
القواعد الناظمة لهيئات الحقيقة في التجارب المختلفة: نحو هيئة عدالة سورية فاعلة
ورقة بحثية صادرة عن وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري
ملخّص:
تدريجياً وعلى نطاق واسع أصبحت هيئات الحقيقة التي تأخذ تسميات عديدة كهيئة الحقيقة والمصالحة أو هيئة العدالة والحقيقة.. الخ من المسمّيات في كل تجربة وطنية أبرز الهياكل التي تتولّى التأسيس لمسارات العدالة الانتقالية ككل بما فيها كشف الحقائق، وتحديد قوائم الضحايا والجناة، واقتراح آليات المساءلة والعفو والمصالحة، وقيادة منهج التفكير بضمانات عدم التكرار، والإصلاح القانوني والمؤسساتي بناءً على نتائج أعمالها التي تنعكس في تقاريرها النهائية.
بناءً على هذه الأهمية وباعتبار أن هذه الهيئات تتولى عملياً إعمال حق المعرفة والحقيقة كأحد حقوق الإنسان، وما يُبنى عليه من الحق في الإنصاف وجبر الضرر ومنع الإفلات من العقاب وواجب عدم النسيان، فإن الاهتمام بالأسئلة الجوهرية المستفادة من تجارب سابقة في أكثر من أربعين تجربة دولية منذ ثمانينات القرن العشرين حتى اليوم يُعدّ بوابة رئيسة لإنشاء هيئة عدالة سورية فاعلة.
تسعى هذه الورقة التي تأتي في إطار سلسلة العدالة الانتقالية التي أصدرها مركز الحوار السوري لتحليل مفهوم هيئات الحقيقة في الأدبيات المختلفة والقانون الدولي، وتتبّع العديد من نماذج هيئات الحقيقة وأدوارها في تجارب لاتينية وإفريقية وعربية، وبناءً عليه تقديم مقترحات في القواعد القانونية الناظمة لهيئة العدالة الانتقالية في الحالة السورية.
وقد خلُصت الورقة إلى مجموعة من الاقتراحات التي يمكن التفكير فيها خلال المرحلة التحضيرية الحالية للهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، فعلى صعيد تكوين الهيئة أي اختيار أعضائها ومعاييرهم والمحددات الكلية للتشكيل النهائي يبدو خيار تحديد قائمة كبيرة وتفحُّص الخلفيات والمهارات وإجراء مقابلات خياراً متاحاً مع إغلاق الباب أمام خيارات أخرى، في حين يمكن التفكير بعدد لا يقل عن 14 عضواً في الهيئة تناسباً مع المهام والتحديات، ومن المهم التركيز على معايير التكوين التي تنعكس على الهيئة في تشكيلها النهائي بحيث تضمن مشاركة للنساء والضحايا وذويهم، وتمثيلاً لمدافعين عن حقوق الإنسان، والكفاءات الفنّية المطلوبة.
فيما تقترح الورقة نهجاً سورياً خاصاً لجهة الاختصاص الزمني بأن يكون متدرّجاً على ثلاثة نطاقات: يكون الاختصاص في النطاق الأول منه شاملاً ويرتبط بفترة الثورة السورية، أما الثاني فهو اختصاص جزئي فقط لجهة تتبُّع المال العام وتحديد المسؤوليات وتكريم ذكرى الضحايا ويرتبط منذ استيلاء الأسد الأب على السلطة، أما النطاق الثالث فهو الأعمق ويرتبط بفهم جذور الاستبداد في سوريا وكشف حقيقة الأحداث الكبرى ويرتبط باستيلاء البعث على السلطة.
أما في الاختصاص الموضوعي فتقترح الورقة نهجاً لا يُقيّد الهيئة في الأفعال التي تُشكّل انتهاكات جسيمة وفق مرسوم إنشائها بما يتجنّب الأخطاء الواقعة في تجارب أخرى قدّمت دلالات مُحدّدة على سبيل الحصر للاختصاصات، في حين تُركّز الورقة على أهم الصلاحيات التي تتناسب مع الواقع السوري لضمان نجاح الهيئة في تحقيق غاياتها كصلاحية جبر الضرر المستعجل، والمصالحة على الجرائم الاقتصادية، وبعض التدابير الوقائية.
مقدمة:
تتكوّن منظومة العدالة الانتقالية -في مضامينها المفاهيمية على الأقل- من مجموعة من الآليات المتكاملة التي يتم تطبيقها في فترة زمنية خاصة وبظروفٍ استثنائية ليتعافى المجتمع ككل من إرث ثقيل عبر التعمُّق في جذور الانتهاكات بمفهومها الواسع، وهو ما يسمح بالانتقال الصحيح نحو مستقبل جديد لا تتكرر فيه الانتهاكات والمآسي، وتنقسم هذه الآليات بشكل رئيس إلى آليات قضائية وآليات غير قضائية.
مع تعدُّد وتنوعّ الآليات غير القضائية كجبر الضرر وإصلاح المؤسسات والإصلاح القانوني وحفظ الذاكرة الوطنية.. الخ، ومع تطوُّر العدالة الانتقالية في حقل التجارب العملية خلال العقود الماضية تجربة تلو أخرى؛ برزت هيئات الحقيقة -بشتى مسمياتها- كهيكل رئيس فاعل في هذا الصدد، وتمحورت حولها تدريجياً شتى أنواع الآليات غير القضائية وصولاً للعلاقة مع الآليات القضائية أيضاً، انطلاقاً من أن فهم ما حصل من انتهاكات وأسبابه ومعرفة أسماء المتورطين بالانتهاكات وضحاياها ومصير المختفين قسراً …إلخ، يُمثّل المنطلق الأساس لمعالجة الماضي بشكل صحيح، فالحقيقة أساس العدالة.
في سوريا التي شهدت على مدار عقود طويلة ومنذ استيلاء البعث على السلطة منذ عام 1963م وصولاً لنظام الأسد البائد، تأسيس نظام استبدادي شديد الوحشية ارتكب سلسلة متنوّعة من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان واسعة النطاق، إلى جانب تفتيت المجتمع السوري وتشويه هويّته وتحويل البلد إلى سجن كبير ومملكة للتوحّش والرعب والفساد والصمت والسرية.
بعد انطلاق المرحلة الانتقالية في سوريا رسمياً مع صدور الإعلان الدستوري بتاريخ 13 آذار 2025، والتطلُّع لبناء مقاربة سورية للعدالة الانتقالية للمُضي بشكل سليم نحو مشروع دولة جديدة فإن كشف كامل الحقائق حول ما حصل في الكثير من جوانبه يُعدّ أساساً لا بُدّ منه لتسوية الماضي، الأمر الذي يسمح بدوره في حشد الرأي العام للاستمرار في دعم مسار العدالة المعقّد والطويل في هذه المرحلة الحساسة، ويُشكّل أحد العوامل الرئيسة لحماية التاريخ السوري ومواجهة النكران والتزوير وحسم الرواية التاريخية وتجنُّب تكرار المآسي.
بناءً على ما سبق وفي إطار سلسلة العدالة الانتقالية في سوريا التي أطلقها مركز الحوار السوري والتي تضمّنت في المستوى الكلي دراسة قضايا العدالة الانتقالية في ثلاث أوراق رئيسة (ورقة تمهيدية، ورقتي دراسة التجارب الدولية والعربية)[1]، لتستمر في دراسة الآليات المختلفة بشكل مركّز مع ورقة الآليات القضائية التي ركّزت على المحاكم الجنائية الخاصة والخيار الأنسب لسوريا[2]، تأتي هذه الورقة الجديدة لتُركّز على هيئات الحقيقة بوصفها أبرز الهيئات التي تمحورت حولها تدريجياً الآليات غير القضائية في العدالة الانتقالية بشكل مباشر كجبر الضرر والعفو والمصالحة والتسويات والمساءلة، أو غير مباشر كالإصلاح القانوني والسياسي والمؤسساتي أو التأسيس لثقافة جديدة في المجتمع.
تسعى هذه الورقة للإجابة على السؤال الرئيس الآتي: ما القواعد الناظمة لعمل هيئات الحقيقة في التجارب المختلفة؟ وما يُبنى على ذلك من خيارات مناسبة لإنشاء هيئة الحقيقة في سوريا؟ ويتفرع عن هذا السؤال مجموعة من الأسئلة الفرعية لعلّ أبرزها:
- ما أهمية كشف الحقائق في سياق معالجة انتهاكات الماضي وما موقف القانون الدولي من ذلك؟
- كيف تطوّرت القواعد الناظمة لهيئات الحقيقة في التجارب الإنسانية وما انعكاس ذلك على أدوارها؟
- ما الاختصاصات والصلاحيات التي تحوزها عادة هيئات الحقيقة؟
- ما القواعد المطلوبة في سوريا في ضوء الخصوصية السورية من جهة والدروس المستفادة من التجارب الأخرى؟
تهدف هذه الورقة بشكل رئيس إلى المساهمة في زيادة الوعي العام السوري من جهة، والتحضير القانوني التخصُّصي لأحد أبرز التشريعات القادمة في سوريا بأكبر قدر ممكن من الوعي بالفجوات والتحدّيات والمآلات الناتجة عن القواعد الواردة في إنشاء هيئة حقيقة سورية.
اعتمدت هذه الورقة على منهجية البحث المكتبي والذي يعتمد على البيانات الثانوية، وبالاستناد إلى أساليب التحليل النقدي من حيث مراجعة الأدبيات وتقديم خلاصات تحليلية مُبسَّطة[3]، كما اعتمدت على المنهج الاستقرائي بغية الوصول إلى نتائج كليّة من التجارب الخاصة والاستفادة منها في الحالة السورية، مع استخدام المنهج المقارن كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
تنقسم الورقة إلى ثلاث أقسام رئيسة؛ نناقش في القسم الأول مفهوم هيئات الحقيقة في الأدبيات المختلفة والقانون الدولي، في حين يُركّز القسم الثاني على دراسة نماذج لهيئات الحقيقة وأدوارها في تجارب لاتينية وإفريقية وعربية، ليتم التركيز في القسم الثالث والأخير على القواعد الناظمة المقترحة في الحالة السورية.
1- مفهوم هيئات الحقيقة: نظرة في الأدبيات المختلفة والقانون الدولي:
في جوهر محاولات الدول المختلفة من أوروبا الشرقية ووسطها إلى الدول اللاتينية والإفريقية تزايد الاهتمام بكشف الحقائق السابقة بمعناها الشامل، ولأن هذه العملية تحتاج لهيكل يتولى هذه المهمة نشأت هيئات الحقيقة من رحم الحاجة العملية وتطورت مع تطوّر التجارب، وتعزّز ذلك مع اعتراف القانون الدولي اعترافاً واضحاً بحق الضحايا والناجين في معرفة الحقيقة بشأن الظروف التي أحاطت بانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان وتحديد المسؤول عنها.
1-1: إضاءات أساسية في هيئات الحقيقة:
للإضاءة بشكل عام على هيئات الحقيقة يمكن التركيز على أربع نقاط رئيسة، وهي تعريفها وأهميتها وسماتها الرئيسة، وأيضا تمييزها عن الهيئات الأخرى الشبيهة، وذلك على النحو الآتي:
أ- تعريف هيئات الحقيقة وأهميتها:
على غرار تعريف العدالة الانتقالية، قُدِمت تعريفات عديدة في الأدبيات المختلفة لهيئات الحقيقة متأثرة بشكل عام بمجموعة من العوامل؛ من أبرزها السياق الوطني، فمنها من اقتصر على البُعد التاريخي لعمل الهيئات[4]، أو التركيز على اختصاصاتها الرئيسة[5]، كذلك تم تقديم تعريفات أمميّة لها[6]، ومع سبر مجموعة واسعة من هذه الطروحات يمكن القول عموماً إن هيئات الحقيقة هي: هيئة رسمية إدارية شبه قضائية لها بعض صلاحيات الإحضار والتحقيق.. الخ، كما أنها مؤقتة ولذلك فهي تحوز على طبيعة قانونية خاصة وتقوم بتحريات موسّعة في انتهاكات حقوق الإنسان والقضايا الوطنية الكبرى وتُقدّم خلاصات عملها عادة في تقارير نهائية ضخمة لا تكتفي بتوصيف ما حدث فقط بل تُقدّم مدخلات أساسية للبرامج الحكومية اللاحقة في شتى آليات العدالة الانتقالية.
تستمدّ هيئات الحقيقة أهميتها الرئيسة من أهمية كشف الحقائق في البلدان التي تنشد التحوّل نحو دولة عادلة، وإحداث قطيعة فعليّة مع ماضٍ من الانتهاكات والابتعاد عن مخاطر الانزلاق مُجدّداً نحو الاستبداد والنزاعات. إذ تكتسب أنظمة الحكم القمعية عادة قوّتها من إخفاء تصرّفاتها لأنها تدرك مدى القوة الكامنة في كشف الحقيقة، لذا فإنها تسعى إلى إعادة كتابة التاريخ بُغية إضفاء الشرعية على نفسها، وبالمعنى المعاكس فإن الكشف عن حقيقة الجرائم والانتهاكات المرتكبة بحق المجتمع يُساعد على فهم أسباب الإساءات وإنهائها ويدعم عملية التعافي واستعادة الكرامة الشخصية للضحايا، وضمان مكافحة إفلات الجناة من العقاب وضمان عدم إنكار حدوث الفظائع من قبل الحكومات اللاحقة والمجتمع بصفة عامة، بمعنى أن نتائج أعمالها تؤدي لإنتاج الرواية الرسمية وحسمها، لذلك لا تغدو الحقيقة مجرّد أمر مطلوب بل تصبح أمراً ضرورياً وحتمياً وأساساً لضمان عدم تكرار الانتهاكات[7].
كما سمحت هيئات الحقيقة في جعل أصوات الضحايا مسموعة بوصفها أصبحت منبراً لهم، وعزّزت التكامل الاجتماعي عبر وضع حدّ لاستمرار السخط وانعدام الثقة بعد الاعتراف بالجرائم والمعاناة، وكل ذلك عبر تعزيز سيادة القانون، وساهمت في تحديد مُتطلّبات الإصلاح والمسارات الانتقالية الأخرى[8]، فالتجارب العملية كشفت أهمية أدوار هيئات الحقيقة في الانطلاق الصحيح لمجمل آليات العدالة الانتقالية بما فيها الإصلاح الاقتصادي والإداري ومعالجة تهميش المناطق الجغرافية والاضطراب في توزيع الثروة ..الخ، ومن هذا المنطلق أصبح الكشف عن الحقائق كإعمال للحق في الحقيقة أو المعرفة أساساً للعدالة.
ب- السمات الرئيسة لهيئات الحقيقة:
على الرغم من أن منظومة العدالة الانتقالية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياقات الوطنية وتتأثر بتغيّرات عديدة كنمط التحوّل في البلدان، وهو ما ينعكس على هيئات الحقيقة كأبرز آليات العدالة الانتقالية ويجعل من كل هيئة حقيقة حالة متميزة وفردية، إلا أنه يمكن تحديد مجموعة من السمات الرئيسة؛ ومن أبرزها:
- هيئات الحقيقة هيئات وطنية رسمية غير دائمة: فهي ليست هيئات مدنيّة أي تنشأ من قبل المجتمع المدني أو هيئة دولية[9]، وبما أنها تنشأ في مراحل انتقالية لمعالجة انتهاكات الماضي فهي هيئات لا تنشأ في ظروف الاستقرار كهيئات حقوق الإنسان الوطنية المستقلة ولا تستمر بعد مراحل التحوّل، ويُبنى على صفتها الاستثنائية هذه زوالها وعدم ديمومتها بمجرد انتهاء أعمالها، فهي هيئات مؤقتة وليست دائمة[10].
- هيئات الحقيقة ذات طبيعة قانونية خاصة: فهي ليست هيئات قضائية ولا تُصدر أحكاماً بالعقوبة، عبر جمع الأدلة وتقديمها والمحافظة عليها من الضياع، وتحديد الضحايا والمجرمين، مما ينعكس بكل تأكيد على مسارات المحاكمة الجنائية اللاحقة الوطنية أو الدولية[11]، من جانب آخر فإن هيئات الحقيقة ليست هيئة برلمانية، وتتصف بالاستقلالية عن الدولة ممثلةً بسلطاتها الثلاث، وبذلك تنعكس استقلاليتها على الاستقلال المالي والإداري والتشغيلي[12]، في مقابل ذلك تتمتّع الهيئات بصلاحيات عديدة مختلفة بين التجارب كصلاحية التفتيش والمصادرة والحجز ومنح العفو المشروط.. الخ.
- هيئات الحقيقة ذات اختصاصات موضوعية وزمنية مُحدَّدة: عادة ما يُحدّد الصكّ القانوني المنشأ لهيئة الحقيقة كلاً من ولايتها الزمنية من حيث الفترة التي تختص في النظر في انتهاكات حقوق الإنسان فيها، ومدة عملها؛ أي الفترة الزمنية التي يجب فيها أن تنجز أعمالها مع قابلية التمديد أحياناً، وعادة ما تتراوح المدة بين سنة إلى بضع سنوات كحدّ أقصى، والاختصاص الموضوعي؛ أي تحديد أنواع الانتهاكات التي تدخل في نطاق اختصاصها على سبيل الحصر[13].
- هيئات الحقيقة تقوم بسلسلة من الأنشطة المتكاملة: تعمل هيئات الحقيقة على تنفيذ مجموعة من الأنشطة التي من خلالها تُنفّذ وظائفها وتسعى لتحقيق أهدافها، ومن أبرز الأنشطة الجوهرية التي تقوم بها عادة؛ عمليات جمع البيانات وتنظيمها، والقيام بعمليات البحث والتحرّي، والاستماع للشهادات، والاتصال المستمر بالجمهور، وإعداد السّجلات، وعقد الجلسات العلنيّة[14].
- هيئات الحقيقة تُصدر تقارير نهائية شاملة: تقوم هيئات الحقيقة باختتام أعمالها وأنشطتها من خلال تقرير شامل يتضمّن كل أعمالها ونتائجها التي تم التوصّل إليها. لكن هذه التقارير ليست نافذة بحدّ ذاتها، فعلى سبيل المثال تتضمّن التقارير مقترحات لتعويض الضحايا وإصلاح المؤسسات.. إلخ، ولكن السلطة هي من تتولّى لاحقاً تحويل ذلك إلى تشريعات أو برامج عمل، وبذلك تمثل هذه التقارير عادةً خارطة طريق على جداول أعمال القوى السياسية والمؤسسات الحكومية المختلفة[15].
ت- تمييزها عن الهيئات الشبيهة:
رغم الخصائص المميّزة لهيئات الحقيقة، عادةً ما يحصل التباس بينها وبين هيئات تحقيقية أخرى، ومن أبرزها اللجان والهيئات التحقيقية البرلمانية والهيئات واللجان التحقيقية الدولية، وفيما يلي نبرز أهم الاختلافات بين كل منهما وبين هيئات الحقيقة.
- لجان التحقيق البرلمانية: هي لجان تحقيقية تُنشأ من قبل البرلمان بشكلٍ مؤقت وتتكوّن من أعضائه وتنهي أعمالها بتقارير حول الموضوع المكلّفة به، وقد كانت أوائل أمثلتها التاريخية من ممارسات البرلمان البريطاني في عام 1789م، لتتطوّر هذه الممارسات لاحقاً مع الدول التي تأثّرت بالدساتير والمؤسسات الدستورية الفرنسية، وأصبحت أسلوباً متبعاً خاصة إذا تَشكّك البرلمان في صحة المعلومات المعطاة من قبل الحكومة رداً على سؤال مقدّم إليها، أو ما كشفت عنه المناقشة العامة في موضوع مُعيَّن، أو بمناسبة حدوث فضيحة كبرى[16].
وإذ تُعد هذه الهيئات أحد أهم أدوات رقابة السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية في النُّظم النيابية، فإن هيئات الحقيقة هي إحدى آليات العدالة الانتقالية لكشف ماضي الانتهاكات والاستجابة لحق الأفراد والجماعات في معرفة الحقيقة، وإذ تنشأ اللجان الأولى في أي مرحلة أو فترة زمنية فإن هيئات الحقيقة تنشأ عادة في المراحل الانتقالية، فضلاً عن اختلاف التكوين والعضوية بين النموذجين.
- لجان تقصّي الحقائق أو التحقيق الدولية: تتعدّد أشكال وأنماط اللجان الدولية المشكَّلة دولياً من مجلس الأمن وهيئات الأمم المتحدة للعمل على جمع الأدلة والتحقيق في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، على سبيل المثال تم تشكيل لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية بموجب قرار مجلس حقوق الإنسان في آب عام 2011م، والآلية الدولية المحايدة والمستقلة ((IIIM والتي أُنشئت من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في كانون الأول عام 2016م[17].
تتميّز الهيئات الدولية بنشأتها وولايتها الدولية ولا ترتبط بحصول تحوّل أو تغيير في الدولة، على عكس هيئات الحقيقة التي تُعدّ هيئات وطنية رسمية تنشأ عادة بعد حصول التحول السياسي.
شكل رقم (1) خلاصات أساسية في هيئات الحقيقة
1-2: الحق في معرفة الحقيقة في القانون الدولي:
ترتبط هيئات الحقيقة أصلاً بالحق في معرفة الحقيقة والذي برز بوصفه مفهوماً قانونياً على المستوى الوطني ومن ثم الإقليمي والدولي، حيث يُعرف الحق في الحقيقة بطرق مختلفة منها أنه “ذلك الحق الذي يُخوّل ضحايا وذوي انتهاكات جسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان أو القانون الدولي الإنساني، معرفة حقيقة ما جرى، وتحديد هوية مرتكبي الانتهاكات ومصير المختفين قسراً بالطرق المناسبة”[18].
تطوَّر الحق في معرفة الحقيقة في القانون الدولي زمنياً وموضوعياً من خلال ثلاث مراحل رئيسة: الأولى حيث ارتبط خلالها المفهوم بشكل رئيس بكشف مصير المفقودين والمختفين قسراً[19]، والثانية عندما توسّع المفهوم ليشمل كافة الانتهاكات المرتكبة بحق الأفراد مثل التهجير والقتل خارج القانون والتعذيب والحرمان من الحقوق السياسية والمدنية[20]. والثالثة بدأ التركيز فيها على دعم إنشاء الآليات المناسبة والفعّالة لكشف الحقائق على مستوى المجتمع ككل، كإنشاء آليات قضائية مُحدَّدة وآليات غير قضائية أخرى مثل لجان الحقيقة والمصالحة، وإعداد ونشر التقارير والقرارات الصادرة عن هذه الهيئات؛ وتنفيذ ورصد تنفيذ توصياتها[21].
بناءً على ما سبق وعلى الرغم من غياب اتفاقية دولية مُحدّدة ومُخصّصة للحق في معرفة الحقيقة أصبح يُعترف به وعلى نطاق واسع في القانون الدولي سواء عبر الصكوك الدولية والقضاء الدولي وقرارات الهيئات الدولية وعلى المستويين العالمي والإقليمي بأن الحق في معرفة الحقيقة بشأن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان هو أحد حقوق الإنسان وأنه يُمثّل حقاً مستقلاً، وأن الحقيقة هي أساس الكرامة المتأصّلة للإنسان وأنها تحمل بُعداً اجتماعياً وجماعياً أيضاً.
2- الإطار القانوني الناظم لهيئات الحقيقة في التجار ب المختلفة:
خلال العقود الماضية تم استحداث أكثر من 40 هيئة حقيقة رسمية في خضم تجارب مختلفة للعدالة الانتقالية، وذلك مؤشر للإقرار واسع النطاق لأهمية هذه الهيئات وأهمية كشف الحقائق ككل[22]، وعلى الرغم من وجود سمات عامة مشتركة بين هذه الهيئات كما استعرضنا سابقاً، إلا أن خصوصية السياقات الوطنية المختلفة من جهة والتطوّر الزمني من جهة أخرى جعل للهيئات سمات مختلفة ومتمايزة انطلاقاً من آليات إنشائها، وتسمياتها الرسمية وصولاً لاختصاصاتها وصلاحياتها، وهو ما يمكن تتبّعه بتحليل الأنظمة القانونية لمجموعة مختلفة من هيئات الحقيقة في مراحل زمنية عديدة.
2-1: آليات الإنشاء والتكوين: المسارات المختلفة
يُقصد بآليات الإنشاء والتكوين جانبان اثنان؛ الأول يرتبط بالمسار الإجرائي الخاص بإنشاء هيئة الحقيقة والثاني بمحددات تكوين الهيئة وعضويتها، وقد تعدّدت الأساليب في أشكال متعدّدة.
أ- يُعدّ المسار الإجرائي الخاص بتشكيل هيئات الحقيقة أمراً في غاية الأهمية. يمكننا تقسيم الأنماط إلى 3 أساليب مختلفة وذلك على النحو الآتي:
- إنشاء الهيئة من خلال المراسيم الرئاسية:
وهو أقدم وأشهر الأساليب اتباعاً في إنشاء هيئات الحقيقة، والذي يتمثّل بقيام السلطة التنفيذية بإصدار قرار الإنشاء وتحديد اختصاصاتها ونظامها القانوني، ويمتاز هذا الأسلوب بأنه الأسرع، إلا أن من سلبياته أنه يضع قضية في غاية الأهمية بيد السلطة التنفيذية، فضلاً عن أن الصلاحيات التي يمكن إعطاؤها للهيئة تكون أضيق بالمقارنة مع تشكيلها من قبل السلطة التشريعية التي تكون صلاحياتها عادةً أوسع من خلال القوانين، وقد توجّهت الكثير من الدول وخاصة اللاتينية مثل الأرجنتين[23] وتشيلي[24] إلى هذا الخيار، فضلاً عن دول أخرى مثل: المغرب[25] وتايلاند[26] (الشكل رقم 3).
- إنشاء الهيئة من خلال القوانين:
يرتبط هذا الأسلوب في إنشاء هيئات الحقيقة بالسلطة التشريعية من خلال قيام البرلمان بإنشاء هيئة الحقيقة من خلال إصدار قانون ناظم لها، وبذلك يكون إنشاء الهيئة عبر هيئة جماعية، وهو ما يُعدّ أكثر مشروعية لجهة وجود مداولات من هيئة يُفترض تمثيلها مكوّنات المجتمع من جهة، ويعطي الانطلاقة الإجرائية شعبية كبيرة من جهة أخرى، إلا أن أبرز سلبيات هذا الأسلوب هو عامل الزمن الذي يُعدّ حسّاساً في كثير من السياقات الوطنية والتجاذبات الحزبية ذات الصلة بقانون إنشاء الهيئة[27]، وبدورها توجّهت الكثير من الدول إلى اتباع هذا النموذج ومن أبرزها: جنوب إفريقيا[28] وتونس[29] والبارغواي[30].
- إنشاء الهيئة عبر اتفاقية بين أطراف:
يُعدّ هذا الأسلوب أقل الأساليب اتباعاً عموماً، وغالباً ما يظهر في التجارب الإفريقية دون غيرها، حيث يرتبط في جوهره بوجود معاهدة عادة ما تكون من خلال اتفاق تسوية بين أطراف مُتعدّدة مشاركة في أتون نزاع داخلي طويل، حيث يكون موضوع إنشاء هيئة الحقيقية جزءاً رئيساً من الاتفاق الذي تقوده الجهود الأممية [31]، ولذلك يمكن اعتبار هذا الأسلوب خطيراً، فمن أبرز سلبياته أن إنشاء هيئة الحقيقة يرتبط بأطراف النزاع والتي تتوافق على المعايير الأساسية للهيئة بما يراعي مصالحهم على حساب آليات العدالة المطلوبة، وفي بعض الأحيان يطال الاتفاق السابق أشخاص الهيئة، أي تكوينها وعضويتها، بمعنى آخر فإن التوافق يرتبط بضمان الولاء السياسي لمن سيتولى العملية القادمة[32].
شكل رقم 2 يوضح توجّهات بعض التجارب في المسارات الإجرائية لإنشاء هيئات الحقيقة
من جانب آخر، يُظهر ما سبق أن الفترة الزمنية التي استغرقتها التجارب المختلفة بين بداية المرحلة الانتقالية وبين إنشاء هيئات الحقيقة قد جاء مختلفاً بين تجارب استغرقت فترات زمنية وجيزة في أقل من سنة، وبين من استغرقت فترة تتراوح بين سنة وثلاث سنوات، وبين تجارب احتاجت فترات زمنية أكبر، حيث يمكن لتتبُّع معظم التجارب أن يُقدّم خلاصة زمنية عامة وفق ما يوضحها الشكل الآتي، مع ملاحظة أن ما يقارب نصف التجارب توجّهت لإنشاء هيئات الحقيقة خلال فترة زمنية ليست بالطويلة.
رسم بياني رقم 1 يوضح الفترة الزمنية التي تفصل بين حصول التحوّل وإنشاء هيئات الحقيقة
ب- تكوين هيئات الحقيقة:
مع أهمية المسار الإجرائي تبرز أيضاً أهمية من يتصدّى لهذه المهام الوطنية الحساسة، ولذلك يُعدّ اختيار أعضاء الهيئة عنصراً مؤثراً في مصداقيتها وبالتالي نجاحها، وفي هذا الصدد تبرز ثلاث قضايا رئيسة في عملية تكوين الهيئة، تتمثل فيما يلي:
- محدّدات رئيسة حاكمة لعملية تكوين الهيئة: وهي مجموعة القواعد الأساسية التي يجب أن تُؤخذ في عين الاعتبار أثناء تشكيل هيئة الحقيقة، الأمر الذي يتطلب في الحالة المثالية إجراء أكبر قدر ممكن من المشاورات حول التكوين والمواصفات والأسماء[33]، ومراعاة التوازن في التمثيل الوطني المختلفة، ومراعاة تنوع الاختصاصات الرئيسة التي ترتبط بطبيعة أعمالها كالتخصصات القانونية والاجتماعية وحتى الفنية الجنائية والطبية، وهو ما يُعدّ أمراً إيجابياً لتعزيز شرعية الهيئة وكسب ثقة الجمهور[34].
- مواصفات الأشخاص المؤهِّلة لتولّي المهمة: يوجد على المستوى النظري -على الأقل- اتفاق رئيس على ثلاث صفات رئيسة في المواصفات المطلوبة في الأعضاء؛ الأولى هي غياب الشبهات الحقوقية، بمعنى ألا يكون العضو ذا ماضٍ يرتبطُ بانتهاكات حقوق الإنسان، أما الثانية فهي شروط الاحترام الواسع في المجتمع والتي قد تُسهم المشاورات في كشفها أيضاً، واخيراً شروط النزاهة والكفاءة[35].
- طرق اختيار الأعضاء (الآلية): من الناحية النظرية، تتولّى السلطة المختصّة اختيار أعضاء هيئة الحقيقة غالباً بعد المشاورات مع المنظمات والقوى المجتمعية الأخرى، إلا أنّ الحاجة لمزيد من الضمانات حول الاختيار ومراعاة قواعد المشاركة والشفافية جعلت العملية تأخذ طابعاً مؤسساتياً أكثر، حيث برزت آلية جديدة من خلال تعيين لجنة خاصة للاختيار والتي تصل إلى قائمة نهائية، ومن ثم تتولى سلطة التعيين القانونية عملية اختيار الأسماء النهائية منها[36]
عملياً، يُظهر سبر مجموعة من التجارب وجود نمطين في طرق اختيار أعضاء هيئات الحقيقة؛ الأولى: من خلال عملية موجزة. والثانية: من خلال عملية موسّعة ركّزت على الاهتمام أكثر بالمعايير السابقة وسبل تطبيقها عملياً.
في النمط الأول: تبرز تجارب مثل الأرجنتين، حيث جاء تكوين اللجنة من ستة عشر عضواً وفق ما نصّ عليه مرسوم إنشاء اللجنة (المادة 5)، تولّى الرئيس مهمة تسمية عشرة أعضاء، فيما منح المرسوم حق تسمية الأعضاء الباقين لكل من مجلس الشيوخ ومجلس النواب بمعدّل ثلاثة أعضاء لكل منهما (المادة 6)، ومن حيث النتيجة اقتصرت عضوية النساء على سيدة واحدة فقط ودون عضوية ذوي الضحايا.
أما في تشيلي ومع حالة الاستقطاب الحاد توجَّه الرئيس بشكل منفرد لتسمية أعضاء هيئة الحقيقة، والتي ضمّت عدداً محدوداً من الأعضاء وهو ثمانية، وقد ضمت خبرات متنوّعة، إذ تتكوّن من محامين وناشطين من المجتمع المدني وأستاذينِ جامعيينِ ووزيرين سابقين، أما لجهة تمثيل الحالة السياسية فقد ضمت معارضين وأنصاراً للحكم السابق، مع عضوية سيدتين، مع أمانة استشارية مؤلَّفة من 17 محامياً و18 قانونياً وستة اختصاصيين اجتماعيين وسكرتارية ومساعدين، كما تم تحديد وزارة العدل كجهة رسمية داعمة إدارياً وتقنياً لإنجاح عمل اللجنة[37].
أما في المغرب والتي أُنشئت فيها أيضاً هيئة الحقيقة عبر ظهير ملكي فقد جاءت الإجراءات مباشرة وموجزة، حيث تشكلت الهيئة من سبعة عشر عضواً، بالاستناد إلى ترشيح من المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وكان تسعة أعضاء في الهيئة هم أصلاً من أعضاء المجلس الاستشاري ذاته، واقتصر تمثيل النساء على امرأة واحدة فقط، وكان عدد من الأعضاء من مناضلي حقوق الإنسان والسجناء السابقين ومنهم رئيس الهيئة[38].
أما في النمط الثاني، فبرزت تجارب عديدة ركّزت على التكوين ومعاييره، فعلى سبيل المثال: في جنوب إفريقيا وبموجب قانون “دعم الوحدة الوطنية والمصالحة” رقم 34 لعام 1995م تم تفويض الرئيس “مانديلا” بمهمة اختيار أعضاء المفوضية وألزمه التشاور مع مجلس الوزراء، مع وضع محدّدات عامة في نصوص القانون تُقيّد من سلطته في اختيار أعضاء الهيئة، فقد حدّد القانون عدد الأعضاء بما لا يقل عن أحد عشر عضواً وبما لا يزيد عن سبعة عشر، على أن يتوفّر في الأعضاء شروط عامة وهي أن يكونوا لائقين ونزيهين ومحايدين، وإضافة لذلك اشترط القانون ألا يكون أيٌّ منهم شخصيات سياسية من مستويات عالية في العمل الحزبي والسياسي سابقاً[39].
قام الرئيس إثر ذلك التفويض باعتماد آلية مميّزة من خلال عملية ترشيح مفتوحة في جميع أنحاء البلاد، ليتم مقابلة المرشحين بشكل علني من قبل لجنة اختيار مستقلّة تضم ممثلين عن جميع الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والهيئات الدينية في البلاد[40]، ليتم من حيث النتيجة تعيين 17 عضواً، وبنسبة تمثيل عالية للنساء، حيث تكوّنت من تسعة رجال وسبعة نساء[41] .
أما في تجربة سيراليون، فقد حدّد قانون لجنة الحقيقة والمصالحة عام 2000 مواصفات الأشخاص المؤهّلين ليكونوا أعضاء في اللجنة، وهي أن يكونوا من ذوي النزاهة والمصداقية والحيادية، والحائزين على ثقة الشعب من ذوي الكفاءة العالية، وجعل للهيئة تكوينا مختلطاً، حيث تألفت من أربعة أشخاص وطنيين وثلاثة أجانب، وتم فتح باب الترشيح لأي شخص تنطبق عليه المواصفات أمام منسّق الاختيار “الأممي”، الذي يقوم بتحديد قائمة مختصرة من 10 إلى 20 شخصاً للمرحلة النهائية بمساعدة لجنة استشارية، هؤلاء يتم مقابلتهم من لجنة سداسية تقوم برفع ملاحظاتها عنهم لمنسق الاختيار، الذي يقوم أخيراً بترشيح أربعة منهم للرئيس، وبدوره يقوم الممثل الخاص للأمم المتحدة في سيراليون بتقديم أربعة أسماء إلى الرئيس للتعيين الرسمي[42]، بالتوازي: رشّحت المفوضية السامية لحقوق الإنسان ثلاثة مفوّضين دوليين، وقد تألفت اللجنة المعينة بصورتها النهائية من أربعة رجال وثلاث نساء[43].
كذلك، ذهبت تونس إلى اختيار الأسلوب التشريعي في إنشاء هيئة الحقيقة، حيث حدد القانون (53) عدد أعضاء هيئة الحقيقة بخمسة عشر عضواً بحيث يكون نسبة أي من الجنسين لا تقل عن الثلث فيها، وجعل مهمة اختيارهم من خلال البرلمان، وحدّد شروط العضوية بأن يكونوا من ذوي الكفاءة والنزاهة والحياد (المادة 19)، بالإضافة لمجموعة شروط أخرى تفصيلية[44]، وأنه يجب أن يكون من بين الأعضاء ممثلون عن منظمات الضحايا، وعن جمعيات حقوق الإنسان تُرشّحهم منظماتهم، بالإضافة لقاضٍ عدلي وقاضٍ إداري ومحامٍ ومختصٍ مالي وشرعي من باقي الأعضاء الـ 11 الذين يتم ترشيحهم فردياً.
شكل رقم 3 يوضّح توجّهات بعض التجارب في آليات تكوين هيئات الحقيقة
2-2: الاختصاصات والصلاحيات: من التضييق إلى التوسُّع
مع أهمية المسارات الإجرائية وآلية التكوين ومعاييرها؛ تبرز قضايا رئيسة مهمة وجديرة بالنقاش الواسع عند الولوج إلى القواعد الموضوعية لهيئات الحقيقة، باعتبارها المحدّد الرئيس لآليات عملها ونتائجها المتوقّعة، وبالتالي تأثيرها في تصفية تركة الماضي والتطلُّع للمستقبل. في هذا الصدد توجد ثلاث قضايا رئيسة، وهي الاختصاص الزماني والاختصاص الموضوعي والصلاحيات المختلفة التي تحوزها الهيئة لإعمال اختصاصها وتحقيق أهدافها.
أ- الاختصاص الزماني:
يُقصد بها الفترة الزمنية التي تختصّ هيئة الحقيقة بالتحقيق فيها، بمعنى آخر فترة الانتهاكات السابقة التي تعمل الهيئة لكشف حقائقها وتحديد الجناة والضحايا، وتظهر التجارب وجود تنوّع في التوجُّهات نحو الاختصاص الزماني بين تجارب تميل لتحديد اختصاص زمني قصير وأخرى تميل إلى تحديد فترات زمنية طويلة تصل لعدة قرون سابقة، وهي عملية ترتبط بشكل رئيس بالسياق الوطني وظروف التحوّل، إلا أنه من المهم التنويه إلى وجود تبعات لكل خيار، فمع التوجّه لجعل الفترة الزمنية موضوع البحث والتحقيق أقصر تكون الأعمال أسهل وأكثر إنجازاً، لكنها في الوقت نفسه لا تتعمق في جذور الانتهاكات، وتترك قضايا قد تكون وطنية وكبرى عرضة للجدل وعدم الحسم، في المقابل فإن الفترات الزمنية الأطول تواجه تحديات في الوصول للأدلة وتعقيدات عملية عديدة لكنها تأتي بنتائج أكثر تعمُّقاً وفهماً.
قامت بعض التجارب بتحديد الإطار الزمني السابق للنزاع منها تجربة الأرجنتين التي حددت فيها الولاية الزمنية بين أعوام 1976م حتى عام 1983م وهي فترة “الحرب القذرة” أي حكم المجلس العسكري، وعلى ذات النحو سارت تشيلي، حيث تم تحديد الولاية الزمنية بفترة انقلاب “بينوشيه” والتي تراوحت من عام 1973م حتى عام 1990م.
فيما توجّهت تجربة جنوب إفريقيا لتحديد فترة زمنية طويلة من تاريخ الاحتجاجات الكبرى الأولى عام 1960 حتى عام 1994، أما في سيراليون فقد تم تحديد ولاية هيئة الحقيقة بحيث تغطي مباشرة الفترة الممتدة ما بين عام 1991م حتى تشكيلها بعد اتفاق لومي للسلام عام 1999م، مع فتح المجال أمام الهيئة بالتحقيق لما قبل عام 1991 بهدف وحيد هو فهم أسباب وجذور النزاع في سيراليون، وبذلك امتلكت الهيئة اختصاصاً زمنياً أساسياً لفترة النزاع واختصاصاً مكملاً وزمنياً للتحليل والفهم المعمق، في حين توجهت كينيا لتحديد ولاية زمنية هي الأطول بمقدار 45 سنة.
أما عربياً، توجّهت تجربة المغرب لتُحدّد الاختصاص الزمني للهيئة ليشمل فترة طويلة ممتدة من بداية الاستقلال عام 1956م حتى تاريخ مصادقة الملك على إحداث هيئة التحكيم المستقلة عام 1999، وعلى ذات النحو توجّهت تونس في هيئة الحقيقة والكرامة ليمتد الاختصاص من عام 1955م وحتى صدور القانون عام 2013م.
ب- الاختصاص الموضوعي:
يُقصد به أنواع الانتهاكات التي تختصّ هيئات الحقيقة بالنظر فيها، فقد تكون شاملة لجميع الانتهاكات، وقد تكون قاصرة على الجسيمة منها، من جانب آخر قد يكون الاختصاص الموضوعي محدداً بدقة، أو قد يكون مرتكزاً على معيار واسع وقابل للتفسير، حيث يمكن ملاحظة أن التجارب الأقدم والنهج التقليدي ركّز على الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان كالقتل تحت التعذيب والإخفاء القسري.. الخ، في حين برزت تجارب أحدث تُركّز أيضاً على انتهاكات اقتصادية وثقافية وهو ما يجعل اختصاصات هيئة الحقيقة موسّعة موضوعياً، وبطبيعة الحال فإن لكل من الخيارين سلبياته؛ فالاختصاص الموضوعي الأضيق قد يتطلّب لاحقاً إنشاء لجان جديدة أو أنها تؤدي لاستبعاد جرائم وأحداث مهمة تتشابك مع الانتهاكات الجسيمة وخاصة في البعد المالي، في حين تبرز إشكالية توسّع اختصاصات الهيئة في استحالة أداء مهامها بصورة مقبولة[45]، وهي القضية التي بدأت تحوز على نقاشات عديدة مع التوسّع الكبير في اختصاصات هيئات الحقيقة وتحوّلها تدريجياً للمرتكز الأساس للعدالة الانتقالية ككل وتحميلها وظائف أكبر وطموحات أكبر تُهدّد بفشلها منذ البداية[46].
في النماذج التي حدّدت الاختصاصات فيها بشكل ضيق تبرز حالة الأرجنتين، إذ حُدِّدَ الاختصاص الرئيس في نظر جرائم الإخفاء القسري، أما في تشيلي فقد تم تحديد الانتهاكات التي ستنظرها الهيئة بالاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والتعذيب المفضي للوفاة والإعدام خارج إطار القانون والاختطاف لغايات سياسية.
فيما توجّهت تجارب أحدث إلى التوسّع، على سبيل المثال اختصت المفوضية في جنوب إفريقيا بالنظر في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والتي عرّفها القانون 34 /1995 بأنها عمليات قتل أي شخص، أو تعذيبه أو إساءة معاملته بشدة أو أية محاولة أو مؤامرة أو تحريض أو الأمر من أي شخص للقيام بذلك بدافع سياسي[47]، أما في سيراليون فقد اختصت الهيئة بانتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني وهو نطاق موضوعي واسع يشمل جميع انتهاكات الحقوق، أما في البيرو فتم التركيز على انتهاكات الحقوق المدنية والسياسية إلا أنه عملياً تشابكت هذه القضايا مع انتهاكات اقتصادية وثقافية عند جلسات الاستماع وأخذ الشهادات مما جعل التقرير النهائي يتناول هذه القضايا في توصياته[48]، أما في تجربة كينيا فقد توجَّه قانون العدالة والمصالحة لعام 2008 للتوسّع في الاختصاص الموضوعي ليشمل انتهاكات متنوعة، وهي: الجرائم ضدّ الإنسانية، والإبادة الجماعية، والإخفاء القسري، والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وحتّى صفقات بيع الأراضي غير المشروعة والمظالم التاريخية[49].
عربياً، جاءت اختصاصات الهيئة في المغرب لتشمل حالات الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والقتل تحت التعذيب، والنظر في مسؤوليات مؤسسات الدولة عن الانتهاكات، فيما جاء اختصاص هيئة الحقيقة والكرامة في تونس واسعاً ليشمل كشف انتهاكات حقوق الإنسان بمعناها الواسع والتي عرفت في القانون بشكل عام أنها: “جسيمة وممنهجة”، بما يشمل الانتهاكات الإدارية والمالية.
التجربة | الاختصاص الزماني | الطبيعة | الاختصاص الموضوعي | الطبيعة |
الأرجنتين | 7 سنوات | فترة الحكم العسكري المباشرة | جريمة الإخفاء القسري | محدد |
تشيلي | 17 سنة | فترة الحكم العسكري المباشرة | الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والتعذيب والإعدام خارج إطار القانون والاختطاف | محدد |
جنوب إفريقيا | 34 سنة | جذور الاحتجاجات | الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان | واسع ومعرف |
سيراليون | 8 سنوات | فترة النزاع المسلح + إمكانية التعمق التاريخي | انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني | واسع |
المغرب | 43 سنة | منذ الاستقلال | الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والقتل تحت التعذيب الانتهاكات الجسيمة لمؤسسات الدولة | محدد |
كينيا | 45 سنة | جذور النزاع | انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والجرائم الاقتصادية | واسع/ شبه معرف |
تونس | 58 سنة | منذ الاستقلال | انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وجرائم الفساد | واسع |
جدول رقم 1 يوضح توجهات بعض التجارب في الاختصاص الزمني والموضوعي
ت- صلاحيات هيئات الحقيقة:
تمتلك هيئات الحقيقة مجموعة من الصلاحيات التي تمكنها من تطبيق اختصاصاتها وتحقيق أهداف وغايات إنشائها، وعلى الرغم من اختلاف الصلاحيات بشدة بين التجارب المختلفة، إلا أنه لا خلاف على أن الصلاحيات التي تحوزها تُعدّ مؤشراً على قوتها وتأثيرها المحتمل، وأن السمة العامة التي تظهرها عملية سبر التجارب هي وجود توسّع مستمر لصلاحيات الهيئة، وهو ما يمكن استعراضه عبر ثلاث أنماط على النحو الآتي:
- صلاحيات محدودة ومقيّدة: حيث تمتلك الهيئات في هذا النمط بعض الصلاحيات البسيطة كتلقّي الشهادات وطلب الحصول على المعلومات وزيارة الأماكن ذات الصلة كالمعتقلات السابقة، دون أن تملك صلاحيات أكبر، على سبيل المثال لم تمتلك الهيئات في الأرجنتين وتشيلي صلاحية الكشف عن أسماء مرتكبي الانتهاكات للجمهور أو إحالتهم للقضاء، أو حتى صلاحية التفتيش أو الإحضار أو التوقيف، في حين امتلكت صلاحيات تحديد الانتهاكات ومرتكبيها ورفعها بقائمة سرية للرئيس، وبشكل أكثر وضوحاً لم تمتلك تجربة المغرب صلاحية البحث في مسؤولية الأفراد عن الانتهاكات أصلاً، وكذلك كانت الهيئة في غواتيمالا غير مخوّلة بأن تُحمِّل أيّ فرد مسؤوليّة الانتهاكات أو حتى تسطير مذكرات إحضار[50].
- صلاحيات واسعة: ومن خلالها تمتلك الهيئات صلاحيات موسّعة عن سابقاتها بما يساعدها على أداء مهامها. على سبيل المثال: امتلكت تجربة جنوب إفريقيا صلاحية التفتيش والمصادرة، وسلطة إحضار الشهود وإعداد ملفات قضائية للملاحقة أمام القضاء، في حين امتلكت الهيئة في تجربة سيراليون صلاحيات الاستعانة بالقادة التقليديين والدينيين في أنشطتها، وتسوية النزاعات المحلية، وتحديد مسؤوليات كل من الأفراد والمؤسسات عن الانتهاكات، وسلطة طلب السجلات والتقارير والمستندات التي تراها ضرورية، وصلاحية تفتيش أي مكان دون إذن مسبق، وإصدار مذكرات الإحضار، كذلك حازت الهيئة في تجربة تونس على صلاحيات واسعة.
- صلاحيات استثنائية: وهي مجموعة الصلاحيات التي تميّزت بها بعض التجارب عن سواها أو جاءت لأول مرة في تاريخ التجارب المختلفة، على سبيل المثال امتلكت الهيئة في جنوب إفريقيا صلاحية منح العفو المشروط “العفو مقابل الحقيقة”، أو صلاحية العفو عن الجرائم غير الخطيرة؛ أي تلك التي لا تشمل القتل أو الاغتصاب[51]، في حين امتلكت تجربة المغرب صلاحية منح التعويضات بشكل مباشر بدلاً من اقتراح الخطط فقط، كذلك امتلكت الهيئة في تونس صلاحية إحالة الملفات القضائية، والتسوية في الجرائم الاقتصادية.
شكل رقم 4 صلاحيات هيئات الحقيقة
3- نحو إنشاء هيئة حقيقة سورية فاعلة:
في سياق معقّد كالسياق السوري تبرز أهمية كشف الحقائق وترسيخ النتائج الواسعة لهذه الحقائق المكتشفة في الضمير العام كأهم القضايا الجوهرية التي تسهم في تحصين المستقبل السوري من تكرار الانتهاكات أو إعادة إحياء منظومة نظام الأسد البائد أو حصول ثورات مضادة أو حتى التقويض من السلم الأهلي.. الخ، ولذلك من المهم التفكير في مجموعة واسعة من القضايا والتي تتحوّل إلى قواعد ناظمة لهيئة الحقيقة السورية تضمن الاستفادة من دروس التجارب المختلفة وتحيط الهيئة بضمانات النجاح التي تُمكّنها من تحقيق غايات إنشائها، وهو ما يسمح بدوره في ضمان عدم تكرار ما حصل أو التلاعب بالتاريخ وتزويره.
بالنظر إلى المرحلة السابقة في التأسيس لمسار العدالة الانتقالية في سوريا فقد جاءت أولى الخطوات الكبرى عبر دسترة مواد في الإعلان الدستوري السوري حول العدالة الانتقالية، كان أبرز ما فيها النص على إنشاء هيئة حقيقة سورية عملياً تحت مسمى “هيئة العدالة الانتقالية” في المادة 49 والتي نصّت على إنشاء هيئة عدالة انتقالية “تعتمد آليات فاعلة تشاورية” لتحديد سبل المساءلة ومعرفة الحقيقة والإنصاف وتكريم الشهداء، ليتم عملياً في 17 من شهر أيار للعام 2025م إصدار مرسومين؛ الأول رقم 19 والقاضي بتشكيل الهيئة الوطنية للمفقودين في سوريا، والمرسوم رقم 20 والقاضي بتشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، حيث تضمّن كلٌّ من المرسومين تسمية رئيس كل هيئة وبعض الفقرات الموجزة عن غاياتها، وهذا ما يترك الباب مفتوحاً للتفسير حول تكامل عمل الهيئتين، وهو ما يجب عملياً أن يحصل نظراً للتقاطعات التي لا يمكن فصلها عملياً، أو عملهما بشكل منفصل، وهو ما يرتب مخاطر للتشتت والتداخل في الجهود، ولذلك ورغم أهمية هذه الخطوة المنتظرة فإن العديد من النقاط الإجرائية والموضوعية يمكن الوقوف عندها.
1-3: في المسار الإجرائي والقواعد الشكلية: ما يمكن استدراكه
كما كان متوقعاً بناء على تحليل نص الإعلان الدستوري فإن إنشاء الهيئة كان سابقاً على المشاورات ولم يكن مشروطاً باتباع مسار إجرائي مُعيَّن[52]، ولذلك وبعد أن صدر المرسوم وحُسمت قضية مسار التشكيل واسم رئيس كل من الهيئتين وبذات الوقت إحداث هيئتين بدلاً من هيئة واحدة، وتحديد المراسيم لمهلة 30 يوماً لتشكيل “فريق العمل” وإعداد النظام الداخلي والتي يبدو أنها لن تكون كافية وقد تحتاج لتمديد لا يقل عن ثلاثة أشهر، فإن ثلاث قضايا رئيسة يمكن الوقف عندها وهو ما يصح على كل من الهيئتين المنشأتين:
1- آلية التكوين: مع إغلاق الباب أمام التفكير بآلية مباشرة كالتعيين في متن المرسوم أو بآلية برلمانية أو عبر لجنة خاصة، كون تشكيل الهيئة قد حصل فعلياً وتم تفويض رئيس الهيئة بإدارة العملية، فإن المتاح عملياً التوجه نحو فتح الباب أمام تحديد قائمة كبيرة من الأسماء وتفحّص سجلاتهم وإجراء مقابلات موسعة معهم والوصول لقائمة صغيرة يتم المراجحة بينها على أساس محددات تكوين الهيئة.
2- تكوين الهيئة: بالنظر إلى غياب مُحدّدات في المرسوم ووجود تفويض لرئيس الهيئة بتشكيل فريق العمل مفتوح العدد، فإن الارتداد إلى القواعد المعيارية يبدو مهماً في السياق السوري، بحيث يمكن مراعاة ما يلي:
أ- عدد الأعضاء: مع غياب الإجابة المعيارية لعدد الأعضاء (في التجارب المختلفة نجد أن الأعداد قد تراوحت ما بين 7 إلى 17 عضواً)، يمكن ترجيح عدد لا يقل عن 14 عضواً؛ استناداً إلى الموازنة بين حجم المهام والقدرة على إنجازها، واحتمالات عدم استمرار عضو الهيئة في مهامه. مع ملاحظة أن عدد الأعضاء قد يتناسب طرداً مع حجم الانتهاكات المرتكبة وطول الفترة الزمنية التي ارتُكبت فيها.
ب- معايير التكوين: يمكن التفكير بالشكل المناسب الذي يجب أن تعكسه الهيئة في تشكيلها النهائي بحيث تضمن مشاركة للنساء والضحايا وذويهم، وتمثيل المدافعين عن حقوق الإنسان، وتمثيل للكفاءات الفنية المطلوبة، وشرائح المجتمع، وهو ما يسمح بوجود كفاءات من جهة وتمثيل واسع من جهة أخرى.
ج- شروط العضوية: يمكن التفكير بمجموعة معايير يجب أن تتوفّر لدى أعضاء الهيئة وفي مقدّمتها بالطبع عدم الارتباط أو دعم نظام الأسد، وشروط النزاهة والكفاءة، مع شروط سلبية كعدم وجود شبهات حقوقية.
3- ترميم الفجوة التشاركية: كان من المفضَّل أن يأتي النص الدستوري ليُحدّد عملية مشاورات سابقة للتشكيل وبما يوضح المسارات الإجرائية وآلية التكوين المتوافق عليها قدر الإمكان، إلا أنه مع تشكيل الهيئات يمكن المضي حرفياً في تطبيق النص الدستوري والقيام بمشاورات عملية مسرعة، لكن ضمن خريطة مُحدّدة تراعي المساحات الجغرافية والقوى المتنوعة والهيئات وروابط الضحايا، دون أن تتحوّل العملية إلى حالة دائرية تستهلك الجهود والوقت، بما يُركّز على جلسات استماع لمدخلات وأفكار حول خمس نقاط رئيسة؛ اثنتين شكليتين عن الشروط الإيجابية والسلبية لفريق العمل في كل من الهيئتين، وخريطة تكوين الهيئة النهائية، وما تبقّى موضوعية تطال قواعد الاختصاص والصلاحية.
2-3: في قواعد الاختصاص والصلاحيات: أولوية النظرة الواقعية
كما سبق ذكره في الأساليب الخاصة بإنشاء هيئات الحقيقة فإن خيار الإنشاء عبر مرسوم من السلطة التنفيذية كان متاحاً في تجارب عديدة، وبغضّ النظر عن الجدل الدستوري حول صلاحية إنشاء هيئات اعتبارية بمرسوم في ظل نظام رئاسي حالي في سوريا، فإن كل التجارب السابقة جاءت بمجموعة مواد مُحدّدة تُغطّي القضايا الرئيسة وإن كانت موجزة، بمعنى أنها حسمت قضايا الاختصاص الزماني والموضوعي والصلاحيات ..الخ، باستثناء وحيد يُشابه نوعاً ما الحالة السورية، وهو تجربة المغرب، حيث تم تكليف هيئة الإنصاف والمصالحة، مع تحديد كامل الأعضاء، بمهمة إعداد نظام داخلي مفصّل، ومن ثم إصدار ظهير ملكي به.
على كل الأحوال فإن القضايا ذات الصلة بهذه الجوانب الموضوعية ما تزال مبهمة وبانتظار إعداد النظام الداخلي، وهو ما يفتح الباب أمام الحديث عن القواعد الخاصة بالاختصاص والصلاحيات، وفيما يلي أبرز النقاط المقترحة:
أ- في الاختصاص الزماني:
في كل التجارب كان الاختصاص الزمني يُغطّي فترة زمنية بطريقة اختصاص موضوعي واحد، بمعنى آخر؛ كان الاختصاص الزمني ينعكس على الاختصاص الموضوعي بطريقة واحدة كلية، باستثناء وحيد يتمثّل بتجربة سيراليون التي حددت الاختصاص الزمني بداية بفترة النزاع المسلح (1991-1999) مع فتح الباب للهيئة للتعمّق خارج الولاية الزمنية لجهة فهم جذور الصراع وحيثياته فقط، لذلك يمكن التفكير بأن يكون الاختصاص الزمني لهيئة الحقيقة السورية متدرّجاً وفق ثلاث مراحل رئيسة، وفق التدرج الآتي:
– الاختصاص الشامل: الذي تعمل بموجبه الهيئة بكل اختصاصاتها الموضوعية وهو ما يمكن أن يحدد من حيث الزمان بفترة الثورة السورية.
– الاختصاص الجزئي: تقتصر مهام الهيئة في الرجوع إلى هذه المرحلة الزمنية الأكثر عمقاً وهي مرحلة استيلاء الأسد الأب على السلطة عام 1970م باختصاصات مُحدّدة، وأهمها تحديد كبار المجرمين وتتبع الأموال المنهوبة وكتابة سردية وطنية للأحداث الكبرى فقط.
– الاختصاص الاستثنائي: وهي الفترة الأكثر عمقاً في التاريخ السوري، وتبدأ من تاريخ استيلاء البعث على السلطة، وتبحث الهيئة فيها في الأحداث الكبرى والتحوّلات الطارئة على السلطة والمجتمع فقط والتي تسعى لغاية واحدة هي فهم الحقيقة التاريخية وحسمها دون ترتيب تبعات على ذلك.
ب- في الاختصاص الموضوعي:
جاء المرسوم رقم 19 القاضي بإحداث الهيئة الوطنية للمفقودين ليُحدّد لها اختصاصاً موضوعياً واضحاً ومتمثلاً في البحث عن مصير المفقودين والمختفين قسراً، وبالتالي فإن القواعد الموضوعية في النظام الداخلي تغدو واضحة تبعاً لوجود معيار محدد، لكن في المقابل فإن المرسوم رقم 20 القاضي بإحداث الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية جاء ليُحدّد اختصاصها الموضوعي بشكل عام بالانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها نظام الأسد، وهو ما يستدعي في الحالة السورية تحديد ما تشمله الانتهاكات الجسيمة في النظام الداخلي للهيئة بشكل يوضّح اختصاصها الموضوعي ويتجنّب وجود أي التباسات.
بالعودة إلى القانون الدولي يمكن القول بشكل عام لا يوجد تعريف واحد ومحدّد لما تعنيه الانتهاكات الجسيمة، ويعود ذلك إلى إقرار الكثير من خبراء حقوق الإنسان لصعوبة وضع حدود فاصلة بين الانتهاكات الجسيمة وغير الجسيمة، لكن ثمة العديد من التعريفات المقدّمة في إطار الجهود المبذولة لذلك منها: تعريف حلقة ماسترخت عام 1992 بأنها تشمل نوعين رئيسين؛ الأول: جرائم الإبادة الجماعية والإعدام التعسفي والتعذيب والاحتجاز التعسفي لفترات طويلة والتمييز المنهجي، والثانية: انتهاكات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إذا كانت ممنهجة في نطاقها وطبيعتها[53].
فيما تُقدّم المبادئ الأساسية والتوجيهية التي اعتمدتها لجنة حقوق الإنسان عام 2005 تعريفاً للجرائم الخطيرة بموجب القانون الدولي بأنها: الانتهاكات الخطيرة لاتفاقيات جنيف لعام 1949 وانتهاكات القانون الإنساني الدولي وغيرها من الجرائم بموجب القانون الدولي كالتعذيب والاختفاء القسري والإخفاء القسري والإعدام خارج القضاء والاستعباد[54].
أما في القانون الإنساني الدولي ومع خلو اتفاقيات جنيف الأربعة والبروتوكولين الإضافيين من أي تعريفات صريحة للانتهاكات الجسمية، فقد قدمت تعداداً للجرائم التي تشكّلها كما في المادة 85 من اتفاقية جنيف الأولى، والمادة 89 من اتفاقية جنيف الثانية[55].
في حين تكشف الممارسات القضائية الدولية عن معاييرها للانتهاكات الجسيمة، فعلى سبيل المثال قامت المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا في معرض اختصاصها في مقاضاة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، بتحديد الاختصاص بالانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف الأربعة وجرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، لكن المحكمة أيضاً انتقدت التوجُّه إلى حصر الأفعال عن طريق التعداد لاستحالة ذلك مع تطور الحياة البشرية، وعلى هذا الأساس جاء قرر مؤتمر كامبالا لعام 2010 بإضافة أفعال جديدة للانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني تتمثّل باستخدام السموم والغازات السامة[56].
كما جاء نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليُحدّد اختصاصها في الجرائم الأشد خطورة، والتي حددها في المادة 5 من أحكامه بأربع جرائم هي: جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وجرائم العدوان، فيما فصلت المواد اللاحقة في أركان كل من الجرائم بوضوح[57].
أما في بعض الدول كالولايات المتحدة الأمريكية وعلى الرغم من خلو قوانين وزارة الدفاع والخارجية حول حقوق الإنسان من تعريف محدّد لمصطلح الانتهاكات الجسيمة؛ فإنها دأبت على اعتبارها ترتكز على أشكال رئيسة من الإخفاء القسري والقتل خارج نطاق القضاء والاغتصاب من القوات الرسمية والتعذيب[58].
بناء على ما سبق ذكره فإن الخيارات المتاحة أمام الهيئة الوطنية في نظامها الداخلي تأخذ أحد مسارين:
- التوجُّه الأول: والذي يرتبط بالمعنى الضيق للانتهاكات الجسيمة: وفي هذه الحالة يمكن تحديد الأفعال التي تشكل انتهاكات جسيمة من خلال التعداد الحصري أو إحالتها إلى القانون الدولي الإنساني أو القانون الجنائي الدولي وفق نظام روما، ومن إيجابيات هذا النهج هو تضييق الاختصاص الموضوعي، وبالتالي التوجه نحو سرعة الإنجاز والعقلانية في التوجُّه لتصفية الماضي في ظل انتهاكات شاملة في سوريا وعلى فترات زمنية طويلة، وهو ما يقترب من النموذج الجنوب إفريقي، لكن من سلبياته أنه يُقيّد من عملية كشف الحقائق وقدرة الهيئة عملياً على التعمق في جذور الانتهاكات، وخاصة قضايا جبر الضرر الجماعي والاعتراف الرسمي بحقوق الضحايا، ويخفّف من شمولية التوصيات للإصلاح الشامل وضمانات عدم التكرر، كما قد يضعها في مواجهة متطلّبات عملية لاحقة تتطلب التوسّع، وهو ما حصل في جنوب إفريقيا عملياً حيث اضطرت الهيئة تحت ضغط المنظمات لتوسيع الانتهاكات لتشمل سياسات الفصل العنصري[59].
- التوجه الثاني: والذي يرتبط بالمعنى الأوسع للانتهاكات الجسيمة بما يشمل كل انتهاك جسيم وممنهج على حق من حقوق الإنسان، وهو ما يفتح الباب كحال تونس للنظر من الهيئة في انتهاكات أساسية لا خلاف عليها عادة كالإخفاء القسري والجرائم الأشد خطورة في القانون الدولي وبالإضافة للانتهاكات المرتبطة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولا يمنع في هذا التوجه أن يتضمن النظام الداخلي النص بشكل مركّز على أبرز الانتهاكات دون جعل الاختصاص قاصراً عليها، وهو ما يجعل الاختصاص الموضوعي مرناً نوعاً ما بما يتجنّب مخاطر استبعاد بعض الأفعال أو الأحداث التي تستدعي التحقيق بها وكشف حقيقتها، لكن من سلبيات التوسّع في معنى الانتهاكات الجسيمة هو توسّع ولاية الهيئة بما يجعل من الصعوبة في سياق كالسياق السوري إنجاز مهامها أو يؤدي عملياً لتحميلها أكثر من ما يمكن لها أن تؤديه.
ج- في الصلاحيات الرئيسة:
عند التفكير بالصلاحيات التي يمكن أن تحوزها هيئة العدالة الانتقالية في سوريا يمكن التفكير أصلاً بالعائق الأساس المرتبط بأن هذه القواعد توجد في متن وثيقة تنفيذية، أي نظام داخلي بموجب تفويض المرسوم وليس بموجب أحكام قانون صادر عن البرلمان، بمعنى آخر فإن العائق أمام دستورية إحداث صلاحيات استثنائية وواسعة قد يثار، إلا أن التفكير في تجاوز هذه النقطة والارتكاز على تفويض المرسوم وطبيعة القواعد الاستثنائية للمرحلة الانتقالية يفتح الباب أمام التركيز موضوعياً على ما تحتاجه الهيئة عملياً من صلاحيات تتيح لها النجاح في أعمالها، وبناء على الدروس المستفادة من تجارب عديدة يمكن تقديم الاقتراحات التالية:
- صلاحية إحضار الأشخاص: يجب أن تُمنح الهيئة صلاحية إحضار الأشخاص، وخاصة المشتبه بارتكابهم لانتهاكات، لأن التجارب تشير إلى أن استدعاءهم طوعاً غالباً ما يُقابل بعدم تجاوب، وقد تبنّت تجارب مثل جنوب إفريقيا وسيراليون وتونس عملياً هذه الصلاحية لتعزيز قدرة الهيئة لكشف الحقائق، مع الإشارة إلى أن هذه الصلاحية لا تقتصر على السلطة القضائية في سوريا، إذ تتمتع بها أجهزة إدارية تنفيذية غير قضائية أيضاً، ففي سوريا تمتلك الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش هذه الصلاحية بموجب قانونها[60] .
- صلاحية التفتيش دون إذن مسبق: تحتاج الهيئة إلى صلاحية تفتيش المواقع المرتبطة بالانتهاكات دون الحاجة للحصول على إذن مسبق. وذلك لتجنّب أي محاولات لعرقلة عملها أو إخفاء الأدلة مما يضمن فعالية التحقيق وسرعته.
- صلاحية الوصول إلى الوثائق والتحفّظ عليها عند الحاجة: هذه الصلاحية الكاملة في الوصول إلى جميع الوثائق والمستندات، سواء من مؤسسات حكومية أو جهات خاصة تُعدّ وسيلة للوصول لأدلة حاسمة، مع الإشارة إلى أنه غالبًا ما تقوم الجهات المتورطة بإخفائها أو تدميرها، خاصة في قضايا تتعلّق بانتهاكات نهب المال العام، مما يجعل التعاون الطوعي معها غير مضمون، وقد شهدت سوريا بالفعل عمليات واسعة لإتلاف الوثائق في الأيام الأولى من إسقاط نظام الأسد[61].
- صلاحية فرض بعض التدابير الوقائية المهمة: كإلقاء الحجز الاحتياطي على الأموال[62]، والمنع من السفر، أو إيقاف المشتبه بهم عن العمل الوظيفي مؤقتاً لحين استكمال الملفات، وعلى الرغم من أن هذه التدابير هي من صلاحيات الجهاز القضائي من حيث المبدأ، إلا أن السلطات الإدارية تملك في بعض الحالات إصدار قرارات إلقاء الحجز بما يسمى بالحجز الإداري، ففي سوريا منح المرسوم التشريعي رقم 12 لعام 1953 لوزير المالية إقرار الحجز الاحتياطي، ولاحقاً تمّ توسيع هذه الصلاحية بموجب المرسوم التشريعي رقم 177 لعام 1969.
- صلاحية فرض تدابير الحماية للأشخاص: بلا شك سيواجه الكثير من الأشخاص في سوريا مخاطر مختلفة نتيجة تعاونهم في كشف الحقائق كالشهود أو الضحايا، كون الكثير من المتنفذين المعنيين قد يقومون بأعمال انتقامية، كما ستواجه بعض الشرائح كالنساء في معرض شهادتها على الانتهاكات بعض المخاطر المجتمعية[63].
- صلاحية إجراءات جبر الضرر المستعجلة: وذلك رغم أن جبر الضرر في سوريا عملية معقّدة وتتطلّب برامج طويلة الأمد ودعماً دولياً واضحاً، فإن منح الهيئة صلاحية اتخاذ إجراءات فورية في بعض الحالات الإنسانية العاجلة وبعض الشرائح الأكثر هشاشة كالضحايا من النساء يُعدّ أمراً ضرورياً ويساعد على تلبية احتياجات مُلحّة ويُعزّز ثقة السوريين والسوريات بالهيئة.
- صلاحية الإحالة إلى السلطة القضائية ومتابعة الدعاوى كجهة ادعاء: بعد أن تجمع هيئة الحقيقة السورية الأدلة المختلفة حول الانتهاكات التي تندرج في نطاق اختصاصها الموضوعي وبعد إحالة هذه الملفات إلى السلطة القضائية لمباشرة الملاحقة القضائية من المهم أن يكون للهيئة صفة الادعاء ومتابعة الدعاوى.
- صلاحية المصالحة على المال العام: تُعدّ الجرائم المالية في السياق السوري من أبرز الانتهاكات التي تطال جميع السوريين ومستقبلهم، فمع نهب نظام الأسد البائد لسنوات طويلة للدولة السورية فقد تشكّلت أيضاً شبكات واسعة من رجال الأعمال وتجار الحرب المنخرطين في الفساد، من جانب آخر فإن الوصول لآلية تمويل صندوق جبر الضرر المستعجل ونفقات الهيئة يتطلّب التفكير بمنهجيات فعّالة وسريعة للاسترداد، وبالنظر إلى تعقيد هذه القضايا عموماً، واتجاهات التجارب المختلفة للتعامل مع هذا الملف[64]، تبدو صلاحية إجراء تسويات حول المال العام[65]، دون أن يعطل ذلك من كشف الحقائق وتقييم حجم الفساد وأساليبه أو حتى ارتباطه بالانتهاكات الأخرى لكنه يمنع الملاحقة القضائية للمتورطين في جزئية الفساد المالي[66] حلاً جديراً بالتفكير في سوريا. بالإضافة إلى العمل على آلية من داخل الهيئة أو بشكل تعاوني معها خاصة باسترداد الأموال المنهوبة خارج البلاد، وهي عملية ترتبط بأبعاد سياسية ودبلوماسية وقانونية معاً.
شكل رقم 5 مقترحات في بناء هيئة العدالة الانتقالية السورية
خاتمة:
مع أهمية توافر القوة المعنوية الدافعة للسوريين بأبعادها الحقوقية والأخلاقية والنفسية للضغط من أجل تطبيق مسار متكامل للعدالة الانتقالية يسمح بتصفية الماضي الأليم والمضي نحو المستقبل الذي ينشده السوريون جيلاً بعد جيل، فإنه من الضرورة أيضاً الوعي بحجم التحديات القادمة والمسار الطويل المنتظر، ولذلك يبدو أن السعي لفهم أفضل لكل ما تقدمه الدروس المستفادة من تجارب أخرى يسمح بتخفيف خيبات الأمل وإدارة سقف التوقعات وتجنّب الوقوع في أخطاء يمكن تلافيها، لكنه في الوقت نفسه لا يعني التوقف عن التفكير بإيجاد حلول جديدة ومحاولات سورية لإنتاج مقاربتها الخاصة بالعدالة الانتقالية وفقاً لظروفها وسياقها الوطني.
في هذا الصدد، ومع إطلاق الخطوات الأهم منذ إسقاط نظام الأسد في سوريا عبر تشكيل هيئة العدالة الانتقالية وهيئة المفقودين، وبغضّ النظر عن حسم المسار الإجرائي بالطريقة الحالية، فإن الكثير من القضايا الملحّة التي تحتاج لحسم بشكل يسعى لتأسيس نجاح الهيئات وقدرتها على النجاح وكسب الشرعية وتحقيق الأهداف.
لذلك، خلال الفترة الحالية وضمن مدة تحضير كل التفاصيل الخاصة بالهيئات والتي شارفت على الانتهاء أو حتى حال تمديدها فإن تعيين أعضاء فاعلين وضمان بناء هيكل إداري من أشخاص أكفاء إلى جانب تبديد أي غموض يشوب ولاية اللجنة واختصاصاتها وصلاحياتها، يُعدّ من الأسس الصحيحة للانطلاقة القوية، ومن جانب آخر فإن ضمانات حوكمية عديدة تساعد في نجاح عمل هذه الهيئات. مثلاً: تحديد قواعد للتواصل مع المجتمع سواء في حملة الانطلاق الأولى وشرح كل المهام والأنشطة، أو طيلة فترة العمل كوجود إحاطات إعلامية وشفّافة خلال العمل، وتقارير تصدر شهرياً لطمأنة ذوي الضحايا، بالإضافة إلى وجود مأسسة للتشاور من خلال إحداث مجلس استشاري من ذوي الضحايا والهيئات المعنية كجهة رقابية واستشارية تتابع الأعمال المنفذة من قبل الهيئات وتقدم أفكاراً وتقييمات مستمرة.
كما تبرز أهمية التشاركية والمشاورات في هذه المرحلة تحديداً وبعدها بطريقة منهجية وواضحة المعايير-دون الدخول في دوامة لا تنتهي-، وصفة مساعدة في بناء الثقة والشرعية والحصول على الدعم الذي يُخفّف من التحديات القادمة بما فيها الهجوم على شخوص اللجنة ومنهجها.
ملحق 1 يظهر معلومات إضافية عن إنشاء هيئات الحقيقة وآليتها والأنماط الرئيسة[67]
الدولة | تاريخ الانتقال | تاريخ إنشاء هيئة الحقيقة | الفارق الزمني بين الانتقال والإنشاء بمعيار سنوي | الوثيقة المؤسسة |
الأرجنتين | أكتوبر 1983 | ديسمبر 1983 | 0.2 | مرسوم |
أوروغواي (1 من 2) | نوفمبر 1984 | أبريل 1985 | 0.4 | قانون |
تشيلي (1 من 2) | ديسمبر 1989 | مايو 1990 | 0.4 | مرسوم |
تشاد | ديسمبر 1990 | ديسمبر 1990 | 0.1 | مرسوم |
ألمانيا (1 من 2) | أغسطس 1990 | مايو 1992 | 1.8 | قانون |
السلفادور | يناير 1992 | يوليو 1992 | 0.5 | اتفاقية سلام |
غواتيمالا | يونيو 1994 | يونيو 1994 | 0 | اتفاقية سلام |
هايتي | يوليو 1994 | أبريل 1995 | 0.8 | مرسوم |
ألمانيا (2 من 2) | أغسطس 1990 | يونيو 1995 | 4.8 | قانون |
جنوب أفريقيا | أبريل 1994 | ديسمبر 1995 | 1.7 | قانون |
الإكوادور (1 من 2) | أغسطس 1996 | سبتمبر 1996 | 0.1 | وزارة الشرطة |
نيجيريا | فبراير 1999 | يونيو 1999 | 0.4 | مرسوم؛ أنظمة |
سيراليون | يوليو 1999 | فبراير 2000 | 0.6 | اتفاقية سلام |
أوروغواي (2 من 2) | نوفمبر 1984 | أغسطس 2000 | 15.8 | مرسوم |
بنما | ديسمبر 1989 | يناير 2001 | 10.2 | مرسوم |
بيرو | نوفمبر 2000 | يونيو 2001 | 0.6 | مرسوم |
غانا | يناير 1993 | يناير 2002 | 9 | قانون |
تيمور الشرقية | أغسطس 1999 | فبراير 2002 | 2.5 | بعثة أممية |
الكونغو | ديسمبر 2002 | يوليو 2003 | 0.6 | اتفاقية سلام |
تشيلي (2 من 2) | ديسمبر 1989 | سبتمبر 2003 | 13.8 | مرسوم |
باراغواي | فبراير 1989 | أكتوبر 2003 | 14.7 | قانون |
المغرب | يوليو 1999 | أبريل 2004 | 4.8 | مرسوم ملكي |
كوريا الجنوبية (2 من 2) | يونيو 1987 | مايو 2005 | 17.9 | قانون |
ليبيريا | أغسطس 2003 | فبراير 2006 | 2.3 | اتفاقية سلام |
الإكوادور (2 من 2) | يناير 2007 | مايو 2007 | 0.4 | مرسوم |
جزر سليمان | أكتوبر 2000 | أغسطس 2008 | 7.8 | قانون |
كينيا | ديسمبر 2002 | أكتوبر 2008 | 5.8 | اتفاقية سلام |
توغو | فبراير 2005 | فبراير 2009 | 4 | مرسوم |
هندوراس | أكتوبر 2009 | أبريل 2010 | 0.5 | مرسوم |
تايلاند | ديسمبر 2007 | يوليو 2010 | 2.6 | مرسوم |
ساحل العاج | أبريل 2011 | يوليو 2011 | 0.3 | مرسوم |
البرازيل | أكتوبر 1988 | نوفمبر 2011 | 22.1 | قانون |
- إقرار طالب التحكيم والمصالحة بما اقترفه كتابياً واعتذاره الصريح.
- القبول بالمشاركة في جلسات الاستماع العمومية إذا طلبت الهيئة ذلك.
- القبول بالقرار التحكيمي واعتباره قراراً نهائياً غير قابل لأي وجه من أوجه الطعن أو الإبطال أو دعوى تجاوز السلطة.
- وإذا تعلّق الطلب بانتهاك فساد مالي واعتداء على المال العام يشترط إضافة إلى ذلك:
- بيان الوقائع التي أدت إلى استفادة غير شرعية وقيمة الفائدة المحققة من ذلك.
- إرفاق المطلب بالمؤيدات التي تثبت صحة أقواله.
باحث في وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية