التقارب التركي مع مصر والولايات المتحدة وآثاره في الملف السوري
هل تُحرِّك التغيرات الجزئية مسار الجمود القائم؟
الملخص:
في ضوء التغيرات التي طرأت على السياسة التركية مؤخراً من حيث التقارب مع مصر والولايات المتحدة الأمريكية يهدف هذا التقرير التحليلي إلى رصد آثار هذه الخطوات على الملف السوري؛ لاسيما المساعدات الإنسانية، والتطبيع مع نظام الأسد، وملف المعارضة، والوجود العسكري التركي في سوريا.
يستند هذا التقرير التحليلي إلى العديد من المصادر الإعلامية والأكاديمية التي تناولت تحركات الحكومة التركية نحو النظام المصري بعد قطيعة دامت لأكثر من عشر سنوات، وكذلك نحو الولايات المتحدة الأمريكية التي نشب بينها وبين تركيا اختلافات عدة، كان من أبرزها طريقة التعاطي مع الملف السوري، خاصة ما يتصل بالعلاقة مع قوات سوريا الديمقراطية “قسد”.
فيما يتعلق بالتقارب التركي- المصري؛ رجّح التقرير بقاء مصر على مواقفها من الحل السياسي الذي يحافظ على نظام الأسد مع إحداث تغييرات شكلية في بنيته، إلا إذا استطاعت تركيا – وهذا مستبعد حالياً – طمأنة المخاوف المصرية تجاه التوجهات الأيديولوجية لقوى المعارضة، إذ يمكن استمالتها أو على الأقل تحييدها تجاه حل سياسي يقوم إلى انتقال سياسي حقيقي؛ إلا أن هذا الموقف لا يمنع أن التقارب ذاته سيشكل ضغطاً على نظام الأسد لاستئناف عمل اللجنة الدستورية، على اعتبار أن الدولتَين تتشاركان الموقف ذاته في ضرورة استمرار عملها.
أما تأثير هذا التقارب في ملف المساعدات الإنسانية فلا يُتوقع أن يكون له انعكاس مباشر على هذا الملف، باستثناء إمكانية أن يشكّل ضغطاً غير مباشر على نظام الأسد للاستمرار في السماح بمرور المساعدات الأممية عبر الحدود من خلال معابر باب الهوى وباب السلامة والراعي، والأمر ذاته ينطبق على ملف التطبيع مع نظام الأسد؛ فمن المستبعد تأثير التقارب على تفعيل ملف التطبيع بين تركيا ونظام الأسد على المدى المنظور.
وأما الموقف من قوى الثورة والمعارضة السورية فاستبعد التقرير أن يكون هنالك تقارب بين مصر والمعارضة المسلحة أو حتى المعارضة السياسية.
أما فيما يتعلق بالوجود العسكري التركي في شمال سوريا فرجحّ التقرير أن يسهم التقارب الحالي في تخفيف حدّة الانتقادات المصرية لهذا الوجود، من دون أن تزول بشكل كامل.
أما فيما يتعلق بالتقارب التركي- الأمريكي فقد رجّح التقرير أن يشكّل التقارب بين الدولتين عاملاً إضافياً للضغط على الروس من أجل تسهيل استئناف نظام الأسد مشاركته في اللجنة الدستورية.
أما تأثير هذا التقارب على مسار الحل السياسي بعمومه فأشار التقرير إلى أن الأمر مرتبطٌ إلى حدّ كبير بموقف الإدارة الأمريكية من الملف السوري بشكل خاص، والانخراط في ملفات الشرق الأوسط عموماً، مع إشارته إلى أن التقدم فيه قد يضعف الفعالية التركية في مسار أستانا لحساب ترجيح وتوزين مسار جنيف.
بالنسبة إلى ملف المساعدات الإنسانية أشار التقرير لإمكانية أن يسهم هذا التقارب في زيادة النسبة المخصصة من المساعدات الأمريكية لمناطق النفوذ التركي، بما يحقق نوعاً من التوازن النسبي بين شمال شرق وشمال غرب سوريا.
وأما التطبيع مع نظام الأسد فرجحّ التقرير أن يسهم التقارب التركي- الأمريكي بتراجع الحديث عن التقارب التركي مع نظام الأسد في حال استطاع الطرفان تجاوز مشكلة الدعم الأمريكي لقوات وحدات حماية الشعب “YPG”.
وعن علاقة الولايات المتحدة مع قوى الثورة والمعارضة السورية استبعد التقرير حدوث تغيير جوهري في السياسات الأمريكية؛ سواءٌ تجاه المعارضة السياسية التي ما تزال داعمة لها أو تجاه الفصائل العسكرية، باستثناء إمكانية تراجع وتيرة العقوبات الاقتصادية التي فرضتها على بعض فصائل الجيش الوطني أو تعليقها فترة من الزمن ريثما تتضح مآلات التقارب.
وبالنسبة إلى ملف الوجود العسكري التركي في شمال غرب سوريا رجحّ التقرير استمرار الموقف الأمريكي “غير المعترض” على الوجود التركي في شمال غرب سوريا، مع إمكانية أن يغير من المواقف الأمريكية تجاه إمكانية توسُّع الوجود العسكري التركي في شمال شرق سوريا أو على الأقل التنسيق معه.
مقدمة:
بعد اندلاع الثورة السورية في مارس 2011 واتباع نظام الأسد سياسة القمع العسكري والأمني والترويع ضد المتظاهرين المدنيين، التي أدت إلى تزايد التهديدات الأمنية والسياسية والاقتصادية على تركيا الدولة المجاورة لسوريا، التي تدخلت عسكرياً في سوريا عام 2016 – خاصة في المناطق الشمالية – لمواجهة الأخطار الأمنية الناتجة عن وجود الأحزاب الانفصالية ممثلة بوحدات حماية الشعب “YPG”، في الوقت الذي تسعى فيه لإرساء الاستقرار في المناطق التي دخلتها عسكرياً “شمال غرب سوريا”.
مع تطور الأوضاع الإقليمية والدولية؛ لاسيما بعد موجة التطبيع العربي مع نظام الأسد وإعادته لاستلام مقعد سوريا في جامعة الدول العربية، وتغيُّر المزاج الدولي بخصوص الملف السوري، وتحوُّله للتركيز على القضايا الإنسانية والأمنية؛ حدثت تغيرات في سياسات بعض الدول المؤثرة في الملف السوري، كانت تركيا في مقدمة هذه الدول، خصوصاً لجهة تحسُّن علاقاتها مع كل من مصر والولايات المتحدة.
حيث تكلّلت الجهود التركية لتحسين علاقاتها مع مصر بزيارة الرئيس التركي لمصر في فبراير 2024[1]، وتأتي أهمية هذه الزيارة من كونها تساعد على تقارب وجهات النظر بين الدولتَين في حلّ العديد من الأزمات والمشكلات في المنطقة؛ يأتي على رأسها الأزمة الليبية، وأزمة شرق حوض البحر المتوسط، والموقف من المجازر “الإسرائيلية ” في قطاع غزة، وتقديم المساعدات الإنسانية للفلسطينيين، مع الضغط الدولي على الولايات المتحدة من أجل وقف الحرب[2].
على الرغم من أن هذه الأولويات لا تتضمن الملف السوري؛ إلا أنه يُعد من الموضوعات المهمة التي من المتوقع أن يتشاور الطرفان من أجل التعامل معها وإدارتها، خصوصاً في ظل عدم الاستقرار الأمني، وغياب النفوذ السياسي لنظام الأسد على العديد من المناطق في سوريا، خاصة المناطق الشمالية التي تتركز في الغربية منها القوات العسكرية التركية التي لا تنظر مصر وبعض الدول العربية إلى وجودها فيها بصورة إيجابية.
في الوقت الذي شهدت فيه العلاقات التركية-المصرية هذه الانفراجة كانت هنالك تطورات إيجابية في العلاقات التركية- الأمريكية، بعد عقد من تأزم العلاقة بين الطرفين نتيجة عدة خلافات في وجهات النظر، كان في مقدمتها الموقف من قوات حماية الشعب “YPG”، إلى جانب ملفات أخرى مرتبطة بالنفوذ الإقليمي لأنقرة، وملف التسليح مع روسيا، والغاز الطبيعي في شرق المتوسط[3].
في ضوء ما تقدم يأتي هذا التقرير التحليلي ليسلّط الضوء على التأثيرات المحتملة لهذه التطورات التي تشهدها العلاقات التركية مع مصر والولايات المتحدة الأمريكية في الملف السوري؛ من حيث المساعدات الإنسانية، والعلاقة مع قوى الثورة والمعارضة، والوجود التركي في شمال غرب سوريا، والتقارب مع نظام الأسد، والحل السياسي للملف السوري؛ فهذا التقرير يسعى إلى معرفة نتائج التقارب على كل من الملفات الأمنية والسياسية والعسكرية الخاصة بالملف السوري.
بناءً على ذلك يحاول التقرير الإجابة عن الأسئلة التالية:
-إلى أي مدى يمكن أن يؤثر التقارب التركي مع مصر والولايات المتحدة في الملف السوري؟
-ما هي العوامل التي ستلعب دوراً في التأثير على إمكانية إدراج الملف السوري ضمن الملفات المتفاوض عليها من قبل تركيا مع كل من مصر والولايات المتحدة؟
-ما هي الملفات المرجح أن يؤثر فيها؟ وما هي تلك التي يُستبعد تأثيره فيها؟ ما هي السيناريوهات المتوقعة لذلك؟
يعتمد التقرير بشكل رئيس على المصادر الثانوية من خلال تحليل محتوى الأخبار والتقارير الصادرة حول التقارب التركي مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية ومصر وتداعياته على الملف السوري، وبشكل ثانوي على مصادر أصلية مستقاة من مقابلة أجراها الفريق مع أحد العاملين في المنظمات الإنسانية الدولية الناشطة في شمال غرب سوريا.
يأتي التقرير في خمسة أجزاء تتناول أثر التقارب التركي مع مصر والولايات المتحدة في القضايا المرتبطة بالملف السوري، وهي: الحل السياسي في سوريا، والمساعدات الإنسانية، والتطبيع مع نظام الأسد، والمعارضة والفصائل العسكرية، والوجود العسكري التركي في سوريا.
أولاً: الدفع باتجاه تفعيل اللجنة الدستورية؛ التقارب التركي مع مصر والولايات المتحدة وملف الحل السياسي في سوريا:
يُعد بيان جنيف1 الصادر في 30 حزيران/يونيو 2012، وقرار مجلس الأمن رقم 2254 لعام 2015 معاً الأساس الدولي لحل الملف السوري، بما تضمناه من خطوات واضحة للحل السياسي في سوريا التي تشمل إجراءات بناء الثقة، ويأتي في مقدمتها وقف إطلاق النار، إلى جانب تشكيل هيئة الحكم الانتقالية، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، وكتابة دستور جديد لسوريا، وتحقيق العدالة الانتقالية.
ثمّة خلاف بين مصر وتركيا حول مسار الحل السياسي في سوريا؛ فبينما سعت مصر إلى قبول نظام الأسد وإعادته إلى جامعة الدول العربية ترى تركيا أن لا مفرّ من وجودها العسكري في شمال سوريا حفاظاً على مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية[4]. فرغم وجود تصريحات مصرية تصف الوجود التركي العسكري في شمال سوريا بالاحتلال والاعتداء على السيادة السورية إلا أن مصر أبدت الموافقة على التشاور والاتفاق والتفاهم مع الجانب التركي حول التوسط بين نظام الأسد وتركيا لحل الأزمة بينهما[5]؛ فمصر تدعم الحل السياسي الذي يحافظ على نظام الأسد نظاماً حاكماً، لأن النظام المصري ليست لديه أيه تخوفات من نظام الأسد، بل من قوى الثورة والمعارضة التي تنظر إليها على أنها قريبة أيديولوجياً من تركيا، وتُعد من آثار الربيع العربي، والتواصل معها قد يكون له تداعيات سلبية على علاقة النظام المصري بنظام الأسد، وهو ما يحرص الأول على تجنّبه في الوقت الحالي؛ لذا فإن النظام المصري دعم عودة نظام الأسد إلى جامعة الدول العربية واستعادة المناطق من سيطرة المعارضة. ولكن في حال نجاح تركيا في تهدئة المخاوف المصرية تجاه المعارضة السورية[6]، وضمان عدم وصول أو إعطاء مكاسب مهمة للإخوان أو التيارات الإسلامية فقد ينجح الأتراك في استمالة مصر، أو على الأقل تحييدها بشأن حل سياسي يُحدث تغييراً في بنية النظام مستقبلاً[7]. إلا أن هذا السيناريو يبقى مستبعداً ضمن السياق الحالي، خصوصاً مع وجود خشية لدى بعض الدول العربية – بما فيها مصر – من أن أي تغيير سياسي في بنية الحكم في سوريا مستقبلاً سيكون في صالح تركيا بحكم الأوراق التي تملكها[8].
في السياق ذاته لا يملك الجانبان المصري والتركي رؤية مشتركة تجاه القضايا المرتبطة بتشكيل هيئة الحكم الانتقالي وإعادة هيكلة المؤسسات الأمنية والعسكرية؛ فلا يُتوقع أن يكون هنالك تأثير مباشر لهذا التقارب في هذين الملفين اللذين ربما يبقيان نقطة خلاف بينهما، مع أن فتح القنوات الدبلوماسية بينهما قد يساعد مستقبلاً على سعي تركيا لتخفيف المخاوف المصرية تجاه فكرة الانتقال السياسي وإعادة هيكلة المؤسسات الأمنية والعسكرية. على عكس ملف اللجنة الدستورية؛ إذ يمكن أن يشكّل التقارب التركي المصري ضغطاً على نظام الأسد لاستئناف المشاركة في اللجنة الدستورية[9]، وإن وجدت تركيا تقارباً في الرؤى تجاه الملف السوري مع مصر فقد تدفع باتجاه إدخال الأخيرة في مسار أستانا، سواءٌ بصفة مراقب أو طرفاً رئيساً.
أما بالنسبة للتقارب التركي مع الولايات المتحدة فقد يشكّل التقارب أثراً مناقضاً للتقارب مع مصر؛ إذ إن الإدارة الأمريكية ما تزال تعارض تعويم نظام الأسد عالمياً، خصوصاً من خلال أداة العقوبات التي كان آخرها قانون مناهضة التطبيع الذي مرّره الكونغرس الأمريكي[10]. إلى جانب ذلك سيشكل التقارب بين الدولتين عاملاً إضافياً للضغط على الروس من أجل تسهيل استئناف نظام الأسد مشاركته في اللجنة الدستورية.
أما فيما يتعلق بتأثير هذا التقارب في مسار الحل السياسي بعمومه فسيكون الأمر مرتبطاً إلى حدّ كبير بموقف الإدارة الأمريكية من الملف السوري بشكل خاص، والانخراط في ملفات الشرق الأوسط عموماً، مع التنبيه إلى أن مستوى التقارب بين البلدين بخصوص الملف السوري قد ينعكس بشكل مباشر على الفعالية التركي في مسار أستانا، ولعل ذلك يدفع باتجاه تثقيل مسار جنيف.
ثانياً: تأثيرات هامشية؛ التقارب التركي مع مصر والولايات المتحدة وملف المساعدات الإنسانية:
تسعى تركيا لحثّ المنظمات الإنسانية ومنظمات المجتمع المدني المحلية والدولية على إنشاء بنية تحتية في شمال غرب سوريا بهدف تهيئة الحد الأدنى منها لمساعدة السوريين المقيمين في هذه المناطق على الاستقرار وعدم التوجه إلى تركيا أو دول الاتحاد الأوروبي طلباً للجوء، إلى جانب تمكين السوريين الذين تتم إعادتهم من تركيا من استئناف حياتهم في هذه المناطق[11].
تعلن الولايات المتحدة أنها من أكبر مانحي المساعدات الإنسانية لسوريا منذ بداية تفاقم الأزمة الإنسانية في سوريا[12]؛ لذا فإن التقارب التركي- الأمريكي قد يشكّل عاملاً مهماً في التأثير على سياسة الولايات المتحدة في توزيع المساعدات الإنسانية من حيث الكميات ومناطق التوزيع، حيث إن تركيز الولايات المتحدة الأكبر حالياً ينصبّ على تقديم منحها الإنسانية في مناطق شمال شرق سوريا، مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد”[13]. فقد يسهم هذا التقارب في زيادة النسبة المخصصة من المساعدات الأمريكية لمناطق النفوذ التركي (مناطق درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام)، إلى جانب مناطق إدلب وريف حلب الغربي؛ بما يحقق نوعاً من التوازن النسبي بين شمال شرق وشمال غرب سوريا. كما قد يكون من الآثار المتوقعة للتقارب بين البلدين في حال نجاحه زيادة نسبة المساعدات التي تخصصها الولايات المتحدة لبرامج دعم اللاجئين السوريين في تركيا.
أما فيما يتعلق بالتقارب التركي- المصري فعلى اعتبار أن مصر ليست من الدول المانحة في سوريا، وعدم احتلال الأخيرة أولوية كبيرة في السياسات المصرية الحالية، خصوصاً مع الحرب الهمجية التي تشنّها “إسرائيل” ضد الفلسطينيين في غزة وتفاقم الأزمات الإنسانية فيها؛ فلا يُتوقع أن يكون هنالك انعكاس مباشر لهذا التقارب على ملف المساعدات الإنسانية، باستثناء إمكانية أن يشكّل ضغطاً غير مباشر على نظام الأسد للاستمرار في السماح بمرور المساعدات الأممية عبر الحدود من خلال معابر باب الهوى وباب السلامة والراعي[14].
ثالثاً: تأثيرات متضاربة؛ التقارب التركي مع مصر والولايات المتحدة وملف التطبيع مع نظام الأسد:
فرضت المتغيرات في السياق الإقليمي نفسها بقوة على السياسات التركية؛ فتلاشي الأنظمة التي أتى بها الربيع العربي، وازدياد الضغوط الاقتصادية على تركيا، وظهور مؤشرات لإعادة اصطفاف إقليمي مترافق مع تراجع الحضور الأمريكي في المنطقة، والرغبة التركية في التخلص من أعباء ملف اللاجئين السوريين[15]؛ كل ذلك أسهم في اتخاذ تركيا خطوات متتابعة باتجاه تغيير سياساتها تجاه نظام الأسد، ليبدأ التقارب التركي السوري بوساطة روسية في ٢٠٢٢بمفاوضات بين الطرفين في موسكو على المستوى الأمني – وفق ما هو معلن-، وليتطور لاحقاً إلى مستوى دبلوماسي بلقاء تم على مستوى وزراء الخارجية في منتصف عام 2023 شاركت فيه إيران[16].
بعد هذا التقدم في مسار التطبيع التركي مع نظام الأسد دخل المسار في حالة جمود بعد تمسّك نظام الأسد بمطلبه بانسحاب تركيا من الأراضي السورية، وإيقاف دعم المعارضة، في مقابل تمسك تركيا بأن هذا الأمر غير ممكن حالياً في ظل اعتبار الوجود التركي في سوريا ضرورياً للحفاظ على الأمن القومي التركي[17].
قد يساعد التقارب التركي- المصري بتقريب وجهات النظر بين نظام الأسد وتركيا، لاسيما وأن لمصر تاريخاً سابقاً في بذل جهود الوساطة بين الطرفين إبان التوترات التي حصلت بينهما في عام 1998 على خلفية استمرار دعم نظام الأسد حزب العمال الكردستاني (PKK)، ونجاح الوساطة المصرية آنذاك في الوصول إلى اتفاق أضنة[18]. وفي ظل ما تمتلكه مصر من ثقل إقليمي وعلاقات جيدة، سواءٌ مع نظام الأسد أو مع غالبية دول مجلس التعاون الخليجي التي كان لبعضها دور أساسي في إعادة الأسد إلى جامعة الدول العربية؛ فكل هذه العوامل تؤهل مصر لإمكانية لعبها لدور الوسيط بين تركيا ونظام الأسد في حال استطاعتها تقديم مقاربة توازن بين المطالب التركية ومطالب نظام الأسد. ولكن هذا الأمر مستبعد في الوقت الحالي، خصوصاً في ظل انشغال مصر بملف العدوان “الإسرائيلي” على غزة، وصعوبة الوصول إلى مثل هذه المقاربة في ظل عدم امتلاك الجانب المصري أوراقاً ذات وزن في الملف السوري. ولعل ما يؤيد ذلك التذكير أن الجهود الروسية السابقة في التوسط بين الطرفين – مع ما يمتلكه الروس من أوراق قوة في الملف السوري، وحضور دبلوماسي وسياسي لدى الأتراك ونظام الأسد– باءت بالفشل حتى الآن، لاسيما وأن نظام الأسد يسعى لإيجاد هوامش له في علاقته مع روسيا فيما يتعلق برؤيتها لتحويل انتصاراتها العسكرية إلى مكاسب سياسية[19].
على العكس من موقف مصر نجد الولايات المتحدة الأمريكية ما تزال تتخذ موقفاً مناهضاً للتطبيع مع نظام الأسد بشكل غير فعّال[20]؛ حيث إن المسؤولين الأمريكيين دوماً يصرّحون بأنهم لا يشجعون الدول على التطبيع مع نظام الأسد[21].
من المرجح أن يسهم التقارب التركي- الأمريكي بتراجع الحديث عن التقارب التركي مع نظام الأسد، خصوصاً إذا ما استطاع الطرفان تجاوز مشكلة الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية “قسد” وعمودها الأساسي قوات وحدات حماية الشعب “YPG” التي تعدّها تركيا الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني “PKK”. وإذا أُضيف إلى ذلك إقرار قانون مناهضة التطبيع مع نظام الأسد الذي تمّت الموافقة عليه في الكونغرس الأمريكي[22] فسيصبح التقارب مع نظام الأسد بالنسبة لتركيا والحال هذه دون جدوى؛ لأن حلّ قضية وحدات حماية الشعب “YPG” هو بيد الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، ولأنه ستتراجع فرص تحقيق أية مكاسب اقتصادية تركية من التقارب مع نظام الأسد بسبب قانون مناهضة التطبيع.
بالمقارنة بين الأثر المتوقع للتقارب التركي مع كل من الولايات المتحدة ومصر نرجّح أن مدى نجاح التقارب التركي الأمريكي في حل قضية “قسد” سيكون العامل الرئيس للسياسة التركية المستقبلية تجاه نظام الأسد؛ فنجاح هذا التقارب بإيقاف الدعم وإيجاد مقاربات لطمأنه المخاوف التركية سيجعل تركيا زاهدة بالتقارب مع نظام الأسد، وسيزيد من فرص تطوير التعاون التركي الأمريكي في الملف السوري، أما في حال فشل هذا التقارب في حل ملف “قسد” فإن تركيا ستدفع نحو البحث عن بدائل للتعامل مع هذه القضية الجوهرية من خلال التطبيع مع نظام الأسد، وهنا ربما يكون التقارب التركي المصري وسيلة إضافية لزيادة فرص نجاح التطبيع التركي مع هذا النظام.
رابعاً: لا تغييرات في الأفق القريب؛ التقارب التركي مع مصر والولايات المتحدة وملف المعارضة والفصائل العسكرية:
لم تؤيد مصر الثورة السورية عند اندلاعها في مارس 2011؛ وذلك نتيجة للاضطرابات السياسية التي كانت تحدث في مصر، وجعلتها غير منخرطة في أعمال جامعة الدول العربية فيما يخصّ الثورة السورية[23]، ولكن مع وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم تغيرت السياسة المصرية تجاه سوريا، وعملت على دعم قوى الثورة والمعارضة في مواجهة نظام الأسد الذي عدّه الإخوان في مصر المسؤول الرئيس عن تحول الثورة إلى “نزاع مسلح”[24]. وفي تلك الآونة قام النظام المصري بسحب السفير المصري في سوريا وإدانة نظام الأسد، وتطور الأمر إلى قطع العلاقات وسحب القائم بالأعمال المصري في السفارة المصرية في سوريا عام ٢٠١٣. ولكن ذلك الوضع لم يستمر طويلاً؛ إذ قام النظام المصري الجديد لاحقاً بدعم نظام الأسد بشكل غير واضح وصريح في مواجهة الفصائل العسكرية، مع تمسكه ظاهرياً بضرورة أن يكون هناك حل سياسي لا عسكري للمسألة السورية[25].
هذا التدرج في العلاقات المصرية السورية انعكس بشكل كبير على علاقة نظام مصر الحالي بالمعارضة، خاصة الفصائل العسكرية؛ ففي الوقت الذي يسعى النظام المصري إلى تقويض الإخوان المسلمين ليس داخل مصر فحسب، وإنما خارجها كذلك، والعمل على الحدّ من وجودهم سياسياً ومجتمعياً قام النظام المصري منذ ٢٠١٣ بربط المعارضة الإسلامية في مصر بالإخوان المسلمين، وبالعمليات الإرهابية التي استهدفت مؤسسات الدولة وشخصيات سياسية، بالإضافة إلى ربطها بتنظيم ولاية سيناء التابع لداعش. ومن ثم لم تستمر المعارضة السورية بطيفها الواسع في مصر لعدم ترحيب النظام المصري بها، مما عكس عدم إمكانية النظام المصري قبول المعارضة المسلحة متمثلة في الجيش السوري الحرّ والفصائل “الإسلامية”؛ وذلك لسعي النظام المصري لدعم نظام الأسد، ووأد أية محاولات للتغيير، بما في ذلك التي يمكن أن تحدث خارج مصر[26].
ومن ثم نجد أن التقارب التركي المصري من الصعب أن يقرّب مصر من المعارضة السورية المسلحة، ربما أولاً لعدم وجود أولوية تركية في هذا المجال، إلى جانب النظرة المصرية لهذه الفصائل على أنها “إسلامية”[27]. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المعارضة السياسية[28]؛ لخوفه على شرعية نظامه من جهة، وحتى لا يفسد علاقاته مع نظام الأسد من جهة أخرى.
أما بالنسبة للتقارب الأمريكي-التركي فلا يتوقع أن يكون هنالك تغيير في موقف الولايات المتحدة من المعارضة السياسية التي تحظى بتأييد ودعم من قبل الطرفين؛ حيث إن الولايات المتحدة ما تزال تعدّ هيئة التفاوض السورية والائتلاف الوطني هي المؤسسات الرسمية التي تمثل المعارضة في مسار الحل السياسي.
أما بالنسبة إلى الفصائل العسكرية فبعد إيقاف الإدارة الأمريكية برامج دعمها للفصائل من خلال غرفتَي “الموم” و”الموك” في عام 2017[29]، وقيامها لاحقاً بإدراج بعض قادة الفصائل العسكرية المنضوية تحت مظلة الجيش الوطني على قوائم العقوبات الأمريكية بحجة ارتكابهم انتهاكات لحقوق الإنسان في المناطق التي يسيطرون عليها[30]؛ فإنه لا يُتوقع أن يحدث تغيير جوهري في السياسات الأمريكية تجاه هذه الفصائل، باستثناء إمكانية تراجع وتيرة هذه العقوبات أو تعليقها فترة من الزمن ريثما تتضح مآلات التقارب[31].
خامساً: فرص لشرعنة الواقع وتوسيع هوامشه؛ التقارب التركي مع مصر والولايات المتحدة والوجود العسكري التركي في سوريا:
تمتلك تركيا ما يقارب 125 نقطة وقاعدة عسكرية منتشرة داخل الأراضي السورية، في محافظة إدلب وريف حلب ومناطق أخرى في شمال وشرق سوريا، ضمن تل أبيض ورأس العين، كما أنها تدعم عسكرياً الجيش الوطني[32].
يصعب على التقارب التركي- المصري حلحلة قضية الوجود التركي في سوريا؛ فما تزال تركيا تربط وجودها في سوريا بالأمن القومي التركي ومحاربة الإرهاب، وترى الانسحاب من سوريا في ظل الظروف الحالية غير مناسب؛ لأنه سيجعل المنطقة ملاذاً آمناً للتنظيمات “الإرهابية”، ومصدراً مباشراً لموجات الهجرة غير الشرعية تجاه تركيا؛ ومن هذا المنطلق يربط الأتراك انسحابهم بإقرار الدستور وإجراء الانتخابات[33].
بناءً على ما تقدم، حتى ولو نجح التقارب التركي-المصري يُرجح عدم قدرة مصر على التوسط لدفع الأتراك للانسحاب من سوريا؛ لضعف الأوراق التي تمتلكها مصر في الملف السوري، ولعدم قدرتها على تقديم ضمانات يمكن أن تشكل بديلاً فيما لو انسحبت تركيا من شمال سوريا.
أما على مستوى الموقف المصري فعلى الرغم من أن مصر كانت في طليعة الدول التي أدانت الانتشار العسكري التركي في شمال سوريا فإنه يمكن للتقارب الحالي أن يخفّف من حدة الانتقادات المصرية، من دون أن تزول بشكل كامل؛ فمصر أيضاً لا تريد التفريط بورقة سياسية للضغط على الطرف التركي، ولا التسليم بهذا الوجود بحيث يصبح أمراً مسلّماً به.
من ناحية أخرى، لم تتخذ الولايات المتحدة الأمريكية مواقف حدّيّة تجاه الوجود العسكري التركي في شمال غرب سوريا، بل على العكس كانت قد أبدت تفهّمها للمخاوف التركية تجاه الأحداث والتطورات التي تحدث في المنطقة، على أن هذا الموقف ينطبق على شمال غرب سوريا. أما فيما يتعلق بشمال شرق سوريا فلم تسمح الولايات المتحدة للأتراك بتوسيع وجودهم العسكري على حسابهم، ولا على حساب قوات سوريا الديمقراطية “قسد”[34].
بناءً على ذلك يمكن للتقارب التركي- الأمريكي أن يحافظ على الموقف الأمريكي “غير المعترض” على الوجود التركي في شمال غرب سوريا؛ لكنه قد يغير من المواقف الأمريكية تجاه إمكانية توسع الوجود العسكري التركي في شمال شرق سوريا أو على الأقل التنسيق معه، فالولايات المتحدة لن تعمل غالباً على الاستمرار في انحيازها المطلق لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، لدرجة قد تهدد مصالحها مع تركيا التي تُعد عضواً مهماً في حلف شمال الأطلسي، وقوة عسكرية مهمة تعمل في المنطقة في إطار الالتزامات العسكرية لهذا الحلف لحماية المصالح الغربية. ولذا لن تتمادى الولايات المتحدة في تفضيل ودعم الحركات الانفصالية في شمال شرق سوريا على حساب مصالحها في المنطقة، التي تسهم تركيا في مراعاتها، خصوصاً في ضوء التطورات الإيجابية التي طرأت مؤخراً على العلاقات بين الطرفين[35].
خاتمة:
ركّز التقارب المصري-التركي على القضايا المباشرة لكلا الجانبين، مثل: ترسيم الحدود البحرية في منطقة شرق المتوسط، والتدخل لتصفية النزاعات على السلطة الموجودة في ليبيا والمساعدة على حلها بالطرق السلمية، ودعم عملية الانتقال السلمي للسلطة من خلال انتخابات رئاسية وبرلمانية، والاهتمام بدعم غزة؛ إلا أن الملف السوري ما يزال في أولوية متأخرة بين الطرفين حالياً، دون أن يعني ذلك إمكانية مناقشته بين الطرفين في المستقبل القريب من أجل بناء أسس مشتركة بينهما قد تساعد على حله؛ لِـمَا يمتلكه الطرفان من أوراق قوة إقليمية تؤهلهما للعب هذا الدور.
أما بالنسبة إلى التقارب التركي- الأمريكي نجد أن انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية، وعدم تركيزها على الجهود العسكرية في سوريا دفع إلى ضرورة التنسيق المباشر مع الولايات المتحدة الأمريكية فيما يخصّ الملف السوري؛ فتركيا لا يمكن أن تستمر في وجودها العسكري في شمال غرب سوريا من دون أن يكون هناك تنسيق أمني مع القوى الكبرى، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية التي تنظر إلى الوجود العسكري التركي على أنه سيساعدها في إحداث التوازن النسبي مع الوجود العسكري الروسي والإيراني فيها.
من حيث الآثار السياسية والأمنية والعسكرية المرتبطة بالتقارب التركي-المصري والتركي-الأمريكي على الملف السوري؛ فإن مصر ترحّب بأن يكون هناك تنسيق بين نظام الاسد وتركيا حول عودة اللاجئين، وتحقيق الأمن والاستقرار في المناطق الحدودية بين تركيا وسوريا، والتقارب مع نظام الأسد؛ ولكن دون أن تؤول هذه المحاولات إلى تقوية النفوذ التركي في الملف السوري أو شرعنته، بقدر ما تساعد نظام الأسد على تقوية أوراقه وتعويمه خارجياً.
يرتبط تأثير التقارب التركي- المصري على الملف السوري بعدة عوامل، مثل: وجود توافقات مشتركة بين القاهرة وأنقرة حول مآلات الحل السياسي في سوريا بطريقة تضمن مصالح الطرفين، والتخفيف من حدّة الانتقاد المصري تجاه الوجود العسكري التركي في شمال غرب سوريا.
من ناحية أخرى نجد أن التقارب بين الولايات المتحدة وتركيا قد يؤخّر مسار التطبيع التركي مع نظام الأسد، لاسيما إذا قدّمت الولايات المتحدة تنازلات فيما يخصّ دعم قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، ودعم شرعية الوجود العسكري التركي في شمال غرب سوريا؛ حيث إن هذا الملف هو المحرك الأساس للسياسة التركية حالياً في سوريا.
في النهاية نجد أن التقارب الأمريكي- التركي هو الأكبر تأثيراً في الملف السوري بحكم ثقل الدولتَين، ووجودهما العسكري على الأرض السورية. على عكس التقارب المصري- التركي؛ إذ يبقى تأثيره هامشياً في الملف السوري على المدى القريب، خصوصاً في ظل ضعف الفعالية والحضور المصري في الملف السوري من جهة، وتأييد السياسة المصرية الحالية لحل سياسي جوهره المحافظة على نظام الأسد، وإبعاد المعارضة من أي حضور مستقبلي مؤثر في المؤسسات السورية من جهة أخرى.
بالإضافة إلى ذلك ثمّة ملفات لا يُتوقع أن يكون للتقارب المصري-التركي تأثير فيها؛ مثل ملف اللاجئين، والوجود العسكري التركي في شمال غرب سوريا، وملف توزيع المساعدات الإنسانية.