مقالات الرأي

العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في المرحلة الانتقالية وسؤال الحالة السورية

مقال تمهيدي لسلسلة مقالات سيصدرها مركز الحوار السوري حول المجلس التشريعي

ما إن جاء اليوم التالي لإسقاط نظام الأسد في سوريا حتى تدفقت آلاف الأسئلة مجدداً حول تنظيم السلطات في سوريا والطريق الأنسب لذلك، ومع مرور الأيام اتضحت تدريجياً ملامح رئيسة لشكل السلطات الانتقالية وطبيعة نظام الحكم وخاصة مع إصدار الإعلان الدستوري في آذار، لتأتي المرحلة الخاصة بالبدء بتشكيل مجلس الشعب في طريق بناء السلطات الثلاث في سوريا من حيث المبدأ، ومع اقتراب انطلاق أولى جلسات مجلس الشعب ثمة تساؤلات جوهرية حول أدوار المجلس وطبيعتها وكيفية كسب ثقة المواطن.. الخ. ومن المهم في هذا السياق التأكيد على أن بناء نظام حكم رشيد لا يقوم فقط على توزيع الصلاحيات، بل على إيجاد توازنٍ صحيّ بين السلطات يضمن في الوقت ذاته فعالية التنفيذ ومتانة الرقابة البرلمانية.

إلا أنه وبالنظر إلى طبيعة المرحلة الانتقالية بوصفها مرحلة “حسّاسة” وطبيعة المشهد العام في سوريا بوصفه “مشهداً شديد السيولة” مع وجود ملفات معقدة داخلياً كشمال شرق سوريا والجنوب السوري وإقليميا كالمشروع الصهيوني، ودولياً كالحرب الروسية الأوكرانية وما يرتبط بها، لعلّ السؤال الرئيس الذي يبدو حسمه مهماً يرتبط بفلسفة العلاقة المطلوبة وطبيعتها بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في المرحلة القادمة، فهل نحتاج لوجود تكامل بين السلطتين؟ وإن كان ذلك مطلوباً فما أبرز الأسباب والسبل المتاحة لتحقيق ذلك؟

للإجابة على هذا التساؤل يمكن الانطلاق من فهم خصوصية المرحلة الانتقالية بوصفها سياقاً ذا عوامل متغيرة ومؤثرة على كل السلطات وإدارتها عن المراحل المستقرة، وانعكاس هذه الخصوصية الزمنية لمرحلة ما بعد النزاعات على العلاقة المطلوبة بين السلطات وغايتها، حيث يمكن القول بشكل عام إنه من الصعوبة بمكان رصد سمات عامة لها، على سبيل المثال توجد حالات واضحة من التناقض بين الأطراف في المراحل الانتقالية، إذ تتصادم الحاجة التنفيذية إلى قضية السرعة والمرونة، وبين الحاجة التشريعية للمساءلة والرقابة، كذلك الأمر بين متطلّبات التغيير والتجديد التي تجنح لها السلطة التنفيذية الانتقالية وبين الميل نحو القواعد الأساسية والخطوات البطيئة والمدروسة، ويمكن القول إنه عادة ما يظهر هذا التنافر إذا حاول البرلمان لعب دور رقابي قوي دون وجود توافق سياسي.

غير أن هذا التباين لا يجب أن يُفهَم كتعارضٍ جوهري، بل كجزءٍ من فلسفة الفصل المرن بين السلطات، حيث يكمّل كلٌّ من الطرفين الآخر دون أن يتجاوزه أو يتغوّل عليه.

في مقابل ذلك، يمكن تلمُّس مجموعة من الجوانب التي تفرضها طبيعة المرحلة الانتقالية والتي تدفع لتجاوز فكرة التعارض إلى التعاون، وخاصة في التجارب التي نجحت في المضيّ من المراحل الانتقالية بنجاح كتشيلي وجنوب إفريقيا، حيث تتسم العلاقة بالمرونة والشرعية المتبادلة وإدارة طرق الوصول للهدف المشترك وتغليبه على أي اعتبار آخر وهو العبور بسلام من المرحلة الحساسة والسماح بنجاح التجربة الوليدة.

لكنّ هذا التعاون في التجارب الناجحة لم يكن على حساب استقلالية البرلمانات أو رقابتها، بل كان ثمرةَ وضوحٍ مؤسسي يُحدّد بدقة صلاحيات كل سلطة ضمن مبدأ المساءلة المتبادلة.

بناء على ما سبق يمكن القول إن التوجّه الصدامي بين السلطتين خلال المرحلة الانتقالية بدلاً من التكامل يؤدي في كثير من الحالات إلى أزمات شرعية متعدّدة وشلل مؤسسي ناتج عن عرقلة متعمدة تؤدي من حيث النتيجة إلى تأخر المراحل الانتقالية أو انقلاب الجيش والقوى الأمنية بحجة إنقاذ البلاد، وهو ما اتسمت به التجارب العربية عموماً كما حصل في مصر بعد ثورة يناير أو ليبيا خلال فترة المؤتمر العام وما بعده.

بالانتقال إلى الحالة السورية، يبدو واضحاً وجود خمسة عوامل رئيسة تجعل الفلسفة المطلوبة من حيث المبدأ تذهب نحو التقارب وفي مقدمتها طبيعة المرحلة الانتقالية في سوريا بوصفها مرحلة لم تنتهِ فيها بعد حالة النزاع المسلح أو احتمالاتها، إذ ما تزال الاشتباكات تحصل بين الحين والآخر في السويداء وسط وجود قوة عسكرية “انفصالية” بقيادة الهجري، كذلك ما تزال مناطق شاسعة من سوريا في محافظات الحسكة والرقة ودير الزور تحت سيطرة عسكرية وإدارية متمايزة وذات مشروع ذاتي مختلف عن أسس المرحلة الانتقالية منذ إعلان النصر مروراً بما أنتج المجلس التشريعي نفسه، وبالتالي فإن سيطرة السلطة التنفيذية على سوريا وتوحيد القوة العسكرية وقدرتها على احتكار العنف ضرورة لاستمرار وجود مجلس الشعب أو السلطة التشريعية لممارسة أدوارها، في المقابل ما يزال الملف السوري ملفاً مُدوَّلاً حيث تتداخل فيه المصالح الدولية والإقليمية وتؤثر مباشرة بقوى خشنة أو بشكل غير مباشر عبر آليات مختلفة، الأمر الذي يتطلب من حيث المبدأ موقفاً سياسياً موحداً أمام الضغوط المختلفة.

الجانب الآخر يرتبط بطبيعة التجربة نفسها، إذ لم تشهد سوريا انتقالاً جذرياً منذ استيلاء البعث على السلطة عام 1963، وبالتالي فإن متطلّبات التحوّل الكبير في شتى المناحي والتعامل مع إرث واسع من الانتهاكات والفساد والترهل وانهيار المؤسسات يتطلب التعاون والتكامل بين السلطات للمُضيّ بسلام وتجنُّب الانزلاق نحو الفوضى، وهذا ما يقود لقضية رابعة ترتبط بالإعلاء من أهمية التوافق بدلاً من التنافر بحيث تظهر السلطة ككل متكامل رغم الأدوار المختلفة، بما يساهم في تقديم صورة دولة تعمل كجسم واحد، فالنزاع الداخلي بين السلطتين في لحظة هشاشة سياسية وأمنية كالتي تعيشها سوريا لن يُفهم على أنه حالة طبيعية، بل سيُترجم كضعف وانقسام يُهدّد استقرار المرحلة برمّتها، والتوافق يُعزز ثقة المواطنين، ويمنع القوى المناوئة من استغلال الانقسامات، كما يُقوّي موقف سوريا أمام المجتمع الدولي في المفاوضات والالتزامات.

ولعلّ أبرز دوافع التعاون على الإطلاق هي متطلبات الإصلاح القانوني، فالمنظومة القانونية السورية أصبحت أكبر العوائق أمام التغيير، فضلاً عن تناقضها مع متطلبات الإدارة الحديثة وحقوق الإنسان، إذ إنها استُخدمت كوسيلة للهيمنة السياسية والإقصاء، وبالتالي تعديل القوانين أو إصدار قوانين جديدة يعد بوّابة لكسب ثقة المواطن وتحقيق العدالة وضمان الاستقرار وضمان عدم تكرار الانتهاكات، ولذلك فإن التعاون بين السلطتين مهم، إذ تُقدّم السلطة التنفيذية مقترحات من أرض الواقع وبحكم التجربة، وتتولى السلطة التشريعية إقرار التشريعات وفقاً لآليات برلمانية وبعد نقاشها والتصويت عليها.
ومن المهم أن يقود البرلمان هذا المسار الإصلاحي بشراكة حقيقية مع الحكومة، بحيث تُعبّر التشريعات الجديدة عن الإرادة الشعبية وتُصاغ بعد نقاشٍ علنيّ ومشاورةٍ مع المختصين والمجتمع المدني تجنُّباً لاحتكار القرار القانوني في يد السلطة التنفيذية.

وفضلاً عن العوامل السابقة، فإن انتماء السلطتين بشكل أو آخر لقوى الثورة والمعارضة أو الجهات المعارضة لنظام الأسد البائد، وتطلُّعها جميعاً لبناء سوريا جديدة يساعد على التكامل.

بالانتقال من السؤال الخاص بأهمية التعاون والتكامل إلى سؤال الكيفية؛ أي الأدوات والوسائل المساعدة على ذلك يمكن القول إن مجموعة من القضايا مطلوبة لتعزيز فكرة التعاون ومن أهمها حضور فكرة التحديات المشتركة؛ أي الوطنية ومواجهتها كغاية أساسية، والحفاظ على قنوات تشاور مستمرة والابتعاد عن المقاربة الصفرية في التعاطي مع الأدوار، ومن جانب آخر ينبغي لكل من السلطتين اتباع مجموعة من الإجراءات التي تدعم فكرة التعاون.

فعلى صعيد السلطة التنفيذية من المهم التوجُّه لتوفير المعلومات بشكل مستمر ومنهجي للمجلس والانخراط بشكل منفتح أمام التساؤلات ومع جلسات الاستماع وتحضير الوثائق الداعمة للسياسات الحكومية والتفاعل الإيجابي مع اللجان البرلمانية والدخول في حوارات جديدة حول مقترحات مشاريع القوانين المقدَّمة أو الاتفاقيات الدولية وأسباب الانضمام إليها أو إبرامها وإقناع الأعضاء بأهميتها وجدواها.

أما السلطة التشريعية فتنطلق من نظرة تعاونية بعيدة في هذه المرحلة عن الاستعراض الجماهيري أو محاولة التعطيل أو العرقلة، مع بذل الجهود الذاتية لفهم مُعمَّق للاحتياجات الواقعية وانعكاسها على التشريعات المطلوبة، والموازنة بين الرقابة والتعاون.
إنّ التعاون بين السلطتين لا يكتسب قيمته من الانسجام الشكلي، بل من احترام الحدود الدستورية لكلٍّ منهما، فاستقلال البرلمان هو الضمانة الأولى لمنع تركُّز السلطة في جهة واحدة، كما أنّ شفافية الحكومة واستجابتها للمساءلة البرلمانية هي الشرط الأساسي لترسيخ الثقة العامة.

ختاماً، يمكن القول إنّ متطلبات التعاون بين السلطتين تأتي كأولوية نظراً للظروف التي تمر بها سوريا، إلا أنّ هذا التعاون لا يعني بحالٍ من الأحوال خضوع السلطة التشريعية أو تراجعها عن أدوارها الرقابية والتشريعية، بل يشكّل اختباراً حقيقياً لقدرتها على ممارسة الرقابة الفاعلة وضمان التوازن في إدارة المرحلة الانتقالية.

إنّ نجاح التجربة لا يقوم على الولاء بين السلطتين، بل على الاحترام المتبادل والشفافية والمساءلة المستمرة، بحيث يبقى مجلس الشعب مستقلاً في قراراته ممثِلاً لإرادة المواطنين، وتبقى السلطة التنفيذية ملتزمة بحدود صلاحياتها الدستورية، ويُقاس التعاون لا بمدى التوافق السياسي فحسب، بل بقدرة المؤسستين معاً على تحقيق نتائج ملموسة تُعزّز الثقة العامة وتُؤسّس لحكمٍ رشيدٍ قائمٍ على العدالة والمؤسسات.

مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى