
الضمانات القانونية الدولية لحقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف ومتطلبات الإصلاح القانوني والأمني في سوريا الجديدة
ملخّص:
تطوّرت قواعد قانونية دولية خاصة بحقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف تدريجياً بما شكّل مجموعة من الضمانات التي ازدادت أهميتها والاستناد إليها من قبل القضاء الجنائي الدولي واللجان الدولية بما فيها لجان المعاهدات ولجان التحقيق، تبعاً لعوامل عديدة من أهمها أن بيئة السجون عادة بيئة مغلقة يتم فيها ارتكاب الكثير من الانتهاكات، سواء في البيئات المستقرة أو الهشة على حدّ سواء.
تستعرض هذه الورقة عبر منهج تحليل النصوص القانونية والمنهج الوصفي التحليلي، فضلاً عن المنهج المقارن، مجموعة الضمانات الدولية والطبيعة القانونية لها، ومن جانب آخر تسعى لاستقراء أبرز الممارسات الخاصّة بالرقابة المستقلة على تطبيقها، كما تبحث في حالة البيئات الهشة بوصفها أكثر تعقيداً من الناحية العملية والحقوقية بغية الاستفادة من الإطارين القانوني والتطبيقي في إعمال حقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف بالتزامن مع الإصلاح القانوني والأمني في سوريا الجديدة، والتي يتطلع الشعب السوري أن ترقى لقيم ومبادئ الثورة السورية، وهو ما تعلنه السلطة العامة باستمرار.
توصّلت الورقة إلى مجموعة من التوصيات العملية لإعمال حقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف في الحالة السورية تُركّز على أربع خطوات رئيسة تبدأ من إصلاح الإطار القانوني، مروراً ببناء قدرات كوادر السجون من مرحلة التعيين إلى مرحلة العمل، وأخيراً عبر تفعيل أدوار المجتمع المدني ومأسسة قضايا الرقابة الداخلية والخارجية.
مقدمة:
يرتب القانون الدولي بما فيه القانون الدولي لحقوق الإنسان والدولي الإنساني مجموعة من الالتزامات التي يجب الوفاء بها لحقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف، سواء للأشخاص قيد المحاكمة أو المدانين أو بعض الفئات الخاصة كالنساء، والتي تنطبق في جميع الأحوال، سواء في حالة الدول المستقرة، أو في حالات عدم الاستقرار “البيئات الهشة”، وذلك بهدف ضمان الحق في المعاملة الإنسانية لكل الأشخاص الذين سُلبت حريتهم[1].
تتضمن هذه القواعد القانونية “الضمانات” الخاصة بحقوق الإنسان للسجناء أقساماً رئيسة عديدة؛ منها: مجموعة الشروط القانونية المتعلقة بأماكن الاحتجاز، كالاعتراف الرسمي بأماكن الاحتجاز، وتوفير معلومات دقيقة متاحة للأهل والأصدقاء، وأخرى متعلقة بالاحتجاز والسجن كمعاملة جميع الأشخاص المجردين من حريتهم معاملة تليق بكرامتهم الإنسانية، وعدم جواز التمييز بينهم، وشروط إيواء السجناء والحق في الأنشطة الترفيهية.. الخ. وقواعد خاصة بتفتيش أماكن الاحتجاز وآليات تقديم الشكاوى.
تشير عدة تقارير حقوقية إلى وجود فجوات في تطبيق هذه الضمانات في البيئات المستقرة، أما تطبيقها في البيئات غير المستقرة كالتي تشهد نزاعات مسلحة أو تخرج من نزاعات طويلة يغدو أمراً أكثر تعقيداً، نظراً لانتشار ثقافة انتهاك حقوق الإنسان الأساسية كالقتل خارج نطاق القضاء وعمليات الإخفاء القسري… الخ.
بالانتقال إلى الحالة السورية، فقد عانى السوريون لعقود طويلة من رعب معتقلات نظام الأسد، كسجن تدمر وسجن صيدنايا التي شكلت مسالخ بشرية تُرتكب فيها أشد جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، أما السجون الجنائية العادية كالسجون المركزية ورغم اختلافها عن الأولى؛ فإن ظروفاً لا إنسانية عديدة كانت لصيقة بهذه البيئة مع غياب الرقابة الحقوقية ومنطق حقوق الإنسان عنها.
مع إسقاط نظام الأسد البائد وانطلاق عملية هيكلة واسعة وخاصة في وزارة الداخلية السورية الجديدة التي قدمت رؤية وهيكلية جديدة مؤخراً تتضمّن تعهّدات رئيسة باحترام حقوق الإنسان وكرامة المواطن وبناء القطاع الشرطي والأمني على أسس جديدة مغايرة للعقود السابقة[2]، أصبحت هنالك فرصة للبحث في آليات ضمان بيئة سجون مختلفة عن الموروث السابق.
يتطلب بناء سوريا الجديدة على أساس القطيعة مع الماضي عبر تطبيق منظومة العدالة الانتقالية[3]، والاستفادة من نتائج الإصلاح المؤسساتي والقانوني التي انطلقت في المرحلة الانتقالية[4]، التركيز أيضاً على سبل إعمال أكبر قدر ممكن من الضمانات القانونية الدولية في بيئة السجون وعدم إغفالها، ذلك أن الامتثال للمعايير الدولية فيها يُعدّ أمراً حساساً وذا أهمية كبرى لضمان العدالة والإنصاف في أي نظام جنائي، وأمراً مهماً لحماية الكرامة الإنسانية والحقوق والحريات العامة للشعب السوري.
بناءً على ما سبق، يتمثل السؤال الرئيسي التي تسعى هذه الورقة للإجابة عليه بما يلي: ما هي الضمانات القانونية الدولية لحقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف؟ وكيف يمكن إعمالها في السياق السوري؟
يتفرّع عن هذا السؤال مجموعة من الأسئلة الفرعية الآتية:
- ما الطبيعة القانونية للضمانات الدولية لحقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف؟
- كيف يتم رصد وقياس مدى امتثال الجهات المعنيّة بهذه الضمانات في التجارب المختلفة؟
- ما السمات العامة لظروف الاعتقال والاحتجاز في البيئات الهشة؟
- لماذا يجب توفير أكبر قدر ممكن من الضمانات القانونية ذات الصلة في عملية الإصلاح الأمني والقانوني في سوريا؟
- ما السبل الكفيلة بتطبيق خطة وطنية للالتزام بهذه الضمانات؟
تتمثل أهمية هذه الدراسة في أنها تُسلّط الضوء على قضايا ذات أبعاد قانونية وجنائية من جهة، وترتبط بتطوير البنى المؤسساتية وكفالة حقوق الإنسان من جهة أخرى، وأنها تُركّز على كيفية إعمال الحقوق والحريات العامة عملياً على أرض الواقع في بيئة انتقالية وفي أماكن معزولة عادة عن الأذهان؛ أي بيئة السجون، تقتصر متابعتها من عموم المواطنين على الحوادث التي تأخذ شهرة إعلامية فقط بدلاً من الاهتمام بتفاصيل الحياة اليومية فيها.
كذلك أنها تنتقل من المعايير والقواعد النظرية إلى المستوى التطبيقي بهدف رصد السمات العامة للتطبيق في بيئات النزاع، والوصول إلى السبل الكفيلة بالالتزام بهذه القواعد في سوريا الجديدة بما يُؤسّس لخطة عمل تساعد أصحاب المصلحة كأفراد ومؤسسات إنفاذ القانون ومنظمات وفرق حقوقية على ممارسة أدوارها المأمولة.
تهدف هذه الدراسة إلى المساهمة في إثراء النقاش القانوني السوري عموماً والنقاش حول إصلاح مؤسسات العدالة على وجه الخصوص بما يرتبط بإدماج الضمانات القانونية الدولية لحقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف، وتسعى لتلافي الفجوات القانونية والمؤسساتية في سوريا وتطوير بيئة قانونية استناداً للقانون الدولي بما يُشكّل مرجعية لإدارة السجون لرفع الوعي القانوني والقدرات العملية في القضايا اليومية المرتبطة بالمعايير الدولية في السجون، كما يمكن أن تسهم الدراسة في إيجاد مرجعية علمية تؤسّس لتدريب وتأهيل الكوادر المختصة في السجون ودور التوقيف.
منهجياً، تعتمد الدراسة بشكل رئيس على منهج تحليل النصوص القانونية من خلال دراسة القواعد القانونية على مختلف مستوياتها ومصادرها وطنياً ودولياً بهدف تحليلها وتفسيرها والتعقيب عليها، كما اعتمدت على المنهج الوصفي التحليلي بما يتعلق باستقراء التجارب التطبيقية لتوصيف الواقع وتحليل الممارسات، فضلاً عن المنهج المقارن بما يسمح برصد أوجه الاختلاف والتشابه بين التجارب والاستفادة منها في الحالة السورية كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
تعتمد الدراسة على مجموعة من المصادر الثانوية من خلال الاتفاقات والمنشورات والأوراق، والدراسات، والتقارير الحقوقية، والإعلامية، وتنقسم الدراسة إلى أربعة أقسام رئيسة؛ يركز القسم الأول منها على الإطار القانوني الدولي وما يتضمّنه من ضمانات قانونية ناظمة لحقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف في الصكوك الدولية المختلفة وآليات الإنفاذ، أما القسم الثاني فيبحث في دور الرقابة المستقلة على تطبيق هذه الضمانات، في حين يستعرض القسم الثالث واقع هذه الضمانات في بيئات النزاع لاستقراء أبرز السمات، فيما يُركّز القسم الرابع والأخير على سبل تعزيز الالتزام بالمعايير الدولية في الإصلاح الأمني والقانوني المرتقب في سوريا الجديدة.
أولاً: الإطار القانوني الدولي لضمانات حقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف:
تزايد الاهتمام الدولي في حفظ حقوق السجناء في كل الحالات لاعتبارات عديدة؛ منها أن السجناء عادة فئة منسیّة، فالمحتجز أو السجين يكاد يكون منقطعاً عن العالم الخارجي، ولهذا هو عرضة للمعاملة التي تنتهك حقوقه، وأن موظفي السجون رغم أنهم يتولون القيام بمهام شاقة ومجهدة للغاية نيابة عن المجتمع إلا أنهم يُعانون عادة في بلدان كثيرة من سوء التدريب، لذلك شهد القانون الدولي تطوراً تدريجياً من حيث مراعاة وجود أكبر عدد ممكن من الضمانات الخاصة بحقوق الإنسان على مستوى السجون ودور التوقيف، وهو ما تمثّل بالانتقال من القواعد القانونية في متن اتفاقيات حقوقية عامة، إلى اتفاقيات ومعاهدات خاصة، وصولاً لمعايير ومبادئ محددة ودقيقة وقابلة للقياس في إعلانات ومبادئ أممية، وهو ما تزامن مع جهود للرقابة على مدى التطبيق وتعزيز آليات الإلزام.
1-1: تطوّر الضمانات القانونية في الصكوك الدولية: من النصوص العامة إلى المعايير التفصيلية:
لم ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 بشكل محدد على حالة السجناء رغم تأسيسه لمنظومة حقوق الإنسان ككل[5] ، لكن تدريجياً تزايد الاهتمام الدولي بإيجاد ضمانات قانونية جاءت عبر اتفاقات ومعاهدات ومن خلال إعلانات ومبادئ توجيهية خاصة بحالة حقوق الإنسان للأشخاص مسلوبي الحرية، على سبيل المثال تضمّنت بعض الاتفاقيات الدولية كالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية[6] أسساً عامة تسري على جميع الأفراد، حيث تصف المواد من (6 إلى 15) بالتفصيل الحقوق الأساسية المرتبطة بالحياة وحظر التعذيب والسخرة والرق والحق في المحاكمة العادلة وحقوق الأشخاص المحرومين من الحرية، كذلك تضمّنت اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة التي دخلت حيز النفاذ في عام 1987 حقوقاً للمساجين[7]، كذلك برزت على الصعيد الإقليمي مجموعة اتفاقيات ذات صلة كالاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان وتعديلاتها لعام 1950 [8]، والتي نصّت على عدم جواز تعذيب أي إنسان أو معاملة مهينة أو غير إنسانية (المادة 3)، ووجوب إبلاغ الشخص بأسباب اعتقاله في المهلة الأقصر وباللغة التي يفهمها (مادة 5).
مما سبق، فإن الاتفاقيات الدولية الرئيسة لم تعن بتقديم قواعد شاملة خاصة بحقوق السجناء، إلا أنها قدمت الأساس القانوني الدولي والمعياري التي بنيت عليه قواعد شاملة لاحقة، كما أنها قدّمت بعض القواعد الخاصة بجزئيات محدّدة بشكل متفرق صريح أو ضمني؛ كان أبرزها وأكثرها تركيزاً في اتفاقية مناهضة التعذيب، وعلى ذات النحو جاءت الاتفاقيات الإقليمية.
وعلى الرغم من أهمية المبادئ والقواعد الآمرة ذات الصلة التي أرستها تلك الاتفاقيات؛ إلا أنها لم تفض إلى تشكيل الضمانات الشاملة لحقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف، وعليه فإن الإطار القانوني الدولي الخاص بقواعد حقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف تُشكّل بصورة أوضح من خلال الإعلانات والمبادئ والمعايير التوجيهية[9]، والتي يمكن تقسيمها إلى ثلاث فئات وهي: الصكوك الأساسية الشاملة؛ بمعنى الصكوك التي تشمل جميع السجناء دون تخصيص معيّن، وهي القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء التي أوصى باعتمادها مؤتمر الأمم المتحدة الأول لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المعقود في جنيف عام 1955، وأقرّها المجلس الاقتصادي والاجتماعي في 1957 و1977 [10]، ومجموعة المبادئ المتعلقة بحماية جميع الأشخاص الذين يقعون تحت أي شكل من أشكال الاحتجاز أو السجن، والتي اعتمدتها الأمم المتحدة عام 1988 [11]، والمبادئ الأساسية لمعاملة السجناء والتي اعتمدتها الأمم المتحدة عام 1990 [12]، والصكوك الخاصة ببعض الفئات من السجناء وهي قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لإدارة شؤون الأحداث (قواعد بكين)، والتي اعتمدتها الأمم المتحدة عام 1985 [13]، وقواعد الأمم المتحدة لمعاملة النساء السجينات والتدابير غير الاحتجازية للمجرمات (قواعد بانكوك) والتي أقرتها الأمم المتحدة عام 2011 [14] وأخيراً الصكوك الخاصة بسلوك العاملين الذين يعملون مع الأشخاص الذين سُلبت منهم حريتهم[15]، وعلى نحو مستقل جاءت أهم وأشمل هذه الصكوك التي أصدرتها الأمم المتحدة عام 2015 فيما عُرِف بـ “مبادئ نيلسون مانديلا” والتي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2015 [16]، كقواعد موسَّعة عن الصك السابق الصادر عام 1955، وقد أطلق عليها “قواعد نيلسون مانديلا”، تكريماً لأكثر سجناء القرن العشرين شهرةً.
2-1: أبرز الضمانات القانونية في القانون الدولي لحقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف:
يمكن تحديد مجموعة الضمانات الرئيسة المنبثقة من تلك القواعد وبشكل رئيسي من قواعد نيلسون مانديلا وقواعد بانكوك وبكين، والتي يمكن تقسيمها إلى ضمانات شاملة لكل الفئات وضمانات خاصة بفئات محددة.
1-2-1: الضمانات القانونية الشاملة:
وهي مجموعة الضمانات التي يجب توفيرها لأي موقوف أو سجين بغضّ النظر عن صفاته وأسباب توقيفه أو سجنه، ويمكن إجمالها في تسع ضمانات رئيسة (شكل رقم 9)، وذلك على النحو الآتي:
1-الضمانات العامة:
هي مجموعة مبادئ أساسية تُؤسّس لجميع الضمانات الأخرى وتُركّز على مبدأ الإنسانية والكرامة لكل السجناء، وحماية السجناء من التعذيب وضروب المعاملة القاسية والمهينة في كل الظروف الطبيعية والاستثنائية كحالة البيئات الهشة[17]، وعلى ضمان عدم التمييز بين السجناء وفق أي معيار تحكُّمي، وضمان معاملة تُلبّي احتياجات الفئات الفردية للسجناء، وخاصة الفئات الأضعف، ورسوخ مبدأ تخفيف معاناة العزلة وتقييد الحرية، واعتبار فترة الحبس فرصة لإعادة التأهيل والإدماج في المجتمع عبر توفير التعليم والتدريب وأشكال الدعم، وضمان مبدأ تقليص الفروق بين حياة السجن والحياة الحرة[18].
شكل رقم 1 يُوضّح أبرز الضمانات القانونية الشاملة الواجب توفرها لأي موقوف أو سجين
2-الضمانات التنظيمية والإدارية:
ترتبط هذه الضمانات بأربع جوانب رئيسة؛ الأول: خاص بتنظيم ملفات السجناء [19]، في حين يرتبط الجانب الثاني بطريقة الفصل بين الفئات داخل السجن أو في مؤسسات مختلفة، حيث يفصل بين الرجال والنساء، والسجناء المدانين عن غيرهم، والأحداث عن البالغين[20]، أما الجانب الثالث فيرتبط بالقيود والإجراءات والجزاءات والتي تهدف للحفاظ على النظام العام في السجن وتحقيق حياة مجتمعية جيدة التنظيم[21]، أما الرابع فيرتبط بعمليات التقييد والتفتيش وتشمل الضمانات وضع ضوابط عليها من قبيل حظر السلاسل والأصفاد المهينة بطبيعتها، وتقييد عمليات التفتيش بمبادئ التناسب والمشروعية والضرورة[22].
شكل رقم 2 يوضح أبرز الضمانات التنظيمية والإدارية
3-ضمانات المعيشة الملائمة:
وهي مجموعة ضمانات ترتبط بستة جوانب رئيسة وفق الآتي:
- ما يرتبط بأماكن الاحتجاز: من حيث اختيار النزلاء بشكل مدروس في المهجع الجماعي الواحد، ومراعاة حجم الهواء والإضاءة والمساحة الدنيا لكل سجين، والتي يجب أن تسمح باستخدام الهواء والضوء الطبيعي في القراءة والعمل، وتجهيز الإصحاح بشكل نظيف ولائق[23].
- ما يرتبط بالنظافة الشخصية: بحيث يفرض على السجناء العناية بالنظافة الشخصية وتوفر مستلزماتها، ويمكن السجناء من الحفاظ على مظهر لائق بذواتهم[24].
- ما يرتبط بالثياب ولوازم السرير: بحيث يسمح للسجين بارتداء ملابسه الخاصة أو يزود بملابس لائقة[25].
- ما يرتبط بالطعام: حيث يجب توفير وجبة طعام جيدة وذات قيمة غذائية مناسبة في مواعيد معتادة، وتوفير مياه شرب بشكل دائم[26].
- ما يرتبط بالرياضة: حيث يوفر للسجين غير العامل في الهواء الطلق ساعة على الأقل يومياً لممارسة التمارين[27].
- ما يرتبط بالثقافة والدين: حيث يجب تخصيص مكتبة مخصصة لكل فئات السجن تتضمن كتباً ثقافية وترفيهية[28]، مع تعيين أو اعتماد ممثل ديني إذا توفر عدد معين من السجناء ليتولى إقامة الشعائر بانتظام[29].
شكل رقم 3 يوضح أبرز ضمانات المعيشة الملائمة
4-ضمانات الرعاية الصحية:
والتي تعد واحدة من أهم الضمانات وأكثرها اتساعاً في المعايير الدولية تبعاً لأهميتها على حياة وسلامة السجين، حيث تعد مسؤولية الدولة عن الرعاية الصحية مبدأ رئيسياً، مع ضمان جودة الخدمات الصحية بنفس مستوى الرعاية الصحية المتاح في المجتمع، وأن تكون الخدمات الأساسية مجانية، والقيام بعمليات تقييم الصحة البدنية والعقلية بشكل دوري من دائرة مختصة، والتي تتولى تنظيم الملفات الطبية الفردية التي تتصف بالسرية، وتحول رفقة السجين حال نقله، كما يجب نقل السجناء ذوي الحالات الحرجة إلى مؤسسات مختصة أخرى[30]، ويضاف إلى ذلك واجب القيام بالفحص الطبي الأساسي لدى دخول كل سجين إلى السجن، وواجب توثيق حالات التعذيب أو ضروب المعاملة القاسية وإحالتها للجهات الإدارية والطبية والقضائية، وواجب تقديم المشورة لإدارة السجن حول الغذاء والظروف الصحية في السجن[31].
شكل رقم 4 يوضح أبرز ضمانات الرعاية الصحية
5-ضمانات التواصل مع العالم الخارجي:
والتي تتضمن السماح بالاتصال بالأصدقاء والأسرة على فترات منتظمة عبر الزيارات او المراسلة الإلكترونية أو الكتابية، وفي حال السماح بالزيارات الزوجية يُطبّق ذلك على الجميع بشكل يحفظ السلامة والكرامة، وإتاحة الاتصال السري والمستمر بمحامٍ، مع تمكين السجناء من المتابعة المستمرة لتطورات الأحداث في المجتمع عبر الصحف أو المنشورات أو البرامج الإذاعية.. الخ[32].
شكل رقم 5 يوضح أبرز ضمانات التواصل مع العالم الخارجي
6-ضمانات الرقابة والمساءلة:
وهي الضمانات التي ترتبط بعمليات التفتيش الداخلية والخارجية؛ حيث يجب وضع نظام لعمليات تفتيش داخلية تقوم بها الإدارة المركزية للسجون، وأخرى خارجية للهيئات المستقلة الوطنية أو الإقليمية، ويتمتع المفتشون بصلاحيات تُمكّنهم مع إعمال مهامهم على أتم وجه كالاطلاع على المعلومات ومقابلة السجناء[33].
شكل رقم 6 يوضح أبرز ضمانات الرقابة والمساءلة
7-ضمانات الحق في الحصول على المعلومات وسبل الإنصاف:
تفرض هذه الضمانات تزويد السجناء بالمعلومات اللازمة منذ دخول السجن كالأنظمة والقوانين، والحقوق والواجبات، والمعلومات العامة في السجن، وذلك بلغة يفهمها السجين مع تقديم المساعدة لإيصالها لبعض الفئات كالأميّين، وضمان نشر المعلومات مكتوبة ومعروضة في السجن، كما يجب إتاحة تقديم الشكاوى لمدير السجن باستمرار وإلى مفتش السجون بسرية[34].
شكل رقم 7 يوضح أبرز ضمانات الحق في المعلومات والإنصاف
8-الضمانات الخاصة بكوادر إنفاذ القانون:
والتي تقوم على قاعدة أساسية، وهي واجب الكوادر في احترام وحماية الكرامة الإنسانية[35]، وترتبط بثلاث جوانب رئيسة؛ الأولى هي انتقاء الكوادر بمحددات الكفاءة والنزاهة والإنسانية، مع كفالة أجور جيدة لهم ومنظومة عمل احترافية، أما الثانية فترتبط بالتأهيل والتدريب، ويشمل ذلك التشريعات والصكوك الوطنية، والصكوك الدولية، مع تقديم تدريبات نوعية لبعض الكوادر المعنيّين بفئات خاصة، في حين يرتبط الجانب الثالث بنوعية الكوادر، حيث تشمل كوادر صحية تخصّصية ومساعدين اجتماعيين ونفسيين ومعلمين ومدربين مهنيين[36].
شكل رقم 8 يوضح أبرز الضمانات الخاصة بكوادر إنفاذ القانون
2-2-1: الضمانات القانونية الخاصة ببعض الفئات:
فضلاً عن الضمانات السابقة، تم تخصيص بعض الضمانات تبعاً لظروف السجين ومراعاة للأنموذج الأفضل له، وعليه يمكن تقسيم هذه القواعد الخاصة تبعاً لمعيارين اثنين؛ الأول هو الوضع القانوني للسجين، والثاني هو الوضع الخاص بطبيعته؛ أي الفئة الاجتماعية التي تعد أكثر ضعفاً.
1- وفقاً لطبيعة الحالة القانونية: يمكن التمييز بين السجناء المحكومين والسجناء قيد المحاكمة:
- المحكومون: يجب اتخاذ تدابير ضرورية تمهيداً للعودة التدريجية للمجتمع كنظام المساعدة الاجتماعية، وخاصة عبر المساعدين الاجتماعيّين داخل وخارج المؤسسة؛ أي السجن، كما يُعد المبدأ العام لمعاملة المحكومين طوال فترة السجن هو إكسابهم الرغبة في العيش بعد إطلاق سراحهم في ظلِّ القانون، وهو ما يتطلب مراعاة مبادئ الأمن وتقييم الحالة الفردية وتصنيف السجناء تبعاً لسجلهم الجنائي وطباعهم، مع إتاحة فرصة العمل المناسب في السجن دون استرقاق السجناء أو بقصد تحقيق ربح مادي للسجن مع مكافأة السجناء العاملين بنظام أجور منصف، مع تقديم تدريب مهني خاصة للشباب، وتنظيم نشاطات ثقافية وترفيهية[37].
- السجناء قيد المحاكمة: يجب أن يُعامل أي منهم على أنه بريء، وأن يُفصل عن المدانين، وأن ينام بغرفة فردية، وله شراء طعامه من الخارج على نفقته، وارتداء ثيابه الخاصة، أو يحظى بثياب مختلفة عن المحكومين، وله دائماً الحصول على نفقته على الكتب والصحف ووسائل قضاء الوقت، وله حضور طبيبه الخاص، وله الاستعانة بمحاميه مع كفالة حقه في الدفاع عن نفسه بالوسائل المختلفة كالكتابة أو طلب المشورة.. الخ[38].
2- السجناء الأكثر ضعفاً: يمكن التمييز بين ثلاثة أنماط من السجناء وفقاً لهذا المعيار، وهم السجناء ذوو الإعاقة الذهنية، و/أو المشاكل الصحية العقلية، والسجناء من الأحداث الجانحين، والنساء.
- السجناء ذوو الإعاقة الذهنية و/أو المشاكل الصحية العقلية: تخصيص مرافق صحية لهذه الفئة بدلاً من السجون، ووضعهم تحت مراقبة خاصة، وتوفير العلاج اللازم، مع مواصلة العلاج النفسي والاجتماعي[39].
- السجينات: وهي قواعد ولدت نتيجة للحاجة العملية لإعطاء القدر الكافي من الاهتمام لاحتياجات السجينات، وتبعاً لتزايد أعدادهن في العالم، ولتمثل قواعد إضافية للضمانات العامة للسجناء دون تمييز عبر مجموعة الضمانات من أبرزها: توفير مرافق ومواد ضرورية لتلبية احتياجات النساء الخاصة، والتركيز على الصحة الإنجابية والنفسية والانتهاكات الجنسية السابقة، مع احترام حق السجينات دوماً في الحفاظ على سرية معلوماتهن الصحية[40]، وقضايا السلامة والأمن كاحترامهن أثناء التفتيش[41]، وبناء قدرات الموظفين في سجون النساء، وأن يتم إعداد وتنفيذ لوائح بشأن سلوك موظفي السجن لحماية السجينات من العنف الجسدي واللفظي والتحرّش[42].
- الضمانات الخاصة بالأحداث: وهي قواعد ولدت بهدف إعطاء القدر الكافي من الاهتمام لاحتياجات هذه الفئة الحساسة في المجتمع وكجزء من عمليات التنمية الوطنية، ولتكون أيضاً قواعد إضافية للضمانات العامة للسجناء، كأن يولي نظام قضاء الأحداث الاهتمام لرفاه الحدث ويكفل التناسب، وأن تستخدم السلطة التقديرية للتدابير بقدر كبير من المسؤولية في كافة المراحل، وأن يكون القائمون على هذه المهمة مؤهلين تأهيلاً عالياً[43]، وألا يستخدم إجراء الاحتجاز رهن المحاكمة إلا كملاذ أخير ولأقصر فترة زمنية ممكنة، ويستعاض عنه حيثما أمكن بإجراءات بديلة كالمراقبة أو إلحاق بمؤسسات، ويُفصل الأحداث المحتجزون عن البالغين[44]، وأن يكون الهدف العام من وضع الاحداث في المؤسسات الإصلاحية هو مساعدتهم على القيام بأدوار اجتماعية بناءة في مجتمعاتهم، ويتم إيلاء اهتمام بالبحوث والدراسات الخاصة بجنوح الأحداث ووضع السياسات والخطط وتقييمها[45].
شكل رقم 9 يوضح خلاصة حول ضمانات حقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف
3-1: الطبيعة القانونية للضمانات الدولية:
يمكن القول بشكل عام إن المعايير والقواعد الدولية تنطوي على آثار قانونية مختلفة، ويتوقف ذلك على طبيعة مصدرها، إذ إن مجمل المعايير الخاصة بحقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف تُغطّي نطاق السلطة القانونية الدولية بأكملها، بدءاً من الالتزامات الواردة في المواثيق والاتفاقات، وانتهاء بالتوجيهات العالمية الإقناعية المقدمة في مختلف الإعلانات والقواعد القانونية ومجموعات المبادئ، ولذلك فإن هذه الصكوك مجتمعة تُقدّم إطاراً قانونياً دولياً شاملاً ومفصَّلاً لكفالة احترام حقوق الإنسان وحريته وكرامته في سياق العدالة الجنائية[46].
في هذا الصدد، يمكن التمييز بين نوعين من القواعد؛ الأولى هي الحقوق المكفولة في اتفاقات دولية عامة وهي قواعد آمرة، وترتّب التزامات على الدول عن طريق التدابير التشريعية وغيرها بما فيها إجراءات التظلُّم من انتهاك هذه الحقوق[47]، أما الثانية فهي الصكوك الدولية المحدَّدة لأوضاع السجناء، وآخرها القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء (قواعد نيلسون مانديلا) بوصفها ذات مركز قانوني معقَّد، فمن جانب أشارت الجمعية العامة في قرارها 72 / 193 لعام 2017 إلى الطابع “غير الملزم قانوناً” لقواعد نيلسون مانديلا، لكهنا شجَّعت فيه على التطبيق العملي لهذه للقواعد مع التأكيد بنفس القدر على وضعيتها بوصفها “المعايير الدنيا لمعاملة السجناء المعترف بها عالمياً والمحدَّثة”، ومن جانب آخر فقد أثرت هذه القواعد عملياً على التطورات الوطنية في قانون السجون، وطبقتها المحاكم الوطنية في بلدان مختلفة، وكان لها أيضاً تأثير كبير في مساعدة الأمم المتحدة وغيرها من الهيئات الدولية المسؤولة عن تفسير وإنفاذ المعاهدات الدولية الملزمة، لا سيما المعاهدات التي تحظر التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، وأصبحت ذات أهمية كبيرة في تطبيق القانون الدولي لجهة تفسير حكم عام من أحكام تلك الصكوك التعاهديّة عند تطبيقها على السجناء، حيث طبّقتها اللجنة المعنيّة بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، ولجنة مناهضة التعذيب، واللجنة المعنية بحقوق الإنسان، على الطلبات المقدمة من أفراد يزعمون انتهاك أحكام اتفاقية دولية[48]، وهو ما يجعل قسماً من الفقهاء الدوليين يرون بأن هذا النمط التطوري لمجموع الضمانات والقواعد يرقى ببعض قواعدها إلى مستوى القانون الدولي العرفي[49].
من جانب آخر، وبالنظر إلى الأهمية العملية لهذه الضمانات فقد تجسَّد معيار واضح في تطبيق القانون الدولي للصكوك الاتفاقية على حالة الدولة؛ فهي تطال حالة الدول في شتى الظروف بما فيها حالات الاضطراب والنزاع والظروف الأخرى، وهو ما نصت عليه صراحة قواعد نيلسون مانديلا في القاعدة الأولى[50]، فضلاً عن ذلك فقد كشفت الممارسة الدولية عن شمول هذه الضمانات لحالة بيئات النزاع، وهو ما يظهر من خلال قرارات لجان إقليمية حقوقية عديدة كالمفوضية الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، واللجنة ما بين الأمريكيتين لحقوق الإنسان[51].
الطبيعة القانونية العامة | المعايير والقواعد الدولية تنطوي على آثار قانونية مختلفة وفقاً بمصدرها |
الحقوق المكفولة في اتفاقات دولية عامة كالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية | قواعد آمرة ترتب التزامات |
الحقوق الواردة في الإعلانات والقواعد القانونية ومجموعات المبادئ | مركز قانوني معقد: · ذات طبيعة غير ملزمة (قوة معنوية وسياسية وتوجيهية) · مؤثرة في تفسير المعاهدات الملزمة وتطبيقات المحاكم والهيئات |
النطاق | في البيئات المستقرة وغير المستقرة معاً |
جدول رقم 1 يجيب عن الطبيعة القانونية لضمانات حقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف
4-1: الرقابة المستقلة على ضمانات حقوق الإنسان: نظرة بانورامية في الممارسات المختلفة:
تدريجياً تزداد أهمية الرقابة المستقلة على تنفيذ الالتزامات الحقوقية من قبل أجهزة إنفاذ القانون، وهذه الرقابة تنقسم إلى نوعين رئيسيين؛ الأول عبر الرقابة من مؤسسات رسمية مستقلة لحقوق الإنسان، أما الثاني فمن خلال تنظيمات المجتمع المدني وخاصة المنظمات الحقوقية.
على صعيد المؤسسات المستقلة لحقوق الإنسان والتي تأخذ طابعاً مستقلاً عن مؤسسات الدولة والمنظمات غير الحكومية أيضاً، ويتم إنشاؤها بموجب نص دستوري أو تشريع خاص لتساعد الدول على الوفاء بالتزاماتها في مجال حقوق الإنسان بموجب القانون الدولي، ثمة أنشطة عديدة تمارس عادة من خلال رصد حالة حقوق الإنسان وتقديم المشورة ورفع الوعي الحقوقي والرقابة على مدى التزام المؤسسات المعنية بضمانات حقوق الإنسان[52].
على سبيل المثال، تُركّز الحالة التونسية مؤخراً على الرقابة المستقلة من خلال اعتماد رسمي لهيئتين وطنيتين وهما: الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب، والهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية[53]، أما في الأردن فتتولى هيئة وطنية رسمية مستقلة وهي “المركز الوطني لحقوق الإنسان” الدور الرئيسي في الرقابة على حقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف[54]، حيث يقوم المركز بالزيارات المنسقة وغير المنسقة بالتعاون مع مديرية الأمن العام، ويتلقى الشكاوى، ويقوم بإصدار تقارير دورية علنية عن أوضاع حقوق الإنسان في السجون[55].
أما عالمياً، فيبرز نموذج أستراليا ليقدم مزيجاً من الهيئات واللجان الرسمية الوطنية لحقوق الإنسان بدأ أهمها مع إنشاء مكتب وطني لأمين المظالم لمعالجة شكاوى المواطنين، كما تم إنشاء لجنة اتحادية لحقوق الإنسان في عام 1981، وإنشاء أول هيئة خاصة بالرقابة على السجون تحت مسمى “مكتب مفتش خدمات الاحتجاز” في عام 2000 لتقوم هذه الهيئة بالتفتيش على السجون ومراكز قضاء الأحداث وإعداد تقارير علنية عنها وتتولى الدفاع عن حقوق السجناء.[56]
أما في الأرجنتين، فقد تم العمل على تحسين حقوق الإنسان في البلاد عموما[57]، ومن أبرز الخطوات الحوكميّة في هذا الصدد تم إطلاق خطة وطنية للأمن الديمقراطي في عام 2009 بمشاركة من السلطة والمجتمع المدني والمدافعين عن حقوق الإنسان، والتي تضمّنت عشرة مبادئ تنطبق على ثلاثة قطاعات تمثل السجون واحدة منها، ومن أهم هذه المبادئ كان ترسيخ مبدأ “الرقابة المدنية الداخلية والرقابة الخارجية على الأداء والشرعية”[58].
بالانتقال إلى الرقابة من المجتمع المدني بمختلف مكوناته بما فيها المنظمات غير الحكومية في شتى المجالات، سواء في حالة السلم والاستقرار، أو في حالة البيئات الهشة كحالة النزاعات المسلحة[59]، حيث أصبح للمجتمع المدني دور مهم في الرقابة على القطاع الأمني ككل بما يشمل الإدارة الأمنية والأجهزة الشرطية وأجهزة إنفاذ القانون المختلفة بما فيها حالة جيوش التحرير الوطنية، وذلك من خلال مجموعة من الأعمال والأنشطة المختلفة، والتي تتدرج في القطاعات الأمنية المحوكمة من الدراسات والاستشارات وصولاً إلى المراقبة، وهي الأدوار التي تواجه عادة مجموعة واسعة من التحديات من أبرزها: ثقافة الكتمان في المجتمعات وغياب الثقة بين الأطراف وانقسام المجتمع المدني نفسه وفشله في خلق تحالفات ضاغطة[60].
على سبيل المثال وبعد الثورة التونسية عام 2011 بدأت زيارات رقابية لمنظمات حقوقية تونسية منذ عام 2012، والتي أخدت طابعاً تحالفياً عبر إنشاء فريق وطني تحت مسمى فريق “رصد أماكن الحرمان من الحرية”، والذي تكوَّن من 14 جمعية حقوقية[61]، فضلاً عن الدور الرقابي السابق ثمة تعاون واسع بين وزارة العدل والمنظمات والجمعيات الوطنية المختلفة من خلال اتفاقيات محددة موضوعياً وزمنياً كبرامج ثقافية وسلوكية ومساعدة نفسية ومهنية[62]، إلا أن أدوار المجتمع المدني التونسي وخاصة الحقوقية تواجه صعوبات وتحديات غير مسبوقة منذ عام 2021 [63].
أما في الأردن، فتتسم الحالة العامة بوجود قيود عديدة تشريعية وإدارية تواجه أدوار المنظمات غير الحكومية في مجال الرقابة على حقوق الإنسان، حيث يُنظر إليها كلاعب هامشي وثانوي[64]، وبناءً عليه ورغم وجود زيارات تُنظَّم بالتنسيق مع الأجهزة الحكومية للرقابة على السجون[65]، فإن إصدار تقارير رصد حقوقية للضغط على السلطة وأشهرها تقرير “على الحافة” الذي أصدرته 17 منظمة حقوقية غير حكومية عام 2020 [66]، يعد الخيار الوحيد المتاح[67].
عالميا، وفي النموذج الأسترالي ثمة عدد كبير من المنظمات غير الحكومية التي تنشط في شتى مجالات حقوق الإنسان كتوثيق وكشف الانتهاكات في السجون ودور التوقيف والضغط من أجل إقرار التشريعات الوطنية[68]، تُركّز في قسم منها على قضايا حقوق الإنسان في السجون وتخوض نقاشات مستمرة مع الحكومة أو اللجان الأممية[69]، فيما تُركّز برامج أخرى على دعم التدريب والتأهيل وإعادة الادماج[70]، والتعاون مع المنظمات الدولية غير الحكومية[71].
في حين يقوم المجتمع المدني في الأرجنتين ليس فقط بالتخطيط والتشارك في الدعم البرامجي في السجون، بل بممارسة دور رقابي واسع ومباشر، وقد تم دعم هذه الأدوار من خلال إنشاء قاعدة بيانات عامة لتوصيات التدقيق ومعلومات الامتثال من خدمة السجون الفيدرالية[72]، وهو ما انعكس في زيادة قدرة منظمات المجتمع المدني على مراقبة نظام السجون[73]، كذلك التزمت خطة عمل للفترة من 2019 إلى 2022 بمواصلة تعزيز الرقابة العامة على نظام السجون من خلال إنشاء آلية “تشخيص السجون الوطنية”، وهي دراسة سنوية مصمَّمة بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني والأكاديميين لتقييم قدرة نظام السجون وظروفه من منظور حقوق الإنسان[74].
شكل رقم 10 يوضح أمثلة عمليّة معيارية للأدوار الرقابية للمجتمع المدني
الدولة | طبيعة الرقابة المدنية | شكل الشراكة | التحديات الرئيسية |
تونس | تطور تدريجي وفاعل | تحالفات واتفاقيات | تضييق سياسي وتشريعي بعد 2021 |
الأردن | محدودة نسبياً | ضعيفة، تقارير فقط | القيود التشريعية، التهميش العملي |
أستراليا | متقدمة، مؤسسات متخصصة | برامج وتنسيق | منع الزيارات الدولية |
الأرجنتين | شراكة منهجية كاملة | تخطيط وتنفيذ ومراقبة | تاريخ الانتهاكات |
جدول رقم 2 للمقارنة بين التجارب المختلفة لجهة الرقابة المدنية على ضمانات حقوق الإنسان
ثانياً: السمات الرئيسة لواقع ضمانات حقوق الإنسان في البيئات الهشة؛ النهج العقابي بدلاً من الإصلاحي:
تتميز الدولة الهشة بعدة سمات، ومن أبرزها فقدان السيطرة المادية على أراضيها وعدم القدرة على تقديم خدمات عامة معقولة والنزوح غير الطوعي واسع النطاق للسكان والانحدار الاقتصادي الحاد.. الخ، ويمكن أن تفشل الدول بمعدلات متفاوتة من خلال الانفجار الاجتماعي الشامل أو التآكل على مدى فترات زمنية مختلفة[75]، كما هو الحال في دول عربية عديدة كاليمن وفلسطين وليبيا، وفي مثل هذه الحالات يواجه الأشخاص المحتجزون؛ سواء بموجب أنظمة العدالة الجنائية أو لأسباب تتعلق بالنزاع، سوء المعاملة على نطاق واسع، وظروفاً تُهدّد حياتهم[76]، وبناء عليه تصبح قضايا حقوق الإنسان في هذه الظروف قضية هامة ومعقدة في ذات الوقت.
يظهر واقع الضمانات الخاصة بحقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف في البيئات الهشة التي في المنطقة العربية -وهي بيئات شهدت أو ما تزال تشهد نزاعات وتوترات- وجود مجموعة رئيسة من السمات والتي يمكن إجمالها بما يلي:
- تؤدي الحالة العامة السياسية والعسكرية الميدانية والأمنية إلى انقسام منظومة السجون الرسمية وضعف المركزية في إدارتها وتنظيمها، وإلى وجود سجون ومراكز سرية، وتُمثّل مراكز الاحتجاز السرية دائماً أماكن لممارسة كافة أشكال الانتهاكات بحق السجناء بما يرقى إلى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. على سبيل المثال شهدت ليبيا بعد ثورة 13 فبراير لعام 2011 سنوات طويلة ومستمرة من الفوضى وجود منظومتين رئيسيتين في غرب ليبيا، حيث المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية “المؤقتة”، وفي شرقها حيث تسيطر قوات حفتر[77]، وفي ظل هذه الظروف انتشرت سجون ومراكز اعتقال سرية -غير رسمية- بإدارة جماعات محلية مسلحة في مختلف أنحاء البلاد، واتسمت هذه المراكز بممارسات الإخفاء القسري والاعتقال التعسفي والتعذيب والحرمان من المحاكمة والتواصل مع العالم الخارجي وشتى أنواع الانتهاكات[78].
كذلك في الحالة اليمنية بعد ثورة 11 فبراير، وفي إطار عملية انتقالية نُظّم مؤتمر وطني تحت مسمى “مؤتمر الحوار الوطني الشامل”، وكانت قضية إصلاح السجون حاضرة عبر وثيقته النهائية من خلال التركيز على إعادة الهيكلة وتأمين التمويل وتأهيل الكوادر المعنية.. الخ[79]، ليتغير كل شيء مع حصول انقلاب الحوثي على السلطات الانتقالية عام 2014، حيث انقسمت البلاد لمناطق سيطرة مختلفة[80] ، لتنتشر ظاهرة السجون السرية في مناطق سيطرة جماعة الحوثي ويتم فيها ممارسة أبشع أنواع التعذيب والاعتداء على الكرامة الإنسانية وفق عمليات التوثيق من المنظمات الحقوقية[81]، أما في مناطق سيطرة حكومة هادي ومع ضعف السيطرة الحكومية انتشرت مجموعة من السجون السرية تحت إدارة القوى العسكرية المختلفة في عدن ومأرب وتعز وغيرها[82].
أما في الحالة الفلسطينية، وعلى صعيد مراكز الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية فقد وُثِق رسمياً تكرار لحالات الوفاة في ظل ممارسة عامة للأجهزة الأمنية للضغط الجسدي والنفسي، وسوء معاملة المعتقلين وعدم إتباع الإجراءات القانونية في توقيفهم[83]، كما سجلت تقارير حقوقية مجموعة من الانتهاكات في هذه المراكز منها الأساليب العنيفة، والحبس الانفرادي، والاعتداء الجنسي أثناء الاحتجاز[84].
- على الرغم من علنية الكثير من السجون في البيئات الهشة فإن ممارسة التعذيب والمعاملة القاسية واللا إنسانية تعد سمة عامة مع وجود تفاوت واستثناءات، فقد تصبح ذات نهج مختلط من حيث إتاحة التواصل مع العالم الخارجي، ولذلك يُمثّل التركيز على بيئة هذه السجون وما يجري داخلها أحد الأولويات المهمة. ففي المثال الليبي وفي السجون العلنية الرسمية التي تديرها وزارة العدل في الحكومة الشرعية يمكن ملاحظة مجموعة من الجهود الهادفة لإعمال النصوص الوطنية منها: جهود تنظيم السجلات وإدارة البيانات[85]، حملات رعاية صحية[86]، فضلاً عن الرقابة من هيئة وطنية مستقلة وهي اللجنة الوطنية الليبية لحقوق الإنسان[87]، إلا أن هذه الجهود لم تحرز تقدماً حقيقياً في ملف حقوق الإنسان، حيث استمر الواقع في مستوى متردٍّ[88]، وذلك وسط قلة إمكانيات جهاز الشرطة القضائية بما فيها المعدات الأساسية[89]. أما منظومة السجون العلنية التي تخضع لسيطرة “حفتر” شرق ليبيا فتعد معتقلات للتعذيب وشتى الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان[90]، وبما يشمل النساء والأطفال أيضاً[91]، وفي العديد من المرات كشفت عمليات الرصد والتوثيق عن حجم الانتهاكات وطبيعة الظروف داخلها[92]، مع وجود بعض المظاهر التنظيمية في السجون التي يتم إدارتها من جهاز الشرطة القضائية كتفعيل أنظمة رقابية[93]، وأنشطة ترفيهية واجتماعية[94]، وانفتاح محدود على الزيارات الرقابية[95].
- مع افتراض وجود إرادة لتقديم الغذاء والطعام وتأمين ضمانات المعيشة الملائمة والرعاية الصحية فإن الظروف الاقتصادية والاجتماعية العامة تنعكس بشدة على أوضاع السجناء، وهو ما يتطلب تركيزاً أكبر من المجتمع المدني والدولي على ظروف السجناء. على سبيل المثال في حالة اليمن وعلى صعيد السجون الرسمية ومع ملاحظة التحديات الاقتصادية الكبيرة من جانب والانقسامات في الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي والقوات المحلية والتحالف[96]، اتصفت السجون التابعة لوزارة الداخلية في عدن وحضرموت بوجود اكتظاظ يُقدَّر بثلاث أضعاف القدرة الاستيعابية المعتادة[97]، ومع غياب الرعاية الصحية وضعف البنى التحتية أصبحت الأمراض والأوبئة مخاطر معتادة[98]، أما في حالة فلسطين فإن تقييماً حديثاً لجميع مراكز الاحتجاز في الضفة وغزة عام 2022 كشف عن درجة متوسطة وما دون في جميع المراكز لأسباب عديدة أهمها: نقص التمويل والكوادر الطبية، وتقادم البنى التحتية، والاكتظاظ الشديد، وتبعات أعمال الاحتلال “الإسرائيلي”، وهو ما أدى لتفشّي سلسلة من الأمراض في السجون، من جانب آخر فثمة ضعف شديد في خدمات الصحة النفسية في كلا المنطقتين[99].
- رغم كل الظروف الاستثنائية في هذه البيئات يمكن في كثير من الأحيان وصول هيئات ولجان محلية أو دولية للزيارة والرقابة على السجون العلنية والوقوف على تقييم الحالة، وهو ما يحصل في اليمن، حيث تمارس وزارة حقوق الإنسان في حكومة عدن أدواراً متصاعدة في التوعية والتثقيف والتعاون الدولي في هذا الصدد[100]، في حين تقوم اللجنة الوطنية للتحقيق في ادعاءات انتهاكات حقوق الإنسان[101]، بتنفيذ زيارات تفتيشية ميدانية للسجون ودور التوقيف في مناطق حكومة “هادي” ورصد أوضاع السجناء وتلقي البلاغات والشكاوى حول أي شكل من أشكال الانتهاكات[102].
- تعد الرقابة الوطنية المستقلة بمثابة عين المجتمع على بيئة السجون في حال السماح بالرقابة المباشرة، وذلك من خلال نهج توثيق الانتهاكات، وهو ما يُعد عاملاً مؤسساً رئيساً لتخفيف الممارسات السلبية، على سبيل المثال تظهر حالة فلسطين بموجب أنشطة الرقابة وزيارات الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، لجميع مراكز إعادة التأهيل في الضفة الغربية وقطاع غزة أن التزام مراكز إعادة التأهيل بالمعايير الدولية بلغ في عام 2018م نسبة 54.3٪ في الضفة الغربية و65.1٪ في قطاع غزة، وتمثلت أبرز الإيجابيات بعدم وجود معاملة قاسية من حيث المبدأ، وجودة الطعام والمياه، فيما تمثل تهالك البنى التحتية واكتظاظ السجون أبرز الإشكاليات، أما خلال عام 2019 فانخفض امتثال مراكز إعادة التأهيل للمعايير الدولية بنسبة 8.9٪ بسبب إدراج معايير التقييم تتعلق بالامتثال لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة[103].
- تعاني الفئات التي تحتاج لمعاملة خاصة (النساء، الأقليات) لكارثة مضاعفة في ظل الظروف الاستثنائية، وتصبح عرضة لانتهاكات أكبر بشكل مقصود أو نتيجة عدم توفر الخدمات، وهو ما يظهر بوضوح في حالة ليبيا بخصوص المهاجرين، وحالة اليمن بخصوص النساء.
- انتهاكات حقوق الإنسان في مراكز الاحتجاز ودور التوقيف تنتج عن تداخل عوامل سياسية، إدارية، اجتماعية، وبنيوية، وتنعكس بوضوح حالة الضعف في السلطات المختلفة على كوادر السجون بما فيها الكوادر الخاصة بالرعاية والدعم، وعليه فإن جهداً كبيراً من الإصلاح المطلوب يرتبط بتدريب وتأهيل الكوادر.
ثالثاً: سبل الالتزام بالمعايير الدولية في سوريا الجديدة: الإصلاح التشريعي والإداري
بالانطلاق من نظرة عامة على السجون في سوريا قبل الثورة السورية فقد ارتبط نظام السجون السوري تشريعياً بالقرار الرقم 1222 عام 1929 وتعديلاته، والذي أطلق على السجون في مادته الثانية اسم (المؤسـسة المركزية للعدل والإصلاح)، وهيكلياً تم ربط السجون بوزارة الداخلية من خلال إدارة السجون التي تتبع معاون وزير الداخلية بموجب المرسوم 1623 لعام 1970، ثم صدر قرار رقم 1 لعام 1981 الذي حدد الهيكل التنظيمي لقوى الأمن الداخلي وحدَّد اختصاصات إدارة السجون وفروعها وأقسامها في المراكز والمحافظات[104].
تضمّن نظام السجون مجموعة من القواعد الأساسية كتصنيف السجناء (32 -40)، وحظر استعمال القوة (مادة 30)، وقواعد للطعام وشرائه والنظافة والزيارات والعمل والتدريب المهني (مواد 93-100)، والتعليم (مواد 114-117)، فيما اقتصر دور المجتمع المدني على جمعية واحدة مرخَّص لها وهي جمعية رعاية المساجين، والتي تقدم الدعم وتدير برامج التأهيل والأنشطة الثقافية الأخرى[105].
أما واقعياً، يمكن التمييز بين نوعين رئيسين من السجون في سوريا في ظل نظام الأسد، وهي السجون الجنائية والتي تنتشر في المحافظات كسجن حلب المركزي ودمشق المركزي والتي يمكن اعتبارها من حيث المبدأ سجوناً علنية[106] تنطبق عليها قواعد نظام السجون نظرياً فقط[107]، أما الثانية فهي السجون السرية كسجن تدمر ومراكز الأفرع الأمنية، وهي عبارة عن “مسالخ بشرية” ترتكب فيها شتى أنواع الانتهاكات الجسيمة كالقتل تحت التعذيب بأبشع الطرق[108].
أما بعد انطلاق الثورة السورية، فقد أصبحت السمة العامة لجميع السجون والمراكز تحت سيطرة نظام الأسد بأنها أماكن للإخفاء القسري والتعذيب الممنهج والتجويع والابتزاز وارتكاب أبشع وأسوأ الانتهاكات بحق أبناء الشعب السوري من كل الفئات[109]، فضلاً عن تحويل المشافي لمعتقلات ومراكز تصفية[110]، وانتشار مئات المراكز السرية الصغيرة التي تتبع لمليشيات الشبيحة أو المليشيات الإيرانية[111].
أما حالة السجون ودور التوقيف في مناطق قوى الثورة والمعارضة سابقاً؛ وفي السنوات الخمس الأخيرة فقد استقر المشهد العام على وجود أعداد كبيرة من السجون الرسمية بعد الضغوط لإغلاق السجون التابعة للفصائل[112] والتي تنقسم وفق السيطرة والتحكم إلى نوعين رئيسين؛ الأولى هي السجون التابعة للقضاء العسكري، أما الثانية فهي السجون التابعة لمديريات الأمن “أجهزة الشرطة المحلية”[113].
في جميع هذه السجون الرسمية لم يكن يوجد وصول حقوقي للمنظمات غير الحكومية أو اللجان الدولية أو رقابة من قبل هيئة وطنية مستقلة لحقوق الإنسان، فيما اقتصرت العملية على بعض الزيارات الرسمية القليلة التي يتم إجراؤها[114]، وبعض مشاريع الحماية كالمهارات الوالدية للتعامل مع الأبناء، والتعليم من قبل منظمات غير حكومية تركز خاصة على السجينات بأعداد محدودة[115]، وهو ما يعني عدم وجود إجراءات منهجية في مجالي الرقابة وإعادة التأهيل والمشاركة مع المجتمع المدني، أما على الصعيد الصحي فقد نفّذت إجراءات تُركّز على الرعاية الصحية منها تخصيص عيادات متنقلة[116]، أو إصدار عفو للتخفيف من الأعداد خلال أزمة كورونا[117].
كما غابت عمليات التقييم الدورية أو زيارات الجهات واللجان الحقوقية المستقلة، يمكن تتبع حالة السجون ودور التوقيف من خلال التقارير الدولية الأممية وغير الحكومية والتي تشير عادة إلى مجموعة من السمات السلبية التي تشكل انتهاكات كالتعذيب والضغط النفسي ومنع الاتصال بالأسرة والحرمان من الرعاية الطبية والغذاء وأدوات النظافة واحتياجات النساء والتعامل بشكل أكثر عنفاً مع بعض الفئات، وعدم السماح بزيارات تفتيشية ورقابية محايدة للسجون، أو وضوح الإجراءات المتبعة، ومن جانب آخر تظهر بعض الممارسات الإيجابية كجهود مساءلة وإصدار إحكام قضائية ضد مرتكبي انتهاكات[118].
بناء على ما سبق ومع إسقاط نظام الأسد “البائد” وانطلاق المرحلة الانتقالية، ثمة مجموعة من القضايا التي يمكن العمل عليها في إطار عملية الإصلاح القانوني والأمني في سوريا، وخاصة مع وجود توجّهات واضحة لدى السلطة عموماً ووزارة الداخلية على وجه الخصوص في إجراء عملية بناء شاملة وجديدة. على سبيل المثال إعلان رؤية إصلاحية شاملة تتضمن قضايا حقوق الإنسان، وتطبيقات أولى عملية على أرض الواقع كافتتاح دائرة للشكاوى أمام المواطنين[119]، إلا أنه يمكن طرح أسئلة من المهم الإجابة عليها ومن أبرزها: لماذا يجب الالتزام بهذه الضمانات بمعزل عن أي ظروف وحتى خلال المرحلة الانتقالية المعقدة؟، وما الخطوات العملية المطلوبة في هذا الصدد خاصة مع وجود خطوات أساسية من السلطة في سوريا وخاصة عبر إعلانات وزارة الداخلية؟
1-3: أهمية الالتزام بالضمانات القانونية الدولية لحقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف في المرحلة الانتقالية:
رغم تعقيدات المرحلة الانتقالية والتي تبقي غالباً البيئة العامة كبيئة هشة، وهو ما يمكن أن ينطبق على الحالة السورية[120]، تظهر تحديات أمنية عديدة كملف فلول نظام الأسد، وتوترات السويداء، وملف شمال شرق سوريا.. الخ، إلا أنها تُمثّل فرصة لإعادة بناء منظومات العدالة الجنائية والسجون بما يتوافق مع معايير حقوق الإنسان، ذلك أن الإصلاح القانوني يهدف إلى تحديث التشريعات أو سد الفجوات المختلفة، وتبرز قضية إصلاح القوانين والأنظمة المرتبطة بالسجون ودور التوقيف كأحد الركائز الأساسية في العملية، وفي هذا الصدد يمكن تقديم مجموعة من الأسباب، ومن أهمها:
- الالتزام بقيم الثورة السورية، والتي انطلقت بالتركيز على مبادئ الحرية والكرامة، حاملة في طياتها مطالب حقوقية ترتبط بحقوق الإنسان بعد عقود من الإخفاء القسري والتعذيب والمعاملة القاسية والفساد في ظل منظومة سجون نظام الأسد “البائد” بمختلف أشكالها، والتي مثلت أداة قمع رئيسة لترهيب الشعب السوري، وعليه فإن الشعب السوري شديد الحساسية تجاه انتهاكات حقوق الإنسان.
- الالتزامات القانونية والدستورية في سوريا الجديدة حيث يرتبط الالتزام بحقوق الإنسان بنهج سوريا الجديد مع القانون الدولي من جهة، ومن جهة أخرى فإن الإعلان الدستوري السوري توقّف مطوّلاً عند باب الحقوق والحريات العامة والتمسك بحقوق الإنسان، وهذا ما يجب أن ينعكس عملياً في قضايا مختلفة منها السجون ودور التوقيف.
- توفر الإرادة السياسية المعلنة للإصلاح، وهي ما تشكل فرصة مهمة لتقديم رؤى محددة لدعم هذه الإرادة، وارتباط قضايا الشرعية بالأداء العام للسلطة الانتقالية.
- إدارة معركة الرأي العام المحلي والدولي التي ما تزال وعلى الرغم من إسقاط نظام الأسد البائد مركزة على الشأن السوري في ظل استمرار التقارير الدولية الأممية وغير الأممية برصد حالة حقوق الإنسان في سوريا، وجزء رئيس منها يركز على بيئة السجون، وهو ما يعني أن المقارنات مستمرة بين الوضع السابق والحالي.
- إمكانية تطبيق قسم كبير من الضمانات: بالنظر إلى طبيعة الضمانات القائمة فإن قسماً منها يتطلب بالفعل قدرات مادية ولوجستية قد لا تتاح في الحالة السورية مباشرة كمعايير المساحة والبينة التحتية والرعاية النفسية المتخصصة، إلا أن قسماً آخراً يرتبط بالإرادة وحسن التنظيم كمنع المعاملة القاسية وفتح باب الرقابة وتدريب وتأهيل الكوادر.. الخ، وعليه فإن التطبيق النسبي حتى لأكبر درجة ممكنة يعد تأسيساً صحيحاً وضرورياً للمستقبل[121].
- بناء ثقافة فردية ومجتمعية حقوقية سليمة والتأسيس لعدم تكرار المآسي يتطلب في أحد جوانبه -فضلاً عن المساءلة وكشف الحقائق وجبر الضرر– وجود نهج مختلف يلتزم بقواعد وقيم حقوق الإنسان على مستوى النصوص من جهة، وعلى مستوى الهياكل والكوادر من جهة أخرى.
شكل رقم 11 يوضح أبرز الأسباب التي تؤكد ضرورة الالتزام بالمعايير الدولية في السجون ودور التوقيف
2-3: خطوات عملية في تطبيق الضمانات القانونية الدولية لحقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف:
بعد الحديث عن السياق السوري والفجوات الرئيسة، وإبراز أهمية الالتزام بها في الحالة السورية، يصبح من الضروري تسليط الضوء على الخطوات العملية المطلوب اتخاذها بغية الانتقال إلى حالة عملية، وهي بطبيعة الحال مجموعة من المقترحات القابلة للتنفيذ والتطوير في آن معاً.
1- تطوير الإطار القانوني: نحو تشريع شامل
على غرار دول أخرى كالأردن ومصر[122]، يتطلب التغير الكبير في القواعد والمعايير الدولية والواقع المعاش في سوريا إصدار تشريع قانوني جديد وشامل حول السجون ودور التوقيف، بما ينشئ نقلة من النظام العقابي التقليدي إلى النظام الإصلاحي والتأهيلي، وبما يتضمن إدماج مجموعة الضمانات القانونية الدولية لحقوق السجناء في تشريع وطني حديث ومتكامل، وللقيام بذلك بشكل سليم يمكن الانطلاق إجرائياً من خلال آلية تحوز أكبر قدر من المشاركة عبر تشكيل لجنة خاصة تضم قانونيين وقضاة وضباط شرطة وممثلي مجتمع مدني وسجناء سابقين من طبيعة معيّنة كسجناء سياسيين في سجون مركزية سابقاً، تتولى إعداد مسودة أولية يتم تطويرها من خلال جلسات مركّزة إضافية وتقييم واقعي لوضع السجون ودور التوقيف والممارسات الحالية، بما يصل إلى مستوى مشروع قانون متكامل، في هذا الصدد يمكن الاستفادة من التجارب العربية المقارنة والنموذج الإرشادي لإدماج قواعد نيلسون مانديلا. ينظر (جدول رقم 3).
ريثما تتم هذه العملية والتي ترتبط بتحضيرات علمية وعملية وبوجود مجلس شعب “سلطة تشريعية”، وإصدار تشريعات ذات أولوية كتلك الخاصة بإطلاق العدالة الانتقالية.. الخ، يمكن القيام بمجموعة من الإجراءات الأساسية؛ ومن أبرزها: إصدار تعليمات واضحة ومحددة من قبل الوزارة تسعى لضمان الحقوق الأساسية، كإعمال القواعد القانونية المطبقة في سوريا بمنطق حقوقي يقوم على مقاربة إصلاحية. على سبيل المثال: التركيز على ظروف الصحة والإطعام والتنظيم.. الخ، وإعداد برنامج تدريبي وتأهيلي وتشجيع المجتمع المدني على الانخراط به، والسعي لحل إشكالية الموارد المحدودة من خلال الشراكات والبرامج المحددة قصيرة المدد، وإجراء تحليل شامل للاحتياجات التدريبية للكوادر المعنية، وتجهيز برنامج تدريبي سريع ومكثف، وفتح كافة السجون أمام الرقابة القضائية والحقوقية الوطنية والدولية، والسعي للتخفيف من الاكتظاظ عبر تسريع الإجراءات، وإطلاق آلية آمنة للشكاوى للمعالجة السريعة حالياً.
الرقم | القسم | مضامين رئيسة ذات أولوية |
1 | الغرض والنطاق والمبادئ | · احتجاز آمن يحترم كرامة الإنسان · احترام الكرامة الإنسانية ومنع التعذيب – المساواة وعدم التمييز بين السجناء · الأخذ بالاحتياجات الخاصة للفئات الضعيفة · دعم إعادة الإدماج في المجتمع |
2 | الإدخال في السجن والتصنيف والتوزيع | · أمر حبس قانوني للإدخال · إجراء مقابلة عند الإدخال وتوثيق المعلومات · تصنيف السجناء حسب الخطر والاحتياجات · توزيع السجناء على السجون بما يراعي القرب من العائلة واحتياجات الرعاية · فصل السجناء حسب الجنس والعمر والحالة القانونية · معالجة اكتظاظ السجون عبر آليات تنظيمية كتسريع إجراءات التحقيق، وتطبيق بدائل كالكفالة المالية، وإدارة الطاقة الاستيعابية للسجون. |
3 | إطلاق السراح | · لا يجوز إبقاء أي سجين دون أساس قانوني · إعداد صحي ونفسي قبل الإفراج · توفير احتياجات أساسية عند الخروج · تسجيل رسمي لكل عملية إفراج · احترام الخصوصية أثناء الإفراج |
4 | الظروف المادية | · أماكن الإقامة تراعي الكرامة والمساحة والتهوية · توفر الإضاءة والتهوية الطبيعية أو الاصطناعية · نظافة شخصية مناسبة وملابس ملائمة · مرافق مناسبة للاستخدام اليومي · رقابة منتظمة على البيئة المادية في السجن · مراعاة التغييرات المناخية الخاصة بالطقس |
5 | الرعاية الصحية | · لكل سجين الحق في رعاية صحية مساوية للمجتمع · إنشاء دائرة واختصاصي رعاية صحية داخل السجن · الفحص الطبي عند الإدخال والمتابعة لاحقًا · حماية من الأمراض وتوفير علاج مناسب · سرية الملف الصحي لكل سجين |
6 | نظام السجون | · برامج تعليم وتدريب مهني · الحق في العمل بشروط آمنة ومناسبة · الاتصال بالعالم الخارجي والزيارة · توفير الترفيه والأنشطة الثقافية · تمكين السجناء من تطوير ذواتهم داخل السجن |
7 | السلامة والأمن والانضباط | · تدابير الأمن تراعي الكرامة والسلامة · منع الحبس الانفرادي الطويل · استخدام القوة محدود ومراقب · وجود جزاءات تأديبية محددة ومعروفة للسجناء · حماية السجناء من العنف داخل السجن |
8 | الضمانات | · حق تقديم الشكاوى وطلب المساعدة القانونية · التحقيق في حالات الوفاة أو سوء المعاملة · التفتيش الداخلي والخارجي للسجون · حفظ ملفات دقيقة عن كل سجين · الحصول على مساعدة قانونية مستقلة · نشر المعلومات القانونية بوضوح داخل السجن |
9 | دائرة السجون | · إدارة وطنية مدنية مسؤولة عن السجون · هيكل وظيفي يضم مفوضاً، مدير سجن، وموظفين · تدريب مهني إلزامي لموظفي السجون · خضوع لتوجيهات الوزير وقواعد تنظيمية |
10 | السجناء المحكوم عليهم | · تخطيط فردي لتنفيذ الحكم · إشراك السجين في وضع خطته الإصلاحية · إعادة الإدماج هدف أساسي · تصنيف خاص للتأهيل · برامج خاصة للإفراج التدريجي |
11 | السجناء غير المحاكمين | · افتراض البراءة واحترام الإجراءات · فصلهم عن المحكومين دائمًا · حمايتهم من الإكراه وسوء المعاملة · ضمان المعاملة الإنسانية دون جزاءات تأديبية · السماح بالاتصال بمحاميهم بحرية |
12 | أحكام عامة | أية نقاط أخرى ذات صلة كاللائحة التنفيذية الصادرة عن الوزير وترك مجال لإضافة فئات خاصة أخرى |
جدول رقم 3 يتضمن هيكلاً كلياً للقانون المقترح[123]
2- بناء قدرات الكوادر: نحو نهج مستدام ومؤثر
ككل قواعد حقوق الإنسان ترتبط الممارسة الواقعية للنصوص وخاصة في دولة مثل سوريا لطالما عرفت بوناً شاسعاً بين النص والتطبيق، بثقافة وكفاءة الكوادر الرسمية المسؤولة عن التنفيذ، ولأن هذه الكوادر تُمثّل الضلع الثالث والأهم في بيئة السجون (بنى تحتية، سجناء، موظفو السجون) فإن إعمال ضمانات حقوق الإنسان في السجون تحتاج لمعرفة وثقافة وكفاءة من الكوادر المسؤولة، كما يولي خبراء دوليون في إدارة السجون أهمية متزايدة لمنظومة التأهيل والتدريب للكوادر بوصفها العامل الحاسم في إنجاح أغراض السجون في إعادة التأهيل والإدماج للنزلاء، والحد من الفساد وتلافي الأزمات والتحديات، وحتى تخفيف التكاليف اللازمة[124].
مؤسساتياً، يمكن العمل من قبل الهيئة المركزية المسؤولة عن إدارة السجون بشكل منفرد أو عبر الشراكة مع منظمات سورية وغير سورية على بناء قدرات الكوادر[125]، وفي هذا الصدد تبرز أفكار كتأسيس وحدة خاصة ببناء قدرات الكوادر وتقييمها، كإنشاء معهد وطني لتدريب كوادر السجون، وهو ما يُطبَّق عملياً في تجارب عديدة كحالة دول عديدة في أوروبا كفنلندا، والتي أنشأت معهد تدريب مصلحة السجون والمراقبة[126]، أو في آسيا كحالة باكستان عبر معهد (NAPA)، أو أفريقية كحالة أثيوبيا التي أنشأت منهجاً وطنياً لتدريب موظفي السجون عبر مؤسسات إقليمية (UNODC)بالشراكة مع الأمم المتحدة.
من جانب آخر، يجب أن تشمل عملية بناء القدرات كل الكوادر أي الإداريين، والحراس، والطواقم التخصصية، كما يجب التركيز على نهج متكامل لبناء القدرات والتي تشمل التركيز على الوعي والمعلومات، ثم المهارات والكفاءات، وهذا يتطلب مزيجاً من الأدوات الخاصة ببناء القدرات عبر جلسات ومحاضرات، وتنظيم تدريبات تخصصية تشمل الجوانب الأمنية والإنسانية والقانونية، وصولاً للفعاليات والمشاركات في الحوار والنقاش لتطوير ونقل الخبرات، ودعم الكوادر أنفسهم لمنع الاحتراق المهني عبر دعم الرفاه الخاص بالكوادر من خلال خطة متكاملة على مدار العام.
كذلك ترتبط العملية المنهجية ببناء قدرات كوادر السجون بمجموعة من القواعد الإضافية في التخطيط والتقييم، وذلك بناء على توصيات وتجارب مؤسسات مرموقة في بناء قدرات كوادر السجون[127]؛ منها:
- التفكير في مشاركة السجناء والمحكومين سابقاً في التخطيط لبناء قدرات كوادر السجون.
- وجود نظام اعتماد مهني كل فترة زمنية متوسطة كثلاث سنوات من أجل تقييم كفاءة الكوادر.
- التدريب كنهج مستمر قبل التعيين وخلال فترة العمل.
- التدريبات القصيرة والمتكررة والتركيز على مهارات نفسية واجتماعية ومهارات تواصل إلى جانب القواعد الإدارية والقانونية.
3- الشراكة الفاعلة مع المجتمع المدني السوري: نحو تكامل الأدوار
يسهم المجتمع المدني السوري وبشكل خاص المنظمات غير الحكومية بتقديم الخدمات والدعم في شتى المجالات بما فيها المادي والمعرفي والمعنوي، وهو بذلك يمتلك قدرات مادية وموارد بشرية تستطيع دعم المؤسسات العامة الناشئة، وفي جوهر هذه الأدوار تقع قضايا حقوق الإنسان[128]، وعليه يمكن الرهان بشكل كبير على إعمال ضمانات حقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف من خلال الشراكة مع المجتمع المدني السوري، وهو ما يعد أيضاً خطوة حقيقية في النهج المفتوح للحكومة ولبيئة السجون، حيث يمكن أن يسهم المجتمع المدني في تقديم برامج بناء القدرات للكوادر والسجناء على حد سواء، وتقديم الدعم النفسي والحماية والرعاية الطبية وإدارة التدريب المهني عبر المشاريع التشغيلية[129]، وخاصة للفئات الأكثر ضعفاً، فضلاً عن التخطيط والتقييم المشترك والمساهمة في التعاون مع نظام الشكاوى والدعم القانوني[130].
4- تفعيل الرقابة والمساءلة: نحو ضمانات التطبيق والتصويب
يُقصد بالرقابة والمساءلة مجموعة الآليات التي تهدف إلى رصد أداء إدارات السجون وتمنع الانتهاكات التي قد تحصل أو تُحقّق بها وتفتح الباب أمام المساءلة، وهذه العملية تعد أكبر الضمانات في الحالة السورية لإصلاح قطاع السجون وكضمان لعدم تكرار الماضي.
وتبعاً لهذه الأهمية، يمكن تقسيم الرقابة إلى نوعين اثنين؛ الأولى وهي الرقابة الوطنية من خلال رقابة داخلية من المؤسسة الرسمية ورقابة من المنظمات غير الحكومية السورية، أو عبر هيئة مستقلة كحال التجارب المختلفة من خلال تنظيم الزيارات التفتيشية للسجون، وإتاحة المجال لتلقّي الشكاوى وإعداد تقارير الظل[131]، أما الثانية فمن خلال اللجان الدولية الأممية وغير الأممية، ومن المطلوب أن يتم تضمين مواد صريحة في التشريع الجديد حول الرقابة متعددة المستويات، كذلك فإن وجود الرقابة يتطلب وجود تقارير علنية تُنشر للرأي العام بغية الاطلاع على الحالة الحقوقية في بيئة السجون كبيئة مغلقة، وهو ما يزيد الشفافية وينشر الوعي ويمارس في دول عديدة مثل النرويج، بريطانيا، وجنوب أفريقيا.
الرقم | الخطوة الرئيسة | الخطوات الفرعية |
1 | إعداد وإقرار وإصدار ونشر لائحة خاصة بالسجون ودور التوقيف | تشكيل لجنة مختصة |
إجراء مشاورات وجلسات | ||
إقرار وإصدار اللائحة | ||
نشر اللائحة رسمياً ومناصرتها | ||
2 | بناء قدرات الكوادر | مرحلة الإعداد للتعيين |
مرحلة أثناء فترة العمل | ||
3 | الشراكة الفاعلة مع المجتمع المدني السوري | بناء الثقة |
التخطيط والتقييم المشترك | ||
تصميم وتنفيذ برامج في تطوير الكوادر | ||
تصميم وتنفيذ برامج في تأهيل السجناء | ||
تصميم وتنفيذ برامج في الرعاية الصحية | ||
4 | تفعيل الرقابة والمساءلة | انشاء آلية رقابة وطنية رسمية |
السماح بزيارات المنظمات السورية | ||
التعاون مع اللجان الدولية الأممية | ||
التعاون مع المنظمات الدولية غير الأممية |
جدول رقم 4 يوضح الخطوات العملية الرئيسة والفرعية المطلوبة لسؤال (كيف؟)
5- نماذج مقترحة للتقييم الأولي الذاتي من المؤسسات أو تقييمات الرقابة المستقلة:
بناء على ما سبق استعراضه في هذه الدراسة يمكن تقديم آلية مبسّطة قدر الإمكان لتقييم مدى توفّر الضمانات الدولية في السجون الرئيسة “المركزية” في هذه المرحلة على الأقل من خلال إعداد أداة قياس مستندة إلى القواعد الدولية الأهم: (قواعد مانديلا- بكين-بانكوك)، والعمل على قياسها برقابة ذاتية من المؤسسة، أو رقابة غير رسمية، ومن ثم تحليل النتائج والاستفادة منها كخط أساس للواقع الحالي والبناء عليه، كما يمكن استخدامها دورياً للوقوف على التقدم الحاصل عملياً، يُنظر أدوات يمكن الاستناد إليها للقيام بالتقييم الشامل. (يُنظر الملحق).
خاتمة:
لم يكن تزايد الاهتمام الدولي في حفظ حقوق السجناء وتنظيم قواعد شاملة لحقوق الإنسان في السجون وليد أفكار نظرية محضة أو رغبة بتكبيل الأنظمة الوطنية، بل جاء نتيجة طبيعية لما فرضته الاحتياجات الموضوعية لهذه البيئة المعزولة، والتي يسهل فيها انتهاك الكرامة الإنسانية، وقد جاء التطوّر التدريجي في القانون الدولي في هذا السياق ليضع المزيد من القواعد التفصيلية، والتي ركزت على ثلاثة اتجاهات؛ المبادئ الأساسية الشاملة، والمبادئ الخاصة ببعض الفئات من السجناء، وأخيراً سلوك العاملين الذين يعملون مع الأشخاص الذين سُلبت منهم حريتهم بُغية سد أكبر قدر ممكن من الثغرات والاهتمام بشتى التفاصيل التي تؤثر فعلياً بحياة السجين؛ ليس فقط داخل السجن ولكن في كيفية استعداده للحياة الطبيعة مجدداً.
تنوّعت هذه الضمانات بين تسع ضمانات شاملة (ضمانات عامة، تنظيمية وإدارية، المعيشة الملاءمة، الرعاية الصحية، التواصل مع العالم الخارجي، الرقابة والمساءلة، الحصول على المعلومة، كوادر إنفاذ القانون)، وضمانات خاصة ببعض الفئات كالفئات الهشة، ورغم ذلك برزت الحاجة باستمرار لوجود أدوار رقابية مستقلة على إعمال هذه الضمانات في الممارسات العملية في الدول المستقرة، وهي الرقابة التي تتم غالباً من قبل مؤسسات وهيئات وطنية، فيما ترتبط أدوار المنظمات غير الحكومية بطبيعة السلطة وانفتاحها؛ أي مدى حوكمة المؤسسات العامة.
أما في البيئات الهشة كحالة بعض الدول العربية ما بعد ثورات الربيع العربي فقد أظهرت الدراسة الحالة العامة التي اتسمت بها هذه الضمانات وتطبيقها من حيث التعقيد الشديد على مستوى النص والهيكل والتطبيق، فيما ظهرت مستويات متعدّدة من الانتهاكات وما يقابلها من جهود المناصرة الحقوقية، وهو ما يشمل الحالة السورية التي عرفت تاريخياً خروج سجون نظام الأسد عن هذا الوصف إلى “مسالخ بشرية” ليست قابلة للمقارنة مع أماكن أخرى، أما اليوم في سوريا الجديدة فإن الإصلاح القانوني والأمني يتطلب في قضايا السجون العمل على ترميم الفجوات الرئيسة، سواء في النص أو الهيكل أو التطبيق، وهو ما يجعل من الضرورة بمكان وجود جهود حثيثة نحو إعمال حقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف.
ويمكن القول في هذا الصدد إن توفر الإرادة الرسمية من السلطة العامة ووجود جهود ضاغطة وواعية من المجتمع المدني السوري بمعناه الواسع كفيلة بإعمال -نسبي على الأقل- لهذه الضمانات، ومن هنا فإن تسليط ردم الفجوات المعرفية واعتماد خطة عمل واستغلال الطاقات والإمكانات المتوفرة يمكن له أن يُغيّر من الحالة العامة نحو الأفضل.
باحث في وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية