الإصداراتالتقارير الموضوعيةوحدة الهوية المشتركة والتوافق

التطبيقات العملية للعدالة الانتقالية: الدروس المستفادة من التجارب الدولية

تقرير صادر عن وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري

الملخص:

في إطار سلسلة العدالة الانتقالية في سوريا التي أطلقها مركز الحوار السوري والتي انطلقت مع التقرير التمهيدي: العدالة الانتقالية وأهمية إنضاج المقاربة السورية، والورقة الثانية التي ركزت على المحاكم الجنائية الخاصة والخيار الأنسب لسوريا، تأتي هذه الورقة الجديدة لتركز على الممارسات التطبيقية في تجارب دولية مختلفة بهدف استقراء الدروس المستفادة من التجارب الدولية وهو ما يسمح في الحالة السورية بتجنب أكبر قدر ممكن من التحديات والاستفادة من الممارسات الإيجابية.

حيث تسعى هذه الورقة إلى فهم أثر السياق الوطني على الممارسات التطبيقية في العدالة الانتقالية، وتحليل نتائج المسارات والآليات المتبعة في تحقيق معاني العدالة الانتقالية وغاياتها، وتحديد قائمة الدروس المستفادة من التطبيقات العملية المختلفة في 6 تجارب دولية مهمة، اختيرت بما يراعي تنوع السياقات (أوروبا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا) والتسلسل الزمني، والاستفادة منها في التحضير لبناء مقاربة للعدالة الانتقالية في سوريا.

من خلال الاعتماد على منهجية البحث المكتبي والمنهجين الاستقرائي والمقارن، أظهرت الورقة وجود اختلاف جوهري بين التجارب لجهة تغليب كل من المساءلة والعفو بحسب سياق التغيير السياسي، بحيث كانت تحضر تغلب مقاربة المساءلة في الحالات التي يتم إسقاط النظام السابق عسكرياً أو شعبياً، في حين تغلب مقاربة العفو في الحالات التي يتم التوصل فيها إلى تسوية سياسية بين النظامين السابق والانتقالي.

فيما خلصت الورقة لمجموعة من الدروس المستفادة في الحالة السورية، من أبرزها؛ سعي قوى النظام السابق لتعطيل مسارات العدالة الانتقالية عبر أساليب عديدة من أبرزها: الضغط لطي الماضي كلياً، ومقايضة السلم الأهلي بالعفو أو اعتبار أي اجراء بمثابة عمل انتقامي، وأنه في كثير من الأحيان تفرض التحديات: الاقتصادية؛ مثل: ارتفاع عجز الموازنة العامة، والاجتماعية؛ مثل عدد الضحايا والفئات المستفيدة من الانتهاكات، على منطق العدالة الانتقالية بحيث يؤدي الانقسام المجتمعي الحاد والضعف الاقتصادي عادة إلى بطء تطبيق آليات العدالة الانتقالية.

 مقدمة:

على الرغم من وضوح معايير العدالة في حالات الاستقرار، كوضوح معنى الجريمة وتوصيفها ووجود قواعد شبه متفق عليها بإنزال العقاب وفق القواعد القانونية المكتوبة أو العرفية بمن أخلّ باستقرار المجتمع وأمنه وضميره؛ إلا أن الأمر يختلف كلياً عند الحديث عن العدالة وسبل إنفاذها مع وجود أبعاد سياسية ووطنية كحالة المواجهة الطويلة بين أنظمة استبدادية ومجتمعات تصبو للخلاص منها، حيث يصبح منطق العدالة مركّباً؛ إذ يسعى لتوسيع دائرة النظر لمختلف الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويواجه تحديات الإنفاذ والتطبيق أمام صعوبات عديدة، كوجود مئات آلاف الضحايا وعلى فترات زمنية طويلة، ووجود أعداد كبيرة جداً من المتورطين، فضلاً عن تحديات الموازنة الدقيقة بين إنصاف الضحايا والتحديات العملية الأخرى، مثل: إنزال العقاب بأعداد كبيرة من المتورطين بارتكاب الجرائم، وتحقيق الاستقرار المجتمعي؛ ولذا فإن التحدّي الكبير يكون حاضراً بين المتطلبات الأخلاقية والقانونية في إنزال العقاب بالمجرمين والمعطيات الواقعية.

شكلّ ما سبق حافزاً للفكر الإنساني لإنتاج مقاربات تمنع الإفلات من العقاب، لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية، فتزايدت المطالبات بإيجاد نظام للمُساءلة، خاصة عن الانتهاكات الجسيمة، وضمان منع تكرارها؛ فنشأ مصطلح “عدالة ما بعد النزاعات”، ليأتي التطور الأكبر منذ ثمانينيات القرن العشرين مع تجارب العدالة الانتقالية[1]، التي برزت في حالات التحول لدول شرق ووسط أوربا كتجربة بولندا وألمانيا وبلغاريا، أو تجارب دول أمريكا اللاتينية كالأرجنتين وتشيلي وكولمبيا، وصولاً إلى تجارب دول أفريقية كتجارب جنوب أفريقيا وسيراليون ورواندا[2].

ضمن سلسلة “العدالة الانتقالية في سوريا” التي أطلقها مركز الحوار السوري، واستكمالاً للورقة الأولى التي جاءت بعنوان “التقرير التمهيدي: العدالة الانتقالية وأهمية إنضاج المقاربة السورية”[3]، والورقة الثانية التي ركّزت على المحاكم الجنائية الخاصة والخيار الأنسب لسوريا[4]؛ تأتي هذه الورقة الجديدة لتركز على الممارسات التطبيقية في تجارب دولية مختلفة بهدف استقراء الدروس المستفادة من التجارب الدولية المختلفة، وهو ما يسمح في الحالة السورية بتجنّب أكبر قدر ممكن من التحديات، والاستفادة من الممارسات الإيجابية. مع تأكيد أن الهدف من هذه الورقة هو عرض تجارب مقارنة لاستخلاص الدروس المستفادة، وليس وضع توصيات عملية وتطبيقها وإسقاطها على الحالة السورية.

وعليه تركّز هذه الورقة على ثلاثة جوانب رئيسة، وهي:

  • محاولة فهم أثر السياق الوطني في الممارسات التطبيقية في العدالة الانتقالية.
  • السعي لتحليل نتائج المسارات والآليات المتبعة في تحقيق معاني العدالة الانتقالية وغاياتها.
  • تحديد قائمة الدروس المستفادة من التطبيقات العملية المختلفة، والاستفادة منها في التحضير للعدالة الانتقالية في الحالة السورية.

اعتمدت هذه الورقة على منهجية البحث المكتبي الذي يعتمد على البيانات الثانوية، مع الاستناد إلى أساليب التحليل النقدي من حيث مراجعة الأدبيات وتقديم خلاصات تحليلية مُوجزة[5]، كما اعتمدت على المنهج الاستقرائي بغية الوصول إلى نتائج كلية من التجارب الخاصة والاستفادة منها في الحالة السورية. وعلى المنهج المقارن الذي يتيح قراءة مقارنة للتجارب المختلفة وتحديد أوجه الشبه والاختلاف والقيم المضافة.

اعتمدت الورقة تقسيماً ثنائياً لتجارب العدالة الانتقالية استناداً إلى معيار “تغليب كل من الـمُساءلة والعفو” في التجربة محل الدراسة، على الرغم من القناعة بأنه لا يمكن تصنيف أي من التجارب بشكل جازم تحت أي من العنوانَين السابقَين “الـمُساءلة والعفو”؛ إلا أنه يمكن تلمُّس تغليب أي منهما بدرجات تزيد وتنقص بغضّ النظر عن الأسباب الدافعة لذلك، التي تتغير وفقاً لسياق كل تجربة على حدة.

بناءً عليه تنقسم هذه الورقة أربع أقسام رئيسة؛ نناقش في القسم الأول أربع تجارب، وهي: البولندية والأرجنتينية والتشيلية والجنوب أفريقية، وفي القسم الثاني نناقش التجربتَين الألمانية والرواندية؛ ويتم التركيز في كلا القسمَين وبأسلوب النظرة الكلية على سياق التحول وأطرافه وآليات العدالة الانتقالية الرئيسة، في حين يقدّم القسم الثالث تقييماً كلياً للتجارب وما تضمنته من إيجابيات وسلبيات، لنخلص في القسم الأخير الرابع إلى أهم القضايا التي يُستفاد منها  في الحالة السورية بناءً على استقراء التجارب الأخرى، وإن كانت الحالة السورية متفردة بحجم الجرائم ونوعيتها التي ارتكبها نظام الأسد، ولم يتم كشف اللثام عن كاملها بعد[6].

1-  العدالة الانتقالية في التجارب التي غلّبت منطق الـمُسامحة على الـمُساءلة:

شهدت دول عديدة في المراحل الانتقالية ضعفاً في آليات المساءلة على ارتكاب الانتهاكات، وذلك لأسباب عديدة، من أبرزها: طريقة وأسلوب التحول الذي حصل بوصفه تفاوضياً كحالة بولندا وجنوب أفريقيا، أو قوة حضور النظام السابق وهشاشة الدولة في المرحلة الانتقالية كما حصل في الأرجنتين وتشيلي، ورغم الفوارق في محاولات تطبيق العدالة والقدرة على تحقيق النتائج بين حالة وأخرى واختلاف السياقات والتفسيرات لما حصل فإن السمة المشتركة عموماً بين التجارب الأربع تلك هو ضعف آليات المساءلة، سواءٌ عبر الآليات القضائية أو الآليات الأخرى، كالعزل السياسي والتطهير المؤسساتي.

