
الدبلوماسية البرلمانية في سوريا ودورها بدعم السياسات الخارجية: من العزلة إلى بناء الثقة الدولية
مقال تحليلي صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري
مقدمة:
مع اقتراب انعقاد أولى جلسات مجلس الشعب بعد الانتخابات الأخيرة، تتجّه الأنظار إلى الدور الذي يمكن أن يضطلع به البرلمان في المرحلة المقبلة، وخاصة فيما يتعلق بترميم الثقة الداخلية وتجاوز دوره الذي كان أقرب إلى “مجلس تصفيق” خلال فترة حكم النظام البائد.
وبالتوازي مع الدور المأمول والمنتظَر من السوريين في أن يُراقب البرلمان الأداء الحكومي ويُقرّ التشريعات الداعمة للاستقرار والتنمية ويُعزّز التمثيل الشعبي الحقيقي، تبرز أهمية التفكير في تجاوز الدور التقليدي نحو مسارات أكثر تأثيراً، ومنها المساهمة في السياسات الخارجية عبر ما يُعرف بـ”الدبلوماسية البرلمانية”.
ففي المراحل الانتقالية يمكن للبرلمان أن يُشكّل أحد أبرز مسارات استعادة الحضور الخارجي للدولة، خاصة عندما تواجه القنوات الرسمية قيوداً دبلوماسية أو قانونية، كما إن تعزيز حضور البرلمان على الساحة الدولية يُعتبر تطوراً طبيعياً في سياق توسيع أدوات التأثير الناعم للدولة بحسب ما تُشير العديد من التجارب لدول خرجت من صراعات أو نزاعات، بحيث يُصبح البرلمان أداة فاعلة لكسر العزلة وإيصال الرسائل السياسية.
وعليه، يسعى هذا المقال التحليلي إلى تقديم قراءة مُيسَّرة في مفهوم الدبلوماسية البرلمانية من خلال عرض نماذج واقعية أسهمت فيها البرلمانات في بناء صورة دولها بعد الأزمات، وذلك لاستكشاف ما يُمكن أن يستفيده البرلمان السوري الوليد من هذه الخبرات في مرحلة إعادة الاندماج الدولي واستعادة الحضور الخارجي.
كما يتناول المقال أهم الوظائف الممكنة التي يستطيع البرلمان السوري أداءها على الصعيد الخارجي، وما يواجهها من تحديات بنيوية وسياسية، قبل أن يختم بعرض أبرز الأدوات العمليّة التي تُمكّنه من التحوّل إلى فاعل حقيقي في السياسة الخارجية بحيث يُعبّر عن تطلُّعات السوريين ويُعيد الثقة بدور مُؤسّساتهم.
الدبلوماسية البرلمانية: تجارب عربية وعالمية
اكتسبت الدبلوماسية البرلمانية في العقود الأخيرة أهمية متزايدة ضمن الأدوات الحديثة للسياسة الخارجية، خاصة في الدول الخارجة من صراعات أو أزمات حادة، حيث توسَّعت أدوارها من صياغة التشريعات الداخلية إلى منصات فاعلة في إعادة صياغة صورة الدولة خارجياً، وبناء جسور الثقة مع الأطراف الدولية.
تُعرّف الدبلوماسية البرلمانية اليوم بوصفها مجموع الأنشطة التي يقوم بها أعضاء البرلمان، أو المؤسسات البرلمانية ككل في الشأن الخارجي للدولة بهدف تعزيز الحوار وتبادل الخبرات والدفاع عن قضايا وطنية أو كسب دعم خارجي لعمليات الانتقال السياسي والتعافي[1].
وقد شهدت السنوات الماضية بروز عددٍ من التجارب التي تؤكد فاعلية هذا الدور، ففي تونس مثلاً لعب المجلس الوطني التأسيسي بعد الثورة دوراً مهماً في التعريف بالمسار الديمقراطي الوليد، وكان أعضاؤه نشطين في التواصل مع برلمانات أوروبية[2]، ما ساهم حينها في إعادة إدماج تونس في الفضاء الدولي بعد سنوات من العزلة.
