
السوريون و”الجُرح الأخلاقي”.. لماذا يصبح “الاعتراف” و”الاعتذار” أولوية لطيّ صفحة الماضي؟ (2)
قدَّم كتاب “الإصلاح الأخلاقي: إعادة بناء العلاقات الأخلاقية بعد الخطأ” الذي قُمنا باستعراضه في المقال السابق، والذي يُعتبر أحد المراجع الهامة التي يُعتمد عليها في تصميم عمليات بناء السلام الكثير من التفسيرات حول تأثير الصراعات العنيفة على المنظومة الأخلاقية للمجتمع ودوائر الثقة فيه، وسرد العديد من الأسباب حول أهمية أن يقوم المجتمع ونخبه -لاسيما تلك الفئات التي خذلت الضحايا- بأدوار محورية في إعادة بناء السلم الأهلي بعد الصراعات وذلك لطي صفحة الماضي والمضي قدماً نحو المستقبل.
يُقدِّم الكتاب تفكيكاً لمفهوم الخطأ الأخلاقي ودوره في تدمير الثقة المجتمعية وهدم التوقعات، بالإضافة إلى تشويه منظومة القيم الأخلاقية واستبدالها بمنظومة أخرى، والتي تتطور في حالة الأنظمة الديكتاتورية وتسمح بحدوث ما يُسمّى بـ “الشر الأخلاقي” عند وقوع الجرائم الكبيرة. في هذه المرحلة تصبح الجماهير الصامتة والمؤيدة والمنتفعة جزءاً من حالة مجتمعية تفقد فيها القيم معناها العملي، ويصبح فيها الناس “أدوات” أو “متفرجين” داخل منظومة ظالمة. يخلُص الكتاب إلى أهمية امتثال هذه الشرائح لمسؤولياتها الأخلاقية وإعادة بناء منظومة قيمية جديدة وعقد اجتماعي، على اعتبار أن المؤشر الحقيقي لإعادة الاستقرار وبناء السلام يكمُن في القدرة على إطلاق مسار جديد للثقة المجتمعية لا غياب السلاح فقط.
وبالنظر إلى التوترات المتكررة التي برزت بوضوح خلال الأشهر الماضية يبدو جلياً أن ما حدث خلال حكم نظام الأسد، لاسيما في العقد الأخير قد خلّف أشكالاً متنوعة وعميقة من الجروح؛ لا يمكن أن تتعافى بالتجاهل خاصة مع حالة الانقسام السياسي والبيني الذي لا يمكن تجاهله ويستدعي تدخُّلات سريعة، فقد انقسم المجتمع إلى أربع كتل: مؤيدة لنظام الأسد، ومعارضة له، وكتلة منتفعة من وجوده لم تتورط بالانتهاكات، وأخرى “رمادية” لا تريد تبنّي موقف واضح لأسباب مختلفة.
الجُرح الأخلاقي السوري والانقسامات المجتمعية العميقة:
تورَّط نظام الأسد وحكومته وأزلامه بجرائم متنوعة؛ ابتداءً بإعطاء الأوامر، وتجاوز القوانين، وتبديد مصادر الدولة ونهبها، ودفع البلاد إلى حرب ذات صبغة طائفية مقيتة، وتدمير الاقتصاد، وصولاً إلى التورط في جرائم حرب وانتهاكات حقوقية كالقمع والاعتقال والإخفاء القسري، ثم التجويع والحصار والقصف بمختلف أشكال الأسلحة الذكية والغبية والمحرمة دولياً، حتى التهجير والقتل الجماعي، ومصادرة الأملاك والمتاجرة بأطفال المعتقلين، وغيرها من الجرائم التي تستدعي محاسبة عادلة لا مهادنة فيها.
لم يكن نظام الأسد وحده مسؤولاً عن هذه الانتهاكات، بل كانت معه فئات أيّدته تورطت بدرجات متفاوتة؛ فمنها مَن تورّط بجرائم كالتجسس وكتابة التقارير، والتربُّح من معاناة عائلات المعتقلين، والتعدّي على الأملاك، والتعفيش والسرقة، واستغلال السلطة للانتقام، والشماتة والتحقير، والتحريض والسخرية من معاناة المحاصرين، واختلاق الأكاذيب وغيرها من السلوكيات التي دعمت جرائم النظام وسرديته بشكل غير مباشر.
وإلى جانب هذه الشريحة ظهرت شريحة أخرى لم تتورط في الجرائم المنسوبة ولم ترضَ عنها، لكنها لم تجد رادعاً أخلاقياً من التعامل مع المجرمين وتجميل صورتهم، والتعاطي معهم كجهات شرعية رغم ما تورطوا به من دماء؛ فقد وجدت هذه الشريحة أن الحفاظ على مصالحها المختلفة –الشخصية أو العامة– أهمّ وأجدى من اتخاذ أي موقف أخلاقي ستكون عواقبه كبيرة، وتشمل هذه الفئة شريحة من التجار والمثقفين والفنانين والأكاديميين ورجال الدين من مختلف الطوائف، الذين كانت لكل منهم حجج شتى وتبريرات متنوعة قد يكون جزء منها محقّاً وصادقاً في بعض الجوانب.
بينما كانت هناك شريحة واسعة ممن تجاهلت الجرائم طالما أنها لم تطلها، فلم يكن للقصف أو التهجير أو الحصار أو القتل تأثيرٌ محرك لاتخاذ أي موقف طالما أن الجريمة لم تمسّها بشكل مباشر، ولم تعتبر نفسها معنية باتخاذ موقف مما يحدث سلباً كان أو إيجاباً، بل رأت أن ما يحدث في هذا الفضاء العام خارج عن دائرة اهتمامها وإن كانت له تداعيات اقتصادية وأمنية أثّرت فيها بشكل ما ونغّصت روتين حياتها اليومي.
وفي الوقت ذاته، كانت هناك شريحة ثائرة لم تتحرك لمصلحة شخصية ولا ابتغاء ميزة خاصة؛ إذ كانت ترنو إلى مستقبل أفضل وتطالب بمطالب عامة، كالحرية والكرامة ورفع قانون الطوارئ والعدالة والتعددية والمساواة، وكانت تعتقد أن ما تطالب به مطالب محقة وهي محل إجماع العقلاء وأصحاب النزاهة، وأن رغبتها في التغيير نحو نظام جديد سيكون محل إجماع الغالبية وسيدفع بالآخرين للضغط والاعتصام والاحتجاج حتى ينال الجميع الفرصة نحو بناء مستقبل أفضل.
وبين هذه الفئات الأربعة عاش السوريون 14 عاماً شهدوا فيها امتحانات قاسية جداً وانتكاسات مختلفة، توسعت فيها الهوة وزاد فيها الشرخ، حتى جاء قدر الله في الموعد المحتوم، فسقط الأسد برجالاته وشخوصه، لكنه ترك إرثاً من الدمار المجتمعي لا تخطئه عين؛ فقد ظهرت الانقسامات الإثنية والعرقية والأيديولوجية والسياسية بأشكال متنوعة، وباتت أطراف تتربص بأخرى، مطالبةً بطيّ صفحة الماضي بشكل نهائي، وتحاسب على ما تراه من حقوق كاملة لها في الحاضر والمستقبل وكأن شيئاً لم يكن.
لقد بذلت الشريحة المعارضة للأسد الكثير، وضحّت في سبيل ثورتها من أجل حقوق عادلة تطال الجميع، ومن أجل حرية وقانون ينظم مسار الحياة لكامل الإثنيات والجماعات، لكنها في الوقت ذاته لم تتعافَ من الجروح التي ما زالت تُنكأ يومياً مع معاينة حجم الدمار الشاسع واكتشاف مقابر جماعية جديدة، ومع ذلك يُطالبون بتقديم مزيد من التنازلات والمبادرة وإثبات حُسن النوايا.
لماذا يطالب السوريون بعضهم بالاعتذار والعزل السياسي؟
تكررت المواقف المختلفة التي رفض فيها جمهور السوريين المعارضين للأسد التعاطي أو التفاعل مع جهات أو شخصيات أو جماعات كان لها ماضٍ سابقٌ أو تعاملٌ علنيٌّ تأييديٌّ مع ذلك النظام المجرم، وتحولت هذه المواقف لقضايا رأي عام شغلت الكثيرين وزادت من انقسام الشارع المنقسم أساساً، فيما يصرّ آخرون على عدم صوابية وصف مَن بقي في مناطق سيطرة نظام الأسد البائد بـ”المؤيدين” أو “المكوعين” ويصرّون على أنّ بقاءهم كان شكلاً من أشكال الثبات في وجه التغيير القسري الذي كان يُفرض.
لسنا هنا في صدد تفكيك هذه الرواية التي لا يمكن تعميمها على جميع الشرائح ولا الحكم عليها، لاسيما وأنها معنية بالنوايا التي لا يطّلع عليها سوى الله، لكننا وإن كنا نتفهم هذه التبريرات إلا أننا نجد أنه من الضروري تفكيك المشهد السابق وتوضيح مجموعة من “الأخطاء الأخلاقية” التي تحدَّث عنها الكتاب التي نتجت عن هذه المواقف، وتستدعي من هذه الفئات “المنتفعة” و”المجبرة” و”الصامتة” الاعتذار وتحمُّل مسؤولية إصلاح الخراب الذي أسهمت به بشكل ما. ومن هذه الأخطاء:
- دعم الجريمة وتعويم المجرم وإعطاؤه الشرعية:
لقد أسهمت الفئات التي أيّدت نظام الأسد شكلياً، واستفادت منه، وسكتت عنه بحدوث “حالة الشر الأخلاقي” بشكل ما، فأسهمت بمواقفها المتنوعة بتمزيق العقد الاجتماعي بين السوريين، وبتدمير مفهوم المواطنة والعدالة والمساواة والتعاون والعيش المشترك، وذلك عندما سمحت للفئة المجرمة بالقتل والإبادة وإيقاع عقوبات جماعية بإخوانهم وشركائهم في الوطن دون استشعار أية قدرة على الضغط أو الخوف من ردة فعل مجتمعي، وقدّمت هذه الفئات الثلاث بسكوتها وتجاهلها رسالة غير مباشرة للضحايا بأنكم لستم ذوي قيمة أو أهمية، ولا مانع من الضرر الذي لحق بكم طالما أننا بعيدون عن ذلك.
لم تكن ردود الفعل الغاضبة على النُّخب التي سكتت أو أيّدت النظام المجرم فحسب، وإنما كانت الحساسيات تظهر بشكل أكبر مع بعض الشخصيات والجماعات التي ادّعت أنها مرغمة لكنها مارست حالة مبتذلة من التملق والاحتفاء بالمجرم وشركائه، وتماهت مع سياساتهم ووافقتها، وخاصة من بعض الشخصيات المشهورة كالمفكرين والأكاديميين والفنانين وبعض “النخب الدينية[1]” من مختلف الإثنيات. لقد زيّن هذا التأييد المبتذل -وإن كان ظاهرياً كما يدَّعون- صورة المجرم، وأعطاه شرعية، وأرسل له ولأعوانه رسائل واضحة بأنهم ليسوا منبوذين من محيطهم، وأن جرائمهم الأخلاقية محل نظر يمكن تقبُّلها في سياقات مختلفة وتحت أسماء رنانة كـ “مكافحة الإرهاب” و”التكفير” و”الدعشنة” و”المؤامرة الكونية”، وغيرها من المصطلحات التي حُمّلت ما يزيد عن حمولتها، وكرّرت الأخطاء السابقة التي أعادت تطهير صورة الأسد الأب لعقود رغم ما اقترفته يداه في مجازر تدمر وحماة وغيرها في الثمانينات من القرن الماضي.
هذا الموقف من التجاهل، أو الإهمال أو تأييد المجرم أو التطبيع معه والاعتراف بشرعيته أشعرَ الضحايا بأنهم لم يعودوا جزءاً من المجموعة نفسها، ولا تجمعهم منظومة أخلاقية واحدة مع المؤيدين والصامتين، بل فضّلوا التهجير من مناطقهم عندما فُرض عليهم شرط الولاء المطلق مقابل المواطنة.
ومما زاد من الانقسام تجاهُل الظلم والقمع والإبادة التي استمرت لسنوات، والتوجُّه المجتمعي للوم الضحية على استفزاز الجاني أو التجرُّؤ على مطالبته بحقوقه و”جرّ البلاد نحو الخراب”؛ لذا أسهمت هذه المواقف ولا تزال بتعميق الشرخ، وخلقت حالة من خيبة الأمل الكبيرة بأشخاص ومؤسسات وتجمُّعات كان يُتوقع منها مواقف أكثر أخلاقية تلتزم الحق ولا تحيد عنه.
- زيادة الانقسام وتشويه صورة النُّخب وأدوارها:
يدرك الثائرون الذين انتفضوا على نظام الأسد المجرم أنهم اختاروا بإرادتهم تبنّي مواقف أخلاقية وهم يعلمون أنهم سيدفعون ثمنها، وقد كانوا واعين أنه لا يمكن الطلب من الجميع أن يتحرك بالدوافع نفسها وبالشجاعة ذاتها، وأن هناك العديد من الأسباب الخاصة التي قد تدفع بالآخرين بعيداً عن دعمهم ومساندتهم. وربما بالغ بعضٌ منهم في توقعاتهم من النُّخب -خاصة من “النخب الدينية”- عندما اعتبروهم حملة لواء التغيير والوقوف في وجه الباطل؛ لكن هذه التوقُّعات نسيت أنهم بشر يعتريهم الضعف، ونسيت أيضاً البيئة والقيم الجديدة التي زرعها ذاك النظام الديكتاتوري في سوريا لعقود، وكانت تُعزّز التشرذم والفرقة والنجاة الفردية، وتسحب من القيم الوطنية الجامعة معانيها الأخلاقية.
ومع كل المحاولات التبريرية لم تستطع بعض الجموع الغاضبة أن تتجاوز أو تنسى حالة الخذلان، لاسيما وأن بعض الشخصيات من الفنانين والمفكرين والأكاديميين و”النخب الدينية” قد انقلبت في مواقفها المؤيدة، وانتقلت من ضفة إلى ضفة دون أن تتنازل بتقديم أي اعتذار أو تبرير أو اعتراف بجزء من مسؤوليتها الأخلاقية عما حدث، بل استمرت في حالة الاستعلاء والتجاهل، وواجهت هذا الغضب الشعبي بحجج سخيفة ادّعت فيها أنها مستهدفة نتيجة مواقف أو معارك سابقة أو بسبب صراعات بين المناهج الفكرية، دون أن تُدرك أنها تفتح باباً واسعاً لمزيد من التشرذم ومزيد من الصراع.
لقد قدّمت بعض هذه النخب الدينية -على سبيل المثال- شاهداً حيّاً على حالة من الانفصال الحادّ بين جوهر التديُّن وممارسته، وقدّمت نموذجاً عن “رجل الدين” بأنه شخص متلون يُظهر ما لا يُبطن، يعمل بالتقية، ولا يجد حرجاً في الكذب مراراً ليحافظ على المنبر وعلى مصالحه، ويرى أن التعامل مع المجرمين والظالمين وجهة نظر، حتى لو كرّروا الجريمة مجدداً وهو ما دمر ما تبقى من “الثقة المجتمعية” وفقاً لووكر، وكأنّ هذه “النخب” تقول: إن عادت الظروف كما كانت فسنعود للمواقف نفسها وسنخذلكم من جديد.
بينما ساهم العديد من المثقفين والأكاديميين بعملية تزييف الحقيقة واحتلال معاقل الثقافة والعلم وتسييسها، فتحولت الجامعات لمنابر سياسية وأُجبر الطلاب على تبني الرواية أو قبولها ظاهرياً، ولوحق الطلبة المعارضون وغُيِّبوا في السجون والمعتقلات، لقد سطر هؤلاء آلاف المقالات والمؤلفات وخرجوا على مئات الفضائيات ليدافعوا عن الجريمة عن وعي، ويشككوا في الأدلة بإصرار، ويكيلوا المديح للمجرم وأعوانه، وفتحوا المراكز والمنابر الثقافية للترويج للرواية المزيفة وسردية النفوذ الإيراني الذي تغلغل في البلاد كالسرطان[2].
لقد كسر سكوت هؤلاء النخب كل “التوقعات الأخلاقية”، وهدم ثقة شرائح مجتمعية واسعة بهم؛ لأن هذه النخب قد ألزمت نفسها أدبياً وأخلاقياً -وفقاً للأدوار التي مارستها وما تزال تمارسها- بالدفاع عن الحق والصدق والقيم والصواب وانتقاد أشكال الظلم والخطأ التي تعلمُها؛ لكنها عندما وُضعت على المحكّ فشلت في الاختبار، وانقلبت على كل الالتزامات، وتراجعت عن كل القيم، وأعطت لنفسها من التبريرات ما لم تجد فيه حرجاً ولا حاجة للاعتذار.
- تشويش منظومة القيم الأخلاقية وتقديم منظومة جديدة:
لقد كسر نظام الأسد بسياساته الثقة المجتمعية المهترئة، وغذّى كل العوامل التي تزيد الشقاق، ودفع أعوانه إلى توسيع الشرخ عندما قُوبلت جرائم الحصار والتجويع والقصف الممنهج بالتحريض والتشفّي من البعض، أو حتى التذمّر والرغبة بالانتهاء والحسم السريع، مما أسهم بتعميق الجرح وزيادة الألم وترسيخ الشرخ. لقد أعاد نظام الأسد البائد التأكيد على أن منظومة القيم غير الأخلاقية السابقة هي التي ستُنظم المجتمع السوري مستقبلاً، والتي ستعيد التركيز مجدداً على قبول الظلم والسعي للنجاة الفردية وتجاهل المسؤولية وتغليب المصلحة الذاتية، والولاء والتطبيع مع الجلّاد ولوم الضحية.
وقد كانت الجريمة الأكبر التي ارتكبتها النُّخب تشويش قيم الصواب والخطأ، من خلال دعم المجرم والثناء عليه وترك مَن يريد الإصلاح والتغيير وحدهم دون معين، فقدّمت بعض النخب الدينية المنبر على أنه موضع يقبل الظلم ويُثنى فيه على الظالم، تُقدَّم فيه تعاليم الإسلام مجتزأة يُؤخذ منها ما هو للاستهلاك ولتسلية الجماهير والتحكم في حياتهم وتوجهيهم الأخلاقي بما لا يتعدى حدود حياتهم الضيقة، وتستبعد القيم الناظمة لمجالات الحياة التي يُعد تطبيقها شكلاً من أشكال الجهاد المفروض على الإنسان.
لقد استُخدمت بعض المنابر للترويج لسرديات الإرهاب وجهاد النكاح والتآمر مع الخارج، وتقتيل الأقليات والتوعد لهم، وتحولت إلى مراكز لعملية تحريض ممنهجة وإثارة الفزع والخوف من الآخر وانتقامه ليقطع أي أمل في مصالحة أو وصول إلى حل، بينما بقيت منابر أخرى باهتة الصوت والأثر تحاول قدر الإمكان ترقيع الواقع وسدّ الاحتياجات في مواضع ليست الأولى بالنظر الى السياق السوري برمته.
لم تكن قضايا تزكية النفس والالتزام بالقيم الإسلامية في أحيان عديدة ذات تأثير حقيقي وعميق؛ لأنها لم تحقق التغيير المنشود لحاملها والداعي لها، ولم تلزمه باتباعها ظاهراً وباطناً، فلم تربط هذه الدروس الوعظية الجمهور بجوهر الدين ومقاصده، بل ربطتهم في حالات عديدة بشخصية الشيخ وزادت من شعبيته، حتى انتفضوا لمن يحاول أن ينتقده ولم يكترثوا أن صاحبهم هذا لم يلزم نفسه بما يقوله؛ ولذا فإن حالة إنكار جمهور بعض المشايخ لوقوع الخطأ ومجانبة الصواب تعكس إشكالية جديدة، حيث يصبح الحق مزاجياً يرتبط بالأفراد لا بالقواعد المتوافق عليها دينياً وقانونياً واجتماعياً، ويصبح هؤلاء الأنصار الصامتون جنوداً مُجنَّدة ترفض “الظلم والعسف” الذي حاق بشيخهم بينما لا تجد حرجاً أن تسكت عن ظلم وجور طال الملايين ولسنوات.
وفي ذات الوقت تحوَّل الفن وأربابه إلى أدوات رخيصة تخدم المستبد وسياسته، وتسعى لقلب الحقائق والدفاع عن المجرمين، وتشويه قيم الحق والبطولة والوطن من خلال تقديم المجرم بطلاً والضحية شيطاناً، فتجند العديد من الفنانين لعملية شيطنة الآخر وإظهاره بأفظع الصفات التي تخدم سردية الإرهاب الدارجة باستخدام الكوميديا تارة والدراما تارة أخرى وكافة وسائل الإعلام المرئي والمكتوب والمسموع وعلى صفحاتهم الشخصية أيضاً، فتحوّلوا إلى أدوات تلمّع الصورة الملطخة بالدم وتتلاعب بعقول العامة والشباب، ولم يكتفوا بذلك بل انتقلوا إلى دور الوصاية والنقد بعد سقوط الأسد محاولين استعادة أدوارهم، وتقديم أنفسهم كنخب ثقافية ومدافعين عن قيم الحرية والعدالة، وحراساً على الوطن، محاربين للفساد وناقدين للفاسدين.
لم تشعر هذه النخب بأي حرج من تبنّي مواقف جديدة ومن ثم استعادة التصدُّر للمشهد، ولم يستشعروا الحاجة إلى وقفات مع أنفسهم، ولا الاعتذار عن الأذى الذي تسبّبوا به والذي يوجب عليهم “الاعتراف والاعتذار” امتثالاً لمسؤوليتهم عن الضرر، بل زاد بعضهم في حالة التلوّن عندما حاولوا سرقة السردية مجدداً، وادعاء المظلومية وإعادة التملُّق للسلطة الجديدة، معتبرين أن الجماهير مجرد جموع لا قيمة لرأيها وصوتها، وأنها ستقبل بهم مجدداً كما قبلت بهم سابقاً تفتح لهم المنابر والمنصات، وأنهم سيستعيدون مكانتهم وأدوارهم السابقة دون عناء.
سوريا الجديدة ومسؤوليات إصلاح الخطأ الأخلاقي:
إن النُّخب التي ارتأت أن تبقى في البلاد أو تناصر الأسد تتحمّل مسؤولية أخلاقية راسخة لتصحيح الخطأ وترميم الفجوة التي أسهموا بتوسيعها بطريقة ما؛ فقد أدّت مواقفهم المنفصلة عن المبادئ التي كانوا يتغنّون بها بتشويش صورة المثقف والأكاديمي والشيخ والداعية، وتقديمه شخصاً فاقد المصداقية متلوّناً، وأداة في يد السلطة، لا فرداً مسؤولاً عن المساءلة، والتقويم والنصح والتصحيح، كما أظهروا أن خطابهم الإصلاحي الجامع لا يشمل عموم السوريين، وإنما هم معنيّون بهموم الفئة التي ترضى عنها السلطة ويكترثون لواقعها فقط، والأسوأ في هذا كله أنهم عزّزوا القيم الاجتماعية غير الأخلاقية القائمة على قبول الظلم والكذب والتدليس والتحايل، والتعامل مع المجرمين دون أي حرج أخلاقي، وشوّشوا الحدود بين والخطأ والصواب، وجعلوا الولاء للفرد لا للقيم الأخلاقية الجامعة التي تُشكّل أساس العقد الاجتماعي.
إنّ طيّ صفحة الماضي والخوف من المواجهة بحجج مختلفة ما هو إلا عملية تأجيج للتوتر، وإعادة إنتاج للصراع بأشكال جديدة، فضلاً عن كونه تعميقاً للشروخ المجتمعية لأنه يترك البنية الأخلاقية المشوهة للمجتمع كما هي وفقاً لووكر، وإن مسؤولية تصحيح هذه البنية تتطلّب وجود نخب شجاعة من الإثنيات كافة، تُعيد النظر في الماضي بحكمة وشفافية، وتستنفر لإعادة الموازين الصحيحة والترويج للقيم الأصيلة.
إنّ هذه النُّخب مطالبة بتحمُّل مسؤولياتها، وبتصحيح الخطأ والدفع باتجاه كتابة ميثاق وعقد اجتماعي يتعلّم من دروس الماضي ولا ينكرها، لا يُسمح فيه بأن يقع الظلم على أحد، ولا يرضى بالسكوت عن الخطأ، ولا يشعر أحد بالحرج من الاعتذار؛ بل يعيد بناء أواصر الثقة المتبادلة ويبرز النوايا الحسنة لكافة الأطراف، فيستفيد الجميع من جوّ الحرية ليدعم قيم الكرامة والعدالة، ويستخدم النقد والمصارحة لإعادة البناء على أسس سليمة، وتقديم نموذج للفرد المصلح الذي لا يختلف ظاهره عن باطنه، وتقود قيمه جزئيات سلوكه.
إن الأذى المعنوي والأخلاقي الذي أصاب شرائح واسعة من السوريين لا يمكن أن يعالج بالتعويض المادي فقط، ولا علاج له إلا بإدراك عمق الهوّة وحجم الخطأ المرتكب من جميع الفئات والشرائح والأقليات وكل مَن شارك في المنظومة السابقة. وإن الاعتراف والاعتذار واجب لا مِنّة للضحايا؛ لأنه يعيد الكرامة للمتضرّرين، ويرأب الصدوع في علاقات الثقة المتبادلة، ويؤكد أن ثمّة مساراً أخلاقياً جديداً سيبنيه السوريون جميعاً، يتعلمون فيه من خطايا الماضي، ويتخذون كل التدابير التي تمنع تكرارها مجدداً بحقهم أو بحق غيرهم؛ إذ ليس المطلوب تحميل الجميع الذنب على السويّة ذاتها، بل إشراك الجميع في عملية إصلاح الضمير الجمعي، وإعادة بناء منظومة أخلاقية سليمة ترقى للتضحيات العظيمة، وتُنظّم مستقبل سوريا القادم.
مديرة الوحدة المجتعية في مركز الحوار السوري، بكالوريوس في الهندسة من جامعة دمشق، دبلوم في التخطيط العمراني وإعادة الإعمار المستدام، عملت في مجال الإعلام المكتوب والمسموع لعدة سنوات، نشرت العديد من الأوراق والتقارير البحثية في مواضيع سياسية واجتماعية، وخاصة ما يتعلق بأوضاع اللاجئين وقضايا المرأة