1-1- التجربة البولندية؛ التسوية الهادئة للحاضر والماضي:

سيطر النظام الاشتراكي على بولندا بعد الحرب العالمية الثانية، وشهدت البلاد في ظله جرائم وانتهاكات وسياسات ترهيب وقمع طوال عقود، مع استناده إلى الدعم السوفيتي الجاهز للتدخل العسكري للدعم، لكن وحشية النظام الاستبدادي لم تصل إلى مرحلة وحشية أنظمة شبيهة كحالة تشكوسلوفكيا. ومع وجود بعض الهوامش _خاصة الدينية_ كانت ملاذاً للمعارضة باتت الدولة تدريجياً “شبه قمعية”[7]، وعاشت البلاد موجات متزايدة من الاحتجاج الشعبي مع وجود احتكاك مع دول أوروبا الغربية ونشوء تدريجي لمجتمع مدني، مثل نقابة عمال “تضامن”، ليأتي التحول عبر مفاوضات بين قوى التغيير المدنية والحزب الشيوعي الحاكم من خلال نموذج “طاولة مستديرة” بين عامي 1988 حتى 1989 أسفرت من حيث النتيجة عن انتخابات حرّة وتحوُّل تدريجي حتى عام 1990[8].

ركّز النظام السياسي الجديد على مقاربة مناسبة لسياق التحول في بولندا، الذي اعتمد على:

  • حصول توافق وطني بين القوى السياسية لاعتماد وثيقة دستورية انتقالية “الدستور الصغير”: في أواخر عام 1991 استناداً إلى دستور عام 1952 من الحقبة “الستالينية”، ثم كتابة دستور جديدة عام 1997[9].
  • سياسات التطهير المؤسساتي: وذلك عبر “قانون الفحص” الذي أُقرّ عام 1993؛ حيث تم تقييم الموظفين العامين ومدى ارتباطهم بالشرطة السرية القمعية في النظام السابق، مع فتح باب الطعن القضائي أمام القرارات النهائية؛ إلا أن ذلك أدى إلى انقسامات كبيرة ودفع بالمحكمة الدستورية بعد ذلك لإعلان عدم دستورية القانون[10]، ليصدر قانون آخر عام 1998 يخصّ العاملين بالادعاء العام، وأدّى إلى فصل ما نسبته 10% من المدّعيين العامّين في بولندا[11].
  • المحاكمات الجنائية: تم افتتاح 32 دعوى حول حوادث قتل، ولكن تقادم الجرائم وقف عائقاً أمام نجاحها، فضلاً عن عدم توجه الزعماء السياسيين لدعم هذه المحاكمات بوصفها ليست أولوية[12].
  • تأهيل وتعويض الضحايا: الذي اقتصر على مَن صدرت بحقهم أحكام جائرة في الحقبة السابقة، وبذلك كان تعريف الضحية محدوداً، واستمرت فترة التدقيق في الطلبات حتى عام 1995[13].
  • حفظ الذاكرة الوطنية: تم إنشاء ” معهد الذاكرة الوطنية” متأخراً بعد 10 سنوات تقريباً من التحول، ومنح المواطنين حق الاطلاع على أسماء العملاء والمخبرين وتاريخ الاستبداد، واستطاعت الهيئة بعد سنوات طويلة تحديد أسماء 21 ألف شخص بين سياسيين ورجال شرطة يُشتبه في ارتكابهم انتهاكات[14]، وكشف تدريجياً عن وثائق تساعد في توحيد السردية الوطنية حول ما حصل[15].
  • ضمانات عدم التكرار: وأهمها اعتبار إنكار الجرائم الشيوعية جريمة يعاقب عليها القانون.

1-2-التجربة الأرجنتينية؛ الفوضى بوجه العدالة:

شهدت الأرجنتين منذ أربعينيات القرن العشرين صراعاً بين التيار البيروني اليساري والتيارات اليمينية المدعومة من الكنيسة والنخب العسكرية، لتحسم بانقلاب عسكري قاده الجنرال خورخي فيديلا عام 1976[16]، ولتبدأ سنوات حكم استبدادي لمجلس عسكري أعلن عن عملية قمعية واسعة للمعارضة تحت مسمى “عملية إعادة التنظيم الوطنية”، التي تضمنت عملياً ارتكاب انتهاكات جسيمة، من أبرزها: الإخفاء القسري والتعذيب والقتل[17].

جاءت أهم الأحداث التي قوّضت الحكم الاستبدادي مع خسارة الجيش لحرب جزر الفوكلاند عام 1982[18]، التي ترافقت مع تردّي الأوضاع الاقتصادية وانفجار الاحتجاجات الشعبية، وهو ما فتح باب التحول في الأرجنتين عبر تفاوض بين المجلس العسكري والقوى المدنية والمجتمعية، أفضى إلى انتخابات حرة ووصول رئيس مدافع عن حقوق الإنسان إلى سدة الحكم[19].

بدأت عمليات التعامل مع إرث الانتهاكات في الأرجنتين مباشرة بعد إسقاط النظام الاستبدادي؛ لكنّ المسار العام كان طويلاً، وفيما يلي أبرز الآليات المتبعة في الأرجنتين:

1-إنشاء اللجنة الوطنية العليا للأشخاص المفقودين (CONADEP): شُكلت سريعاً عبر المرسوم الرئاسي رقم 187 لعام 1983، واختصت بمهمة البحث عن مصير الأشخاص المختفين قسراً، وإحالة الأدلة إلى القضاء وإصدار تقرير نهائي، وقد أنجزت المهمة بفترة وجيزة وتم إعلان حقائق موجزة عن الانتهاكات للجمهور تحت عنوان “لن يتكرر هذا مرة أخرى”، دون مشاركة أسماء المتهمين علناً بسبب التوازنات الوطنية التي شملت 1351 اسماً[20].

2-إطلاق المحاكمات الأولى: بعد إصدار تقرير اللجنة الوطنية تمت محاكمة كبار المجرمين عام 1985 أمثال “فيديلا”؛ إلا أن الضغوط من الجيش وافتعال تفجيرات والتهديد بالفوضى العارمة أدّى إلى تعطيل المحاكمات والذهاب إلى سلسلة من قوانين العفو، وهو ما أثار احتجاجات عديدة من أنصار المساءلة في المجتمع، كحركة أمهات بلازا دي مايو والحركات المدنية والحقوقية. في المقابل كانت القوى اليمينية داعمة للعفو وضاغطة لتحقيقه من خلال سلسلة ما سُمي بالانتفاضات، كانتفاضة الضباط الشباب وانتفاضة الجيش عام 1989 و1990[21].

3-إصدار قوانين تعطل العدالة: بعد قوانين عفو جزئية تم إصدار قانونين رئيسين لتعطيل المساءلة؛ الأول: كان قانون “نقطة النهاية” عام 1986 الذي وضع موعداً نهائياً لتلقي الدعاوى، والثاني: كان بداية عام 1987 باسم “الطاعة الواجبة” ليمنع محاكمة خمسمئة ضابط، إذ أعفى أي ضابط في الجيش في رتبة أقل من كولونيل من أية مسؤولية قانونية تحت ذريعة أنه كان مضطراً لفعل ذلك لأنه عسكري يُنفّذ أوامر القيادة[22].

4-إطلاق موجة العدالة الثانية: تغيرت الظروف العامة في الأرجنتين منذ عام 2003؛ إذ استطاع الرئيس الجديد نستور كريشنر تنفيذ إصلاح قضائي وتطهير واسع في الجيش، مع تحسّن الأوضاع الاقتصادية؛ مما مهّد لإصدار قرار من المحكمة الدستورية عام 2005 ببطلان مراسيم العفو لتُطلق مجدداً سلسلة من المحاكمات لأكثر من 800 متهم بينهم كبار المجرمين[23].

4-تعويض الضحايا: اعتمدت الأرجنتين على سياسات تعويضية فعّالة تدريجياً؛ حيث بدأت عمليات التعويض منذ عام 1991 لبعض السجناء السابقين تحت ضغط الدعاوى أمام لجنة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان، ليتبعها إصدار قانون لصالح عائلات المفقودين عام 1994، ليشمل التعويض عام 2004 الأفراد الذين أجبروا على الرحيل إلى المنفى[24].

5-حفظ الذاكرة الوطنية: وذلك بطرق وأدوات متنوعة، منها: قيام السلطات بإنشاء المعالم والمتاحف، وتحويل بعض المعتقلات السابقة كمعسكرات وقواعد جوية إلى أماكن للتذكر، ومن خلال أنشطة الحركات المدنية في إبقاء الذاكرة حية ومناصرة حقوق الضحايا، وفي هذا الصدد قامت حركة أمهات “بلازا دي مايو” الشهيرة بأنشطة عديدة كالوقفات الدورية ومسرح من أجل الهوية لقضية الأطفال المختطفين، وهو ما شكّل ضغطاً مستمراً على السلطة[25].

1-3-التجربة التشيلية؛ حضور العوامل الدولية في التحول والعدالة:

كحال الدول اللاتينية الأخرى كان الصراع الرئيس بين اليسار واليمين الذي حُسم بانقلاب عسكري دموي قاده قائد الجيش أوغستو بينوشيه بدعم الولايات المتحدة عام 1973، ليقوم الأخير بتأسيس نظام شمولي عبر حلّ البرلمان وتعليق العمل بالدستور وتشكيل مجلسٍ عسكريٍّ حاكم، وبدأ بإجراءات قمعية مختلفة وسياسات اقتصادية واجتماعية تخدم منظومته[26].

استمر الحكم الشمولي الرأسمالي، وازداد القمع بشكل خاص بعد عام 1986 بعد محاولة اغتيال فاشلة لبينوشيه، حيث حول ملاعب كرة القدم إلى معتقلات ومسالخ[27]، ترافق ذلك مع ازدياد الغضب الشعبي من التفاوت الطبقي المرعب والتوحش الرأسمالي، كما ظهرت الخلافات في منظومة الحكم المقربة منه، ليُضاف لكل ذلك تغيُّر الظروف الدولية التي أدت إلى تغيُّر المصالح الأمريكية، مما أدى في نهاية المطاف إلى تنحّي الأخير عن السلطة عام 1990، مع بقائه عضواً دائماً في البرلمان وقائداً للجيش ليبدأ عصر جديد في البلاد[28].

مارست قوى النظام السابق ضغوطات وتهديدات لمنع فتح مسارات للمساءلة، وهو ما انعكس على مسارات العدالة في تشيلي، التي تركزت على:

  • إنشاء اللجنة الوطنية للحقيقة والمصالحة: تم إصدار مرسوم برقم 355 لإنشاء اللجنة التي اختصت بكشف الحقائق والتأسيس للمصالحة وجبر الضرر، واختصت بفترة الحكم العسكري منذ عام 1973، مع تقييدها بنص المرسوم من إصدار أية إدانات لمرتكبي الانتهاكات، لتخلص اللجنة لإصدار تقريرها عام 1991م، أي: بعد تسعة أشهر من العمل، وكشفت عن 3428 حالة اختفاء وقتل وتعذيب وخطف، دون تحديد أسماء الجناة؛ ورغم ذلك استمرت القوى العسكرية واليمينية برفض الاعتذار ومضامين التقرير[29].
  • الملاحقة القضائية في الخارج: في عام 1998 استقال “بينوشيه” من الجيش وسافر إلى بريطانيا للعلاج، ليتزامن ذلك مع إصدار القاضي الإسباني كارسون بالتزار مذكرة اعتقال بحقه بتهمة ارتكابه جرائم ضد إسبانيين مقيمين في تشيلي وضد شعب تشيلي بوصفها جرائم ضد الإنسانية، وهو ما استجابت له بريطانيا وقامت بتسليم “بينوشيه” للقضاء الإسباني؛ إلا أن مرض “بينوشيه” عجّل بالإفراج عنه ليعود إلى وطنه في آذار عام 2000 م، ليواجه ملاحقات وضغطاً من الضحايا المطالبة بإطلاق محاكمة له، وهو ما حصل فعلياً، إذ وُضع تحت الإقامة الجبرية إلى أن توفي في عام 2006م[30].
  • جبر الضرر: أنشأت الحكومة التشيلية بموجب القانون رقم 19123 لعام 1992 المؤسسة الوطنية للجبر والمصالحة، التي قامت عملياً بتدابير شاملة تشمل التعويض المالي والتركيز على نظام الرعاية الصحية للناجين، وتم تقديم تعويضات بلغ مجموعها 3.2 مليار دولار[31].
  • الآليات الأخرى: لم تُطلق فعلياً آليات واسعة في تشيلي إلا بعد سنوات؛ حيث ركزت على الحوار لفهم الماضي وتشكيل لجان لاحقة كلجنة “فاليش” ولجان حقوقية رسمية للمتابعة في كشف الحقائق ومصير المختفين، فيما استمرت إشكالية حفظ الذاكرة الوطنية بسبب وجود إجراءات جزئية غير متكاملة، فمثلاً: تم إنشاء متحف ذاكرة كمؤسسة رسمية وهو “متحف الذاكرة وحقوق الإنسان” الذي يتلقى تبرعات الأرشيف والمواد الأخرى من الناجين وأقاربهم مع تمويل حكومي، فضلاً عن تحويل بعض مراكز الاحتجاز إلى مراكز للذاكرة [32]؛ إلا أنه لم يتم إقرار قانون لحماية المواقع التذكارية أو أرشيف الذاكرة الوطنية، وما تزال الحاجة لإنشاء شبكة من المواقع التذكارية واحترام المواقع التذكارية والعناية بها وكرامتها حتى تتمكن من أداء وظيفتها التعليمية[33].

1-4-تجربة جنوب أفريقيا؛ العفو مقابل الحقيقة:

تبعاً للحقب الاستعمارية المختلفة أصبح المجتمع الجنوب أفريقي مكوناً من سكان أصليين سود وأقلية أوربية بيضاء وعرقيات أخرى من آسيويين وهنود؛ إلا أن السلطة كانت منذ 1948 بيد الأقلية الأوربية البيضاء التي ظهرت سياسياً باسم الحزب الوطني، وأرست نظاماً رسمياً للفصل العنصري بين الأعراق في الدولة عُرف باسم نظام “الأبارتيد”[34]، وبذلك كانت الدولة الوحيدة في العالم إلى جانب “إسرائيل”[35]، تقومان على قواعد من عدم المساواة والفصل الإقليمي بين السكان على أساس عرقي/ديني[36].

تشكلت حركات مناهضة عديدة منذ الستينيات كان من أبرزها المؤتمر الوطني الإفريقي، تبعها إنشاء حركة “الوعي الأسود”، وازداد النضال الطلابي والاحتجاج الشعبي، وهو ما قُوبل باستمرار بقمع وحشي أدّى إلى عزل تدريجي للسلطة عن المجتمع الدولي وتفاقم الأوضاع الاقتصادية، ليأتي عام 1990 مدخلاً للتغيير بعد أن توجهت حكومة فريدريك دي كليرك للحوار مع المؤتمر الأفريقي من أجل التغيير، مع إجراءات بناء ثقة كإطلاق سراح المعتقلين ومنهم “مانديلا”، لتبدأ مرحلة انتقالية عبر تسوية سياسية تضمنت فلسفة العدالة الانتقالية المطلوبة تحت شعار الوحدة والمصالحة، وتم إصدار دستور انتقالي عام 1993م، وحصلت انتخابات عامة متعددة للمرة الأولى في عام 1994م، لينتهي بذلك نظام الفصل العنصري[37].

ركزت تجربة جنوب إفريقيا على مسار رئيس يتمثل بإنشاء هيئة الحقيقة تحت مسمى “مفوضية الحقيقة والمصالحة” بموجب قانون دعم الوحدة الوطنية والمصالحة رقم 34 لعام1995م، التي قادت عملياً معظم آليات العدالة الانتقالية على النحو الآتي:

  • تعمّقت الهيئة بالإطار الزمني للانتهاكات: فبدأت من عام 1960، كما توسع اختصاصها ليشمل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بما يشمل القتل والتعذيب والاعتقال لأسباب سياسية، وقد أنهت المفوضية أعمالها وأصدرت تقريراً موسعاً عام 1998م[38].
  • تطبيق عملية عفو فردية مقابل الحقيقة: خصوصاً في حال عدم قدرة السلطة الجديدة على محاسبة مرتكبي الانتهاكات، وضيق نطاق الانتهاكات المرتكبة بحيث إنها لا تجعل من العفو سبباً لعدم الاستقرار المجتمعي، وهي الأنموذج الأول من نوعه في التجارب المختلفة الذي يقوم على أساس منح العفو الخاص بعد تحقق ثلاثة شروط، وهي: الكشف عن الحقائق كاملة، وأن يكون الفعل الذي يُطلب العفو عنه مرتبطاً بهدفٍ سياسي مترافقٍ مع حُسن النية في الأفعال، بمعنى أن نية طالب العفو كانت أثناء ارتكابه للفعل سياسية مرتبطة بالصالح العام وليس بنية جرمية مثل إلحاق الأذى أو تحقيق أهداف مالية، ويُضاف إلى ذلك اشتراط عقد جلسة سماعٍ علنيةٍ إذا كان هذا العفو عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان؛ إلا أن التطبيق الفعلي شهد فجوات عديدة، حيث امتنع كبار المتورطين عن المشاركة في الآلية[39].
  • العفو بمسارات منفصلة: قدّمت المفوضية قوائم ومقترحات للسلطة لمتابعة النظر في الملاحقة القضائية في الحالات التي لم يُطلب فيها العفو أو تم رفضه؛ إلا أن المتابعات القضائية لم تكن جدية، كما صدرت تعديلات تشريعية عديدة لاحقة لسلطة المتابعة القضائية الوطنية أدّت من حيث النتيجة إلى العفو عن الذين لم يتقدموا بطلبات للمفوضية[40].
  • التعويضات: قدّمت لجنة الحقيقة توصيات واضحة لتقديم تعويضات مالية للضحايا على مدار 6 سنوات؛ إلا أن التنفيذ الفعلي لم يبدأ حتى عام 2003، أي بعد خمس سنوات من إصدار التوصيات وبمبلغ لمرة واحدة أقل بكثير من التوصيات الأساسية؛ مما أثار غضب الضحايا المستحقين للتعويضات، كما تم تجاهل العمل بجدية على قضايا التعويض الجماعية التي تعني تصحيح الاختلال الكبير بين الغالبية السوداء المهمشة والأقلية البيضاء المسيطرة على الثروات لفترات طويلة. على سبيل المثال: لم تتخذ خطوات تسهم في تحقيق العدالة الاجتماعية أو خطوات فعالة على مستوى نزاعات الأراضي، وبذلك بقي السود يعانون من تبعات إرث الانتهاكات الطويل، واستمرت معدلات الفقر والجريمة .. إلخ، في حين استمرت النخب الاقتصادية والاجتماعية البيضاء في الاستفادة عملياً من ذلك الماضي، وإن تم الإقرار بما حمله من جرائم؛ وهو ما يعني أن كشف الحقائق وحده لم يكن كافياً بسبب الافتقار لكيفية التعامل مع الماضي المكتشف بسياسات تصحيحية عميقة على الصعيد العام[41].

2-  العدالة الانتقالية في التجارب التي رجّحت منطق الـمُساءلة على العفو:

تتسع معاني الـمُساءلة في إطار مساعي المجتمعات الإنسانية المختلفة للتعاطي مع تركة ثقيلة من انتهاكات الماضي، بما يتجاوز المعاني المعتادة لمعنى العقوبة التي تُفرض جزاءً على مرتكبي الانتهاكات؛ إلا أنها تمسكت بأكبر قدر ممكن من محاولات طيّ الماضي أو العفو عن الجرائم الكبرى أو المضي نحو المصالحة دون أي ثمن، وعلى هذا النحو ركّزت ألمانيا على الجوانب الإدارية والمعنوية في الـمُساءلة، فيما سعت رواندا لـمُساءلة أكبر قدر من مرتكبي الانتهاكات بوسائل قضائية وشبه قضائية متعددة.

1-2- التجربة الألمانية؛ ترجيح مقاربة القصاص على العفو:

تبعاً لنتائج الحرب العالمية الثانية قُسمت ألمانيا في عام 1949 إلى: جمهورية ألمانيا الاتحادية المدعومة غربياً، وجمهورية ألمانيا الديمقراطية (الشرقية) المدعومة من الاتحاد السوفييتي، وفيها بدأت عقود من الحكم الشيوعي الاستبدادي[42].

اعتمد النظام الشمولي على جهاز أمن الدولة “الشتازي” الذي عُدّ أحد أكثر الأجهزة الأمنية تنظيماً وبطشاً في أوروبا؛ حيث ارتكب النظام الشيوعي على مدار أربعين عاماً أبشع أنواع القمع والتعذيب والتجسس على عموم المواطنين ومعارضي النظام على وجه الخصوص[43]، ومع السيطرة المطلقة على كل بنى المجتمع _بما فيها الكنائس والجامعات والنوادي_ لم يكن هنالك أية فرصة لنشوء قوى معارضة ووازنة[44]، وأصبحت أيضاً نموذجاً ملهماً لكثير من الأنظمة الإجرامية حول العالم[45].

لتبدأ التغييرات الكبرى عام 1989 في دول الجوار كالمجر وبولندا، فضلاً عن التغييرات في الاتحاد السوفييتي؛ مما شكّل ضغطاً على وضع ألمانيا الشرقية، فشهدت ولادة مجموعات تنظيمية صغيرة مناهضة للنظام، سرعان ما ازدادت جماهيريتها مع اندلاع احتجاجات شعبية تنادي بالإصلاح والتعددية وحلّ “الشتازي”، ليتم مواجهتها بداية بطرق القمع التقليدية؛ إلا أن تغييرات متسارعة بما فيها داخل الحزب الشيوعي أدت من حيث النتيجة إلى سقوط جدار برلين، لتنطلق بعدها مفاوضات بين القوى الاحتجاجية والحزب الشيوعي، مع اجتياح المواطنين لمباني الجهاز الأمني الذي حُلّ عملياً وبدأت مرحلة التحول[46].

تركزت الخطوات الرئيسة في مجال العدالة الانتقالية في حالة ألمانيا في الفترة الوجيزة بعد التحول في ألمانيا الشرقية ثم في مرحلة الوحدة الألمانية على النقاط التالية:

1-العزل السياسي: وتركز بداية بتطهير مجلس النواب الذي انبثق في أول انتخابات ديمقراطية عام 1990 من المتعاونين مع “الشتازي”، وذلك بعد أن حصلت مظاهرات من عشرات الآلاف من المواطنين بدعوى وجود أشخاص في المجلس المنتخب مرتبطين بالنظام السابق، بناءً عليه تشكلت لجنة تحقيق في المجلس بهدف تفحص وجود تعاون سابق لأي عضو مع جهاز “الشتازي”، وهو ما تطلب أيضاً تعاون الأحزاب السياسية التي بدأت بدورها بالتحقيق الداخلي بقوائم أعضائها في البرلمان حتى تستطيع اللجنة المكلفة بالقيام بمهامها. لكن العملية واجهت تحديات ميدانية؛ فقد فشلت اللجنة المكلفة بالقيام بأعمالها بشكل دقيق وكافٍ لفرض العزل على العضو المنتخب، وغاصت اللجنة بجدالات قانونية حول قضية حماية الخصوصية في أثناء تحقيقاتها، وتغيّب بعض الأعضاء لأسباب مختلفة، ولم تفضل التيارات السياسية التعاون بتقديم المعلومات خوفاً على رصيدها الشعبي. وبذلك لم تبدأ التحقيقات الفعّالة إلا قبل شهر واحد من الوحدة الألمانية (بين الشرقية والغربية)، فجاء التقرير النهائي للجنة المختصة بالتفحص في آخر جلسة برلمانية لبرلمان ألمانيا الشرقية قبل الوحدة الألمانية، وفيه تمت التوصية باستقالة 15 عضواً برلمانياً لارتباطهم بجهاز “الشتازي”، وعليه بدأت مرحلة ثانية من الجدل تتمثل بين رأيين: الأول نشر الأسماء التي طلب منها الاستقالة، والثاني يرى عدم ضرورة ذلك، وقد أوصت اللجنة بعدم النشر توافقاً مع قانون حماية الخصوصية؛ لكن التيار الأول نجح بطرح مشروع قانون للكشف عن الأسماء تماشياً مع الهدف الأسمى وهو كشف الحقائق أمام شعب ألمانيا الشرقية، وهو ما حصل. ومُنح النواب الحق في الدفاع عن ظروفهم؛ فبرّر بعضهم الارتباط غير الرسمي بالجهاز السابق بضرورات واقعية كإمكانية السفر للخارج، ولم يُحسم الجدل حول النتائج؛ لكن ذلك انعكس على قرار البرلمان في ألمانيا الشرقية بالاكتفاء باستثناء بعض النواب من الترشيح للبرلمان الاتحادي بعد أن حصلت الوحدة مع ألمانيا الغربية[47].

2-التطهير المؤسساتي: تم سنّ قانون لإصلاح القضاء عام 1990، وذلك عبر تخويل مجلس النواب الجديد ومجالس المقاطعات خلال مهلة 6 أشهر لتثبيت القضاة أو طردهم، وهو ما استمر بعد الوحدة، ليُطرد نصف القضاة تقريباً. على صعيد آخر تم تنفيذ عملية تطهير وظيفي واسعة “الدوائر العامة” بعد الوحدة الألمانية وبمعايير واسعة لمفهوم العمل لصالح “الشتازي”، بعد أن شهدت الفترة الأولى حالة من التردد بذريعة منح فرص أخرى ومنع الانتقام[48].

3-كشف ملفات الأجهزة الأمنية: التي تركزت كبرى قضاياها حول ملفات جهاز “الشتازي” وفتحها أمام المواطنين، وكان الجهاز قد سعى في آخر أيامه إلى حرق قسم منها، في حين شهدت البلاد قبل الوحدة الألمانية توجهاً رافضاً من السلطة والبرلمان لفتح الملفات؛ حتى لا تؤدي إلى الانتقام أو تعطل الديمقراطية الناشئة أو قوانين حماية المعلومات، وهو ما رافق جهود توحيد الألمانيتَين، ليتم من حيث النتيجة تدريجياً ترجيح مبدأ الحقيقة وحق المواطنين بمعرفة تاريخهم رغم الألم المرافق لذلك.

4-جبر ضرر الضحايا: على عكس الملفات الأخرى لم تشهد القضية جدلاً أو مقاومة من أنصار الشيوعية باعتبارها وسيلة لنسيان الماضي، فصدر عام 1990 قانون شامل لتأهيل الضحايا ولكن دون أخذ الأثر المالي بعين الاعتبار. وقد أخذ مفهوم التعويض المادي معنى واسعاً يشمل: التعويض عن السجن وغيره من أنواع الاستبداد كالاستبعاد من الوظائف ومصادرة الأملاك أو النفي.. إلخ، لكن ألمانيا الموحدة رفضت معظم بنود القانون لأسباب اقتصادية، وأبقت على التعويضات المادية للسجناء السياسيين[49].

5-الـمُساءلة الجنائية: بعد توحيد ألمانيا تم تأسيس جهاز مركزي للتحقيق في جرائم النظام في ألمانيا الشرقية، واستمر بالعمل بين عامي 1992 و1994، وقد بلغت عدد القضايا المنظورة أمامه ما يقارب 20 ألف قضية، رغم ذلك نظمت محاكمات محدودة نتيجة الصعوبات الكبيرة التي واجهت الادعاء العام وتوفير الأدلة بعد مرور الزمن، فضلاً عن التحديات القانونية كالتقادم وتفسير القوانين[50].

6-لجنة تقصّي الحقائق: أقرَ البرلمان الاتحادي عام 1992م تشكيل لجنة تقصّي حقائق للمصالحة مع تاريخ الاستبداد الشيوعي وعواقبه بهدف استكمال الآليات الأخرى وتحصين ألمانيا من تكرار تجارب الماضي عبر “الشجب الأخلاقي” لزعماء الحقبة السابقة إن تعذر الإثبات الجنائي، والمساهمة في التعويض المعنوي للضحايا، وقد خلصت اللجنة بعد ما يزيد عن عامين من العمل إلى تقرير شامل مؤلف من 18 مجلداً اعتُبر أساساً لاعتماد ألمانيا روايتها التاريخية الرسمية[51].

2-2-التجربة الرواندية؛ الحلول المبتكرة للتعامل مع متطلبات الـمُساءلة:

ينقسم المجتمع الرواندي تقليدياً بين مكونين اثنين هما: “الهوتو” الذين يشكلون غالبية السكان، وأقلية من “التوتسي”، وقد لعب الاستعمار البلجيكي على التفرقة العرقية وزرع الفتنة بين أبناء الشعب الواحد، وهو ما استمر بعد استقلال رواندا عام 1962؛ إذ احتكر “الهوتو” الدولة والوظائف، لينفجر عملياً صراع مسلح بين الطرفين عام 1991 وسط تدخلات إقليمية معقدة[52]، ولتبلغ الأمور ذروتها مع ارتكاب مذبحة هي الأكبر في تاريخ أفريقيا عام 1994 من قبل “الهوتو” ضد “التوتسي” راح ضحيتها ما يقارب ثمانمائة ألف ضحية خلال 100 يوم، وسط تخاذل أممي ودولي اعتبر فضيحة تاريخية[53]، وانتهت عملياً عندما استطاعت “الجبهة الوطنية الراوندية” السيطرة عسكرياً على رواندا[54].

بعد فترة من الاضطرابات بدأت رواندا بتطبيق نهجها في العدالة الانتقالية، وتنوعت آلياتها بشكل كبير، وذلك على النحو الآتي:

  • منظومة متنوعة من الآليات القضائية: نشأت في حالة رواندا تباعاً ثلاث آليات قضائية لملاحقة مرتكبي الانتهاكات بعد المجزرة المروعة، الأولى: كانت عبر إنشاء مجلس الأمن الدولي محكمة دولية خاصة برواندا استمرت بالعمل فعلياً حتى عام 2015 وقامت بمحاكمة 82 متهماً[55]، في حين جاء النمط الثاني من الآليات القضائية عبر المحاكم الجنائية الوطنية التي انطلقت من فكرة استبعاد منطق العفو تحت أي مبرر كان بوصفه إفلاتاً من العقاب، مع ضرورة عدم الاعتماد على القضاء الضعيف والفاسد في البلاد، وعليه وبالتزامن مع اعتقال أكثر من 120 ألف متورط بالانتهاكات بدأ تدريب قضاة ومحققين بدعم دولي مكثف للنظر في جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، كما تم إنشاء دوائر متخصصة لمقاضاة المتورطين، لتنطلق موجة واسعة من المحاكمات شملت ما يقارب عشرة آلاف متهم خلال سنوات طويلة قُدّر عدد أحكام الإعدام التي تم إعلانها بـ 10% من القرارات القضائية[56]. وأمام التحديات العملية والقانونية والانتقادات الخارجية _بما فيها المنظمات الدولية_ توجهت رواندا لتفعيل النمط الثالث من المحاكمات عبر نظام المحاكم الشعبية “الغاكاكا” عام 2001، وهي عبارة عن نظام محلي له جذور تقليدية، تم تكليفها لقيادة نهج تصالحي رسمي مكون من ألف محكمة استمر بالعمل لمدة عشر سنوات نظرت خلالها فيما يقارب 2 مليون قضية بحق ما يقرب من مليون متهم.

  وشهدت هذه المحاكمات عملياً تغريم المتهمين وسجن بعضهم، كما شجعت على الصلح والتسويات المالية.. إلخ، وأصدرت المحاكم عقوبات أقل إذا كان الشخص تائباً وسعى إلى المصالحة مع المجتمع فيما اعتُبر أكبر تجربة في التاريخ الحديث بالمحاكم الشعبية[57].

  • عمليات جبر الضرر: على الرغم من التركيز على التعويض الرمزي والمعنوي، وتشكيل صندوق لدعم الناجين من الإبادة الجماعية لم تنجح التجربة الرواندية بتقديم تعويضات مباشرة أو إقرار قانون رسمي ينظم العملية، وبذلك كانت التعويضات في المحاكم الشعبية هي البوابة للتسويات المالية أي “المصالحة المالية” بين الجلّاد والضحية[58]، مع وجود برامج دعم مالية للأسر الأشد فقراً وتهميشاً طُبقت في فترات مختلفة، خاصة بعد 2008.
  • اللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة: التي أسست عام 1999، وركزت على أنشطة تعزيز الوحدة الوطنية وفهم الماضي، وليس التحقيق في الجرائم أو كشف الانتهاكات، وقامت اللجنة بأنشطة عديدة كمعسكرات التثقيف والتعليم والنصب التذكارية للإبادة والإصلاحات التعليمية[59].
  • آليات العدالة الانتقالية الأخرى: وأبرزها الإصلاح القانوني والمؤسساتي وإعادة إدماج المقاتلين؛ إذ أصدرت تشريعات جديدة كقانون الإبادة الجماعية لعام 1998، ودستور جديد في عام 2003، والتركيز على بناء العلاقات الاجتماعية في البلاد[60].

3-  نظرة مقارنة بين التجارب المختلفة؛ خلاصات وعِبَر:

تشير تجارب الدول _سواءٌ التي غلّبت منطق الـمُساءلة أو منطق العفو_ إلى ارتباط العدالة الانتقالية بسياقها الزمني والسياسي، وإلى أنه لا تجربة يمكن أن تكون مبنية بشكل كامل على أحد المنطقين: المساءلة والعفو؛ لذا نستعرض بداية أبرز الدروس المستفادة من تجارب الدول التي غلّبت منطق العفو، ثم تلك المستفادة من تجارب الدول التي غلّبت منطق الـمُساءلة.

3-1- بين تجارب الدول التي غلّبت منطق العفو:

على الرغم من أن الأنظمة الحاكمة في الدول الأربع (بولندا والأرجنتين وتشيلي وجنوب أفريقيا) كانت استبدادية وارتكبت انتهاكات لحقوق الإنسان؛ إلا أن اختلافات عديدة في طبيعة هذه الأنظمة وطبيعة التحول الذي حصل يُظهر اختلافات عديدة على مقاربات العدالة، فإن طبيعة النظام في بولندا كانت أكثر مرونة من الأنظمة الأخرى، خاصة الشيوعية. فعلى سبيل المثال: حصلت بعض مسارات التغيير والإصلاح أصلاً كتنازلات من النظام الحاكم في بولندا أمام موجات الاحتجاج قبل عملية التحول، وهو ما انعكس على أساليب التحول التي جاءت تفاوضية “الطاولة المستديرة” وبطريقة هادئة، في حين تشابهت طبيعة الأنظمة العسكرية في طرق استيلائها على السلطة وارتباط وجودها بالعوامل الدولية في الأرجنتين وتشيلي، وعلى الرغم من الجرائم الوحشية للنظامين اليمينيين العسكريين فإن التحول لم يكن عنيفاً؛ حيث سمحت المتغيرات الخارجية والداخلية بحصول تسليم للسلطة دون فرض شروط تفاوضية، لكن ذلك لم يكن كافياً لتطبيق عدالة انتقالية شاملة لآليات جنائية وغير جنائية، ولاسيما في المراحل الأولى في الأرجنتين وطوال سنوات في تشيلي؛ ذلك أن بقاء قوة الجيش والقوى المناصرة للنظام القمعي شكّل عائقاً مستمراً، وتم فرض معادلة مفادها أن العفو ثمن للاستقرار. إلا أن الضغط المدني والشعبي والتغيرات التدريجية وكشف الحقائق المبكر سمح من حيث النتيجة بإطلاق مسارات تعويض فاعلة، خاصة في تشيلي، وإعادة محاكمة كبار المجرمين في الأرجنتين. وأما بولندا فقد اتسمت فيها مسارات العدالة بوصفها تدريجية وهادئة عبر مسار إصلاحي.

بالانتقال إلى جنوب إفريقيا، وهي التجربة التي حازت شهرة واسعة دولياً وصلت في كثير من الكتابات إلى حد المبالغة بالنجاحات المحققة وتجاهل الفجوات الموجودة على المصالحة وتقديم منطق التسوية من خلال الاعتراف بالذنب، وهو استحضار للثقافة الكنسية بأسلوب قانوني جديد؛ فإنّ ذلك لم يكن وليد الصدفة، فولادة فكرة العفو مقابل الحقيقة في جنوب أفريقيا كان مخرجاً يترجم أسس الاتفاقية للتحول، بما يضمن مصالح القوى البيضاء التي كانت تمسك بالسلطة، ولن تمضي بأي اتفاق يؤدي إلى التنازل عنها إلا من خلال ضمان عدم مُساءلتها.

الشكل رقم (1) يقارن المرتكزات الأساسية للعدالة الانتقالية بين تجارب (الأرجنتين، تشيلي، بولندا، جنوب أفريقيا)

3-1- بين تجارب الدول التي غلّبت منطق الـمُساءلة:

بتحليل التجربتَين المتباعدتَين جغرافياً المتقاربتَين زمنياً (ألمانيا ورواندا) ثمّة نقاط تشابه واختلاف عديدة؛ ففي حين كان النظامان استبداديَين جاء التحول في ألمانيا الشرقية بشكل مفاجئ وبطابع ثوري مستفيداً من التغييرات الدولية والإقليمية، في حين جاء التغيير في رواندا بحراك مسلح استطاع اقتلاع المنظومة الحاكمة بعد المجزرة المروعة التي شكّلت صدمة للعالم بأسره.

أما على صعيد العدالة الانتقالية فقد كانت مقاربة ألمانيا الشرقية تسعى لتطهير شامل للمجتمع من مخلفات العهد البائد، وهو ما استمر كمقاربة بعد الوحدة الألمانية، لم تُعقها سوى التحديات العملية التي حالت دون التوسع في تطبيق الآليات القضائية والتعويض، فيما ركزت رواندا على المساءلة وبخيارات متكاملة استندت أيضاً إلى منطق تقليدي شعبي؛ إلا أنها أعلت من المساءلة على حساب المصالحة عبر بدائل العقاب البدني، مثل الغرامات والتكليف ببناء منازل الضحايا ..إلخ.

لذا يمكن القول: إن آليات العدالة الانتقالية الرواندية كانت غير تقليدية بالمعنى الجنائي، وتقليدية في الوقت نفسه بمعنى الإرث الفكري في مجتمع رواندا؛ بمعنى آخر: كانت رواندا في سياق انتصار عسكري على نظام الإبادة، وفي قدرة على تجاهل الضغط الخارجي الذي شعر بالحرج نتيجة التخاذل السابق.

ورغم تركيز كلا التجربتَين على آليات متنوعة _ومن أهمها حفظ الذاكرة الوطنية_ كانت المساءلة في شقها القضائي مميزة في حالة رواندا، في حين كانت المساءلة في بعدها السياسي والإداري واضحة المعالم في ألمانيا.

الشكل رقم (2) يقارن المرتكزات الأساسية للعدالة الانتقالية بين تجربتَي رواندا وألمانيا

4- ما يُستفاد من التجارب المختلفة في الحالة السورية:

تطمح الشعوب عموماً بعد الخلاص من الأنظمة الاستبدادية للمضي قدماً نحو دولة جديدة تسودها العدالة؛ إلا أن عقبات عديدة تكمن في طريق التحول، وفي مقدمتها أن فكرة التعامل مع الماضي الذي يحضر باستمرار في مرحلة التحول وما بعدها ليست عملية يسيرة، أو يمكن تحويل قائمة من المبادئ النظرية إلى قائمة إجراءات مطبقة بيسر وسهولة.

يؤكد ذلك استقراء التجارب الدولية المختلفة التي تُظهر مجموعة واسعة من التقاطعات والنتائج، وهو ما يمكن الاستفادة منه في جميع التجارب اللاحقة، ومنها سوريا؛ بما يخفّف قدر الإمكان من التطلعات النظرية أو التوترات الناجمة عن خيبات الأمل أو المقاربات غير الواقعية.

مما سبق يمكن استحضار مجموعة من النقاط، واعتبارها مساعدة في توجيه آليات التفكير الوطنية السورية لإنتاج مقاربة العدالة الانتقالية، ومن أبرز هذه النقاط[61]:

  • ثمّة علاقة وثيقة بين طبيعة التحول وطريقة تنفيذ العدالة الانتقالية؛ بحيث يفرض منطق المشهد النهائي قبيل انطلاق المرحلة الانتقالية نفسه بقوة على طبيعة العدالة الانتقالية، فكلما كان النظام السابق مرناً في التعاطي مع قوى التغيير، وتوجه نحو الانتقال السياسي استطاع أن يفرض نمط عدالة انتقالية يتوجه نحو المصالحة والآليات التعويضية بدلاً من المساءلة والعزل السياسي، والعكس بالعكس. ودائماً تسعى قوى النظام السابق لتعطيل مسارات العدالة الانتقالية عبر أساليب عديدة، من أبرزها: الضغط لطيّ الماضي كلياً، ومقايضة السلم الأهلي بالعفو، أو اعتبار أي إجراء بمثابة عمل انتقامي أو محاولة شنّ حملات تشويه منظمة وفقاً لقدراتها المتوفرة.

شهد السياق السوري إصراراً من نظام الأسد البائد على الاستمرار في حرب الإبادة على الشعب السوري حتى اللحظات الأخيرة لتحقيق التحول عبر الانتصار وليس التفاوض؛ فيبدو أنه يزيل من حيث المبدأ العقبة الرئيسة المتمثلة بالقوى العسكرية لفلول النظام البائد، التي تمنع إطلاق مسارات مساءلة قضائية واسعة، بغضّ النظر عن الآليات التفصيلية. ومن جانب آخر لابد من الوعي بحتمية حصول حملات الضغط المعاكسة لطيّ الماضي، أو التشويه المستمر لمسارات العدالة وعدم التراجع أمام الضغوط المختلفة.

  • في كثير من الأحيان تفرض التحديات الاقتصادية، مثل: ارتفاع عجز الموازنة العامة، وضعف القطاعات الإنتاجية والموارد، والتحديات الاجتماعية مثل: عدد الضحايا، والفئات المستفيدة من الانتهاكات تأثيرها على منطق العدالة الانتقالية؛ بحيث يؤدي الانقسام المجتمعي الحادّ والضعف الاقتصادي عادة إلى بطء تطبيق آليات العدالة الانتقالية، خاصة ذات الصلة بتعويض الضحايا، كما حصل في تجارب بولندا وألمانيا وجنوب أفريقيا ورواندا، واعتماد الرواية الرسمية كحال الدول اللاتينية، خاصة تشيلي؛ وهو ما يتطلب أعمالاً تحضيرية واسعة.
  • تبدو التعريفات الكبرى في مراحل التحول لكل من منطق الانتهاك والضحية والإطار الزمني عمليات تأسيسية ضرورية تسهم في بناء مقاربة كل تجربة للتعامل مع ملفات الماضي، وعلى الرغم من التوافق نظرياً على هذه المفاهيم فإن تعريفها عملياً بدقة يُعد عملية شاقة تحتاج لمراعاة الواقع، فعلى سبيل المثال: تميل معظم التجارب لتضييق تعريف الضحية والتركيز على أكبر الانتهاكات في السياق الوطني؛ باعتبار أن ذلك يساعد في اختصار الجهود الكبيرة المطلوبة وتسريع عملية المحاسبة[62].
  • تُعد عملية كشف الحقائق خطوة شديدة الأهمية للتأسيس لكثير من الإجراءات الأخرى، وهو ما يوضح أهمية هيئات أو لجان الحقيقة؛ فعادة ما تُؤسس نتائج التحقيقات لمسارات التعويض وحفظ الذاكرة ومنع العبث بالرواية الرسمية وترسيخ ضمانات عدم التكرار، وفي جميع الأحوال تتطلب العملية فترة زمنية ليست قصيرة، إلا أن نتائج كشف الحقائق تستمر في التأثير لفترات طويلة.

ومع وجود انقسامات مجتمعية حول ما حصل وأسبابه _كحال السياق السوري_ فإن كشف الحقائق وترسيخ النتائج الواسعة في الضمير العام يسهم في تحصين المستقبل السوري من تكرار الانتهاكات وولادة منظومة استبداد إجرامية والتماهي معها، وفي هذا السياق فإن إنشاء هيئة حقيقة سورية يُعد الأداة الأفضل لكشف الحقائق وتفعيل ما ينتج عن كشف الحقائق عبر قوانين وإجراءات لاحقة تسمح بإحداث تغييرات كبرى في سوريا، وضمان عدم تكرار ما حصل أو التلاعب بالتاريخ[63].

  • في كثير من الحالات تحتاج السلطة وإن كانت مؤمنة بتطبيق المساءلة والإنصاف لمساندة مجتمعية من الضحايا والقوى المدنية، ولاستمرار الضغط لمنع طيّ الملف أو نسيانه؛ لأنها غالباً ما تكون غارقة في تحديات الحاضر من جهة، وتحت ضغوط من قوى الأنظمة البائدة من جهة أخرى؛ لذا فإن الاهتمام بتوعية أفراد المجتمع، وتنظيم الروابط والجمعيات، وتفعيل أدوارهم في المناصرة الحقوقية وأنشطة الحشد والضغط بأساليب متعددة أيضاً يمثّل أحد ضمانات تطبيق العدالة في سوريا.
  • العدالة الانتقالية عملية طويلة ومعقدة: ترتبط بالنفس الطويل، وتحتاج مدة زمنية لإطلاق المسارات التي تأتي تباعاً، كما تحتاج فترات زمنية للإنجاز، وغالباً ما تكون فجوة الإنجازات حاضرة؛ إذ إن الإنجازات تكون نسبية، مع وجود سمات مميزة لكل تجربة من تجارب العدالة وإسهامات نوعية عبر إعمال التفكير الإبداعي قانونياً وسياسياً واجتماعياً. فكي لا يتعرض الضحايا وذووهم في الحالة السورية لخيبات أمل واسعة تفقدهم الإصرار على تطبيق العدالة فإن من المهم معرفة “نسبية” الإنجازات المتاحة، وتشجيعهم على طرح مبادرات وأفكار إبداعية للتعامل مع إرث الماضي.
  • تشير التجارب المقارنة إلى أن أنصار الاستبداد في المجتمع (قد يكونوا الأغلبية، خصوصاً في بعض المناطق ومن طوائف محددة ..إلخ) يهاجمون بشدة إجراءات العدالة الانتقالية، حتى وإن كانت بالحد الأدنى، مثل: المطالبة بالاعتذار، أو الحكم بالسجن لفترات قصيرة، ويتهمونها بأنها إقصائية وانتقامية وانتقائية وتسبب الانقسام المجتمعي ..إلخ. في حين يرى مناصرو التغيير والضحايا أنها لا تلبي الطموحات، وتعفو عن القتلة والمجرمين، وتسمح بتكرار الانتهاكات في المستقبل ..إلخ. يستمر هذا الجدل طوال فترة التغيير، وسيستمر طويلاً حتى يتم تغيير عقلية الأجيال.

لذا فربما من الأفضل في الحالة السورية تشجيع السوريين على فهم الموازنة بين الطرحين، وأنه لا حلّ مثالياً يُجمع عليه جميع السوريين، وإنما الهدف الوصول إلى مقاربة في العدالة الانتقالية تحظى بأكبر قدر ممكن من التوافق، بغضّ النظر عن مضمون هذه المقاربة.

النتيجة من التجارب الدولية المختلفة
ما يُستفاد منه في الحالة السورية
التحول بطريقة تفاوضية يفرض تنازلات في ملف العدالة الانتقالية
طبيعة التحول في سوريا يفتح الباب أمام إمكانية التركيز على المساءلة بطرق متنوعة قضائياً وعبر المساءلة غير القضائية
اتباع قوى النظام السابق لاستراتيجية ابتزاز لطيّ الماضي كلياً أو لعرقلة آليات العدالة الانتقالية
ضرورة عدم الخضوع لموجات الابتزاز في ملف العدالة، ونشر الوعي باستراتيجيات وغايات نشر هذه الخطابات والمصالح التي تقف وراءها
تعرقل التحديات الاقتصادية والاجتماعية سرعة تطبيق العدالة الانتقالية
ضرورة حضور العوامل الاقتصادية والاجتماعية عند التخطيط لمسارات العدالة الانتقالية، وعدم التفكير بأطر نظرية فقط، والسعي للحصول على أكبر دعم دولي ممكن؛ سواءٌ من الناحية الفنية أو التقنية أو متطلبات التمويل
من المهم حسم التعريفات الكبرى للضحية والجلاد والانتهاك.. إلخ
ضرورة الحوار وحشد أكبر قدر ممكن من التوافق حولها قبل المضي في إصدار تشريعات وقوانين
المحاكمات القضائية وحدها تغدو عاجزة عن الاستجابة لتحديات الماضي
التركيز على الآليات غير القضائية، وعدم حصر التفكير بآليات قضائية تقليدية فقط، ومن أبرزها العمل على إنشاء هيئة حقيقة سورية
عملية كشف الحقائق خطوة شديدة الأهمية للتأسيس لكثير من الإجراءات الأخرى
كشف الحقائق بمعناها الواسع، كالقضايا الوطنية الكبرى، وتطييف المؤسسات، والخطوات التي سمحت بالانتهاكات.. إلخ، وترسيخ النتائج الواسعة في الضمير العام للشعب السوري يسهم في ضمان عدم التكرار
تواجه السلطة وإن كانت مؤمنة بالعدالة تحديات عملية وضغوطاً مستمرة
أهمية مناصرة الأفراد والروابط لمسارات العدالة، وتشكيل قوة ضغط مستمرة، وهو ما يتطلب بدوره توعية أفراد المجتمع
العدالة الانتقالية عملية طويلة وذات إنجازات نسبية
ضبط التوقعات، وتفعيل المشاركة المجتمعية بأكبر شكل ممكن

الجدول رقم 1 يوضح أبرز النتائج المستفادة من سبر التجارب الدولية، وما يُستفاد منها في الحالة السورية

خاتمة:

تواجه الدول في المراحل الانتقالية استحقاقاً استثنائياً تفرضه ضرورة الإجابة عن سؤال رئيس هو: كيف يمكن التعامل مع الفظائع التي ارتكبها النظام السابق؟ وهو ما ينطوي على آلاف التفاصيل والتحديات، التي لا تتضح عادة إلا في نهاية المحاولات لتسوية قضايا الماضي تماماً عبر منظومة العدالة الانتقالية.

أظهرت التجارب السابقة أنها أخذت في ذلك أشكالاً متعددة، واتبعت أساليب تتشابه في بعض الجوانب وتختلف في أخرى، وذلك بناءً على متغيرات متعددة مرتبطة بالسياق الوطني لكل دولة على حدة، وتأثراً بتراكم الجهود والخبرات الإنسانية والدولية؛ ولذا اختلفت أيضاً النتائج والمنجزات، وتعددت الآراء التقييمية لكل تجربة منها.

في الحالة السورية وعلى الرغم من الاتفاق الأولي في سوريا على ضرورة التعامل مع إرث الانتهاكات _مع استثناء دعاة طي الماضي كلياً في هذا الصدد_ فإن سبر التجارب الماضية يُظهر أهمية التعلم من الدروس المختلفة وأخذ تجارب الدول بعين الاعتبار، عبر إنضاج مقاربة سورية حساسة للتجربة البشرية والخصوصية السورية والظروف الراهنة والتطلعات المستقبلية.

فقد ارتكب نظام الأسد البائد طوال العقود التي استولى بها على السلطة في سوريا شتى أنواع الجرائم والانتهاكات، التي لم تقتصر على البُعد الفردي فقط، وإنما طالت البُعد الجماعي والمؤسساتي والمعنوي، فعلى سبيل المثال: وصل التدمير الممنهج حدّ العبث بالهوية السورية ذاتها؛ ولذا فإن التعاطي مع الحالة السورية يقتضي مقاربات خاصة ومتنوعة مستفيدة لأقصى درجة ممكنة من التجارب المختلفة، دون المبالغة في رفع سقف التوقعات.

في هذا السياق فإن تفعيل الحوار العام يُعد من المتطلبات الأساسية، فضلاً عن المزيد من البحث والدراسة والتحليل الفكري والأكاديمي؛ فالحوار في الحالة السورية حول هذه المفاهيم مطلوب وبأسرع وقت ممكن، بما يسمح بالتأسيس عليه في إصدار القوانين والتشريعات المختلفة، مع مراعاة العوامل المستفاد منها من التجارب السابقة والمشار إليها في ورقة سابقة[64]، ولاسيما بالنظر إلى الواقع الحالي الذي لم تنشأ فيه هيئة رسمية أو وزارة.. إلخ تتولى قيادة العمليات التحضيرية للعدالة الانتقالية، التي تتطلب قيام جهة رسمية بقيادة حوارات فرعية من مستويات صغيرة وصولاً إلى مستويات أكبر، والحصول على آراء ومدخلات وتحقيق توافقات مقبولة حولها، وهو ما يتطلب المضي بالمراحل المعتادة لدورة حياة العملية الحوارية تحليلاً وتخطيطاً وتنفيذاً وتقييماً.

ملحق يوضح خلاصات التجارب الدولية في تطبيق العدالة الانتقالية


[1] يُنظر: ليلى الرطيمات، العدالة الانتقالية في سياق الانتقال الديمقراطي تجارب ألمانيا وإسبانيا وجنوب أفريقيا والمغرب ، مركز دراسات الوحدة العربية، 22/8/2023، شوهد في: 27/12/2024.
[2] عندما نتحدث عن انتهاكات حقوق الانسان فهي تبدأ من القتل والتعذيب، وتصل إلى تكميم الأفواه وفرض الفكر الواحد؛ فإذا أردنا التوسع في كل تجربة وربطها بسياقها التاريخي والسياسي فتحتاج كل تجربة ورقة مستقلة، وهذا غير مجد من وجهة نظر الباحث؛ لأن فهم هذه السياقات متاح بيسر عند الحاجة للراغبين نظراً لوجود كتابات كثيرة عنها.
[3] استعرضنا من خلالها أبرز الخلاصات المفاهيمية للعدالة الانتقالية، وناقشنا أهمية إنتاج مقاربة سورية خاصة وكيفية الانطلاق بتأسيس المسار؛ للاطلاع على الورقة: د. أحمد قربي، نورس العبد الله، التقرير التمهيدي: العدالة الانتقالية وأهمية إنضاج المقاربة السورية، مركز الحوار السوري، 26/12/2024.
[4] استعرضنا من خلالها دور المحاكم الجنائية الخاصة في قمع الجرائم الخطيرة ومنع الإفلات من العقاب والبحث في الوسيلة الأنسب لنظر الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد البائد بحق السوريين. للاطلاع على التقرير: محمد حربيلة، المحاكم الجنائية الخاصة بملاحقة الجرائم الدولية: في الإجابة حول الخيار الأنسب لسوريا، مركز الحوار السوري، 17/5/2024.
[5] البحث المكتبي: يُعرف أيضاً باسم البحث الثانوي أو البحث التكميلي، ويتضمن جمع المعلومات والبيانات من المصادر الموجودة، مثل الكتب والمجلات والمقالات ومواقع الويب والتقارير وغيرها من المواد المنشورة. ويقوم المستخدمون بتحليل المعلومات وتلخيصها من المعلومات المتاحة بالفعل.
What Is Desk Research? Meaning, Methodology, Examples, Meltwater, April 2024.
[6] تُظهر الأدلة والوقائع التي أُميط اللثام عنها منذ سقوط نظام الأسد البائد حتى الآن حجم الجرائم المرتكبة بحق الشعب السوري؛ يُنظر على سبيل المثال:
[7] الدولة شبه القمعية من وجهة نظر الباحث: هي دولة تستخدم القوة لقمع المعارضين مثل زجّهم في السجون وعدم السماح الكامل لهم بالتظاهر أو المشاركة في السلطة، ولكنها في الوقت نفسه تتيح مجالات ضيقة لممارسة أنشطتهم مثل استخدام وسائل الإعلام والتجمع استثناءً، ولعل أقرب مثال للمقارنة بين الدولة القمعية وشبه القمعية هي المقارنة بين نظامي الأسد الأب في سوريا ومبارك في مصر.
[8] د. أسماء بن لمخربش، العدالة الانتقالية في بولندا: سياقات التجربة و مآلاتها، مجلة الاجتهاد القضائي، المجلد14، العدد التسلسلي 29ـ، مارس 2022: ص 110 وما بعدها.
[9] حازم نهار، الثورات ومراحل الانتقال الديمقراطي، ميسلون للثقافة والترجمة والنشر، 20 سبتمبر 2021، شوهد في: 1/1/2025.
[10] نوران سيد أحمد، تجربة الإصلاح المؤسسي البولندية: السلطة القضائية نموذجاً، منتدى البدائل العربية للدراسات، مارس 2013: ص 6.
[11] د. أسماء بن لمخربش، مرجع سابق: ص113.
[12] ومن أبرزها: محاكمة ضباط الشرطة بتهمة الاعتداء بالضرب المبرح في حادثة عام 1983 وذلك عام 1995، ومحاكمة ضباط الشرطة بتهمة قتل 9 عمال مناجم في منجم ووجيك وإصابة 25 آخرين في منجم مانيفست ليبكووي عام 1981 وذلك في عام 1995، ومحاكمة رئيس الوزراء الأسبق فويتشيك ياروزلسكي وخمسة أشخاص آخرين بتهمة إطلاق النار على المدنيين في أعمال الشغب التي اندلعت في جدانسك عام 1970 وذلك عام 1999. يُنظر:
Poland, Transitional Justice Evaluation Tools,  ,2020 accessed at 26/1/2025.
[13] نويل كالهون، معضلات العدالة الانتقالية في التحول من دول شمولية إلى دول ديمقراطية، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2014، ص175 وما بعدها.
[14] تُسمى أيضاً: “هيئة الذاكرة الوطنية”، وهي مؤسسة عمومية أنشئت بمقتضى قانون، وترمي للكشف عن الجرائم ضد الإنسانية التي ارتُكبت على أيدي النازيين والشيوعيين بين عامي 1944 و1990، يُنتخب رئيسها مباشرة من البرلمان لولاية تستمر خمس سنوات، وأضيف إلى هيكلها لاحقاً مكتب للتربية الوطنية ومكتب للتوثيق.
يُنظر: رشيد خشانة، العدالة الإنتقالية ممرّ إجباري للعبور من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، SWI swissinfo.ch، 17/5/2017، شوهد في: 26/1/2024.
[15] يُنظر على سبيل المثال: نشر وثائق سرية في بولندا تخص علاقة فاليسا بالاستخبارات الشيوعية، news euro، 22/2/2016، شوهد في: 1/1/2025، وسيور اميلي، بولنده في مواجهة ذاكرتها الوطنية، السفير، 28/7/2005، شوهد في: 1/1/2025.
[16] خورخي فيديلا.. مخطِط الحرب القذرة بالأرجنتين، الجزيرة نت، 1/2/2016، شوهد في: 5/1/2024.
[17] أطلق وصف “الحرب القذرة” على هذه العملية لاحقاً، وقد تراوحت التقديرات للضحايا بين عشرة آلاف إلى ثلاثين ألف شخص.
[19] بن سيدره سعيدة، العدالة الانتقالية في الأرجنتين بين المحاكمة والمصالحة، مؤلف جماعي، تجارب العدالة الانتقالية في أمريكا اللاتينية، المركز الديمقراطي العربي، برلين ألمانيا، ط1، 2019: ص131 وما بعدها.
[20] Truth Commission: Argentina,  The United States Institute of Peace.
[21] يُنظر:
[22] Reluctant Partner: The Argentine Government’s Failure to Back Trials of Human Rights Violators, Human Rights Watch (HRW),1 January 2006.
[23] يُنظر: صلاح الدين بو جلال وشافية بوغابة، العدالة الانتقالية في النموذج الأرجنتيني: نضال من أجل المساءلة، حوليات جامعة الجزائر1، العدد 32، الجزء الرابع، ديسمبر 2018: ص 845.
[24] المرجع السابق: ص838.
[25] Andres Delgado, Memory and Truth in Human Rights: The Argentina Case, University of South Florida, February 2013 .p.63.
[26] حاميد زيار، تجربة العدالة الانتقالية في الشيلي، بين الانقلاب العسكري على الشرعية وتحقيق المصالحة الوطنية، مؤلف جماعي، تجارب العدالة الانتقالية في أمريكا اللاتينية، المركز الديمقراطي العربي، برلين ألمانيا، ط1، 2019، ص73
[27] تشير الأرقام اللاحقة إلى أن عدد ضحايا نظام بينوشيه بلغ ما يقارب 40 ألف ضحية.
[28] عمرو شيخ العرب، نهاية ديكتاتور- بينوتشيه ديكتاتور أفلت من حكم الشعب، الوسيط، 07/06/2016، شوهد في: 1/6/2025.
[29] National Commission for Truth and Reconciliation. The United States Institute of Peace.
[30] د. الحسان بوقنطار، اعتقال بينوشيه: بين حقوق الانسان وإكراهات المصلحة، البيان، 1998، شوهد في: 6/1/2024.
[34]حاميد زيار، سياق وظروف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان لتجارب العدالة الانتقالية (المغرب وجنوب إفريقيا نموذجا)، مؤلف جماعي، العدالة الانتقالية في إفريقيا مظاهر تفكك الأنظمة السلطوية، المركز الديمقراطي العربي، برلين، ألمانيا، 2018، ط1: ص 97.
[37]سعاد خوجة، العدالة الانتقالية دراسة نظرية تطبيقية، أطروحة دكتوراه، جامعة الأخوة منتوري، قسنطينة كلية الحقوق، عام 2016-2017، ص 88-89.  
[38] خميس دهام حميد وهمسة قحطان خلف، العدالة الانتقالية في دولة جنوب إفريقيا، بحث في مجلة دراسات دولية، جامعة بغداد، عـ61، 27/10/2015: ص 106.
[39] Desmond Tutu, Truth and Reconciliation Commission, South Africa, South African history.
[40] في عام 2008 أعلنت محكمة بريتوريا العليا عدم دستورية تعديلات سياسة الملاحقة القضائية، وفي عام 2010 أيّدت المحكمة الدستورية حقّ الضحايا باستشارتهم قبل منح العفو السياسي، لكن رغم ذلك ليس أمام المحاكم حالياً حتى حالة واحدة من الحالات التي أُوصي بملاحقتها قضائياً.
[41] يُنظر: أحمد إد علي، المصالحة والحقيقية في جنوب أفريقيا: بحث في منجزات العدالة الانتقالية ومآزقها، سياسات عربية، العدد 47، تشرين الثاني، 2020: ص 33 وما بعدها.
[42] عماد علي، ساره فاضل، نشأة دولة المانيا الديمقراطية (الشرقية) 1949 م – دراسة تأريخية، مجلة مركز دراسات الكوفة، 21/6/2017، المجلد 1، العدد 45، 2017.
[43] يُنظر على سبيل المثال: دوتشيه فيل، “الوثيقة تظهر مجدداً قسوة وتعسف نظام ألمانيا الشرقية”، dw، 14/8/2007، وإسماعيل عزام، “التحلل”..كيف ألهمت ألمانيا الشرقية أجهزة القمع عبر العالم؟ dw، 4/5/2021، شوهد في: 2/1/2025.
[44] نويل كالهون، مرجع سابق: ص87 وما بعدها.
[45] في الفترة من 1950 إلى 1989 نفذت شتازي ما مجموعه حوالي 90.000 إجراء تمهيدي، أدت في معظم الحالات إلى سجن المشتبه بهم؛ يُنظر:
ويُنظر على سبيل المثال: كيف صدّرت ألمانيا الشرقية أساليب القمع “القذرة” لدول عربية؟ عربي 21، 7/5/2021، شوهد في: 2/1/2025. وعلاقات ألمانيا مع النظام السوري، مركز أبحاث مينا، 16/1/2023، شوهد في: 2/1/2025.
[46] نويل كالهون، مرجع سابق: ص99 وما بعدها.
[47] المرجع السابق: ص106 وما بعدها.
[48] كانت محاكم العمل الألمانية عموماً تتخذ موقفاً مفاده أن مواطني ألمانيا الشرقية الذين شغلوا مناصب مهمة في النظام الشمولي، أو قاموا بأكثر من المهام الروتينية لجهاز الأمن السري يمكن منعهم من معظم المناصب في الخدمة المدنية المعاد تشكيلها.
Donald P. Kommers. Transitional Justice in Eastern Germany.  Law & Soc. Inquiry, 22, 1997,p.832.
[49] نويل كالهون، مرجع سابق: ص117 وما بعدها.
[50] بشكل عام لم تضع أي دولة في عملية التعامل مع ماضيها الشيوعي كثيراً من التركيز على القانون الجنائي مثل ألمانيا.
Markus Rau. TRANSITIONAL JUSTICE:  THE GERMAN EXPERIENCE AFTER 1989, Foundation’s Rule of Law in South-Eastern Europe Programme, 2009, p.8.
[51] تألفت لجنة الدراسة من سبعة وعشرين عضواً، برئاسة عضو البرلمان الألماني الشرقي وناشط حقوق الإنسان راينر إيبلمان، وقد أنشأ البرلمان الألماني “البوندستاغ”  لجنة دراسة ثانية في عام 1995 لأنه لم يكن من الممكن التعامل مع جميع المواضيع في فترة تشريعية واحدة.
[53] Alastair Leithead: Rwanda genocide: International Criminal Tribunal closes, BBC News, 14 December 2015.
[54] برنامج التوعية المعني بالإبادة الجماعية ضد التوتسي لعام 1994 في رواندا، موقع الأمم المتحدة.
[55] للتوسع يُنظر: زويش ربيعة، المحكمة الجنائية الدولية الخاصة لرواندا كضمانة لحقوق الإنسان في إفريقيا، المجلة الأكاديمية للبحوث القانونية والسياسية، المجلد الخامس، العدد الثاني، 2021.
[56] يُنظر: لسمر أسماء، العدالة الانتقالية كآلية لبناء السلام بعد النزاع في رواندا: دور محاكم الغاكاكا، أطروحة دكتوراة، جامعة محمد الصديق بن يحيى، كلية الحقوق والعلوم السياسية، 2022-2023: ص131 وما بعدها.
[57] للتوسع يُنظر: إزكيل سنتاما، المصالحة الوطنية في رواندا: التجارب والدروس المستخلصة، معهد الجامعة الأوربية، شباط 2022.
[58] -محمد غسان الشبوط، المصالحة بين الدولة والمجتمع في ضوء تجارب العدالة الانتقالية الأفريقية، رواندا نموذجاً، مؤلف جماعي، العدالة الانتقالية في إفريقيا مظاهر تفكك الأنظمة السلطوية، المركز الديمقراطي العربي، برلين، ألمانيا، 2018، ط1: ص283وما بعدها.
[59] إزكيل سنتاما، مرجع سابق: ص 10 وما بعدها.
[60] يُنظر: آية حسين محمود، النظام السياسي في رواندا منذ عام 1994، المركز العربي للبحوث والدراسات، 21/11/2020، وأماندا باريل، تخطي عمليات الانتقال نحو التحول: التفاعل بين العدالة الانتقالية وبناء الدستور، ورقة سياسات رقم 22، المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، 2021: ص 52.
[61] من الجدير بالإشارة هنا أن الحديث عن الأدوات والوسائل الأنسب للحالة السورية استفادةً من تطبيقات التجارب المختلفة سيتم نقاشها وعرضها في أوراق قادمة من هذه السلسلة الخاصة بالعدالة الانتقالية؛ لأنها تحتاج بحثاً على المستوى التفصيلي، في حين تهدف الورقة الحالية لبحث القضايا الكبرى في التجارب الدولية المختلفة، وتوضيح الفروقات المهمة بين المقاربات النظرية في الأدبيات والمحاولات العملية للدول، بما يسهم في تحفيز النقاش العام.
[62] على سبيل المثال: إن التوجه مستقبلاً في سوريا لتعريف الضحايا المستحقين للتعويض بناءً على معايير واسعة ككل المتعرضين لانتهاكات وفق منطق القانون الدولي يؤدي لمطالبات مالية ضخمة؛ لأنه سيشمل ضحايا الاعتقال والتعذيب والفصل التعسفي والمصادرة والجرح أو الإيذاء وصولاً للتهجير القسري ..إلخ، وهو ما يشمل عملياً غالبية أبناء الشعب السوري، في حين أن المراجحة المؤلمة لتحديد الضحية المستحق للتعويض أو ذوي الضحايا كحالة المختفين قسراً وضحايا القتل والإصابة الدائمة فقط  أو أحدها يجعل من إمكانية تنفيذ التعويضات أمراً أقرب للحصول.
[63]  تدريجياً ازدادت أهمية ومركزية دور هيئات الحقيقة في شتى التجارب، فعلى سبيل المثال: تم إنشاء ما يزيد عن 40 هيئة حقيقة منذ تجربة أوغندا والأرجنتين، وتزايد معدل إنشائها في العقدين الأخيرين، وذلك بسبب فعالية أدوارها وتمركز كثير من آليات العدالة الانتقالية من خلالها أو كنتاج لأعمالها. وتجدر الإشارة إلى أن هيئات الحقيقة تتميز عن هيئات أخرى ذات أدوار تحقيقية شبيهة كالجان البرلمانية واللجان التاريخية أو اللجان الدولية.
يُنظر على سبيل المثال: سعاد خوجة، العدالة الانتقالية دراسة نظرية تطبيقية، أطروحة دكتوراه جامعة الأخوة منتوري، قسنطينة، كلية الحقوق، عام 2016/2017: ص 125، وسامية يتوجي، العدالة الانتقالية كمصدر لتعزيز الحماية الدولية المعيارية لحقوق الإنسان، أطروحة دكتوراه، جامعة محمد خيضر، بسكرة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، عام 2017 -2018: ص 241.
[64] للتوسع يُنظر: د. أحمد قربي، خليل صباغ، المرحلة التحضيرية للحوار الوطني؛ ما تقوله الأدبيات والتجارب المقارنة، مركز الحوار السوري،15/1/2025.

باحث في وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى