مقالات الرأي

احتفاليات ذكرى التحرير؛ ثم ماذا؟

أعلنت وزارة الداخلية السورية أن عدد المشاركين في احتفاليات ذكرى التحرير تجاوز 5 مليون في مختلف المحافظات؛ عدا السويداء والحسكة والقامشلي وأكثر الرقة، وحتى كتابة هذه المقالة لم تنتهِ الفعاليات الثقافية التي ما زالت تُقام تحت عنوان ذكرى النصر والتحرير. وقد قيل الكثير في تلك الاحتفاليات، ولكن يُقال في الأمثال: “تمضي السَّكرة وتجي الفكرة”؛ وفي حالة الأزمات يفضّل كثيرون أن يبقوا في سكرتهم حتى لا يرجع الوعي الدقيق بما يعايشون ويقعوا من جديد تحت سطوة الواقع، ولكنه أمر لابد منه؛ فالمناسبات لا تدوم مراسمها وينتهي -لا محالة- بهرجها، حتى يرجع الناس ليعيشوا حياتهم ويعانوا مشكلاتهم يحلّونها أو يتغاضون عنها. وهذا ما فتح الباب لدعاوى أن الاحتفاليات كانت لتخدير الناس عن المشكلات والتحديات، وأن الأعداد التي خرجت لم تخرج طواعية بل كانت بطلب واستدعاء؛ بل ذهب بعضهم للقول: لو أنّ مَن خرجوا في احتفاليات ذكرى التحرير كانوا قد خرجوا معنا في سنة 2011 ما بقينا 14 سنة نعاني حتى نصل إلى التحرير في نهاية 2024!! ومَن لم يذق طعم الحصار فلن يعرف معنى الانتصار”!! وغير ذلك.

فكيف يمكن النظر باعتدال إلى احتفاليات ذكرى التحرير في 8/ 12؟ وكيف يمكن استثمارها بشكل صحيح؟

العروض العسكرية؛ رسالة للداخل والخارج:

أُقيمت في كل المحافظات عروض عسكرية للفرق المنتشرة فيها، مع عرض عسكريّ مركزيّ في دمشق حضره رئيس الجمهورية مع عدد من الوزراء؛ ومما تميّزت به تلك العروض الانضباط العسكري بالزيّ والتحركات الذي فاجأ كثيرين ممن يعرفون الخلفيات الفصائلية لمكوّنات وزارة الدفاع، مما يبعث على التفاؤل بنجاح تجربة الاندماج الذي تم للفصائل الثورية تحت مظلة الوزارة، والتفاوت في الأداء الذي ظهر بين محافظة وأخرى طبيعي في السياق المشار إليه؛ مع التميّز الذي ظهرت عليه القوات السورية في دمشق وما قدّمته من عروض المشاة والتسليح، حتى نشاط المروحيات المحدود الذي تم.

من خير ما سُجل لوزارة الدفاع إقامة “المعرض العسكري للثورة السورية”؛ فرغم ما في المعرض من تفاصيل مهمة عن معركة التحرير والأسلحة التي لم تظهر بعضها قبل المعرض، ومع ركن الشهداء الذي يُدمي القلب بمَن ضحّوا فكانوا سبباً للتحرير ولم يشهدوه ويُبكي لكثرتهم؛ فلعل الأهم فيه هو أن المعرض -فيما أرّخ من الأسلحة، وفيمَن عرض من الشهداء والقادة- يأتي لحفظ الحقيقة والذاكرة التي هي من أهم أركان العدالة بعد الأزمات، بالإضافة إلى أنه يُظهر تجاوزاً كبيراً للفصائلية.

والعروض العسكرية مع ظهور الرئيس الشرع بالزيّ العسكريّ يوم التحرير جاءت في وقت مهم؛ فالموعد النهائي لقوات “قسد” يقترب من نهايته دون بادرة حسنة منها للحل، لاسيما مع منعها الاحتفال بذكرى النصر واعتقالها مخالفي ذلك حتى من الأطفال، وكذلك حراك عصابات الهجري في السويداء وتجرؤهم على تعذيب وقتل قيادات دينية درزية من المحافظة ذاتها لمخالفتهم ما يقوله الهجري، فضلاً عن استمرار التهديدات “الإسرائيلية” وغياب الاتفاق معها كما أعلنت غير مرة؛ وإن كانت بعض الهتافات التي ظهرت تأييداً لغزّة وتحدياً للاحتلال “الإسرائيلي” قد تربك الموقف والتفاوض أكثر، إن لم تكن صدرت وصُوّرت عن قصد بهدف إرسال رسائل أقوى للعدو.

الاحتفالات والملتقيات؛ الصخب والهدوء:

في مرسوم الأعياد الرسمية حُددت عطلة “عيد التحرير” بيوم واحد، وفي قرار العطلة لهذا العام جاءت في يومين؛ ولكن الواقع أن الاحتفالات بدأت قبل ذلك ولم تنتهِ حتى اليوم، وكثير منها صاخب مزعج يؤذي. ومن الجيد في الفعاليات التي أُقيمت أن بعضها تجاوزت الاحتفالات الصاخبة إلى نقاشات هادئة في مؤتمر “عام على التحرير.. أفق وتحديات” بدمشق، وندوات حقوقية وسياسية وثقافية في عدة محافظات، وإن كانت أعداد الحضور فيها قليلة جداً قياساً على حضور الاحتفالات الشعبية الجماهيرية، وجاءت أكثرها بمبادرات من منظمات المجتمع المدني وبعض الجامعات؛ وهذا بحد ذاته يفرض تحدّياً على الدولة بمختلف مؤسساتها ووزاراتها للإفادة من الذكرى بشكل صحيح يتجاوز الطابع الاحتفالي إلى النقاش الجاد فيما وصلنا إليه بعد عام من التحرير، وهذا يحتاج إلى القدرة على قبول النقد والتقييم الذي ما زال محدوداً. وما دعت إليه الهيئات الطلابية في الجامعات الكبرى من ندوات أكثره بطابع احتفالي أو عسكري يستضيفون فيها قادة المعركة، وهذا أمر لا يُسلم لهم به؛ فليست وظيفة الجامعات إتاحة المنابر للعسكريين والإعلاميين للحديث عن تجاربهم، أو لاستضافة شعراء وروائيين سوريين وعرب نسعد بإبداعاتهم؛ ولكنه يحرف الجامعات عن رسالتها في قيادة المجتمع وخدمته، لا أن تكون صدى للأحداث مهما عظمت؛ فأن تستضيف الجامعات خبراء وأكاديميين دوليين لإيجاد حلول لما تعانيه الجامعات السورية مثلاً من تأخر بسبب النظام البائد وعقليته التي لم نتعافَ منها في مؤسساتنا بعد، وأن تُقام ندوة في كلية الحقوق بجامعة ما حول طرق ملاحقة المجرمين الهاربين من العدالة، وملتقى حول العدالة الانتقالية وتحديات ما بعد التحرير في أخرى، ونحو ذلك؛ فهذا مما يدخل في وظيفة الجامعات وعمل الهيئات الطلابية الواعية، فضلاً عن الأبحاث الرصينة لأكوام من المشكلات التي ما زالت تحجب الرؤية الصحيحة عنا في كثير من الملفات.

 السفارات خارج التغطية!

الاحتفال باليوم الوطني يتجاوز حدود الدولة؛ فيحضر الحفل الرسمي سفراء وزوّار من الخارج، ويتلقى زعيم الدولة برقيات تهنئة ومباركة من زعماء آخرين، كما تُقام في سفارات البلد احتفالات تستقبل فيها من مسؤولي الدول والبعثات الدبلوماسية الأخرى. والحال في احتفاليات ذكرى التحرير الأولى في سوريا أنها شهدت اللون الأول؛ فحضر دبلوماسيون وسفراء عرب وأجانب بعض الاحتفاليات، واللون الثاني؛ فتلقى الرئيس الشرع برقيات تهنئة من دول عديدة، ولكنّ اللون الثالث لم يحصل، عدا السفارة السورية في قطر التي كانت سوريةً ثوريةً من قبل التحرير؛ مع أنه أهون من اللونَين الآخرين لدولة كسوريا تنتشر سفاراتها وبعثاتها الدبلوماسية في 54 دولة. فما زالت تلك السفارات كأنها قطعة من هزليّة “جبل باشان” أو أحلام “دولة قسد”، لا تنتمي للدولة الجديدة ولا تمثّل أهدافها، وبعد عام كامل على التحرير لم يتغيّر في أكثر تلك السفارات شيء؛ وهذا تحدٍّ كبير لا يقلّ على الدولة خطورة من عصابات الهجري و”قسد”، فلا يمكن للدولة أن تستمر وتلك السفارات خارج نطاق التغطية الوطنية. وإن كان السوريون تجاوزوها وأقاموا فعاليات واحتفاليات فرح بالنصر والتحرير بمبادرات شعبية مدنية في عدة دول أوربية؛ ولكن بيوتهم الجامعة هي سفاراتهم التي ذاقوا منها لسنوات الويلات في الملاحقة والإذلال، فمن حقّ الدولة والسوريين المهاجرين أن يدخلوا عليهم الباب ويعيدوها إلى دولتهم.

ولكنّ الإشكالية بدأت في الاسم:

في المرسوم رقم (188) للعام 2025 حُدّدت الأعياد الرسمية للدولة السورية الجديدة، ومنها “عيد التحرير” في الثامن من شهر كانون الأول؛ ومع أن المرسوم صدر في أيلول لكنّ الاختلاف لم يظهر إلا مع بدء تصاميم الذكرى بالانتشار، واعتمادها من الجهات الرسمية تحت اسم “عيد التحرير. ومنطلق الاختلاف فيه شرعيّ مرجعه عدم جواز تسمية أي يوم أو ذكرى باسم “عيد” عدا الأعياد الدينية، خاصة الإسلامية. وكان للدعاة والشرعيين تعليقات على مخالفات أخلاقية سُجلت في الاحتفالات، وكان لبعضها صدى إعلامي داخلي وخارجي، كما حصل في عدم إقامة الحفل الموسيقي الذي أُعلن عنه في حمص للموسيقار مالك جندلي؛ ويُحمد للسيد مفتي حمص والفعاليات الرسمية فيها أنهم علّقوا على الموضوع ولم يُترك دون بيان، بصرف النظر عن الموافقة على ما قالوا أو مخالفته. بخلاف ما حصل حول تسمية الذكرى؛ فرغم احتدام النقاش على وسائل التواصل الاجتماعي ومجموعات طلبة العلم والدارسين، وظهور تعليقات كثيرة على الصفحات الرسمية لم يصدر من المرجعيات الدينية ممثلة في “مجلس الإفتاء” أو وزارة الأوقاف أي تعليق على الأمر، لاسيما مع غياب مستشار الرئيس للشؤون الدينية عن تلك الفعاليات، دون توضيح أسباب غيابه.

وأخيراً:

إنّ مناسبة رسمية بمستوى ذكرى التحرير لا يصحّ ترك تسميتها دون تعليق؛ مع وجود مرجعية عليا معتمدة للإفتاء، وإن كان قد يُنظر إلى الأمر كأنه شيء ثانويّ؛ بل هو في الحقيقة جزء من هوية النصر والتحرير، وفيه إشكال لا يُقبل أن يُترك دون حلّ.

وقد أحسنت الحكومة في إطلاق قناة متخصصة بذكرى التحرير؛ ولكنّ إطلاقها قُبيل التحرير لا يعني بحالٍ وحدة الرؤية في كل ما تم من أنشطة، فلم يكن التوافق في الوزارات والمؤسسات العامة والخاصة وفيما بينها يتجاوز وحدة الهوية البصرية إلى حدّ ما فيما نفّذتْه تحت مسمى “عيد التحرير”؛ وهذا لا يكفي لتكون الفعالية الوطنية الأولى على المستوى المأمول في حفظ حقيقة الثورة السورية وبناء سرديتها الموحدة وتحقيق أهدافها بعد النصر والتحرير.

وإنّ التعليق على بعض المخالفات أو النواقص التي شهدتها احتفاليات التحرير لا يخرج عن دائرة النُّصح الواجب، الذي لا يُعفى منه أحد، ولا يُقبل الطعن بصاحبه إن لم يكن دليلا صحيحا على الطعن فيه؛ فكما أن الأعياد تكون بعد مواسم الطاعة تتويجاً لما بُذل فيها فالاحتفالية في ذكرى التحرير استحضار لما سبق فيها من آلاف الشهداء وملايين المهجّرين واللاجئين، ممن لهم حقوق في رقابنا لا تُؤدّى بغير الأمانة والمسؤولية الوطنية والأخلاقية تجاه القضية.

أمّا وقد مضت ذكرى التحرير فقد آن للاحتفاليات أن تنتهي، وللأعمال أن تتابع وتستمر، وللصخب أن يتوقف حتى يكون الهدوء اللازم للتفكير والنجاح في أعمال البناء؛ فبنجاحها يكون الفرح الحقيقي ويكتمل النصر والتحرير.

يحمل دكتوراه في اللغة العربية وآدابها، أكاديمي محقق في التراث، وكاتب باحث في القضايا الثقافية والفكرية. أنجز عدة دراسات ومقالات تُعنى بالوجود الإيراني في سورية، وبالتعليم والهوية الثقافية، وصدرت له عدة كتب تخصصية وإبداعية، مع أبحاث له منشورة في مجلات ثقافية ومجلات علمية محكَّمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى