التقرير التمهيدي: العدالة الانتقالية وأهمية إنضاج المقاربة السورية
تقرير صادر عن وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري
بين يدي سلسلة العدالة الانتقالية في سوريا
تسعى السلسلة الحالية لتناول مختلف جوانب مفهوم العدالة الانتقالية ذات الصلة بالأسس النظرية والتجارب التطبيقية والعملية معاً، وتحليل الدروس المستقاة من محاولات الدول والمجتمعات التي كان لديها إرث من الانتهاكات، وهو ما يسمح من حيث النتيجة بتقديم رؤية عامة وشاملة وغير مُجزَّأة لإنتاج أكبر قدر من التوافق الوطني السوري حول المقاربة الخاصة بالعدالة الانتقالية في سوريا، وتجنُّب حالة التشتت في مسارات جزئية ومتناقضة قد تفرغ العملية من أهدافها وغاياتها الرئيسة.
تنطلق هذه السلسلة من رؤية أساسية تجاه العدالة الانتقالية تتمثّل فيما يلي: توافق أكبر قدر ممكن من المكونات السورية حول مضمون العدالة الانتقالية ربما هو العامل الرئيس الذي يفترض التركيز عليه لتصميم مقاربة خاصة بها، إلى جانب عوامل أخرى مثل: الشمولية؛ بما تعنيه من السعي للوقوف على كامل الإرث من انتهاكات الماضي وإغلاقها بما لا يسمح بتكرارها، والاعتراف بضحايا تجاوزات الماضي على أنّهم أصحاب حقوق، ووضع آليات لمحاسبة المجرمين والمتورطين في جرائم جسيمة بحق السوريين، ومنعهم من تولّي المسؤوليات العامة والانخراط في المشهد السياسي مجدداً، وتعزيز الثقة بين الأفراد في المجتمع الواحد، وثقة الأفراد في مؤسسات الدولة المستقبلية، وتدعيم احترام حقوق الإنسان وتعزيز سيادة القانون.
تبرز أهمية هذه السلسلة بارتباطها بجوهر القضية السورية وتطلعات السوريين لمستقبلٍ يحمل في طياته ما يحقق العدالة وسيادة القانون، ولأنها تسهم في تنشيط الحوارات العامة وعرض وجهات النظر حول كل ما يمت لهذه العملية الحساسة والدقيقة، إذ إن نجاح سوريا في العبور نحو دولة جديدة يتطلّب مزيجاً من الحكمة والشجاعة، عبر تطبيق عملية العدالة الانتقالية بشكل يستجيب للتحديات المحتملة، وحتى تكون هذه العملية قوية لابد لها من الاستناد إلى أسس واضحة.
تنطلق هذه السلسة من هذه الورقة التمهيدية التي تُركّز على أسس ومفاهيم العدالة الانتقالية والأسئلة التأصيلية في الحالة السورية، ومن ثم تُركّز تباعاً على دراسة وتحليل التجارب الدولية كالأرجنتين وتشيلي وجنوب إفريقيا، والتجارب العربية كالمغرب وتونس وليبيا، كما تتناول الآليات التطبيقية والسبل المقترحة في سوريا عملياً لكل من المحاكم الجنائية وهيئات الحقيقة، وأخيراً تتناول السلسة قضيتين داعمتين للمسار ككل، وهما: أدوار المجتمع المدني السوري في إطلاق مسار العدالة الانتقالية ودعمه، وقضية استرداد الأموال المسلوبة من النظام البائد عبر تحليل التجارب السابقة والبحث في أفضل السبل المتاحة لإطلاق عمليات الاسترداد التي تساعد بدورها -حال نجاحها- نسبياً في دعم عمليات جبر الضرر.
مقدمة:
بعد هروب المجرم بشار الأسد يوم 8/12/2024، وجد الشعب السوري نفسه في مواجهة مباشرة مع إرث ثقيل من جرائم متراكمة ارتكبها النظام البائد منذ انقلاب آذار 1963 مروراً بانقلاب 1970 ووصول عائلة الأسد إلى السلطة وانتهاء بالثورة السورية التي انطلقت عام 2011، حيث تعرَّض الشعب السوري على مدى هذه السنوات لجرائم متراكمة وممنهجة من قتل وتهجير واغتصاب وقصف للأعيان المدنيّة وسرقة لأموال الشعب.. إلخ. كل ذلك طرح تساؤلات حول آليات التعامل مع هذا الإرث الكبير من الجرائم.
وبما أن الحالة السورية ليست استثناء في هذا السياق رغم تعقيدات المشهد السوري داخلياً، وحجم التدخُّل والتلاعب الدولي خارجياً وطول فترة الصراع بين قوى الثورة السورية والنظام الاستبدادي، وحجم الانتهاكات الممارَس بشكل رئيسي من منظومة الأسد وحلفائه دولاً ومليشيات، تبرز أهمية النظر في الجهود النظرية والعمليّة التي أنتجتها شعوب كثيرة في العالم كانت قد عانت أيضاً ويلات أنظمةِ حكمٍ بوليسية شمولية في القرنين العشرين والواحد والعشرين[1] -مع التأكيد على الخصوصية السورية بسبب وحشية نظام الأسد الاستثنائية وحجم التضحيات التي قدَّمها الشعب السوري- خصوصاً أن بعض هذه الشعوب استطاعت إنجاز مرحلة انتقالية بما يتلائم مع سياقاتها المختلفة نحو مستقبلٍ أفضل[2]، وعالجت الإرث الثقيل للماضي عبر تطبيق آليات العدالة الانتقالية وأدواتها.
يسعى هذا التقرير إلى الإجابة على التساؤلات المفاهيمية الأساسية حول العدالة الانتقالية وأهميتها وآلياتها من جهة، وأهمية إعمالها في الحالة السورية كوسيلة رئيسة للعبور نحو المستقبل، وكيفية إنتاج مقاربة وطنية خاصة بالسياق السوري.
وقد اعتمد هذا التقرير على منهجية البحث المكتبي والذي يعتمد على البيانات الثانوية، وبالاستناد إلى أساليب التحليل النقدي من حيث مراجعة الأدبيات وتقديم خلاصات تحليلية مُبسَّطة[3].
يهدف هذا التقرير التمهيدي إلى فهم وتوضيح منظومة العدالة الانتقالية وتفكيك أُسسها الإشكالية على المستوى النظري والتأسيس لسلسة قادمة من التقارير التي تتناول آليات العدالة الانتقالية على المستوى المعرفي وتطبيقاتها العملية -دولياً وعربياً- واقتراح السُّبل المناسبة للحالة السورية، سواء على صعيد المساءلة الجنائية أو آليات تكوين هيئة الحقيقة وإنشائها وصولاً لآليات المصالحة المجتمعية واسترداد الأموال المنهوبة والإصلاح القانوني والمؤسساتي، في محاولة لتعزيز النقاش العام سريعاً لإنتاج مقاربة سورية تحظى بأكبر قدر ممكن من الإجماع الوطني لمعالجة الماضي والتطلُّع للمستقبل.
أولاً- خلاصات رئيسة في مفهوم العدالة الانتقالية:
يُشير استقراء مجموعة التعريفات المقدَّمة أن مفهوم العدالة الانتقالية يقوم على وجود منظومة يتم تطبيقها في فترة زمنية خاصة وبظروفٍ استثنائية لتمثل مقاربة مُعيّنة لتحقيق العدالة اللازمة كي يتعافى المجتمع ككل عبر التعمُّق في جذور الانتهاكات بمفهومها الواسع، وذلك بهدف الانتقال بأمان إلى مستقبل جديد بعد مواجهة جريئة للماضي وتصفيته[4]، ولذلك فإن العدالة الانتقالية من المنظومات المعقّدة وغير البسيطة ولا يجب التعامل معها بشكل سطحي وتعميمي.
كما يرتبط تحديد مفهوم العدالة الانتقالية بعوامل متغيرة في كل من الزمان والمكان، مما يجعله مفهوماً نسبياً متأثراً بدرجة كبيرة بطبيعة التجربة الوطنية المحلية، وينعكس ذلك تفاوتاً في أساليب تحليل المفهوم وانعكاسه على التشريعات الناظمة[5].
وعلى الرغم من تعقيدات مسار العدالة الانتقالية وإشكالاته النظرية والتطبيقية تظهر الكثير من الأسباب التي تظهر أهمية تطبيق العدالة الانتقالية في المراحل الانتقالية والتي يمكن إجمال أبزرها بثلاث حجج رئيسة، وهي:
- تجسّد خطةً شاملةً متوازنةً فهي لا تتجاهل كلياً الآليات العادية للعدالة، والتي تكون عاجزة عن تقديم الحلول في المرحلة الانتقالية، فالعدالة الانتقالية إذاً أوسع وأعمق من العدالة في الظروف العادية لكنها ليست نقيضاً لها.
- البديل المتوازن عن فكرة عدالة المنتصر أو الانتقام بسيف القانون[6].
- تجسّد العدالة الانتقالية عموماً الفلسفة المتوازنة بين الماضي والحاضر والمستقبل، فلا تتجاوز الماضي ككل ولا تغرق به كقيد على معالجة متطلبات الحاضر والتأسيس لمستقبل يضمن عدم تكرار المآسي.
ثانياً- نظرة في الآليات الرئيسة للعدالة الانتقالية: المنظومة الشاملة
تنطوي العدالة الانتقالية بوصفها منظومة شاملة ومتكاملة ومتضمّنة كمّاً متنوّعاً من الآليات التي تُصنّف عادة إلى نوعين رئيسيين، وهما: الآليات القضائية والآليات غير القضائية.
أ-الآليات القضائية: تقوم على أساس الملاحقة القضائية لمرتكبي الجرائم والانتهاكات، وعادة ما تُركّز على كبرى الجرائم التي يمكن اعتبارها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، مثل: جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، والتي تنطوي عموماً على أربع أنماط رئيسة لكل منها إيجابيات وسلبيات وهي:
- القضاء الوطني: وهو الأصل العام، حيث يختص القضاء الوطني بملاحقة المجرمين ومحاسبتهم تجسيداً لمبدأ سيادة الدول، وهو ما يمتاز بمجموعة من الإيجابيات كتوفير الأموال والفعالية والإنجاز وتعزيز ثقة المواطنين بالسلطة الجديدة، إلا أن تحديات أخرى تبرز ومن أهمها وجوب إصلاح القضاء أولاً والذي يكون عادة أحد أدوات الاستبداد قبل الاعتماد عليه.
- المحاكم الجنائية الدولية الخاصة: وهي محاكم يتم إنشاؤها بغرض التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في فترة صراع دولي أو غير دولي لمحاسبة المسؤولين عنها كما حصل في حالة يوغسلافيا السابقة ومن ثم رواندا[7]، وعلى الرغم من أهمية هذا النوع إلا أن سلبيات عديدة تبرزها دراسة وتحليل التجارب السابقة ومن أهمها ارتباطها بكبار المجرمين فقط وطول مدة عملها، إذ قد تمتد لعقود، وحضور مخاطر التلاعب السياسي الدولي والتكلفة المالية الباهظة وعدم وجود أحكام بالإعدام [8].
- المحاكمات المدوّلة أو (المختلطة): والتي تُنشأ وفقاً لاتفاقية تعقد بين الأمم المتحدة والدولة التي ارتكبت على إقليمها الجرائم الدولية، وتتكون من مجموعة مشتركة من القضاة المحليين والدوليين كما حصل في سيراليون وتيمور الشرقية[9]. وعلى الرغم من إيجابية هذا النمط بوصفه استكمالاً لتطور القضاء الجنائي الدولي والتعاون لمنع الإفلات من العقاب والاستفادة من الميزات الوطنية كالقرب الجغرافي والنفسي من الضحايا والميزات الدولية كالخبرات والموارد، إلا أن تحديات عديدة تبرز أيضاً في هذا النمط على الصعيد القانوني والتطبيقي وكذلك التداخل بين السياسي والقانوني في كل مرحلة من مراحل وجودها[10].
- الاختصاص الجنائي العالمي أو الولاية القضائية العالمية: والتي نشأت كآلية عدالة للضحايا بهدف تعزيز المساءلة العالمية عن الجرائم الدولية وهي كبرى الانتهاكات الجسيمة، ومعالجة فجوة الإفلات من العقاب، إلا أنها تبقى آلية احتياطية وغير مُطبَّقة في جميع الدول[11]، ومن أبرز سلبياتها انفصالها عن الفلسفة الشاملة لمنظومة العدالة الانتقالية في بلد ما، مما قد يُولّد تطبيقات متناقضة[12].
ب-الآليات غير القضائية:
وهي ما تُشكّل الطيف الواسع من الآليات التي تتفاعل معاً لعلاج ماضي الاستبداد والانتهاكات بمفهومها الواسع، وتؤدي للعبور من المراحل الانتقالية بأقل الخسائر، والتي تتركّز عموماً على خمسة أنواع رئيسة:
- لجان أو هيئات الحقيقة: تُمثّل هذه المؤسسة الآلية الأهم في سياق العدالة الانتقالية نظراً لتزايد الاعتماد عليها في التجارب المختلفة، حيث تُعرَّف عادة بأنها: هيئة وطنية رسمية ومؤقتة وذات طبيعة شبه قضائية واختصاصات مُحدَّدة وتصدر تقارير نهائية، ومن أبرز أمثلتها: اللجنة الوطنية العليا للأشخاص المفقودين في الأرجنتين عام 1983، مفوضية الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا عام 1995، هيئة الحقيقة والكرامة في تونس عام 2014.
- جبر الضرر: والذي يقوم على أساس تقديم ترضية لضحايا الانتهاكات التي ارتُكبت، وذلك عبر خليط متعدّد من أنواع التعويض، وجبر الضرر الذي قد يكون مادياً أو معنوياً فردياً أو جماعياً، وهي العملية التي تسعى لتحقيق ثلاثة أهدافٍ رئيسةٍ هي: الإقرار بمسؤولية الدولة عن الانتهاكات، ونيل ثقة المواطنين، وأخيراً تحقيق التضامن الجماعي[13].
- الإصلاح المؤسّساتي: والتي تعني إعادة بناء المؤسسات وخاصة السيادية التي تكون متورّطة عادة في ارتكاب الانتهاكات كأجهزة الأمن والقضاء ومؤسّسات العدالة، لتصبح قادرة على المضي بالبلاد نحو عهد جديد، وهي العملية التي تشمل بمعناها الواسع الإصلاح المرتبط بالنصوص، أي الإصلاح القانوني والإصلاح المرتبط بالهياكل وصولاً للإصلاح المرتبط بثقافة الكوادر.
- العزل السياسي: والتي تسمى أيضاً بالتطهير السياسي أو التفحُّص والاستبعاد، وتُركّز على ألا يُتاح للأشخاص الذين كانوا جزءاً من نظام استبدادي الاستمرار في الحياة السياسية في المرحلة التي تشهد جهوداً للتحوُّل، لأنهم بكل بساطة مكمن خطر وليسوا فرصة وطاقة بشرية داعمة للتحوُّل، إلا أن هذه العملية حساسة جداً، بحيث يجب ألا تُستخدم كآلية انتقامية، وألا تكون عشوائية بمعنى أن تخلو من معايير دقيقة أو تغلق باب التظلُّم القانوني منها[14] .
- حفظ الذاكرة الوطنية: والتي ترتبط بواجب عدم النسيان وبأحد الحقوق ذات الاحترام في الفقه الدولي، وهو الحق في المعرفة، إذ يُشكّل معرفة الشعب لتاريخ اضطهاده جزءاً من تراثه، ومن الواجب صيانة هذا التراث من خلال اتخاذ تدابـير مناسبة لإحياء أي واقعة أو حدث تعمل كآلية للتذكُّر، وتتضمن هذه الآلية الكثير من الأساليب والأدوات كرسالة إلى الأجيال القادمة كإنشاء المتاحف وتحديد أيام وطنية وإدماجها في المناهج الدراسية.. الخ، وهو ما يرتبط بدوره بتعزيز ضمانات عدم التكرار[15].
ومن الجدير ذكره وجود طيف آخر من التصنيفات على المستوى النظري، على سبيل المثال: إدراج فكرة المصالحة الوطنية أو إعادة بناء الهوية كآليات للعدالة الانتقالية، إلا أنه يمكن النظر إلى ما سبق على أنها أهداف أو نتائج نهائية لمسارات العدالة الانتقالية.
شكل رقم 1 يوضح أبرز آليات العدالة الانتقالية
ثالثاً- لماذا نحتاج لمقاربة سورية خاصة للعدالة الانتقالية؟ تجنُّب الفراغ والفوضى
يجُسّد مفهوم العدالة الانتقالية مفهوماً ديناميكياً وغير جامد؛ بمعنى آخر أنه ليس وصفة جاهزة للتطبيق في كل مكان وزمان وذات الطريقة والمقاييس[16]، ولذلك لا يمكن استنساخ تجربة من هنا أو هناك لتطبيقها في دول أخرى خارجة من حالات نزاعية مع أنظمة استبدادية.
وبناء على ذلك، فمن الطبيعي أن تكون سوريا حالياً وبعد إسقاط نظام الأسد بحاجة إلى تصميم نموذجها الخاص للعدالة الانتقالية، وبما يُحقّق الغايات والطموحات المشروعة للسوريين للمضيّ بثبات نحو دولة قانون ومؤسسات، لكن ذلك لا يعني أبداً تجاهل السوريين للتجارب الدولية الأخرى والاستفادة من الدروس المستخلصة منها بجانبيها السلبي والإيجابي، وبدورها تُقدّم التجربة العملية السورية بعد سنوات دروساً للتجارب الأخرى.
فضلاً عما سبق يمكن تحديد مجموعة من الأسباب التي تدفع السوريين لإنضاج مقاربتهم الخاصة للعدالة الانتقالية بأسرع ما يمكن:
- على الرغم من وجود غنى في المستوى النظري والمعرفي وكذلك طيف واسع من التجارب فإنه من الضرورة بمكان أن يُؤسّس السوريون لمبادئ أساسية حاكمة لمنظومة العدالة الانتقالية وبأسرع وقت ممكن، إذ يؤدي الغنى السابق إلى تنوّع شديد في الآراء، على سبيل المثال: إلى أي مدى يتم تقديم ترتيب أولوية السلام المجتمعي والعدالة، فهل يجب أن تميل التجربة السورية للعدالة الجنائية أكثر أم العدالة التصالحية؟[17]، وكل ذلك في ضوء عوامل خاصة بالسياق السوري ومتطلبات الحاضر والمستقبل، وهو ما يعزز حالة الانقسام حتى في القوى الداعمة للمسار.
- يؤدي التأخر في حسم الإجابات الأساسية إلى نشوء مسارات مبعثرة تؤدي إلى تناقضات عديدة لمنطق العدالة الكلي كخضوع بعض الأشخاص للمساءلة القضائية في الفترة القريبة وإفلات البعض منها بناء على قانون لاحق، من جانب آخر فإن التأخُّر في وضع قواعد أساسية للعملية يؤدي لفقدان الثقة لدى كثير من ضحايا انتهاكات نظام الأسد بالتحوُّل الحاصل، ويُعزّز من الانتقام الفردي ويؤدي لدوامة من العنف.
- ضرورة تفويت الفرصة أمام خلط الأوراق بحيث يبدأ أنصار النظام البائد في المجتمع وبشكل سريع بمحاولة إعادة إنتاجه وأفكاره بطرق وأساليب شتى ويجمعهم في ذلك على تنوُّعهم الكره الشديد للثورة والسعي لإحباطها عبر إعادة التموضع في الهياكل الجديدة، واستغلالاً لمساحة الحريات، وهو ما ينذر بإفراغ مسارات العدالة لاحقاً من جوهرها، وهو ما بدأ سريعاً جداً في الحالة السورية عبر انطلاق بعض داعمي الانتهاكات بحركات مطلبية بعيدة عن القضايا ذات الأولوية.
- إن الحالة السورية شهدت انقسامات حادة وعلى مختلف الأصعدة، ولذلك فإن التأسيس السريع لقواعد العدالة الانتقالية الكبرى يُسهم في استقرار المجتمع نسبياً بحيث تُحسم قضية المجرم والضحية ومحدّدات العفو ومواصفات أركان النظام البائد التي لا يجب أن تتسلّل للنظام الجديد.. الخ، فضلاً عن الحدود الزمنية والموضوعية للعملية برُمّتها.
وإذ تتعدد الأسباب الموجبة لإنتاج مقاربة سورية خاصة للعدالة الانتقالية فإن الخصوصية السورية أيضاً لم تقتصر على الحالة المأساوية لجهة الانتهاكات وحجمها خلال حكم النظم البائد بل تحمل في طيّاتها فرصاً إيجابية عديدة كحالة روح التسامح التي رافقت عمليات التحرير العسكرية وانهيار المليشيات الطائفية وأجهزة الأمن ووجود مسارات مُبكّرة للعدالة الانتقالية عملياً كجهود توثيق الانتهاكات من القوى المدنيّة السورية واللجان الدولية الحكومية وغير الحكومية، ووجود جهود لبناء قدرات النشطاء والحقوقيين في قضايا العدالة الانتقالية والكثير من الجهود الفكرية للإصلاح القانوني والقضايا الدستورية بما يجعل الانطلاق ليس من نقطة الصفر.
رابعاً- ملامح المقاربة الخاصة بالعدالة الانتقالية في سوريا: من أين نبدأ؟
في السياق السوري وتبعاً لطول الفترة الزمنية للثورة السورية منذ عام 2011 فقد تم العمل وفي فترات مختلفة ومن قبل جهات بحثية وأكاديمية عديدة داخل سوريا وخارجها وبمشاركات مع مؤسسات دولية حكومية وغير حكومية على إنتاج تصوّرات حول العدالة الانتقالية في سوريا[18]، لذلك فإن إرثاً عاماً للتحضير القانوني والسياسي كان موجوداً بالفعل في الحالة السورية على العكس من حالات أخرى، وهو ما يُمثّل حالة إيجابية دون شك، إلا أنه من جانب آخر مثَّل انعكاساً لحالة التفكير خارج دائرة السلطة وبعيداً عن المستجدات المرتبطة بالواقع الميداني والدولي ومعطياته من جانب، كما تنوّعت الطروحات وتعدّدت الأُسس والغايات للمقاربة السورية تبعاً لمرور السنوات وتطوّر السياق وتعدُّد الجهات[19].
أما بعد سقوط النظام البائد ومع أولى إجراءات إدارة العمليات العسكرية ذات الصلة بملف العدالة عبر إطلاق عفو وإجراء تسويات، بدأت أيضاً طروحات عديدة عن ملامح العدالة الانتقالية المطلوبة بين دعوات لمحاسبة كبار المجرمين وفتح الباب أمام الدعاوى الفردية[20]، أو الدمج بين عدالة جنائية وتصالحية[21]، وصولاً للحديث عن العزل السياسي وشمولية العدالة وإطارها الزمني.. الخ[22]، وعلى هذا النحو توجد مئات الطروحات التي تتقاطع في نقاط وتختلف في نقاط أخرى وتعكس بذلك حدود الفلسفة العامة للعدالة في سوريا بين التركيز أكثر على المساءلة وبين التركيز بشكل أكبر على بدائل العقاب والنهج التصالحي والمضيّ نحو المستقبل.
مع أهمية وحيوية كل ذلك بما يُشكّل موجة ضاغطة تمنع التوجُّهات السياسية التي تميل عادة لتقديم منطق السلام والاستقرار على منطق العدالة كُليّاً، ومع قدرة الكثير على الاستدلال من القانون الدولي أو الأسس النظريّة للعدالة الانتقالية أو التجارب المختلفة على صحة طروحاته وأهميتها، يبدو أن قضيتين رئيسين جديرتين بالاهتمام في هذه المرحلة.
الأولى: أهمية التوافق على مُحدّدات أساسية للعدالة الانتقالية في سوريا بما يُراعي خصوصية الحالة السورية لجهة عمق الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وأعداد الجناة والضحايا، واتساع نطاق الانتهاكات وأساليبها، ووضع المؤسسات والبنى، وعمق الانقسامات حتى بين قوى الثورة والمعارضة، وحساسية عامل الزمن. كل ذلك يتطلّب أكبر قدر من العقلانية بالطروحات والموازنة الدقيقة بين المأمول والمتاح، وبالتالي ضرورة التعامل مع قضية العدالة الانتقالية باعتبارها قضية وطنية مُعقّدة تحتاج لمقاربة شاملة، وعدم تبسيطها بحلول مختصرة وناقصة.
الثانية: التركيز على تقديم إجابات واضحة تُساهم بوضع محدّدات أساسية للعدالة الانتقالية في سوريا؛ بمعنى تقديم إجابات على أسئلة جوهرية، منها: ما الطريقة التنظيمية المناسبة للمضي قدماً في إنتاج الملامح الأساسية التوافقية بين أكبر عدد ممكن من القوى الوطنية والمجتمعية؟ ما الرؤية الكلية التي ستستند عليها مقاربة العدالة الانتقالية في سوريا؟ ما المبادئ الرئيسة التي ستُركّز عليها هذه المقاربة؟ ..إلخ.
لا شك أيضاً أن الطرق والوسائل متعدّدة في المشهد الحالي، ويمكن أن تؤدي لحدوث مسارات تنظيميّة بدلاً من مسار إذا لم ترتكز العملية على مركز مُعيّن، وتجنُّباً لكل ذلك التعقيد من الممكن أن تكون قيادة السلطة المؤقتة دوراً رئيساً في هذا الصدد، من خلال المؤتمر الوطني ذاته.
فمع انطلاق المؤتمر الوطني الذي يتم الحديث عنه يبدو من المناسب وجود محور محدّد للتوافق على مبادئ كليّة أساسية لعملية العدالة الانتقالية في سوريا، وفي معرض الحديث عن هيئة انتقالية وحكومة تدير المرحلة الانتقالية يمكن تأسيس هيئة وطنية رسمية مستقلة للعدالة وحقوق الإنسان تتحدّد أولى مهامها بقيادة مشاورات وطنية واسعة وبحضور فاعل لقوى المجتمع المدني وذوي الضحايا وروابطهم لإعداد مُسوّدة قانون خاص بالعدالة الانتقالية في سوريا، مع مراعاة مُحدّدات تكوين هذه الهيئة ومواصفات وشروط عضويتها ومرجعيتها وضمانات نجاحها كالموارد المالية والتقنيّة والصلاحيّات والاستقلالية.
وريثما يتم مناقشة الأمر داخل مؤتمر الحوار الوطني، يُفترض القيام بسلسلة من الإجراءات والتدابير الاحتياطية -إن صح التعبير-، والتي تهدف لإنجاح مسار العدالة الانتقالية في المساءلة وكشف الحقائق كمصير المفقودين والمُغيّبين ومنع تدمير الأدلة، ومن أبرز هذه التدابير:
- السعي لإلقاء القبض على أكبر عدد ممكن من كبار المتورّطين بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وفقاً للقوائم المسبقة للجان التحقيق الدولية والمنظمات الحقوقية السورية وغبر السورية وقوائم العقوبات، وتوقيفهم على ذمة التحقيق.
- ضبط وحماية السجون السريّة والعلنيّة للنظام البائد ومنع الدخول إليها، وإنشاء لجنة خاصة للمتابعة والتحرُّز على الوثائق المختلفة.
- إحصاء وحماية أماكن المقابر الجماعية ومنع العبث بها أو الأعمال المنفردة لأي جهة كانت.
- تنظيم لقاءات أوليّة تشاورية مع اللجان الدولية والمنظمات السورية وروابط الضحايا ومراكز الدراسات للبحث في قائمة الأولويات والأعمال التحضيرية.
- تنظيم عمليات جبر الضرر المؤقتة للضحايا الناجين وذويهم بما يُقدّم رسالة إيجابية رمزيّة لأولوية المسار وحتميّته.
شكل رقم 2 يوضح المشهد العام والمقترح لتأسيس المقاربة السورية للعدالة الانتقالية
خاتمة:
مع إسقاط نظام الأسد البائد تجدَّد لدى مئات الآلاف من السوريين وخاصة من الأمهات داخل وخارج سوريا الأمل بالعثور على أبنائهم وأقربائهم أحياء من مسالخ نظام الأسد وأفرعه الأمنية، واستعاد بعض السوريين مباشرة أملاكهم المغتصَبة في البلدات والقرى، فيما عاد البعض الآخر سريعاً حالماً بتحقيق العدالة من المليشيات الإجرامية التي عذّبته وقتلت أبناءه ..الخ، إلا أن ذلك ترافق مع اصطدام الكثير من السوريين بلحظة الحقيقة وهي مشاهدة وسائل القتل والمقابر الجماعية والبلدات المدمّرة والمنازل التي تم نقل ملكياتها ووكلاء الأمن باللباس المدني في قيادة المؤسسات العامة، وهو ما أكد الحقيقة التي نشأت العدالة الانتقالية من أجلها، وهو التعامل مع إرث الماضي الرهيب للأنظمة الاستبدادية.
وإذ تُشكّل الفترة الأولى لإسقاط الأنظمة الاستبدادية فرصة للتطلُّع للمستقبل فإن الضبابية في كيفية التعامل مع كل هذه التركة وترك المجتمع في دوّامة من الأفكار التي تبدأ بالرغبة بالانتقام وإلحاق الأذى بكل منظومة الاستبداد وصولاً إلى فكرة طي الماضي كلياً وفتح صفحة جديدة وكأن شيئاً لم يحصل وآلاف المتموضعات بين النموذجين تؤكد الحاجة للبدء الفوري بحوار يشمل القوى السورية المختلفة التي وقفت بوجه نظام الأسد بكل الوسائل خلال مرحلة الثورة السورية مع السلطات المؤقتة ومع ضمان دور واسع للناجين وروابط الضحايا والمنظمات الحقوقية للتوافق حول قواعد أساسية تقدّم لهيئة الحكم الانتقالية لإكسائها آليات النفاذ قريباً.
العدالة الانتقالية في سوريا “حلول عملية”، المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، الموقع الرسمي.