أما البرلمان المغربي فشهد خلال العقد الأخير تطوراً ملحوظاً في حضوره الدبلوماسي الخارجي عبر مشاركته المنتظمة في المنتديات الإقليمية والدولية، مثل منتدى التعاون البرلماني العربي-الأوروبي والجمعية البرلمانية للاتحاد من أجل المتوسط[3]، وقد أسهم هذا الانخراط في تعزيز الحوار بين الثقافات ومواجهة خطاب الكراهية، إضافة إلى ترسيخ صورة المغرب كفاعلٍ برلماني معتدل يُسهم في إرساء الجسور السياسية والإنسانية بين الضفتين العربية والأوروبية.
وفي مصر، شهد مجلس النواب نشاطاً متزايداً في الدبلوماسية البرلمانية خلال السنوات الأخيرة، من خلال استضافة وفود برلمانية من دول إفريقية وآسيوية وتنظيم منتديات للحوار البرلماني، بهدف تعزيز التعاون جنوب–جنوب وتبادل الخبرات التشريعية والدستورية[4].
إجمالاً، شهدت السنوات الأخيرة تطوراً ملموساً في أداء البرلمانات العربية على صعيد الدبلوماسية البرلمانية، حيث تحوّل هذا المجال من نشاط بروتوكولي محدود إلى أداة مؤسسية فاعلة لدعم القضايا العربية، وقد برز في هذا السياق البرلمان العربي الذي أطلق عام 2021 مركز الدبلوماسية البرلمانية العربية ليكون أول منصة عربية متخصّصة تُعنى بتنسيق المواقف وتطوير القدرات البرلمانية في مجال العمل الخارجي[5].
كما تنشط البرلمانات العربية في المحافل البرلمانية الدولية مثل الاتحاد البرلماني الدولي، والجمعية البرلمانية للفرنكوفونية، والبرلمان الإفريقي[6]، وفيها يتم طرح المواقف العربية حول قضايا رئيسية كحقوق الإنسان، والتنمية والأمن الإقليمي، حيث يتيح هذا الحضور إظهار رؤى البرلمانات العربية على المستوى الدولي.
بالانتقال إلى جنوب إفريقيا، فقد شكّل البرلمان بعد نهاية نظام الفصل العنصري أداة قوة ناعمة لنقل رؤية جديدة تقوم على المصالحة والتعايش، ما ساعد في تسريع عودة الدولة إلى موقع فاعل في النظام الدولي[7]، أما في دول البلقان ومنها كوسوفو فقد كان للبرلمان دورٌ محوري في كسب الدعم الدولي للاعتراف بالدولة، عبر الوفود البرلمانية التي تنقّلت في أنحاء أوروبا لشرح أبعاد المرحلة الجديدة وبناء التحالفات التدريجية وبناء تعاون برلماني دولي مع مختلف المنظمات والهيئات البرلمانية الدولية أو المجموعات البرلمانية الثنائية[8].
على مستوى التجارب الأوروبية، ورغم اختلاف السياق واستقرار البيئة السياسية فيها مقارنة بالدول الخارجة من النزاعات، إلا أنه من المفيد التوقف عند النموذج الأوروبي في تنظيم الدبلوماسية البرلمانية، إذ يُعدّ البرلمان الأوروبي أحد أبرز الأمثلة التي كرّست هذا المفهوم كممارسة مؤسّسية مستقلة ومؤثرة، ففي موقعه الرسمي يُعلن البرلمان الأوروبي أنّه طوّر دوراً هاماً في تشكيل كيفية تعامُل الاتحاد الأوروبي مع الدول غير الأعضاء[9]، وأنه يستخدم أدوات متنوّعة من التشريع والرقابة والميزانية للمساهمة في سياسة الاتحاد الخارجية.
ومن خلال الدبلوماسية البرلمانية ينخرط البرلمان الأوروبي في حوار سياسي مع حكومات وبرلمانات ومجتمع مدني في دول خارج الاتحاد، عبر وفود رسمية، ولجان برلمانية مشتركة، واجتماعات في منتديات دولية مثل مجموعة الدول السبع G7 أو العشرين G20، وقد ساهم هذا النمط البرلماني في بناء علاقات ثقة طويلة الأمد مع برلمانات الدول الأخرى، وتمكين تلك البرلمانات من التقارب مع قيم وقوانين الاتحاد الأوروبي.
أما في تجربة كندا، فيعود انخراط البرلمان الكندي في الدبلوماسية الدولية إلى ما قبل تأسيس وزارة الخارجية[10]، ففي عام 1911 ساهم في تأسيس نواة رابطة الكومنولث البرلمانية، ومنذ عام 1912 أصبح عضواً في الاتحاد البرلماني الدولي، فضلاً عن أن البرلمان الكندي يُحاول تعزيز حضوره وفاعليته الخارجية عبر المساهمة باستضافة اجتماعات دولية هامة مثل تنظيمه أول اجتماع لرؤساء برلمانات مجموعة العشرين G20 عام 2010، أو مراقبة انتخابات رئاسية وتشريعية في بلدان مختلفة[11].
هذه التجارب التي جاءت على سبيل المثال لا الحصر تُظهِر أن البرلمانات يمكن أن تتحرّك خارجياً وتكون في صميم مشروع بناء الدولة الجديدة، عبر توظيف أدوات دبلوماسية مرنة أقل تكلفة وأقرب إلى نبض الشعوب ومخاوفها، الأمر الذي يفتح الباب أمام البرلمان السوري الوليد، أن يبني رؤيته الخاصة للدبلوماسية البرلمانية كجزءٍ من مشروع إعادة تعريف الذات الوطنية في الداخل والخارج على السواء.
من السياسة الداخلية إلى الدبلوماسية البرلمانية: أهم وظائف خارجية ممكنة للبرلمان السوري الجديد
بالتزامن مع محاولة سوريا استعادة حضورها الإقليمي والدولي والانفتاح على العالم، يُصبح البرلمان أحد أهم أدواتها لتجسيد صورة الدولة الجديدة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الدبلوماسية البرلمانية لا تقتصر على تبادل الزيارات أو المجاملات البروتوكولية.
في هذا السياق يبرز عدد من الوظائف التي يمكن أن يؤديها البرلمان السوري الجديد على المستوى الخارجي، منها:
- بناء الثقة السياسية بمشروع سوريا الجديدة ورغبتها في طي حقبة النظام البائد: فبدل أن تظل الرسائل الدبلوماسية السورية حكراً على الخارجية أو السفارات، يمكن للبرلمانيين أن يكونوا سفراء للنوايا الحسنة لسوريا الجديدة عبر الوفود التي تزور البرلمانات العربية والأوروبية والآسيوية وغيرها، وتنقل خطاباً جديداً قوامه المصالحة والانفتاح، وأن المرحلة القادمة مختلفة عن ماضي الاستقطاب والعداء، فمثل هذه التحرُّكات قد تُمهّد الطريق لمزيدٍ من الانفتاح السياسي.
- تسهيل الحوار في قضايا حساسة: تُمثّل الدبلوماسية البرلمانية قناة آمنة يمكن من خلالها مناقشة ملفات قد يصعب على الحكومة التعامل معها بشكل مباشر خاصة أن بعض الدول فيما يبدو ما زالت مترددة في تطبيع علاقاتها الكاملة مع سوريا الجديدة، وهنا يمكن للبرلمان عبر لجانه أو وفوده المتخصصة أن يؤدي دور الجسر الذي يهيئ الأرضية لإعادة التواصل، من خلال لقاءات برلمانية ثنائية أو مشاركات في المنتديات الإقليمية، تُطرح فيها القضايا الإشكالية بلهجة تفاوضية غير رسمية تتيح تبادل الرسائل وفهم المخاوف والعمل على تقليلها.
- الدفاع عن القضايا الوطنية على المستوى الدولي: ويكون ذلك من خلال المشاركة النشطة في الاتحادات البرلمانية والمنظمات الإقليمية مثل الاتحاد البرلماني العربي أو البرلمان الآسيوي أو الجمعية البرلمانية للفرنكوفونية.. الخ، حيث يمكن للبرلمان السوري أن يُقدِّم روايته للأحداث، ويواجه السرديات المغلوطة التي سادت خلال سنوات الحرب، ويُعيد تعريف موقع سوريا الجديدة في النظام الدولي الجديد.
- التركيز على بناء شراكات برلمانية ثُنائية ومُتعدّدة الأطراف: حيث يمكن أن تُعدّ مدخلاً عملياً لإعادة إدماج سوريا في المجتمع الدولي، من خلال تأسيس مجموعات صداقة برلمانية مع الدول التي تُبدي استعداداً للتعاون، وأن يُفعّل البرلمان السوري حضوره في المنظمات البرلمانية الإقليمية والدولية بحيث تُترجَم إلى مشاريع ملموسة مثل الدعم الفني لبناء المؤسسات، وتبادل الخبرات، أو تنسيق المواقف حول القضايا السورية الملحّة مثل ملف اللاجئين والعقوبات وإعادة الإعمار.. الخ.
- تأسيس مجلس استشاري برلماني للجاليات السورية في الخارج: تُمثّل الجاليات السورية اليوم واحدة من أبرز روافع القوة الناعمة للدولة الجديدة، نظراً لانتشارها الواسع في أوروبا وأمريكا والعالم العربي، ولما تمتلكه من خبرات ومواقع مهنية وعلاقات مؤسسية يمكن توظيفها لدعم مسار التعافي والانفتاح[12]، وفي هذا الإطار يمكن للبرلمان أن يُؤسّس مجلساً استشارياً برلمانياً يضم ممثلين منتخبين من الجاليات تكون مهمته الاستماع إلى مقترحاتهم، وتنسيق التواصل مع البرلمانات المُضيفة، والمساهمة في بلورة مبادرات اقتصادية وثقافية تخدم المصلحة الوطنية.
مثل هذا النموذج مستلهَم من تجربة المجلس المغربي للجالية المقيمة بالخارج الذي تأسَّس عام 2007 وأتاح للرباط تطوير علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع أوروبا من خلال إشراك جالياتها في رسم السياسات العمومية ذات الصلة بالهجرة والتعاون الدولي[13].
وبالقياس على الحالة السورية، يمكن لهذا المجلس أن يكون أداة تُساعد في استعادة الثقة بين البرلمان والمجتمعات السورية في الخارج، ومن جهة أخرى يستفاد من السوريين المغتربين لبناء جسر دبلوماسي فاعل لشرح التحوّل السياسي الجاري، ومواجهة ناعمة لإعادة تقديم سوريا إلى العالم على أسس المشاركة والانفتاح.
- تفعيل الدبلوماسية الاقتصادية البرلمانية: حيث تُعد إحدى الأدوات العملية القادرة على تسريع التعافي وربط الاقتصاد السوري مجدداً بمحيطه الإقليمي والدولي، إذ يمكن للّجان البرلمانية المتخصصة -كالتخطيط والاقتصاد والمالية- أن تضطلع بدور نشط في التواصل مع غرف التجارة واتحادات المستثمرين والبرلمانات الاقتصادية العربية والدولية من أجل استقطاب الاستثمارات وتقديم ضمانات تشريعية مُحفّزة.
التحديات البنيوية والسياسية أمام الدبلوماسية البرلمانية السورية:
على الرغم من الوظائف المذكورة والفرص الواسعة التي تُتيحها الدبلوماسية البرلمانية لتعزيز حضور سوريا الخارجي بعد مرحلة الانقطاع الطويل، إلا أن هذا المسار قد يواجه مجموعة من التحديات البنيوية أو السياسية التي قد تُبطء من فاعليته أو تحصره في الدور الرمزي دون أثر ملموس.
أول هذه التحديات يتمثّل في محدودية الخبرة الدبلوماسية لدى الكثير من النواب الذين يخوضون التجربة للمرة الأولى، ورغم أنهم يدخلونها بحماس كبير إلا أنه يبدو غير مسنود بمعرفة كافية، ما يجعل من الأهمية بمكان أن يدمج البرلمان ضمن خطته الداخلية برامج تأهيل دبلوماسي مركّزة بالتعاون مع مراكز الدراسات السورية الموثوقة التي تملك الخبرة في هذا المجال أو منظمات أممية أو برلمانات صديقة بحيث تتيح للنواب الاطّلاع على آليات الحوار الدولي وإدارة الوفود، وهنا يُستحسَن أن يتعامل النواب مع هذه البرامج باعتبارها جزءاً من بناء القدرات الوطنية لا مسّاً بمكانتهم أو تشكيكاً في خبرتهم، وأن يدركوا أن الاحتراف الدبلوماسي لا يقوم على القناعة الذاتية فقط، بل على الفهم العملي لطبيعة العلاقات الدولية ومتطلباتها المتغيّرة.
التحدي الثاني يتمثّل في غياب الأحزاب السياسية الفاعلة عن المشهد السوري حتى الآن، وهو غياب يُضعِف التعددية داخل البرلمان، ومع تعقُّد آلية الانتخاب الأخيرة قد تنظر بعض الدول والهيئات الدولية إلى البرلمان الجديد على أنه امتداد لصوت السلطة التنفيذية أكثر مما هو ممثّل للتعدد السياسي والمجتمعي، ولكن مع ذلك فإن هذه المعضلة لا تُبرّر الجمود، بل تفرض على البرلمان أن يعمل تدريجياً على خلق حياة سياسية ناضجة داخل أروقته، وتشجيع قيام أحزاب ناشئة تُعبّر عن مصالح المواطنين بما يمنح البرلمان السوري شرعية تمثيلية أوسع ويُعزّز صورته الخارجية كمؤسّسة تعبّر عن مجتمع متنوع لا عن كتلة سياسية واحدة.
أما التحدي الثالث فهو القيود القانونية والسيادية التي قد تُقيّد حركة البرلمان في الملفات ذات الحساسية العالية مثل الاتفاقات الأمنية، أو العلاقات مع القوى الفاعلة الإقليمية والدولية المتدخلة في سوريا، فالكثير من هذه الملفات يبدو أن الحكومة الانتقالية تعتبره ضمن صلاحياتها، ما يُقلّص مساحة المبادرة البرلمانية.
التحدي الرابع يتمثل في غياب منظومة تقييم ومتابعة واضحة لأثر الأنشطة البرلمانية الخارجية، فبينما تستطيع الحكومة قياس نتائج زياراتها ومفاوضاتها عبر الاتفاقيات الموقَّعة، قد يصعُب على البرلمان تحديد أثر اجتماعاته أو وفوده في تحسين صورة الدولة أو تعزيز العلاقات الدولية، ما يجعل بعض الأصوات تُشكّك في جدوى الإنفاق أو الاهتمام بهذا المسار.
وفي هذا السياق أيضاً يبرز هنا التحدي الثقافي الداخلي، حيث ينظر الكثير من السوريين إلى العمل البرلماني باعتباره شأناً تشريعياً داخلياً لا علاقة له بالسياسة الخارجية، في حين أن إقناع الرأي العام بأهمية هذا الدور شرطٌ أساسي لاستدامته وشرعنته.
نحو دبلوماسية برلمانية سورية متوازنة:
تُظهِر التجارب المقارنة للدول التي خرجت من حروب أو نزاعات طويلة أن الطريق نحو برلمان مؤثّر خارجياً يبدأ بخطوات صغيرة، لكنها منضبطة ومستمرة، فالبرلمانات التي نجحت في إعادة تعريف صورتها بعد الحروب لم تبدأ بخطابات سياسية كبرى، بل ببناء ثقة متدرّجة عبر ممارسات بسيطة ومتاحة مثل زيارات عمل محدودة، ولجان مشتركة، وتواصل مُنظَّم مع المنظمات الإقليمية، حتى أصبحت بعد سنوات طرفاً معترفاً به في العلاقات الدولية.
إن الفكرة الجوهرية التي يُمكن للبرلمان السوري الجديد تبنّيها هي أن الفاعلية البرلمانية في الخارج تُبنى عبر المصداقية في الداخل، فكل جلسة تُدار بشفافية وكل مساءلة علنية للحكومة وكل قانون يحدّ من الفساد ستُمثّل إشارة إيجابية للعالم بأن سوريا تتغيّر فعلاً لا قولاً، وبالتالي تصبح الدبلوماسية البرلمانية امتداداً طبيعياً لمسار الإصلاح الداخلي.
من الناحية العملية، يمكن للبرلمان أن يبدأ بتأسيس وحدة دائمة للدبلوماسية البرلمانية تُعنى بالتخطيط للعلاقات الخارجية ومتابعة نتائجها، بحيث تتحول الزيارات والاجتماعات إلى سياسة مؤسسية مستمرة، كما يمكنه إطلاق برنامج تبادل برلماني سنوي يتيح لنوّاب مختارين التواصل مع نظرائهم في البرلمانات العربية والإقليمية ضمن ملفات مُحدّدة كالإعمار والعدالة الانتقالية.
وفي هذا السياق، تبرز أهمية البيانات والمواقف السياسية التي يصدرها البرلمان الوليد بشأن القضايا الإقليمية والدولية، مثل القضية الفلسطينية أو الأزمات الإنسانية، إذ تمثل هذه البيانات صوتاً عن الرأي الشعبي وتؤدي دوراً في الضغط على الحكومات والمنظمات الدولية.
إلى جانب ذلك، يُستحسن أن يُنشئ البرلمان مجالس استشارية دائمة تضم ممثلين عن الجاليات السورية والخبراء المستقلين من مراكز الفكر والدراسات السورية الموثوقة التي تشكلت بعد الثورة واكتسبت خبرة واسعة في تحليل السياسات الدولية، لتكون أذرعاً ناعمة تساعده في إيصال صوت سوريا الجديدة إلى الخارج، فالمغتربون بخبراتهم وشبكاتهم الواسعة يمكن أن يشكلوا قوة دعم دبلوماسية واقتصادية متقدمة إذا تم توظيفهم ضمن إطار مؤسسي مُنظَّم، ومراكز الفكر السورية يمكن أن تعطي خلاصات تجارب دولية ناجحة في مراحل ما بعد النزاعات، وتقدّم دعماً فنياً مباشراً للجان البرلمان عبر إعداد أوراق سياسات مختصرة قبل كل زيارة أو لقاء خارجي تتضمن خرائط مصالح الدول المعنية، واتجاهات الرأي العام فيها، ومقترحات للخطاب والرسائل الأساسية التي يمكن تبنّيها.
كما يمكن للّجان المتخصّصة أن تُمارس دبلوماسية اقتصادية برلمانية تقوم على فتح قنوات مباشرة مع غرف التجارة والاتحادات الدولية، وتطوير تشريعات استثمارية أكثر جذباً، ما يجعل البرلمان شريكاً في التعافي الاقتصادي.
ختاماً، إن تحويل البرلمان السوري إلى فاعل دبلوماسي فعلي يتطلّب خطوات تراكمية هادئة، وإدراكاً أن الاعتراف والثقة الدولية يتحقّقان عبر الأداء المؤسسي الرصين، والإيمان بأن تمثيل سوريا الجديدة يبدأ من بناء صورة ناضجة في الداخل قبل أي منصة دولية.
باحث مساعد في مركز الحوار السوري، يعمل ضمن وحدة تحليل السياسات، كتب وشارك في العديد من الأوراق المتعلقة بتحليل سياسات الفاعلين في سوريا، يحمل إجازة في الأدب العربي من جامعة الفرات السورية، عمل كاتباً وصحفياً ومدققاً لغوياً لعدة سنوات في العديد من المواقع والقنوات الإخبارية.




