركز الحوار السوري ونُشِر ضمن التقرير الاستراتيجي السنوي التاسع للمنطقة العربية 2023
عند الحديث عن منطقة الشرق الأوسط وأهم التفاعلات والمتغيرات الجديدة فيها يبرز دور إيران الإقليمي تأثيراً وتأثراً على اعتبار أن السياسة الإيرانية من أكثر سياسات الدول الفاعلة في المجال الإقليمي؛ وذلك بما تمتلكه حالياً من نفوذ في أربع عواصم عربية، وهي سوريا والعراق واليمن ولبنان، وبما تمتلكه من ميليشيات عسكرية موجودة على أرض الواقع في تلك الدول؛ مما يجعل من دراسة الدور الإيراني الإقليمي مرآة لتفاعلاتها الداخلية والخارجية مع دول المنطقة.
ومن خلال رصد أهم المتغيرات المؤثّرة سياسياً في الدور والحضور الإيراني الإقليمي للعام 2023 في الشرق الأوسط، وبالتدقيق والتأمل نرى أن رسم صورة إيران وتأثيراتها في الشرق الأوسط للعام 2023 يأتي من زوايا ثلاث، هي بحسب الأشد قرباً وسخونةً: أحداث غزّة، واتفاق المصالحة السعودية الإيرانية، والتطبيع العربي مع نظام الأسد.
بناءً على ذلك جاء هذا التقرير في ثلاثة محاور تُغطي تلك الأحداث الرئيسة وما يتفرع عنها؛ فالمحور الأول يدرس عملية طوفان الأقصى وتداعياتها على مستوى النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط صعوداً أو هبوطاً، من خلال دراسة طبيعة الرد الإيراني على العملية والتفاعل الغربي والعربي على احتمال علاقة إيران بالعملية، ثم النظر في محاولة إيران استخدام طوفان الأقصى لتلميع صورتها ودراسة التداعيات السلبية المحتملة على إيران إقليمياً ودولياً.
والمحور الثاني يُغطّي المصالحة السعودية الإيرانية وما حققته من أهداف سياسية وأمنية واقتصادية بعد التفاهم، وما الذي استفادته إيران من المصالحة، وصولاً إلى مسارات استمرار المصالحة في ظل التطورات في المنطقة.
والمحور الثالث الأخير من التقرير فيتطرّق إلى موضوع التطبيع العربي مع نظام الأسد وأثره في التدخل الإيراني في سوريا، ثم رصد أبرز المتغيّرات التي طرأت على ميليشيات المشروع الإيراني في سوريا.
ويُختم التقرير باستشراف مستقبل إيران في منطقة الشرق الأوسط على ضوء ما يتم استعراضه في المحاور الثلاثة.
أولاً: عملية “طوفان الأقصى” وتداعياتها على مستوى النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط
لا يكاد يُختلف في أنّ التأثير الواسع الذي أحدثته عملية “طوفان الأقصى” والردّ “الإسرائيلي” المتواصل حتى اليوم لا ينحصر تأثيره فقط في مصير قطاع غزّة ومسارات الملفّ الفلسطيني؛ وإنما يمتدّ الـتأثير في عموم منطقة الشرق الأوسط، بل قد يكون التأثير عالمياً أيضاً مع انخراط دولي غير مسبوق وتفاعلات عسكرية أو سياسية أو اقتصادية مع الحدث؛ إذ بات الحدثَ الأكبر والأهمّ بعد اندلاع الحرب الروسية ضد أوكرانيا في شباط فبراير 2022، وأصبح بمثابة زلزال سياسي وأمني وعسكري يرى خبراء استراتيجيون أن ما قبله لن يكون كما بعده، وهذا ما تحدّث عنه رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو صراحة بعد يومين من عملية “طوفان الأقصى”[1].
وتأكيداً لذلك بدا منذ الأيام الأولى للحرب في غزة أن مدى التكاتف الغربي مع “تل أبيب” يتعدّى مرحلة إدانة هجوم حركة حماس والتصدّي له، وظهر هذا جلياً في إرسال الولايات المتحدة حاملتَي طائرات ووحدات كوماندوس إلى مياه المتوسط، استباقاً لأي حدث مفاجئ قد يطرأ خارج حدود قطاع غزة[2].
أمام هذا المشهد شكّلت إيران طرفاً أساسياً في حيثيات المعركة رغم عدم تدخّلها المباشر وتأكيد وزير خارجيتها في أكثر من مناسبة عدم علم بلاده مسبقاً بشأن العملية؛ إلا أن التصريحات “الإسرائيلية” تواصلت بشأن دور مُحتمل لإيران، لينتهي الأمر باتهامها بإمداد حركة حماس مالياً ولوجستياً، دون توجيه اتهام مباشر لها بالوقوف وراء هجوم السابع من أكتوبر[3].
وعوضاً عن توجيه الاتهام المباشر لها حرصَ القادة السياسيون والعسكريون في “إسرائيل” على تكرار التحذيرات والتهديدات من تورُّط إيران في سعيها نحو توسيع نطاق المعركة، وليس المقصود هنا التدخل المباشر مما ليست إيران بوارده بالمطلق؛ إنما من خلال أذرعها وميليشياتها في لبنان وسوريا والعراق واليمن. فكان الردّ الإيراني على الحرب في غزّة ذا طابعَين:
الأول: سياسي؛ ظهر عبر التصريحات المتكررة لوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان الذي طالبَ في عدة مناسبات بإيقاف الحرب تحت تهديد “توسيع نطاقها”[4].
الثاني: عسكري؛ ظهر عبر ما يمكن تسميته “تحرّشات عسكرية” لأذرع إيران من جنوب لبنان وجنوب سوريا، إضافة إلى هجمات من قبل ميليشيا الحوثي على طرق الملاحة الدولية في البحر الأحمر، وهجمات محدودة ضد القوات الأمريكية في العراق وشرق سوريا[5]، مع تجنُّب إيران المواجهة المباشرة[6].
ولم تتأخّر “إسرائيل” وبعض الدول الغربية في الردّ على الهجمات الصادرة من تلك الميليشيات؛ فكان قصف جوي ومدفعي “إسرائيلي” لنقاط عسكرية تابعة للحزب في الجنوب اللبناني، ومهاجمة مطارات في سوريا تستخدمها إيران، أبرزها مطار دمشق الدولي ثم مطار حلب، ثم اغتيال “إسرائيل” قيادياً إيرانياً بارزاً باستهداف مقرّه بعدة صواريخ في العاصمة السورية دمشق[7]، ومؤخراً شنّ ضربات على مواقع للحوثيين في اليمن[8].
1- التفاعل الغربي والعربي على احتمال علاقة إيران بعملية طوفان الأقصى:
منذ الساعات الأولى لبدء عملية طوفان الأقصى أكدت واشنطن أنها “لن تتسرّع” في الحكم على علاقة إيران بالعملية أو تورّطها المباشر فيها[9]، مع فتح الباب أمام اتهام طهران بالتمويل، على الرغم من أن وسائل إعلام أمريكية مؤثرة أكّدت مبكراً أن إيران تقف بشكل مباشر وراء العملية[10]، وحذت الدول الأوروبية حذوها مع حذرٍ أكبر في مسألة الاتهام المباشر.
ويمكن إرجاع التحرّز الأمريكي الأوروبي من اتهام إيران إلى عدة أسباب، منها:
أولاً: السعي إلى إبقاء باب الدبلوماسية مفتوحاً مع طهران فيما يخص عدة ملفات، أبرزها الملف النووي.
ثانياً: توجيه اتهام مباشر لإيران يستدعي من “إسرائيل” أولاً والدول الغربية ثانياً اتخاذ موقف عسكري متطور بالنسبة للردّ، وهذا ما يعني فتح جبهات عسكرية قد تؤدي إلى نشوب حرب تفوق في اتساعها وتدميرها رقعة الحرب الروسية الأوكرانية التي ما زال العالم إلى اليوم يعاني من تبعاتها الاقتصادية والعسكرية.
وخلال الأيام التالية للعملية سارعت إيران إلى نفي علاقتها كلّياً بالعملية، فاكتمل بذلك محور التصريحات بين طهران والغرب حول أن العملية “فلسطينية خالصة” لا يد لإيران فيها[11]؛ وهذا ما أتاح إبقاء الباب مفتوحاً لأي وساطة إيرانية مباشرة أو غير مباشرة حول ملف وقف إطلاق النار أو تبادل الأسرى.
أما الدول العربية فلم تصدر منها تصريحات تدلُّ على أي تورط إيراني مباشر أو غير مباشر بالعملية؛ إنما انعكس الموقف العربي تجاه حركة حماس تحديداً دون توسيع خلفيات دعمها أو تمويلها، بين أطراف أدانت حركة حماس صراحة كالإمارات[12]، ودول عبّرت عن تضامنها مع “مقاومة حماس” مثل لبنان ونظام الأسد، بينما سكتت غالبية الدول العربية عن إدانة أو مباركة العملية وحرصت فقط على إصدار تصريحات تدعو إلى وقف القتال[13].
2- كيف استفادت إيران من تداعيات الحرب في غزة؟
استطاعت إيران عبر أذرعها المحلية في لبنان والعراق وسوريا واليمن (أي: الدول التي تورّطت بتدميرها أو جعلها دولاً فاشلة) ترسيخ صورة “الدولة المقاومة” لـ “الغطرسة الإسرائيلية والأمريكية”، التي لم تستطع أي دولة عربية أخرى القيام بما تفعله من إطلاق التهديدات التي ترسلها بشكل يومي لـ “تل أبيب”، حتى ارتفعت في الأسابيع الأولى من الحرب في غزة أصوات من سكان القطاع ترحّب بموقف إيران من الحرب ودعمها المقاومة الفلسطينية في مقابل “موقف خانع” من الدول العربية، سواءٌ المطبِّعة منها أو غير المطبّعة.
هذا على الصعيد الإعلامي؛ أما على الصعيد السياسي فقد استفادت إيران من أن العملية أوقفت مرحلياً مساعي التطبيع بين السعودية و”إسرائيل”، وهذا ما يُعد مكسباً لإيران التي صرّح مسؤولوها في أكثر من مناسبة أن “طوفان الأقصى” رسالة “إسرائيلية” للدول التي طبّعت معها أو تنوي ذلك بأنها لا تريد السلام. إلا أنه على جانب آخر شكّلت العملية وما نتج عنها من حرب متواصلة مناسبة لإبداء طهران والرياض استعدادهما للتوسّط في إيقاف الحرب، وكان أول اتصال هاتفي بين ولي العهد السعودي والرئيس الإيراني قد تناول الجهود الدبلوماسية للتهدئة[14].
لم تُشكّل هجمات ميليشيات إيران في المنطقة حرب استنزاف ضد “إسرائيل”؛ لأن ما جرى كانت هجمات محدودة، مثل ما سُمّي بـ”معارك العمود” من “حزب الله”[15]، إضافة إلى هجمات ميليشيا الحوثي ضد السفن ذات الصلة بـ”إسرائيل”، فضلاً عن أن العدد الأكبر من الهجمات كان ضد القواعد الأمريكية في سوريا والعراق.
ومع ذلك وبزخمٍ إعلامي كبير سعت إيران بتلك الهجمات إلى أن توجّه عدة رسائل بشكل متزامن:
الأولى: إلى الدول العربية؛ مفادها أنها الطرف الوحيد القادر في المنطقة على التأثير في المنطقة وامتلاك أدوات ذلك، ولا يخفى تأثير هذه الرسالة في علاقة إيران بدول عربية ترفض مشروع طهران في المنطقة، أو تنظر إليه بعين الريبة. وهي تؤكد لهذه الأطراف أنها لن تتخلى عن نفوذها في سوريا والعراق واليمن ولبنان، ولن تقدّم أية تنازلات مهمة للدول الخليجية (خاصة السعودية والإمارات).
الثانية: إلى الشعب الإيراني، الذي يواصل منذ العام 2019 احتجاجات تتنوّع بين النطاق الواسع والمحدود، ومفاد الرسالة أن الوضع الاقتصادي في البلاد هو نتيجة منطقية للحرب الغربية ضد طهران، بسبب مواقفها الداعمة للمقاومة الفلسطينية، ووفقاً لذلك يَفترض قادة إيران أن تكون الحرب في غزة “الذريعة المُثلى” للتنصّل من استحقاقات اقتصادية وإصلاحية.
الثالثة؛ وهي الأكثر أهمية بالنسبة إلى إيران: موجّهة إلى الجانبَين الأمريكي والأوروبي، وتوضّح فيها إيران أنها ليست بصدد تقديم أية تنازلات، سواءٌ فيما يتعلّق ببرنامجها النووي أو ما يتعلّق بمناقشة نفوذها في الشرق الأوسط، بل سعت لإظهار نفسها لاعباً رئيساً وليس ثانوياً، سواءٌ على الجانب العسكري أو السياسي، والمهمّ في الأمر أنها اكتسبت كل ذلك دون أن تتدخّل عسكرياً بشكل مباشر؛ إنما استغلّت قواعد وجودها ونفوذها في الدول التي تهيمن على القرار فيها.
3- ما هي التداعيات السلبية المحتملة على إيران إقليمياً ودولياً؟
يبدو من خلال المشهد الحالي للحرب في غزة حرص “إسرائيل” وحلفائها على عدم توسيع نطاق المعركة، وذلك لعدة غايات، أبرزها: عدم تشتيت نطاق المواجهة، وعدم رغبة “تل أبيب” في تحويل المواجهة مع حماس إلى مواجهة مع إيران وأذرعها تستدعي -كما الحرب في أوكرانيا- انقسامات أكبر في الموقف الدولي، أو تدخّلاً محتمَلاً من أطراف أخرى مثل روسيا والصين.
غير أن هذا لا يعني أن ما بعد الحرب في غزة سيكون كما قبلها؛ لأن “إسرائيل” والولايات المتحدة -رغم عدم تأكيد علاقة إيران بمعركة طوفان الأقصى، وتأكيد طهران نفسها عدم علمها بالعملية- تدركان جيداً أن إيران هي الداعم الرئيس لحركة حماس، وهي كذلك الداعم الرئيس للجماعات التي تحاول استنزاف القدرات العسكرية “الإسرائيلية” في لبنان وسوريا والعراق واليمن. وإزاء هذا المشهد يمكن القول: إن إيران ستُواجه مزيداً من العقوبات الاقتصادية من قبل الولايات المتحدة وأوروبا، ولن يعطيها الطرفان مجالاً لاستخدام الحرب في غزة ورقة ضغط فيما يخص الملف النووي.
من ناحية ثانية يبدو سيناريو الخسائر الأكبر بالنسبة إلى إيران في حال توسّع نطاق الحرب، أو في حال حقّقت “إسرائيل” أهدافها المعلنة في قطاع غزة عبر تفكيك حركة حماس وإنهاء قدراتها وإبعادها عن الحكم في قطاع غزة؛ ففي هذه الحالة ستكون مليشيا “حزب الله” على الأرجح الهدف الثاني لـ “تل أبيب”، وهذا ما يعني بشكل مباشر صياغة هدف “إسرائيلي” أمريكي عنوانه العريض: تقليم أظافر إيران بشكل حقيقي في المنطقة، ولا سيما في دولتَي الطوق “لبنان وسوريا” إضافة إلى العراق، مع عدم استبعاد إمكانية شنّ ضربات أمريكية ضد قواعد عسكرية تابعة للحرس الثوري في المنطقة، أو حتى ضد بنى تحتية في إيران بحسب ما اقترح العديد من المشرّعين في مجلس الشيوخ الأميركي[16]؛ ولكن ستبقى واشنطن تُفضّل اللجوء إلى الخيار الدبلوماسي واستخدام أساليب الردع لمنع إيران من التصعيد.
ثانياً: المصالحة السعودية الإيرانية؛ هل حقّقت أهدافها السياسية والأمنية والاقتصادية المُعلنة؟
برزت المصالحة السعودية الإيرانية في مارس آذار 2023 ضمن أهم الأحدث السياسية في الشرق الأوسط – وربما في العالم – خلال العام 2023، وذلك لعدة اعتبارات، أهمّها: أنه الاتفاق الأول من نوعه بهذا الحجم ترعاه دولة غير الولايات المتحدة التي من المفترض أنها تقود المشهد في المنطقة، إضافة إلى أنه كان متوقَّعاً أن يُحدِث جملة تغييرات جوهرية في مستويات الصراع في المنطقة لأن النزاع بين الطرفين انعكس بشكل مباشر وعالي التأثير في تلك الملفات والصراعات.
1- نتائج التفاهمات: هل من إنجازات: سياسية، وأمنية، واقتصادية بعدها؟
من الناحية السياسية؛ انعكست النتائج السياسية للتفاهم التاريخي بين السعودية وإيران بشكل كبير على العلاقات بين البلدين، التي اتّسمت خلال العقد الماضي وأوائل الحالي بالتنافس المعلن والنزاع بالوكالة في عدة ملفات؛ إذ توقّفت إلى حدّ كبير حالة الاستقطاب الإعلامي والاتهامات المتبادلة بين الجانبين، وتراجع كذلك نمط التوتر السياسي والدبلوماسي على المستوى الخليجي جرّاء هذا التفاهم، وأبدى الطرفان حرصهما على تطوير العلاقات مستقبلياً نحو مستويات أكبر.
غير أن نظرة فاحصة للغايات الكبيرة التي كان مُعوّلاً أن تتحقّق تُثبت أن النتائج السياسية لم ترقَ إلى المستوى المنشود؛ ففي سوريا لم يؤدّ التفاهم الإيراني السعودي إلى تحقيق أي نتائج ملموسة، باستثناء عودة الأسد إلى الجامعة العربية، التي ربما ساعد الاتفاق بتسريعها فحسب؛ لأن هذه العودة كانت مرسومة ضمن إطار ما يُعرف بـ”المبادرة العربية” التي سبقت توقيع الاتفاق بين الرياض وطهران. وفي لبنان كان منشوداً أن يؤدي الاتفاق إلى حصول انفراجات كبرى تتعلق بتقديم تنازلات جوهرية من قبل الأطراف المحسوبة على الدولتَين؛ وهذا ما لم يحصل أيضاً. فيما بقي المشهد السياسي العراقي على حاله، واستمرت الهيمنة الإيرانية عليه بلا منافسة.
أما في الملف اليمني الذي كان يُعد أهم بنود الاتفاق بين الجانبَين لما يشكّله من تأثير على المملكة والخليج ككل؛ فيُعد الإنجاز الوحيد هو اللقاءات السعودية الحوثية التي لم تُفضِ إلى حدوث اختراقات مهمة بعد، باستثناء الحفاظ على الهدنة الحالية[17].
اقتصادياً؛ تحدّثَ طرفا الاتفاق عند توقيعه عن “فوائد اقتصادية واعدة” في المستقبل القريب، وكان لدى طهران أمل بأن تساعد الشركات السعودية الاقتصاد الإيراني المتعثّر في تحقيق بعض الإنجازات[18]؛ إلا أن هذا لم يحصل حتى اللحظة.
وثمة عدة أسباب يمكن الحديث عنها في مضمار عدم تحقيق فوائد اقتصادية، أبرزها: أن الجانب الاقتصادي يأتي لاحقاً للنتائج السياسية، وعلى اعتبار أن غالبية الملفات الإقليمية العالقة بين الطرفين لم تُحزر تقدماً يُذكر فهذا يعني كذلك جمود الثمار الاقتصادية للاتفاق. وفي هذا المجال يمكن القول: إن السعودية رمت الحديث عن الاستثمارات “جزرة” للجانب الإيراني لدفعه نحو تقديم تنازلات في الملفات السياسية؛ وهذا ما لم يحدث[19]. إضافة إلى أن العقوبات الأمريكية ضد إيران تُعد عائقاً رئيساً أمام الاستثمارات السعودية.
أما فيما يتعلق بالنتائج الأمنية والعسكرية؛ فالاتفاق لم يُحدث فيه أي تغييرات؛ لأن إيران لا يمكن أن تقدّم للسعودية ما لم تقدّمه في المفاوضات مع الدول الغربية حول مصير نفوذها بالمنطقة. والاستثناء الوحيد في هذا الباب هو الهدوء النسبي في جبهات القتال باليمن، والتوقف شبه التام عن شنّ الحوثيين هجمات ضد السعودية؛ وهذا هو أبرز ما كانت تُطالب به المملكة.
بالنتيجة، لم تجنِ إيران حتى الآن أيّاً من ثمار الاتفاق مع السعودية بالمعنى الذي كانت تصبو إليه، والمقصود هنا الجانب الاقتصادي الذي مرّ الحديث عنه، ويصحّ الحديث عن جانب إعلامي فقط نجحت إيران في تحقيقه، يتعلق بسعيها أمام الرأي العام الدولي لتحقيق السلام في الشرق الأوسط عبر توقيع الاتفاق.
وعلى العموم يمكن القول: إن إيران لم تكن تريد أكثر من الجانبين الاقتصادي (الذي لم يتحقق منه شيء)، والإعلامي؛ لأنها في الواقع الطرف الأقوى من الجوانب العسكرية والأمنية والسياسية، والمطلوب منها في هذه الجوانب تقديم تنازلات لا حصد ثمار.
2- مسارات استمرار المصالحة في ظل التطورات في المنطقة:
رغم أن الاتفاق الذي وُصف بالتاريخي لم يؤدِّ حتى اللحظة إلى إحداث تغيرات واسعة، سواءٌ في طبيعة العلاقة بين الجانبين أو في مجال “النزاع بالوكالة” بينهما؛ إلا أن هناك نظرتَين إستراتيجيتَين:
الأولى: يرى أصحابها أن مسار الاتفاق السعودي الإيراني لم يتجاوز وقف الاستقطاب السياسي والإعلامي بينهما، إضافة إلى هدوء نسبي في جبهات اليمن[20]، أما بقية الملفات العالقة بين الطرفين فلا يمكن للاتفاق أن يؤثر فيها، ومن المستبعد أن تتطور العلاقات بين الجانبين إلى أكثر مما هي عليه في الوقت الحالي.
الثانية: يرى أصحابها أن الاتفاق لم يمرّ عليه الوقت الكافي ليؤتي ثماره، وأن الحرب في غزة أثّرت في إبطاء مسار التفاهمات وإعادتها إلى الوراء[21]، في وقت يسعى فيه الطرفان إلى الحفاظ على ما تم التفاهم عليه كمرحلة أوّلية، مع توقّع حدوث تطورات في العلاقات البينية نظراً لمصالح الدولتين، والانتقال من حالة “التنافس الإقليمي” إلى حالة “التوازن والتقاسم”.
وفي محاولة الترجيح بين النظرتَين يمكن تسجيل عدة ملحوظات مهمة:
1- الأرضية التي أُقيم عليها الاتفاق هشّة جداً، ولا تحوي مقومات كبيرة للنجاح والاستمرار، لا سيما وأن الاتفاق تم برعاية الصين، لا برعاية أمريكا؛ ولذا فإنه يخضع لقدرة بكين على متابعة مهمتها كراعية للسلام بين الجانبين، فالاتفاق من هذا الجانب ليس ذاتياً، إنما هو موضوعي.
2- ليس بين الطرفين ما يمكن اعتباره توازناً إستراتيجياً؛ فإيران هي الطرف الأقوى، والملفات التي تمسك بها أكثر وأخطر مما تملكه السعودية، والجانب الوحيد الذي ينفعها هو الجانب الاقتصادي؛ فإن وجدت طهران أنها لم تستفد منه شيئاً فإنها ستفقد الدافع وراء تطوير العلاقات.
3- أرادت السعودية من وراء الاتفاق أن يمكّنها من المضي في مشروع ولي العهد “رؤية 2030″؛ غير أن الرياض لن تقطف من الآثار المنشودة أكثر من استمرار الهدوء على حدودها الجنوبية مع اليمن، أما في بقية الملفات فيبدو أن إيران غير مستعدة لتقديم أية تنازلات لها فيها.
4- التحالفات الخاصة بكلتا الدولتَين تفرض على كل منهما اتباع سياسة خارجية قد تكون متناقضة مع الطرف الآخر (الحرب في غزة نموذجاً)، وهذا ما يجعل الطرفين أمام عدة امتحانات لديمومة العلاقة والتفاهم.
وعلى ما سبق يمكن وصف الاتفاق بين الدولتَين بأنه “تكتيكي”، ويمكن أن تعود أسباب الخلاف في أية لحظة؛ فلا يحمل صفة الاتفاق “الإستراتيجي”. وذلك بسبب التباين الحادّ في المصالح والأهداف بين الدولتَين في ملفات وقضايا متشابكة ومعقدة، فضلاً عن أن إيران لا تبدو في وارد تقديم أية تنازلات بخصوص نفوذها في العراق وسوريا واليمن ولبنان، كما لن تستطيع السعودية تقديم إغراءات اقتصادية واعدة لها بحكم العقوبات الغربية المفروضة على طهران، ولذا فإن الراجح ألا يؤدي الاتفاق إلى الحل المنشود في ملفات الخلاف بين الطرفين في الشرق الأوسط.
ثالثاً: التطبيع العربي مع نظام الأسد؛ ما أثره في التدخل الإيراني في سوريا؟
يقوم النهج الإيراني منذ بداية تدخله في سوريا على ترسيخ نفوذ طهران بأبعاده المختلفة الأيديولوجية والثقافية والاقتصادية والعسكرية، وذلك عبر سلسلة من الأدوات: من تجنيد السكان، وإنشاء المربعات الأمنية، والتغلغل في جيش الأسد، والتحكم بالاقتصاد، ودعم أنشطة التشييع وتصنيع المخدرات، وتغيير هوية المدن الديموغرافية، وتوسيع دائرة النفوذ الاجتماعي والسياسي، فضلاً عن تغذية الصراعات الداخلية[22].
ورغم كل ما حققته إيران خلال السنوات التي سبقت التطبيع العربي مع الأسد من تغلغل في سوريا؛ إلا أن ما حصل بعده يؤكد أن الاستراتيجية الإيرانية لم تتغير، وأن الاتفاق السعودي الإيراني لم يؤسس لمرحلة جديدة تقوم على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية كما جاء في الاتفاق[23].
1- التطبيع العربي مع الأسد؛ مسار متعثر ومخاطر إيرانية متنامية:
بعد أشهر من قيادة المملكة العربية السعودية باندفاعٍ قطار التطبيع مع بشار الأسد ومنحه مقعد سوريا في الجامعة العربية، والسعي لإعادة تأهيله إقليمياً ودولياً، وهو ما مثّل تحولاً واستدارةً سريعةً في الموقف السعودي تجاه القضية السورية؛ برزت مؤشرات تقود إلى فرضية مفادها أن المبادرة العربية لإيجاد حل للأزمة السورية تسير وفقاً لما هو مخطط لها، فالأسد زار الرياض مرتَين، آخرهما عقب عملية طوفان الأقصى. وفي نهاية شهر كانون الأول 2023 عيّن الأسد سفيراً له في السعودية[24]، وأرسل وزير أوقافه محمد عبد الستار السيد لإجراء مباحثات رسمية مع وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السعودي[25]. ولكن عند النظر إلى أهداف ودوافع التطبيع التكتيكية والاستراتيجية ومدى تحققها كلياً أو جزئياً[26]، وبتحليل سريع لبعض التصريحات الرسمية وغير الرسمية للدول المطبِّعة يظهر أن الرهان العربي من أجل تحقيق رؤية الدول المطبِّعة ما زال معظمها بعيد المنال.
في الواقع لم يطرأ أي تغيير على الملفات التي عبّرت الدول المطبعة عن رغبتها في معالجتها، ومنها: التداعيات المرتبطة بـ “اللجوء والإرهاب وتهريب المخدرات”. وأما الحدّ من النفوذ الإيراني الذي تراجع الحديث عنه عقب التقارب السعودي الإيراني -رغم أهميته بالنسبة إلى الدول العربية؛ خاصة السعودية- فلم يشهد أي تغيير جذري، لأنه لم يكن في الأساس ضمن التوافقات المعلنة بين الدول العربية تجاه إعادة الأسد إلى الجامعة العربية.
بعد أشهر من التطبيع العربي مع الأسد أصبح المسار برمّته يعيش حالة جمود، وهو ما أشار إليه وزير أردني سابق؛ حين صرّح أن المبادرة العربية لإيجاد مخرج “للأزمة السورية” وصلت إلى “طريق مسدود” بسبب عدم استجابة نظام الأسد لمتطلباتها، خاصة فيما يتعلق بقضية تهريب المخدرات؛ إذ زادت عمليات التهريب بعد محادثات التطبيع[27].
سياسياً لم يُسجل أي خرق في هذا المسار رغم التفاؤل الذي أبدته الدول المطبعة في البداية؛ إذ رأت أن مقاربتها للحل ستكون بداية لمسار سياسي يقوده العرب بشكل ينسجم مع القرارات الدولية، إلا أن التصريحات الأخيرة خلال القمة الخليجية 44 ركّزت على دعم جهود الأمم المتحدة للتوصل إلى حل سياسي وفق القرار 2254، والتطلع إلى استئناف عمل اللجنة الدستورية[28]. وفي ذلك إشارة إلى أن المقاربة العربية للحل ليست بخير، وأن بعض الدول العربية قرّرت إعادة رمي كرة الحل في ملعب الأمم المتحدة، مع المحافظة على بعض المكتسبات الاقتصادية بالنسبة إلى الأردن، والاعتبارية بالنسبة إلى السعودية والإمارات اللتَين كانتا تطمحان من خلال التطبيع إلى استعادة حضورهما الإقليمي[29].
2- إيران والتطبيع العربي؛ توظيف المسار لخدمة مشروع طهران
اتكأت الكثير من التحليلات في الفترة الأولى للتطبيع العربي مع الأسد ونجاعته في الحدّ من النفوذ الإيراني على فرضية مشتقة من طبيعة “الصراع العربي الإيراني المركب” المستند إلى الأبعاد التاريخية والسياسية والثقافية والدينية، وعليه برزت ترجيحات بإمكانية إبعاد إيران عن سوريا في حال منحت الدول العربية الأسد بعض الحوافز، إلا أن الواقع كان عكس ذلك؛ إذ عبرّت إيران عن موقفها من التطبيع مبكراً، فرأت بالانفتاح الإماراتي على الأسد خطوة إيجابية تصبّ في مصلحة “سوريا والدول العربية”.
حافظت إيران على موقفها الرسمي الداعم للتطبيع، خاصة بعد الاتفاق السعودي الإيراني الذي تمّ برعاية صينية، وأخمد -ولو ظاهرياً- حدّة الخلافات، وهو ما انعكس على البيانات التي صدّرتها الرياض منفردة أو مشتركة مع الدول المطبِّعة حول سوريا؛ إذ لم تُشر بشكل مباشر إلى النفوذ الإيراني في سوريا ومخاطره، بخلاف ما كانت عليه هذه الدول سابقاً. ومع عودة بشار الأسد إلى الجامعة العربية جدّدت طهران دعمها لهذا المسار، ورأته خطوة لدعم “السلام الإقليمي والتقليل من التدخل الأجنبي”.
ويمكن تفسير الموقف الإيراني من خلال مجموعة نقاط، هي:
- ترى إيران أن إعادة تعويم بشار الأسد ومنظومته يُعد انتصاراً لـ “محور المقاومة” على مَن أراد الإطاحة به، وأن اتخاذ الدول العربية زمام المبادرة للتطبيع مع الأسد دليل على هزيمتها؛ وهو ما ركّزت عليه الصحف الإيرانية المقربة من الحكومة ومنها “كيهان” و”جوان”[30].
- تدرك طهران أنه مهما حقّق الأسد من انتصارات عسكرية فهي لا تكفي لضمان بقائه في السلطة، ولذا فإنّ أفضل رهان لإيران لضمان نفوذها يتطلب استعادة نظام الأسد شرعيته، ويمكن للتطبيع العربي أن يسهم في ذلك.
- تدرك إيران أن التطبيع العربي لن يؤثر على نفوذها أو على مصالحها في ظل تغلغلها في مفاصل الدولة كافة، من ذلك سيطرتها على القوى الصلبة بما فيها الجيش والأمن والميليشيات، وإنشاؤها شبكة من “الحلفاء المخلصين” في الشبكات الاجتماعية، في حين لا تملك الدول العربية أية أوراق ضغط فاعلة ومؤثرة لمواجهة هذه الأنشطة الإيرانية.
- ترى إيران أن أي تقدُّم في مسار التطبيع العربي مع الأسد وإمكانية انعكاسه على ملف إعادة الإعمار سيعود عليها بالنفع، لاسيما وأن الأموال التي سترسلها بعض الدول الغنية سيذهب جزءٌ منها للشركات الإيرانية التي وقّعت العديد من الاتفاقيات حول ملف إعادة الإعمار مع نظام الأسد[31].
رغم كل ما سبق فإنه لا يعني أن إيران سلّمت بمسار التطبيع وقبلت به كاملاً، فهي تدرك أن إعادة دمج نظام الأسد في المنظومة العربية قد يقلّل من اعتماده عليها في المستقبل، فضلاً عن احتمالية تجدُّد التوتر بين إيران والعالم العربي الذي تعيش معه تنافسات أيديولوجية وسياسية واقتصادية عميقة منذ عقود، وانطلاقاً من ذلك أبدت إيران من جهة دعمها لمسار التطبيع، واستمرت في دعم نفوذها في سوريا من جهة أخرى.
فعلى المستوى الاقتصادي أولت إيران اهتماماً إضافياً في هذا الجانب بعد التطبيع العربي مع الأسد، ووضعته على سلّم أولوياتها، وحرصت على إرسال رسائل غير مباشرة إلى الدول العربية مفادها أن أي مشروع في سوريا لا يمكن تنفيذه دون إشراك إيران كلياً أو جزئياً به، بعد أن استطاعت تقييد سوريا بسلسلة طويلة من الاتفاقيات تضمن لنفوذها الاقتصادي بيئة قانونية تمكّنها من تحصيل مكاسب وتعويضات خلال مرحلة إعادة الإعمار.
ويمكن القول: إن زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى سوريا في أيار 2023 لأول مرة منذ عام 2011 على رأس وفد ضمّ وزراء الدفاع والاقتصاد والخارجية والنفط والنقل ومحافظ البنك المركزي الإيراني، وتوقيعه اتفاقيات استراتيجية طويلة الأمد في قطاعات التجارة والنفط والطاقة والبناء والنقل والاتصالات هي من أبرز الرسائل الإيرانية التي أتت عقب التطبيع ورُبطت بمرحلة الإعمار[32]، وعزّزتها زيارة وزير خارجية نظام الأسد فيصل المقداد إلى طهران بهدف متابعة الاتفاقيات التي أُبرمت خلال زيارة الرئيس الإيراني إلى سوريا.
ومن المؤشرات المهمة أيضاً: وضع إيران يدها على مصفاة حمص النفطية[33]، وتأسيس أول بنك لها في سوريا[34]، والاتفاق على إنشاء شبكة هواتف محمولة[35]، والتأكيد على ضرورة استكمال خط السكة الحديدية الذي يربط إيران بسوريا[36].
وأما على صعيد أنشطتها الثقافية والدينية والاجتماعية فقد حافظت إيران فيها على المستوى ذاته، ولم يطرأ عليها أي تغيير بعد التطبيع العربي، ومن حديث هذه الأنشطة على سبيل المثال: عزم جامعة طهران فتح فرع لها في دمشق[37]، واستمرار عمليات تجنيد الأطفال واليافعين، خاصة في شرق سوريا[38]، فضلاً عن التقرُّب من الطبقة الفقيرة عبر تقديم منح مالية ومساعدات غذائية.
3- المتغيرات التي طرأت على ميليشيات المشروع الإيراني في سوريا:
منذ بداية التدخل الإيراني في سوريا ركّزت طهران على الجانب العسكري، من خلال إرسال قوات ومستشارين من الحرس الثوري الإيراني، واستخدمت “حزب الله” اللبناني وميليشيات أخرى عربية وأجنبية في النشاط المسلح. وبعد هدوء الجبهات وتحديد حدود السيطرة استغلت الميليشيات الفرصة لأداء أدوار متعددة؛ بدءاً من النشاطات المدنية، وتأسيس مربعات أمنية، وتيسير التشييع، وتوسيع النفوذ الاجتماعي والسياسي، وصولاً إلى أنشطة اقتصادية غير مشروعة، مثل تهريب المخدرات وتجارة السلاح.
ومع تزايد مخاطر النفوذ الإيراني في سوريا ساد انطباع لدى شريحة ما بإمكانية تحجيمه في حال انخرطت الدول العربية في الملف السوري؛ إلا أنه كما أشرنا لم يعد الحديث عن هذه المخاطر تتصدر تصريحات وبيانات الدول العربية بعد الاتفاق السعودي الإيراني؛ ولذا فإن النفوذ العسكري لإيران في سوريا لم يطرأ عليه أي تغير جوهري، سوى بعض عمليات إعادة الانتشار والتعزيز وإخلاء المواقع في مناطق جنوب وشرق سوريا، ومردّ ذلك إلى صراعات مع الولايات المتحدة و”إسرائيل” غير مرتبطة بشكل مباشر بالمقاربة العربية للحل في سوريا.
ورغم ذلك اتسمت الفترة التي شهدت حراكاً عربياً نشاطاً عسكرياً أرادت إيران منه تأكيد وجودها في سوريا؛ حيث زار قائد فيلق القدس عدة مناطق في سوريا كالبوكمال ودمشق، والتقى بمسؤولين أمنيين وعسكريين، وأشرف على مناورات عسكرية مشتركة[39]، كما أرسلت طهران تعزيزات عسكرية سرية على شكل “أفراد ومجموعات صغيرة” إلى محافظة درعا بالتزامن مع توسيع دائرة التجنيد هناك[40]، وتزايد نشاطها الأمني والاقتصادي غير المشروع المتمثل بتهريب المخدرات؛ إذ اتهمت الأردن ميليشيات إيرانية بالعمل على “تقويض أمن البلاد” من خلال تهريب المخدرات والأسلحة[41]، في حين يُعتقد أن الأمر مرتبط بالتوسع الإيراني في العواصم العربية والرغبة في الاستيلاء على عاصمة جديدة[42].
كما لا يمكن الفصل بين التطورات التي تشهدها غزة من تصعيد “إسرائيلي” والتحركات الإيرانية في جنوب سوريا؛ حيث وصلت تعزيزات عسكرية إلى منطقة “القائد” قرب بلدة جباب شمالي درعا، وتلال الشعار وكروم في القنيطرة، إضافة إلى نقل قرابة 300 عنصر من محيط منطقة السخنة في ريف حمص الشرقي إلى الشريط الحدودي السوري “الإسرائيلي” في إطار عمليات تعزيز مواقعها[43]، وهو ما يفسّر ارتفاع وتيرة الاستهدافات “الإسرائيلية” التي طالت في معظمها مستودعات تخزين وقوافل نقل أسلحة، بالإضافة إلى اغتيال أحد مستشاري إيران الكبار في سوريا “رضى موسوي”[44]؛ في محاولة على ما يبدو لمنع طهران من استغلال الظروف في غزّة لزيادة توغلها بالقرب من الحدود الشمالية لـ”إسرائيل”.
وفي شرق سوريا لم يطرأ أي تغيير جوهري على الميليشيات والنفوذ الإيراني؛ سوى ما شهدته المنطقة بعد أيام من انطلاق عملية طوفان الأقصى من إرسال شحنات أسلحة وتنفيذ هجمات عسكرية -نفت إيران علاقتها بها- ضد القوات الأمريكية في قواعد التحالف بالشدادي والتنف وحقل العمر وحقل غاز كونيكو، ومطار روباريا الزراعي ومطار خراب الجير[45]، ولم ينتج عن هذه العمليات أي خسائر في صفوف القوات الأمريكية لأنها لم تستهدف المواقع بشكل مباشر، وفي المقابل ردّت الولايات الأمريكية على هذه الهجمات وأكدت أنها تمارس حقها في الدفاع عن النفس[46]؛ ويبدو أن الطرفين يدركان خطورة الانزلاق في حرب مباشرة، وقد سبق بيان ما أرادته إيران من رسائل عبر تحرشات أذرعها العسكرية.
رابعاً: مستقبل الوجود الإيراني في منطقة الشرق الأوسط:
في ضوء ما تم استعراضه في المحاور الثلاثة نرى أن مستقبل نفوذ إيران في منطقة الشرق الأوسط يمكن استشرافه وفق ما كان في العام 2023 من زاويتَين: في سوريا خاصة على ضوء التطورات التي رُصدت فيما يتصل بالتطبيع العربي مع نظام الأسد والمتغيرات التي طرأت على ميليشيات إيران في سوريا، ثم في المنطقة عامة بعد عملية طوفان الأقصى واحتمالات توسعة الحرب بسبب ميليشيات إيران؛ وإن لم يُفرد اتفاق المصالحة السعودية الإيرانية في هذا الاستشراف فإنما هو لما سبق من أنه اتفاق “تكتيكي” أكثر منه “استراتيجي”، ولكننا نستحضره رغم محدودية أثره في رسم مستقبل إيران في المنطقة.
1- مسارات الوجود الإيراني في سوريا على ضوء التطورات الحالية:
يتميز النفوذ الإيراني في سوريا -كما أشرنا- بحضوره القوي في جميع مفاصل الدولة، إلى جانب تمترس إيران الجيد في مناطق تُعد عمقاً استراتيجياً لها؛ كما في شرق سوريا التي تراها امتداداً لمناطق ميليشياتها في العراق، وفي غربها على الحدود السورية اللبنانية حيث تنتشر ميليشيات “حزب الله” اللبناني وبعض الفصائل والمجموعات الموالية لها.
يُتوقع أن تحافظ “إسرائيل” على وتيرة ضرباتها المحدودة في سوريا، والتي تستهدف في الغالب البنى التحتية العسكرية لإيران من مخازن أسلحة ومصانع تسليح وبعض الشحنات المتجهة نحو المناطق الجنوبية. وفي المقابل يُستبعد أن تنخرط إيران في حرب مباشرة مع “إسرائيل”، حتى بعد مقتل أحد كبار مستشاريها بغارة “إسرائيلية”؛ وإنما ستحافظ على المواجهة منخفضة الحدّة وتلك القائمة على مبدأ المعاملة بالمثل، كما هو الحال في جنوب لبنان في المناوشات التي تشهدها المنطقة بين “حزب الله” والقوات “الإسرائيلية”.
وفي شرق سوريا تشير المعطيات إلى أن التوتر الأمريكي الإيراني سيستمر على المدى القريب والمتوسط دون أن تنخرط الولايات المتحدة ولا إيران في مواجهة مباشرة أو حرب مفتوحة، مع سعي الطرفين إلى تعزيز أوراقهم، ومحاولة كل طرف فرض قواعد اشتباك جديدة لصالحه، وبالنظر إلى التسخين الأمريكي شرق سوريا وما يجري في غزة من تصعيد “إسرائيل” ومن خلفها الولايات المتحدة؛ فإن إيران تدرك خطورة إقدامها على أي تحرك يثير غضب الولايات المتحدة، وهو ما يفسر نفيها المستمر وجود علاقة بينها وبين الهجمات التي تشنّها ما تُسمى “المقاومة الإسلامية” ضد القواعد الأمريكية.
وبالنظر إلى مسار التطبيع العربي وأهدافه ومدى قدرته على التأثير يمكن القول: من المستبعد أن يطرأ أي تغيير على الوجود الإيراني في سوريا؛ حيث ستستمر طهران في استكمال مشروعها، مستفيدة من التقارب العربي لتخفيف الضغوطات الخارجية عليها، وفي مرحلة لاحقة إن تدفقت أموال إعادة الإعمار فإنّ إيران ستحاول الاستفادة منها؛ ولكن يبقى الأمر مرتبطاً بمدى محافظتها على علاقات هادئة مع دول الخليج خاصة. كما أن انشغال روسيا في حربها ضد أوكرانيا قد يُفسح المجال أكثر لطهران في الملفات التي تتنازع مع موسكو للسيطرة عليها في سوريا كحقول الفوسفات والموانئ[47].
ومع خلوّ الأجواء أكثر لإيران لتحقيق التغلغل الثقافي والاجتماعي وتغيير الهوية في سوريا بعد هدوء أكثر الجبهات ضد قوى الثورة والمعارضة، وانصراف قسم من ميليشيات إيران للانخراط في مثل تلك الأدوار غير القتالية؛ فإن تدهور الأوضاع الاقتصادية والأخلاقية في مناطق سيطرة نظام الأسد وحلفائه، وحراك مناطق جديدة كالسويداء ضد الأسد وإيران يعرقل جهودها تلك، لاسيما بعد انكشاف ضلوع أذرع إيران أكثر في أخطر ما يهدّد المجتمع السوري ودول الجوار كالمخدرات والسلاح.
2- مسارات مستقبل إيران في المنطقة بعد العملية واحتمالات توسعة حرب غزة بسبب ميليشيات إيران:
يرتبط مستقبل إيران في المنطقة بشكل أساسي بالنتائج التي ستُفضي إليها الحرب في غزة، ولدينا في هذا أحد سيناريوهين اثنين:
الأول: أن تُحقّق “إسرائيل” أهدافها من الحرب في غزّة على المدى المنظور، عبر تفكيك قدرات حماس وإنهاء حكمها للقطاع، وهذا ما سيؤدّي إلى تفرُّغ “تل أبيب” وحلفائها لنوعين من الرد على طهران: إما عبر أعمال عسكرية مباشرة ضد المواقع النووية في إيران (وهذا أضعف الخيارين)، وإما عبر توجيه ضربات مركّزة لميليشيا “حزب الله”؛ في محاولة لإنشاء ما يُشبه “المنطقة العازلة” في المناطق المحاذية لجنوب لبنان، إضافة إلى قصف أهم قواعدها في سوريا والعراق.
الثاني: امتداد أمد المعركة في غزّة لشهور أخرى، وفي هذه الحالة ستحاول “إسرائيل” تحييد قدرات ميليشيا “حزب الله” في جنوب لبنان واستخدام أقصى أساليب الردع لعدم فتح جبهة جديدة من الحرب، إضافة إلى أن الولايات المتحدة ستتولى بدورها فرض عقوبات إضافية ضد جماعة الحوثي، مع رفع نشاطات التحالف العسكري متعدد الجنسيات في البحر الأحمر وإضافة دول عربية فيه كنوع من إضفاء الشرعيّة عليه.
يمكن القول: رغم أنه لم يكن لإيران منذ بدء هجوم “إسرائيل” على غزّة بعد السابع من أكتوبر أي دور مؤثّر في مسار المعركة على الأرض، واقتصار هجمات المليشيات المدعومة من قِبَلها على بعض التحرشات بالقوات الأمريكية في سوريا والعراق، أو عبر إطلاق قذائف من جنوب سوريا أو لبنان وغيرها لحفظ ماء الوجه؛ إلا أنّ الطرفين “الإسرائيلي” والأمريكي يَعتبران طهران أحد المموّلين والداعمين الأساسيّين لحركة حماس، الأمر الذي يجعل مسار المعركة مؤثراً في نفوذ إيران بالمنطقة، لاسيما إن تمكّنت “إسرائيل” من تحقيق هدفها المعلن بتفكيك حماس أو إضعافها بشكل كبير، في ظل الدعم الغربي المفتوح لها وكثافة القصف على غزة. فمثل هذا السيناريو قد يدفع “إسرائيل” إلى تحجيم نفوذ ميليشيا “حزب الله” لاحقاً في لبنان، وفي الوقت ذاته سيُضعِف من موقف إيران وتأثيرها المستقبلي على الفصائل الفلسطينية؛ لأن ما تُسمى بـ”نظرية وحدة الساحات”[48] تبدّدت فعلياً بالحرب في غزة، وأثبت سلوك إيران وميليشياتها أن تلك النظرية كانت مجرّد دعاية يُروّج لها “محور المقاومة” في استغلاله القضية الفلسطينية وتفاعلاتها.
ولأهمية فهم تلك العلاقة وما لها من تأثير في مستقبل المنطقة أصدر مركز الحوار السوري كتاباً بعنوان: (إضاءات على العلاقات الإيرانية مع الولايات المتحدة الأمريكية و”إسرائيل” وتأثيراتها في الملف السوري)، حاول الكتاب تقديم فهم واقعي موضوعي متكامل لديناميكية العلاقات الإيرانية الأمريكية “الإسرائيلية”، وكشف الغموض عن العلاقة المعقّدة المتداخلة التي جمعت هذا الثالوث، بهدف بناء القدرات على استشراف مآلات العلاقات بينهم وفهم العوامل المحرّكة لها توافقاً واختلافاً؛ بما يساعد في وضع تصور أقرب للدقة في التعامل مع المحيط الإقليمي والدولي، وفهم التقاطعات والمصالح المشتركة التي يمكن البناء عليها للتصدي لمخاطر المشروع الإيراني في سوريا.