الجولة العشرون لأستانا وسط رسائل المجازر الروسية
في الحادي والعشرون من شهر حزيران المنصرم انتهت الجولة العشرون من مباحثات أستانا وسط حالة من الجدل لم تكن معهودة في الجولات الماضية، وذلك بعد إعلان البلد المضيف كازخستان نهاية المسار[1]، دون العودة فما يبدو للأطراف الرئيسية في المباحثات، الأمر الذي أدى إلى نوع من البلبلة داخل قاعة المباحثات، ما دفع روسيا رسميّاً إلى توضيح أن ذلك كان مجرد اقتراح من كازخستان، وأنّ المسار لا يزال قائماً[2].
يناقش هذا التقرير دوافع وأبعاد إعلان كازخستان نهاية مسار أستانا وعلاقته بتراجع نفوذ روسيا الإقليمي، ثم يتطرق لقراءة بعض نقاط البيان الختامي للجولة العشرين وصولاً إلى ما يدور من حديث عن نقاشات محتملة بين روسيا وتركيا بخصوص مصير منطقة تل رفعت شمال حلب والطريق الدولي المعروف بـ m4 في إدلب.
إعلان كازخستان نهاية مسار أستانا وعلاقته بتراجع نفوذ روسيا الإقليمي:
شكّل مسارُ أستانا منذ بدايته عام 2017 وتأسيس ما عُرِف بمناطق “خفض التصعيد” الأرضيّة الأساسية التي اعتمدت عليها الدول الثلاث الراعية، خاصة تركيا وروسيا لتأسيس التفاهمات التي أدت إلى الواقع الحالي في شمال غرب سوريا.
وبحسب مصادر مطلعة على مسار المفاوضات الأخيرة[3]، فإن اقتراح إغلاق المسار تمّ من وزير الخارجية الكزخي بشكل مفاجئ ودون أي تنسيق مع الآخرين، ما أدى إلى استغراب الوفود، إذ إن أقصى ما يمكن أن تقترحه كازخستان هو عدم رغبتها باستضافة الدورة القادمة لا أن تقترح إغلاق المسار، خاصة أنها لا تقوم إلا بالاستضافة فقط، الأمر الذي يترك تساؤلات عن دوافع كازخستان وراء تلك الخطوة، ولعلّ ما يُجيب عنها أنّ العلاقات الروسية الكزخية تمرّ في بوادر أزمة، إذ بدأت كازخستان بالميل نحو المعسكر الغربي وتقوية العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية ووقفت إلى حدٍّ ما إلى جانب أوكرانيا في الحرب الأخيرة، وينقل تقرير نشره موقع “تسارغراد” الروسي عن مصادر غربية قولها في نهاية آذار الماضي إن السلطات الكازاخية تعتزم منع الاستيراد الموازي إلى روسيا وعدم مساعدة موسكو على الالتفاف على العقوبات المفروضة عليها، مؤكداً أن الغرب يحثُّ كازاخستان على ذلك، كما تطرّق إلى إعلان الرئيس الكزخي “تقديره” للدعم المستمر والثابت الذي تقدمه الولايات المتحدة للحفاظ على استقلال ووحدة أراضي بلاده وسيادتها[4].
كذلك فإن بريطانيا سعت فيما يبدو لسحب كازخستان تدريجياً بعيداً عن روسيا، إذ بحسب المصدر السابق نفسه فإن وزير الخارجية البريطاني جيمس كليفرلي تطرّق إلى كيفية تقليص التأثير السلبي للصراع في أوكرانيا على اقتصاد كازخستان، والبحث عن طرق بديلة لتصدير جميع المنتجات الكازاخية دون المرور عبر الأراضي الروسية، ويأتي ذلك وسط تأكيدات من كازخستان بأنها لا تدعم الحرب الروسية في أوكرانيا وتدافع عن مبدأ وحدة الأراضي بل تقدم المساعدة لأوكرانيا عن طريق توفير المنتجات النفطية والمحولات والأدوية ومولدات الطاقة[5].
المعلومات والتحليلات التي قدّمها الموقع تشير إلى بداية تراجع في نفوذ روسيا الإقليمي بالمنطقة، خصوصاً مع استمرار الاستنزاف الكبير في أوكرانيا وتوقّعات خبراء ومحللين بأن تستمر الحرب لفترة أطول في ظل الدعم الغربي المتواصل لأوكرانيا، وربما يشكل تجدّد الصراع مطلع العام الجاري في القوقاز بين أذربيجان وأرمينيا وعدم تدخُّل روسيا فيه أحد مظاهر ذلك التراجع للنفوذ الروسي على حساب صعود لاعبين إقليميين جدد على الحدود بين آسيا وأوروبا مثل تركيا على وجه الخصوص إضافة لإيران[6]، وكلُّ ذلك يبدو أنه عائد للتشتت الروسي بالمتاهة الأوكرانية وعدم وجود بوادر على حسم الصراع في المدى القريب.
في المقابل، ثمة من يعتقد أن المصلحة الروسية تكمن في إغلاق مسار أستانا والاستعاضة عنه بمسار يحظى بمشاركة عربية أوسع في ظل التغييرات السياسية الناجمة عن الانفتاح العربي على نظام الأسد[7]، إلا أن هذا ما يبدو مستبعداً خصوصاً مع مسارعة روسيا إلى إعلان استمرار مباحثات أستانا.
قراءة في بيان اجتماع أستانا الأخير :
لم يخل البيان الختامي من تكرار فحوى بيانات سابقة مثل “احترام وحدة الأراضي السورية وسلامة أراضيها ومحاربة الأجندات الانفصالية”، إلا أنه احتوى على بنود ذات دلالة مثل إعلانه أن الأطراف المجتمعة أكدت “الدور الريادي لمسار أستانا في تعزيز التسوية المستمرة للأزمة السورية”، وهذا ما يؤكد أن تصريح نائب وزير خارجية كازخستان بخصوص نهاية مسار أستانا كان خارج السياق، كما أفرد البيان الختامي بنداً إضافياً خارج سياق أستانا يذكر فيه اجتماع المسار الرباعي بين كل من تركيا ونظام الأسد وروسيا وإيران، ويتطرق البند لتفعيل العملية السياسية والشروط السليمة لعودة اللاجئين وفق الشرعية الدولية، مع ذكر التعاون مع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين والمساعدات الإنسانية، وهو ما يشير إلى بعض الشروط التي تطلبها تركيا في المقابل للتطبيع مع نظام الأسد، وهو ما تمت الإشارة إليه في بعض الصحف التركية[8]، هذه الشروط لم تكن تُذكر بهذا الوضوح سابقاً قبل الانتخابات التركية، مما يؤشر على دخول تركيا مرحلة جديدة من منطلق أكثر قوة في المفاوضات بعد انتهاء أعباء الانتخابات.
ومما كان لافتاً أيضاً، أن البيان أفرد ثلاثة بنود للجنة الدستورية توحي أنه لا يوجد أي رؤية متقدمة للعملية السياسية سوى المضي بعمل اللجنة، وبحسب مصادر من اللجنة، فإن هناك طروحات لاستئناف اجتماعات اللجنة الدستورية بعد توقفها لمدة سنة بسبب الخلاف على المكان، حيث يرفض الروس عقدها في جنيف، وهناك أمكنة مطروحة مثل مسقط، بينما طرحت المعارضة الكويت ولم يقبل نظام الأسد، كما تطرح المعارضة تدوير الأماكن بين إسطنبول ومدن أخرى[9].
آثار اجتماع أستانا الأخير على مناطق نفوذ روسيا وتركيا في شمال سوريا:
شهدت الأيام التي ترافقت مع الجولة العشرين لأستانا عودةً لتصعيد عنيف لروسيا[10] ونظام الأسد في مناطق شمال غربي سوريا[11]، ووفق مصادر مطلعة[12]، فإن الاجتماع الأخير تطرّق فيه الوفد الروسي إلى ضرورة فتح الطريق الدولي المعروف بـ m4 والمطالبة بانسحاب القوات التركية من جنوب الطريق (منطقة جبل الزاوية وجوارها) في تكرار لمطالب روسية سابقة خلال السنوات الماضية دون تطبيق ذلك من قبل أنقرة، الأمر الذي يُفسّر فيما يبدو موجة التصعيد العنيفة التي ترافقت مع الاجتماع وبعد أيام منه، خصوصاً المجزرة التي وقعت في جسر الشغور[13]، حيث تعمدت روسيا ارتكاب المجازر في المدنيين في المنطقة في رسائل نارية ضاغطة على أنقرة والمعارضة لتعزيز مطالبتها بالانسحاب من جنوب الطريق الدولي، بالمقابل أيضاً، طالبت تركيا بانسحاب القوات الروسية من منطقة تل رفعت التي تعد منطلقاً لهجمات مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية-قسد” ضد مناطق النفوذ التركي في ريف حلب، الأمر الذي يعزز من فرضية تكررت مراراً في السنوات الماضية، وهي فكرة التبادل بين المناطق (تركيا تنسحب من جنوب الطريق مقابل انسحاب الروس من تل رفعت)، إلا أن تلك الفكرة لم تجد التطبيق الفعلي على أرض الواقع، ويبدو أن لكل طرف أسبابه، لعلّ من أبرزها بالنسبة لتركيا، عدم التسبُّب بموجة نزوح جديدة حال إطلاق روسيا عملية عسكرية للسيطرة على جنوب الطريق ومحيطه والوصول عملياً لاحقاً إلى تهديد مدينة ادلب، وبالنسبة لروسيا، فهي لا تريد الانسحاب من تل رفعت دون الحصول على مقابل ثمين، خاصةً أن تل رفعت تعدُّ تحت الهيمنة الروسية وتُدْخِلُها روسيا في بازار المفاوضات بشكل مستمر كونها مصدر إزعاج حقيقي بالنسبة للأتراك.
خاتمة:
على ضوء ذلك، فإن مسار أستانا لا يبدو متجهاً إلى الانتهاء، لأن إعلان الانتهاء جاء أساساً من الطرف الكزخي الذي يعد بلداً مستضيفاً وليس معنياً بشكل كبير بما يدور في المفاوضات، ويأتي الإعلان غالباً لمناكفة روسيا وإظهار تراجع نفوذها الإقليمي، في المقابل، لا يبدو أن الدول الراعية للمسار، وخاصة روسيا، لها مصلحة في إنهاء المسار بالوقت الحالي، خصوصاً مع غرق روسيا في المستنقع الأوكراني، الأمر الذي يجعل من استمرار التهدئة في سوريا أمراً يصبُّ في مصلحتها بذات الوقت الذي تُرسل فيه رسائل نارية بين الحين والآخر إلى الجانب التركي لتأكيد هيمنتها وقدرتها على ضرب أي منطقة واقعة تحت النفوذ التركي لمنع تركيا وفصائل المعارضة من استغلال الضعف الروسي الحالي لمحاولة توسيع نفوذهم في شمال غرب سوريا، خاصة في منطقة تل رفعت.