مقالات الرأي

الحرم الجامعي كمختبر للصراع والهوية: دراسة تجربة جامعة حلب بعد دمج جامعة “الثورة” بها (2)

تحدثتُ في المقال الأول عن تحوّل جامعة حلب بعد دمج جامعة حلب المنبثقة عن الثورة بها إلى مساحة لصراع على الشرعية الثقافية والاجتماعية، وأشرت إلى أن ذلك عزّز الانقسامات في الهويات الجماعية، وجعل من الجامعة فضاءً للتوتر بين الواقع الاجتماعي والسياسي للطلاب، وأوضحت في هذا الخصوص وجود سرديتين متصارعتين داخل الحرم الجامعي، تسعى كل منهما لكسب شرعيتها وإبراز عدالتها.

يتابع هذا المقال مناقشة هذا الموضوع من زاويتين الأولى: آليات إدارة الصراع الهوياتي داخل الجامعة، وأدوار الفاعلين في تحويله إلى فرص لإنتاج السلام الجامعي والمجتمعي.

آليات إدارة الصراع الهوياتي داخل الجامعة

تتعمق هذه الإشكالية بشكل أكبر عند النظر إلى الدور الفاعل لطلاب “جامعة حلب في المناطق المحررة” داخل الحقل الجامعي، إذ لا يمكن اختزالهم في موقع المتلقّي للمعرفة وإنما فاعلون اجتماعيون وسياسيون يساهمون في إعادة إنتاج السلطة والمعنى داخل الفضاء الجامعي. في المقابل يدخل طلاب “جامعة حلب الأم” هذا الحقل محملين بخبرة طويلة في التكيُّف مع مؤسسات سلطوية ذات طابع هرمي وبيروقراطي، الأمر الذي رسّخ لديهم أنماطاً من الانضباط والتعامل الحذر مع السلطة. على ذلك جاء طلاب “جامعة المحرر” محمّلين بتجربة تعليمية نشأت في سياق استثنائي، اتّسمت بروح ثورية متحرّرة ومثالية في قيمها، وبالإضافة إلى ذلك فقد أدى هذا التباين في التجارب والخلفيات إلى أن تصبح عملية الدمج بين الجامعتين لحظة احتكاك حادّ بين ذاكرتين جمعيتين متناقضتين، وقد أفضى هذا التداخل إلى بروز ثنائيات رمزية متقابلة داخل الفضاء الجامعي، تمثّلت في طلاب النظام مقابل طلاب المحرر، والمتعاون مع النظام البائد “الشبيح أو الفلول” مقابل الثائر. غير أنّ هذه الثنائيات لم تبقَ محصورة في نطاق التوصيف الاجتماعي وإنما تحوّلت إلى نظام رمزي لغوي يُعيد من خلاله كل طرف إنتاج ذاته عبر نفي الآخر وتشييئه، وعلاوة على ذلك لعبت اللغة داخل الحرم الجامعي دوراً محورياً في ترسيم الحدود الهوياتية، فقد استخدم طلاب الجامعة الرسمية مفردات مثل “طلاب أعزاز” كأدوات لنزع الشرعية المعرفية عن تجربة جامعة المحرر، في حين لجأ طلاب الجامعة المنبثقة عن الثورة إلى توصيفات مثل “المكوعين” في سياق نزع الشرعية الأخلاقية عن نظرائهم. نتيجة لذلك أصبح الخطاب الجامعي ميداناً للصراع الرمزي بين شرعية الجامعة الأم من جهة، وشرعية الجامعة الحرة من جهة أخرى، ونتيجة لذلك أصبحت اللغة تؤدي وظيفة مزدوجة: فهي من جهة تعبّر عن الانتماءات السياسية والهوياتية، ومن جهة أخرى تعيد إنتاج هذه الانتماءات في تفاصيل الحياة اليومية، من النقاشات الصفّية إلى التفاعلات في المجموعات الطلابية على وسائل التواصل الاجتماعي. ومن منظور العنف الرمزي عند بورديو يتضح أن هذا الصراع لم يقتصر على مضمون المعرفة وإنما امتدّ ليشمل من يملك حق تعريفها وتحديد مشروعيتها، حيث مارس كل طرف سلطة رمزية على الآخر عبر الخطاب.

أدوار الفاعلين في تحويل الصراع إلى فرص لإنتاج السلام الجامعي والمجتمعي:

يشكّل الحقل الجامعي فضاءً اجتماعياً تتقاطع فيه الهويات والأفكار، ما يجعله ميداناً حيوياً لتحويل الصراع إلى فرصة لإنتاج السلام الاجتماعي، لاسيما أن هذا الفضاء يكتسب أهمية خاصة نظراً لتعدُّد الانتماءات والتجارب التي يحملها الطلاب والأساتذة على حدّ سواء، وما يعكسه ذلك من حاجة ملحّة إلى إعادة بناء الثقة والهوية المشتركة، وتتداخل في هذا المسار أدوار عدة فاعلين، أبرزهم الطلاب بوصفهم المحرك الأساس للتفاعل الإيجابي عبر الحوار والمشاريع المشتركة، والأساتذة، وإدارة الجامعة التي تضع السياسات والبرامج الداعمة للدمج، وبالإضافة إلى ذلك المنظمات المدنية في تعزيز التعاون وبناء منصات حوارية تفاعلية. انطلاقاً من هذا التنوّع، يبرز التساؤل حول الكيفية التي يمكن من خلالها تحويل الصراع بين الأنا والآخر داخل الحرم الجامعي إلى طاقة بنّاءة لإنتاج السلام، بعيداً عن اعتبار كل طرف أن الآخر يسلبه حقه، وبالتالي يتطلب الأمر تبنّي استراتيجيات تفاعلية متوازنة تهدف إلى تحويل ثنائيات الصراع الطلابية إلى آليات لإعادة بناء الثقة وتعزيز الهوية المشتركة بحيث تشمل هذه الاستراتيجيات أدوات متنوعة، مثل: الحوار الأكاديمي المفتوح بين الطلاب، وورش العمل التفاعلية التي تُعزّز فهم التجارب المتباينة، والمشاريع البحثية المشتركة التي تدمج الخبرات الطلابية بشكل أكاديمي. إضافة إلى ذلك يمكن للجامعة تفعيل برامج تعليمية وأنشطة مشتركة بين طلاب الفروع المختلفة لتعزيز التفاعل اليومي، ما يوفّر تجربة أكاديمية واجتماعية موحّدة تُعزّز القيم المدنية والوطنية، وتدعم الدمج الهوياتي بين الطلاب من خلفيات وتجارب متباينة، كما تساهم هذه الأدوات في ترسيخ سردية الثورة السورية كقيم وطنية جامعة، عبر التأكيد على مبادئ الحرية، الكرامة، المواطنة، والمساواة كأسس للتفاعل داخل الحرم الجامعي، ما يُعزّز احترام التعدد والاختلاف ويتيح لكل طالب التعبير عن هويته ضمن إطار جماعي جامع. وبذلك يمكن أن يصبح التفاعل بين الأنا والآخر آلية لإعادة إنتاج الهوية الجامعة وترسيخ القيم التحررية والاجتماعية التي قامت عليها الثورة، بما يعكس الالتزام بسردية وطنية جامعة تتجاوز الانقسامات السياسية والأيديولوجية، ويسهم في تحقيق وحدة الإنسان من خلال احترام التعدد والاختلاف، والاعتراف بخصوصيات كل فرد التي تُميّزه، بما في ذلك حقه في تشكيل وإظهار هويته، وهو مطلب إنساني أساسي يسعى الجميع لتحقيقه والتعبير عنه في الواقع اليومي.

عموماً، تظهر تجربة دمج جامعة حلب الرسمية مع جامعة المحرر أن الحقل الجامعي في سوريا يشكّل أكثر من كونه مؤسسة تعليمية، فهو فضاء لإنتاج الشرعية وإعادة تعريف الهوية الوطنية، فالاعتراف الرسمي بجامعة المحرر كان لحظة رمزية تعكس العدالة الأكاديمية وترسيخ قيم الثورة السورية، بما في ذلك الحرية، الكرامة، والمواطنة، كسردية وطنية محقة تستحق تعزيزها في الفضاء الجامعي، ومن أبرز الأدوات لتعزيز هذه السردية توجيه العناوين والمقررات الدراسية نحو تبنّي قيم الثورة ومبادئها، لا سيما على مستوى رسائل الماجستير والدكتوراه في العلوم الإنسانية والاجتماعية، فقد لوحظ إيقاف العديد من الرسائل التي تُمجّد نظام الأسد أو تنسجم مع سرديته، وهو إجراء يهدف إلى منع إعادة إنتاج الخطاب الرسمي القديم داخل الفضاء الأكاديمي، فضلاً عن تحويل البحوث إلى أدوات إنتاج معرفي جديد من خلال التركيز على المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة نظام الأسد البائد، بما يسمح بفهم تأثير السياسات القمعية وأشكال المقاومة المجتمعية، ويعيد الاعتبار للتجارب الشعبية والتحررية التي مثّلت جوهر الثورة السورية.

وفي هذا السياق، تتحمّل وزارة التعليم العالي مسؤولية جوهرية في وضع استراتيجية تعليمية وطنية تعزز التفكير النقدي وتكرّس قيم المواطنة، فضلاً عن تفعيل آليات الشراكة مع الهيئات الطلابية ومنظمات المجتمع المدني لتأسيس مجالس حوار جامعية تدير التعدُّد الهوياتي وتوجّه التوترات الطلابية نحو مسار بنّاء ومثمر كما يتيح هذا التوجّه الأكاديمي إعادة رسم خرائط المعرفة الجامعية بحيث تتماشى مع القيم الوطنية التحررية، وتخلق فضاءات حوارية وبحثية تكرّس سردية الثورة السورية كمرجعية أخلاقية ومعرفية، وتعزز الانتماء الجامعي المشترك وترسّخ العدالة المعرفية والأكاديمية. وبذلك تتحوّل الجامعة الموحدة من فضاء انقسام رمزي إلى مختبر لإنتاج السلام المعرفي والاجتماعي، ورافعة مركزية في مشروع إعادة بناء الهوية السورية على أسس العدالة والتعددية والانتماء المشترك، مع تثبيت قيم الثورة السورية كمرجعية وطنية جامعة تتجاوز الانقسامات السياسية والأيديولوجية.

إجازة في العلوم السياسية ويدرس ماجستير في العلاقات الدولية، كاتب مهتم في القضايا السياسية والاجتماعية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى