المجتمعات السورية.. سبل إعادة التماسك والاندماج
تتسبّب الصراعات العنيفة بانقسامات واستقطابات مجتمعية كبيرة وعميقة نتيجة انعدام الأمن والخوف والصدمات والعنف، فكيف بمجتمعات كانت مُفكّكة قبل الصراع تحكمها قيم المناطقية وتلجأ لهويات إثنية وعرقية وتحتمي بالعُصب والجماعات؟
لم يمض على سقوط نظام الأسد ساعات حتى خرجت الجموع الهادرة محتفلة في الساحات تأمل ببناء مستقبل جديد، سدّت فيها الحشود المدى وارتفعت الأصوات في مشهد لا تستطيع فيه تمييز أحد عن أحد، كما لوحة البازل الكبيرة المتجانسة التي يكمل كل جزء فيها الجزء الآخر، وما هي إلا أيام معدودة حتى لاحت في الأفق بوادر انقسامات مجتمعية كانت موجودة وطفت على السطح، وبدأ الحديث عن العديد من القضايا الشائكة ابتداءً من شكل الدولة وصولاً إلى أدوار النساء المتوقعة في هذا الواقع الجديد، مسبّبة المزيد من الاحتقان المجتمعي، وهو ما يشير إلى ضرورة الانتباه إلى أهمية رأب الصدع المجتمعي القديم وتعزيز التماسك ودعم جهود تعافي المجتمع ولمّ شمله.
مجتمع سوري أم مجتمعات؟
إن الوصول لحل لمشكلة معقّدة يتطلب توصيفاً دقيقاً واعترافاً بالمشكلة دون إنكار، ولئن كنا ندّعي أن المجتمع السوري قبل 2011 كان مجتمعاً متماسكاً، إلا أن التوصيف لم يكن دقيقاً، بل كان مجتمعنا السوري منقسماً إثنياً ومناطقياً وطبقياً يتحكّم نظام الأسد المخلوع بهذه الشقوق البينيّة قسرياً، فيوسّعها تارة ويُضيّقها تارة أخرى، مقدّماً نفسه صمام الأمان الوحيد لتبقى الجغرافيا السورية موحّدة ظاهرياً كما على الخريطة.
وعقب اندلاع الثورة عام 2011 زادت الشروخ المجتمعية نتيجة عوامل متنوّعة؛ أهمها المواقف السياسية والعسكرية والخطاب التحريضي الذي فرضه النظام ولم يقبل معه سوى مواقف حديّة، فتمايزت المجتمعات السورية في السنوات الأربعة عشر الماضية بناء على الولاءات والتجارب والظروف المستجدة ومساحات الحرية الممنوحة لها.
فلا يمكن القول إن المجتمعات التي قبعت عنوة تحت سيطرة نظام الأسد المجرم تُفكّر أو تتفاعل أو تتشابه مع المجتمع الذي عاش تحت سيطرة المعارضة السورية وتعرّض للقصف والتهجير وأعاد بناء نفسه بنفسه، كما لا تتقارب تلك المجتمعات مع المجتمع الذي خضع لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية- قسد” وخاض تجربة متغايرة عرباً كانوا أم أكراداً، وكذلك الحال بالنسبة لتجربة مجتمع المغتربين الذين اختلطوا ببيئات وقيم جديدة وعايشوا منظومات مختلفة تكاد تكون بعيدة عن تجارب السوريين الذين لم يغادروا، بل حتى مجتمعات اللاجئين تتمايز في أفكارها بين من استقر في دول الجوار وبين من انطلق إلى الدول الأوروبية.
ومع اختلاف التجارب والظروف، يمتلك السوريون ذاكرة مثقلة بقصص الظلم والاعتداء التي مارسها بعض السوريين على بعضهم، خاصة بعد أن حوّل نظام الأسد (الأب والابن) السوريين إلى مُخبرين ووشاة يتصيّدون أخطاء بعضهم وينقلونها للسلطات علّها تُقدّم لهم حظوة أو مكانة، وهو ما عمّق الفجوات وزاد الانقسامات وعظّم المخاوف والتكهّنات.
مخاوف غير معلنة، من الجميع وتجاه الجميع
كانت المخاوف بين السوريين حاضرة منذ تحرير مدينة حلب، إذ أدرك الجميع أن هناك واقعاً جديداً سيُغيّر موازين اللعبة في سوريا، ومع انهيار دفاعات نظام الأسد المتهالكة وانسحاب داعميه امتزجت المخاوف بالفرح والابتهاج وانطفأت مؤقتاً عندما بدأ السوريون يتلمّسون أجواء الحرية ويتخلّصون من الإرث الثقيل.
وتحت هذا المشهد السعيد زادت الأسئلة القلقة المكتومة التي تُعبّر عن مخاوف الجميع من الجميع، مخاوف المجموعة المنتصرة من الآخرين الذين يريدون سرقة الإنجازات وتقاسمها، ومخاوف أبناء الثورة ورفقاء المعاناة من التهميش مجدّداً وتجاهل ما قدّموه خلال السنوات الماضية، ومخاوف أبناء المدن المحررة من القادمين الجدد وأفكارهم واستفرادهم بشؤون الدولة خاصة أنهم يُقدّمون نموذجاً جديداً للسلطة لم يألفوه في السمت والهيئة وطريقة الخطاب.
أما بالنسبة للمجتمع المدني وفرقه التي انتشرت في أنحاء سوريا، فقد خلق وجودهم توترات لا تزال مستترة حتى الآن، فقد قدِموا بعقلية الفاتحين المنتصرين الذين يريدون تصحيح كل شيء واستلام الملفات الخدمية التي “نجحوا” بإدارتها في مناطق المعارضة سابقاً على اعتبارهم الأكفأ والأجدر والأفضل تدريباً واستعداداً، وهو ما أقلق المجتمع المدني ومؤسّساته التي قبعت لعقود تحت نير الظلم نتيجة تفاوت القدرات والكفاءات مع هؤلاء الوافدين المدنيين، واستشعروا بالتهديد بأن أدوارهم قد تنتهي، ولعلّ المشهد الأبرز يبدو في اعتصام عناصر فوج الإطفاء في دمشق احتجاجاً على دخول عناصر الدفاع المدني، كما أقلق المؤسسات الحكومية من جهة أخرى، إذ بدت هذه المنظمات السورية وكأنها تنوي التغوّل على مؤسسات الدولة.
أما بالنسبة للمغتربين السوريين المشرّدين في المنافي والشتات، لم يكن الوضع أفضل حالاً، فمع إحساسهم باستعادة وطنهم واستشعار الانتماء له، برزت أسئلة جادّة حول العودة ومدى القدرة على التأقلم في المجتمعات الأصليّة، واستشعر العديد منهم استبعادهم من المشهد السوري في حال ظلوا في مغتربهم، كما واجهت الكثير من المنظمات والمؤسسات التي دأبت لسنوات في العمل بالإعداد لليوم التالي حقيقة أنهم خارج المشهد تماماً، معدومي التأثير، وزادت هذه الهواجس بشكل أكبر عند العلمانيين وأصحاب التوجُّهات الذين لا يرون الإسلاميين أو المحافظين أو القيادات الجديدة أكفاء لقيادة هذه اللحظات التاريخية، ويريدون فرض تصوّراتهم على شكل الدولة ودستورها.
أما مناطق شرق الفرات، فقد أعلنت صراحة ألمها وخيبتها حين تم تجاهلها من التحرير، وتركها في حالة فوضى عسكرية وأمنيّة، وانقسمت فيها الآراء بين من يستقوي بـ “قوات سوريا الديمقراطية-قسد” ومشروعها، وبين من يريد أن يكون حاضراً وجزءاً من مشهد ولادة سوريا الحرة، وزاد العتب والألم عندما بدأت احتفالات الانتصار دون أن يشارك فيه سكان الجزيرة أو يلتفت أحد لمعاناتهم، مستذكرين تاريخاً من الإهمال والتهميش.
هذا عدا عن الأقليات التي باتت تخاف على وجودها ومستقبلها واحترام مقدّساتها وحرية أدائها للشعائر وتطالب بمساحات تأثير ومشاركة أكبر، وكذلك الفئات التي كانت حجر أساس في النظام القمعي السابق والذين شاركوا بدرجات في انتهاكات نظام الأسد وإجرامه، ويسعون بالتهديد تارة وبالتفاهم تارة إلى الحصول على عفو عام وشامل بعد أن نُزِع عنهم غطاء الحماية وبعد أن أصبحوا في مواجهة جادة مع ماضيهم، وكذلك الخائفون على ملف الحقوق والحريات الذين يريدون أن تنتقل سوريا نقلة واحدة من دولة دكتاتورية إلى دولة تُشبه سويسرا أو غيرها.
التعافي والحوار المجتمعي، أولويات المرحلة القادمة
لا يمكن أن نتجاهل هذه المخاوف وجميعها لها ما قد يُبرّره ولا يمكن التقليل منها، كما أن بقاء هذه المخاوف حاضرة تتعاظم داخل نفوس أصحابها يعني تهيئة البيئة لانفجار مجتمعي وشيك لا تُؤمّن عواقبه، ومن جهة أخرى لم يعش السوريون أي تجارب سابقة تساعدهم في خوض نقاشات عميقة وشفّافة وفتح جروح غائرة تسعى لفهم الآخر لا تجريمه، كما لم يعرف السوريون وسيلة أخرى للتعامل مع المخاوف ومشاكل الثقة إلا الإقصاء الذي كان الوسيلة الأسهل لمُضيّ كل طرف في مشروعه، كما لم يتعافى السوريون بعدُ من إرث الكراهية والحقد الذي أجّجته الصور الواردة من المعتقلات من جديد، ولا يعرفون كيف يتعاملون مع غضبهم ومشاعرهم الهادرة ومخاوفهم المتصاعدة.
وبينما يُقدّم بعض الحالمين من روّاد دورات التعايش والسّلم الأهلي نصائح نخبويّة حول آليات التعامل المثالية مع الواقع الجديد، يغيب عن هؤلاء أن السوريين حالياً جمهور غير متجانس بآرائهم وأفكارهم وطموحاتهم ومشاعرهم وتوقّعاتهم، وأن شريحة واسعة منهم لا يفهمون العديد من المصطلحات الجديدة ويعانون من فجوةٍ في الوعي ونقصٍ في الخبرات.
إن إعادة بناء التماسك المجتمعي يتربّع في قائمة الأولويات التي يحتاجها السوريون في الشهور القريبة القادمة، وتتحمّل الحكومة الجديدة المسؤولية الأكبر في هذا المجال، إذ عليها تبيان سياساتها المرحليّة وإدارة سقف التوقّعات خاصة أنها استلمت مجتمعاً منهاراً يفتقد معظم مقوّمات الحياة، وقد ألزمت نفسها بتحديات هائلة تتمثّل في إدارة هذا التنوّع وإشراك كافة مكوّناته بشكل فعلي في المرحلة القادمة، ابتداءً من المؤتمر الوطني الذي يُفترض أن يتم التخطيط له بعناية بالغة وبأجندة واضحة وبمنهجية رصينة يتم فيها اختيار ممثلين حقيقيين للشعب واستحضار رؤاها وتطلّعاتهم بشكل فعلي، وصولاً إلى ما سينبثق عن هذا المؤتمر من توافقات ولجان ستكتب الدستور، أو تُحدّد شكل المرحلة المقبلة.
إن الحاجة الماسّة حالياً تتمثّل في إطلاق حوارات مجتمعية متعدّدة المستويات متنوّعة الأطياف تُشرف عليها جهات وطنيّة محترفة، ليس الهدف من هذه الحوارات تحليل الواقع ولا استعراض التجارب الماضية، بقدر ما تطلق مساحات حوار آمنة تسعى فيها إلى بناء فهم مشترك بين السوريين، فالهدف هنا الاستماع الفعّال وتفهُّم الدوافع والمخاوف والوصول إلى نقاط مشتركة يمكن البناء عليها، وهي أولوية تحتاج إلى جهات متمرّسة وطنيّة طويلة النَّفس تنطلق بها لتغطي جغرافيا سوريا كاملة.
إن عملية التماسك الاجتماعي عملية معقّدة تتألّف من تفاعلات معقّدة لمجموعة من العلاقات، وتتأثر بالأحداث الداخلية والخارجية والسياسات المحلية والوطنية والدولية، وقد يتم استثمارها خاصة في حالة الضعف من قبل بعض الجهات لإحداث ضرر أو شروخ، كما أن سوء إدارة هذه العملية يمكن أن يُخلّف آثاراً عميقة تُهدّد المجتمعات المحلية يصعب تداركها، كما أن هشاشة حالة السلام بعد الصراع يتطلّب المزيد من الجهد والوعي لتعميقها وترسيخها على كافة الأصعدة والأطر، ومع ذلك فإن الاستثمار في تعزيز التماسك الاجتماعي وتقوية عراه والتعافي من التوترات السابقة سيظلّ أقلّ كلفة من التعامل مع عواقب تجدُّد الصراع أو استمراره.
إن جميع السوريين داخل سوريا وخارجها متعطشون إلى تدارك نصف قرن من الكبت والرأي الواحد، يستكشفون أصواتهم مُجدّداً ويُعبّرون عن أفكارهم في كل شاردة وواردة، إلا أن هذا الحوار والتعبير يُفترض ترشيده، إذ لا يجب أن يبقى أسير الصفحات الافتراضية التي لا طائل منها سوء تعميق الشروخ وإثارة المخاوف والفتن، وإنما يجب أن ينتقل إلى الأرض وأن يشارك فيه العقلاء من كافة المستويات والاختصاصات لرسم ملامح الوطن الذي يحلمون به، وتوحيد الفهم حول المصطلحات الإشكالية، واستكشاف المخاوف وتعلُّم الدروس وإعادة بناء العلاقات الاجتماعية القائمة على الثقة وحسن الظن وحب الوطن.
إن أولوية المرحلة اليوم بناء مساحات نقاش آمنة حرة، يستكشف السوريون فيها أنفسهم أولاً وبعضهم ثانياً، ليس الهدف منها فرض الرأي ولا الإفحام، وإنما التفهُّم والاستيعاب وتطوير الأفكار والطروحات للوصول إلى توافقات مشتركة تحترم آراء الجميع وتحفظ حقوقهم وتتفهّم مخاوفهم وتُشجّعهم على المشاركة الفعّالة، وتعيد بناء العلاقات الاجتماعية بينهم على النحو الذي يتطلّبه بناء الأوطان لا هدمها.
مديرة الوحدة المجتعية في مركز الحوار السوري، بكالوريوس في الهندسة من جامعة دمشق، دبلوم في التخطيط العمراني وإعادة الإعمار المستدام، عملت في مجال الإعلام المكتوب والمسموع لعدة سنوات، نشرت العديد من الأوراق والتقارير البحثية في مواضيع سياسية واجتماعية، وخاصة ما يتعلق بأوضاع اللاجئين وقضايا المرأة