اللاجئون السوريون في لبنان: معاناة متضاعفة وخيارات تزداد صعوبة
مقدمة:
يشهد لبنان منذ منتصف شهر سبتمبر/أيلول الماضي حملة عسكرية واسعة تشنها “إسرائيل”، بدأت بتفجير آلاف من أجهزة “البيجر” بعناصر من مليشيا “حزب الله”، ثم تطورت إلى اغتيال قيادات في الحزب كان من أبرزهم زعيمه حسن نصر الله وقيادات كبيرة مثل هاشم صفي الدين وإبراهيم عقيل، وانتهت مؤخراً بعملية عسكرية برية في جنوب لبنان مترافقة مع غارات جوية واسعة النطاق شملت العديد من المدن والقرى في لبنان.
يبلغ عدد اللاجئين السوريين المسجّلين في لبنان أكثر من 800 ألف، فيما تشير تقديرات حكوميّة لبنانية إلى أن عدد اللاجئين السوريين عموماً يقترب من مليوني لاجئ سوري[1] من الذين نزحوا إلى البلاد بسبب الحرب التي شنها نظام الأسد وحلفاؤه على الشعب السوري، وتأثّر هؤلاء اللاجئون مثل بقية الشعب اللبناني من الحملة العسكرية التي تشنها “إسرائيل” على لبنان.
يرصد هذا التقرير أوضاع اللاجئين السوريين في لبنان بعد مرور حوالي 6 أسابيع من اشتداد العمليات العسكرية، وأوضاع اللاجئين العائدين إلى مناطق سيطرة نظام الأسد ومناطق سيطرة “قسد” ومناطق سيطرة قوى الثورة والمعارضة شمال غرب سوريا، وذلك من خلال الحوار مع نشطاء عاملين في قطاع الإغاثة والاستجابة الإنسانية، وتتبُّع ورصد المصادر المفتوحة المتعلّقة بهذا الموضوع.
وضع اللاجئين السوريين في لبنان قبل الحرب:
يقترب عدد اللاجئين السوريين في لبنان من مليونين بحسب تقديرات حكومية، منهم 880 ألف لاجئ مسجّل بشكل رسمي في إحصائيات الأمم المتحدة[2]، ويتوزع هؤلاء اللاجئون في جميع المحافظات اللبنانية، جزء منهم يُقيم في المخيمات، والجزء الآخر في المدن، ويُعاني السواد الأعظم منهم من الفقر المدقع[3].
استمرت قضية اللجوء السوري في لبنان لتكون على رأس قضايا التجاذب السياسي منذ سنوات، خصوصاً في ظلّ تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد، الأمر الذي دفع بالعديد من السياسيين اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم إلى تحميل اللاجئين أسباب الأزمات للتهرُّب من مسؤوليتهم، والتحريض على اللاجئين لتشتيت الغضب الشعبي إلى الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع[4]، كما شاركت بهذا التحريض وسائل إعلام لبنانية كبيرة[5].
عملت حكومة تصريف الأعمال الحالية على تسريع عمليات ترحيل اللاجئين إلى سوريا بشكل قسري منذ أكثر من سنة، وتمّت هذه العمليات بشكل متقطّع ومتفرّق، وكان يتم تسليم اللاجئين لقوات نظام الأسد مباشرة، أو رميهم على الطرف الآخر من الحدود بحسب ما ذكرت العديد من التقارير الحقوقية، كما لجأ العديد من المسؤولين المحليّين، مثل رؤساء البلديات، إلى استدعاء الشرطة العسكرية أو أمن الدولة اللبناني لاستخدام العنف في مواجهة اللاجئين، وذلك بطردهم بشكل كامل من القرى أو البلدات التي يُديرونها، إما إلى سوريا أو إلى مناطق أخرى داخل لبنان[6].
وعلاوة على ذلك، تعرّض لاجئون سوريون في لبنان أيضاً إلى الكثير من الانتهاكات، مثل الخطف والتعذيب والضرب، حيث كانت تتمّ بشكل مُنظَّم وسط مشاركة أو تغافل من الجيش والقوات المسلحة اللبنانية على يد عصابات أو أنصار لأحزاب سياسيّة مُعادية للاجئين[7].
الوضع الحالي للاجئين السوريين في لبنان:
تعرّض اللاجئون السوريون في لبنان إلى معاناة مضاعفة جراء العدوان “الإسرائيلي” الأخير، إذ قُتِل أكثر من 200 سوري مدني وأُصيب 273 آخرون منذ بداية العدوان حتى لحظة إعداد هذا التقرير[8]، واستهدف الطيران “الإسرائيلي” مخيمات ومراكز إيواء، كان من بينها مخيمات مُخصّصة للاجئين السوريين في منطقة زحلة[9].
ومما يجعل معاناة اللاجئين السوريين في لبنان مضاعفة هي الظروف الصعبة التي كانوا وما زالوا يُعانون منها في لبنان، إذ استمرت العنصرية والتمييز في المعاملات الحكومية وبين المجتمع اللبناني بشكل واضح، فقد صرّح وزير الداخلية اللبناني بأن الاستجابة الإنسانية التي تُقدّمها الحكومة اللبنانية تشمل فقط المواطنين اللبنانيين[10]، كما وردت العديد من التقارير التي تؤكد رفض استقبال السوريين في مراكز إيواء النازحين التابعة للحكومة[11]، وتعرُّض اللاجئين السوريين لسوء المعاملة والتحريض والاعتداء عليهم بالضرب والتعذيب[12].
وإلى جانب تقاعس الحكومة اللبنانية والمفوّضية السامية لشؤون اللاجئين عن واجباتهم تجاه اللاجئين السوريين ورفض الدولة اللبنانية استقبال السوريين في مراكز الإيواء المُخصّصة للنازحين من المناطق التي تعرّضت للقصف ارتفعت إيجارات المنازل بشكل كبير، وصار أصحاب المنازل يطلبون دفع إيجار المنازل بشكل مُسبق ولعدة أشهر، مما دفع بالعديد من العائلات السورية النازحة للمبيت في الشوارع بسبب عدم عثورهم على أماكن إيواء[13]، وتعرّضهم للإخلاء من الحدائق وإجبارهم على الانتقال إلى أماكن أخرى من قبل سلطات الأمن العام.
وإلى جانب مشكلة الإيواء، واجه النازحون السوريون في لبنان إشكاليّة في متابعة العملية التعليمية، إذ تسبّبت بعض القرارات البيروقراطية وتقلُّب السياسات بصعوبة في تسجيل الأطفال السوريين النازحين في المدارس حتى ضمن الدوام المسائي المتاح أساساً للطلاب السوريين.
كما أن التصعيد “الإسرائيلي” تسبّب في تأجيل انطلاقة العام الدراسي، واستُخدِمَت العديد من المدارس كمراكز للإيواء مخصّصة للبنانيين فقط، ومع افتتاح العام الدراسي في 4 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، لم تعلن وزارة التربية والتعليم العالي عن خطة تعليميّة تخصّ الطلاب السوريين، وكانت خطتها تُركّز فقط على الطلاب اللبنانيين، ما يزيد من غموض مستقبل الطلاب السوريين في العام الدراسي الحالي، عدا عن اشتراط قبول تسجيل بعضهم مقابل دفع مبالغ مالية كاشتراكات كانت فوق قدرة العائلات النازحة[14].
وبالنظر إلى الخدمات الإغاثية المُقدّمة للاجئين، فقد كانت أقلّ بكثير من الاحتياج، وكان معظمها استمراراً للجهود المتواضعة السابقة، ومقدّماً بتمويل خارجي “ضئيل” مخصّص للاجئين السوريين من دول مثل قطر[15]، فيما حاولت بعض منظمات المجتمع المدني أو المبادرات الشعبية البسيطة تقديم الاحتياجات الأساسية مثل الماء والمواد الغذائية، دون تأمين احتياجات أساسية مثل الإيواء والملابس الشتوية والأغطية[16].
هذا ويغيب دور مفوّضية اللاجئين والدول المانحة للمنظمات الداعمة للاجئين خلال هذه المرحلة الصعبة، إذ يفتقد اللاجئون السوريون لأبسط الأساسيات، مثل المساعدات الغذائية والملابس والأغطية الشتوية، كما أن مراكز الإيواء القليلة التي تستقبل اللاجئين وتدّعي المفوّضية الإشراف عليها تم إنشاؤها بمبادرة ودعم بعض المنظمات الموجودة وبعض المبادرات المحلية[17].
وخلال هذه الأوضاع الإنسانية الصعبة على الجميع، استمرّ المسؤولون اللبنانيون بالتحريض ضد اللاجئين السوريين والمطالبة بعودتهم إلى بلادهم، وقام وزير المهجّرين في الحكومة اللبنانية بزيارة وزير داخلية نظام الأسد لمناقشة سُبل عودة اللاجئين السوريين وتقديم التسهيلات للنازحين اللبنانيين إلى سوريا[18].
العائدون إلى سوريا:
بدأت حركة النزوح من لبنان إلى سوريا منذ بداية العدوان “الإسرائيلي” على لبنان منتصف شهر سبتمبر/أيلول الماضي، وبحسب أحدث الإحصاءات التي صدرت لحظة إعداد هذا التقرير، تجاوز عدد النازحين إلى سوريا 150 ألف لبناني، فيما عاد إلى سوريا أكثر من 350 ألف لاجئ سوري مقيم في لبنان، كما بلغ عدد النازحين لمناطق سيطرة “قسد” شمال شرق سوريا قرابة 100 ألف، ووصل إلى مناطق شمال غرب سوريا حوالي 7500 آخرين[19].
هذا ويواجه اللاجئون الذين اُضطروا للعودة إلى مناطق نظام الأسد في سوريا صعوبات جمّة، بدءاً من خطورة الطريق وصعوبته بسبب استهداف قوات الاحتلال “الإسرائيلي” الطرق والمعابر الرابطة بين لبنان وسوريا[20]، ثم سوء الأوضاع داخل سوريا وعدم تقديم حكومة نظام الأسد أي خدمات للنازحين وتركهم يفترشون الشوارع والطرقات[21]، بالإضافة إلى استمرار الممارسات القمعية مثل الاعتقال والإخفاء القسري والقتل تحت التعذيب بحق لاجئين عائدين، إذ وثقت الشبكات الحقوقية اعتقال أكثر من 200 شخص من العائدين قسراً، قُتِل منهم 6 تحت التعذيب[22].
أما بالنظر إلى أوضاع اللاجئين العائدين من لبنان إلى المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد، فقد وصل إلى مناطق شمال غرب سوريا 7500 لاجئ عبر معبر عون الدادات الذي يصل مع مناطق “قسد”، والذي عَلِق فيه آلاف من الوافدين في الأيام الأولى من النزوح بسبب إغلاقه، كما انتشرت العديد من الأخبار التي تؤكد وجود عصابة ذات علاقة بمجموعات تسيطر على المعبر وتفرض إتاوات على الأشخاص الذين يريدون العبور بالإضافة إلى ارتكاب هذه العصابة العديد من الانتهاكات والإهانات بحق النازحين[23].
وبسبب هذه المشكلات، اتخذت الحكومة المؤقتة قراراً بإغلاق معبر عون الدادات قبل أن تعيد فتحه مجدداً، وافتتاح معبر أبو الزندين مع مناطق نظام الأسد ليكون هو المعبر الذي يدخل منه اللاجئون القادمون من لبنان، إلا أن هذا المعبر تعرّض في يوم افتتاحه إلى قصف من قوات نظام الأسد بالتزامن مع مظاهرات شعبية رافضة لافتتاح المعبر لكونه خطوة تُمهّد للتطبيع مع نظام الأسد بحسب المحتجّين، وما يزال وضع هذه المعابر متقلّباً وغير مستقر[24].
هذا وقد أورد العديد من النازحين الذين وصلوا للشمال السوري شهادات تُشير إلى أنهم تعرضوا للكثير من الصعوبات خلال هذا الطريق الذي يستغرق قرابة 5 إلى 7 أيام، واضطروا لدفع قرابة 2000 دولار للشخص موزعة على الحواجز التي مروا بها في مختلف مناطق النفوذ، وبالأخص أثناء عبورهم من حواجز قوات نظام الأسد[25].
وبالنظر إلى وضع القادمين إلى مناطق سيطرة “قسد” في شمال شرق سوريا، فقد وصل إليها بحسب أحدث الإحصائيات حوالي 100 ألف نازح[26]، أقام بعضهم في منازل أقاربهم، فيما أقام الآخرون ضمن مراكز إيواء خصّصتها سلطات “قسد” لهم في المنطقة، فيما اختار بعضهم استئجار منازل وسط ارتفاع أسعار الإيجارات بشكل كبير[27]، بينما كان مستوى تفاعل السلطات المحلية والمنظمات الإنسانية أقل من الاحتياج، إلى درجة أن مسؤولين في “الإدارة الذاتية” التابعة لـ”قسد” طالبوا المنظمات الدولية بتقديم الدعم للنازحين في شمال شرق سوريا القادمين من لبنان[28].
خاتمة:
تسبّب العدوان “الإسرائيلي” على لبنان بمضاعفة المآسي التي يعاني منها اللاجئون السوريون، إذ اُضطروا لمعايشة تجربة النزوح القسري من جديد وسط خيارات معدومة، كما أن البقاء في لبنان يُعرّضهم للتميز العنصري من قبل مؤسسات الدولة بحرمانهم من الإيواء والخدمات الإنسانية، بالإضافة لتصاعد التحريض والاعتداءات العنصرية التي تستهدفهم.
أما خيار التوجُّه إلى مناطق نظام الأسد ففيه مخاطرة كبيرة بسبب استمرار السياسات القمعيّة المتمثّلة بالاعتقال التعسّفي والتعذيب وفرض الإتاوات والأزمة الاقتصادية الحادة وغياب المؤسسات الحكومية والبرامج الإغاثية المقدّمة للنازحين.
كما أن الوضع في مناطق سيطرة قوى الثورة والمعارضة شمال غرب سوريا أو في مناطق سيطرة “قسد” شمال شرق سوريا ليس أفضل بكثير، إذ يستلزم الوصول لهذه المناطق دفع مبالغ طائلة لجميع الحواجز والمعابر التي تديرها مجموعات مسلّحة مختلفة، ويتعرّض العابرون من هذه المعابر لسوء المعاملة، بالإضافة إلى سوء الأوضاع الاقتصادية وضعف الاستجابة الإنسانية في هذه المناطق.
هذا ولا يوجد في الأفق أي بوادر تشير إلى تحسُّن الأوضاع في المستقبل القريب، إذ لا يبدو أن العدوان “الإسرائيلي” على لبنان سيتوقف خلال فترة قريبة، كما تستمر المناوشات والقصف المتبادل بين القوى المختلفة داخل سوريا بشكل يزيد سوء أوضاع السكان والنازحين، بالإضافة إلى احتمال تطور هذه المناوشات إلى معارك كبرى قد تتسبّب بالمزيد من الأزمات الإنسانية وموجات النزوح.
بكالوريوس في قسم الفلك وعلوم الفضاء من جامعة أنقرة، مهتم بالشأن التركي وعلاقته بقضايا اللاجئين السوريين، ونشر وشارك في إعداد عدد من التقارير والمقالات حول هذا الموضوع ضمن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري