المجتمع المدني السوري والسياسة: علاقة قائمة… و “مدنيّة” ليست استثناء
تقرير صادر عن وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري
تمهيد:
بغضّ النظر عن التطورات التي طرأت على مفهوم المجتمع المدني قديماً؛ إلا أن المصطلح بمفهومه الحالي ظهر عقب نشوء الدولة الحديثة، وزادت أهميته مع تراجُع المعسكر الشرقي وتقدُّم الغربي. ويشير وفق غالبية الأدبيات إلى القطاع الثالث غير الربحي؛ فهو الواسطة بين المجتمع والدولة والقطاع الخاص، ويتضمن أشكالاً متعددة من التنظيم كالمنظمات غير الحكومية والنوادي والمنتديات والفرق التطوعية والنقابات والاتحادات والهيئات الدينية … إلخ[1].
بحسب الأدبيات والواقع التطبيقي يتباين دور مؤسسات المجتمع المدني المحلية حسب السياق الذي تعمل فيه؛ ففي فترات السِّلم تتركز جهودها في الحالة المثالية على تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، وعلى التنمية المستدامة والتثقيف الانتخابي والمراقبة، وتعزيز الحوار والتفاهم بين الأطراف المختلفة، وقد تقوم بمساعدة المحتاجين وتقديم الخدمات الأساسية. أما خلال النزاعات والصراعات الداخلية فتتجه هذه المؤسسات عادة للتصدّي للأزمات الإنسانية وتقديم المساعدات الطارئة للمتضررين، ومراقبة حقوق الإنسان وتوثيق الانتهاكات، وتشجيع حل النزاعات بوسائل سلمية. كما يمكن لها أن تلعب دوراً في تعزيز حقوق النساء والشباب والمجموعات الضعيفة والمهمَّشة، وعقب انتهاء النزاع عادة ما تتجه هذه المؤسسات حسب اختصاصها إلى تعزيز عمليات المصالحة والمساعدة في إعادة بناء المجتمع وإعادة التأهيل الاجتماعي والاقتصادي، ودعم عمليات الشفافية والمساءلة وتعزيز ثقافة السلم وحقوق الإنسان في المجتمع المتضرر[2].
في الحالة السورية وقبل عام 2011 كان لدينا مجتمع مدني صوريّ يعمل لخدمة نظام الأسد وأجندته، ويخضع لرقابة أجهزته الأمنية، وبعد اندلاع الثورة ظهرت عدة أشكال لمؤسسات المجتمع المدني، كالتنسيقيات والفرق الطبية والإغاثية ثلثَي المعارضة والنظام، وهذا الأمر مهّد لمنح أدوار سياسية وتفاوضية أكبر للمجتمع المدني.
يناقش هذا التقرير جزئية حضور المجتمع المدني في المجال السياسي على مستوى النظرية، وعرض بعض التطبيقات في الدول العربية التي شهدت ثورات أو اضطرابات على سبيل المثال، كما هو الحال في ليبيا والعراق وتونس واليمن؛ إلى جانب إسقاط ذلك على المجتمع المدني السوري، ومناقشة جزئية مطالبة “مدنية” بالحيز السياسي، ولذا فليس هدف التقرير تقييم هذا الدور السياسي بسلبياته وإيجابياته، فقد يعترض بعضهم عليه من حيث الأصل، بينما يؤيده آخرون؛ فهذه الجزئية ليست من النقاط التي سيناقشها هذا التقرير التحليلي الذي سيكتفي بمناقشة هذا الدور من حيث وجوده وعدمه، من دون إضفاء حكم “تقييمي” له.
الأدوار السياسية المتوقعة من المجتمع المدني؛ أدوار مُسانِدة:
على الرغم من تأثير طبيعة النظام السياسي من جهة كونه ديمقراطياً أو استبدادياً على نشاط المجتمع المدني بصورة عامة؛ إلا أن ذلك لا ينفي أن بإمكان هذا المجتمع الانخراط في المجال السياسي إلى جانب أدواره الأخرى الإنسانية والتنموية، ويبقى تأثير طبيعة النظام السياسي مقتصراً على مدى هذه الأنشطة من جهة ضيقها واتساعها.
يمكن للمجتمع في الحالة المثالية المعيارية التي يحظى فيها بحقوق وحريات المشاركة في العمل السياسي والمساهمة في صنع القرارات السياسية، والتأثير في السياسة من خلال القيام بأنشطة متعددة، من أبرزها[3]:
- النشاطات التوعوية والتثقيفية: حول القضايا السياسية المهمة وحقوق المواطنين، بما يساعد في رفع الوعي السياسي، وتمكين المواطنين من المشاركة الفعّالة.
- المظاهرات والاحتجاجات: للتعبير عن احتجاجهم على قرارات سياسية معينة، وللمطالبة بالتغيير والإصلاح.
- الرقابة على السلطات إلى جانب الضغط عليها: في إطار دوره في ممارسة الرقابة على أنشطة السلطات يمكن للمجتمع المدني التواصل مع السياسيين والمسؤولين وتقديم مقترحات وتوصيات لصنع القرارات السياسية، أو ممارسة الضغط عليها عبر العرائض والإعلام لتغيير سياسات معينة. عندما يتحدث المجتمع المدني بصوت واحد ويعبّر عن مطالبه واهتماماته فإنه يمكن أن يؤثر في أجندة السياسة واتخاذ القرارات، ويمكن للمنظمات غير الحكومية والمجموعات الضغطية والمنظمات غير الربحية تقديم التوصيات والمعلومات التي تؤثر في صنع السياسات والقوانين.
- مساعدة صانع القرار السياسي: عبر صياغة مقترحات وحلول للمشاكل التي تواجه المؤسسات السياسية، من خلال البحوث والتحليلات والاستشارات التي تقدم وجهات نظرهم وتوصياتهم.
- المشاركة في العملية الانتخابية: من خلال توعية الناخبين، ومراقبة العملية الانتخابية، وتنظيم حملات لتعزيز المشاركة السياسية، ودعم المرشحين الذين يدعمون أهداف تلك المنظمات.
- بناء التحالفات والشراكات مع المنظمات الأخرى والأفراد المشاركين في العمل السياسي: بهدف تحقيق التغيير، وتعزيز القضايا المهمة للمجتمع.
الأدوار السياسية للمجتمع المدني في حالات النزاع وعدم الاستقرار؛ نظرة في التجارب المقارنة:
في حالات النزاع وضعف الاستقرار يُفترض أن تتعاظم الأدوار السياسية للمجتمع المدني في مجالات محددة، يأتي في مقدمتها أعمال الوساطة والحوار بين مختلف الأطراف، إلى جانب نشر الوعي على المستوى الشعبي بما يسهم في تعزيز المشتركات وإيجاد أسس حل الخلافات بين أطراف النزاع، فضلاً عن ممارسة الضغوط عليها والرقابة على أعمالها[4].
في الحالة الليبية: لعب جزء من المجتمع المدني بعد عام 2011 دوراً سياسياً من أجل تحقيق مصالحة وطنية بين أطياف الشعب الليبي؛ إلا أن هذه المبادرات اتسمت بتشتت جهودها، وتركيزها على مواضيع عامة وتفاصيل مثالية، دون تقديم أية حلول عملية، ورغم ذلك اعتُبرت هذه المبادرات خطوة في ترسيخ الاستقرار الداخلي السياسي والاجتماعي، ودعا نقّادها إلى التركيز على قضايا أكثر أهمية، مثل: مستقبل اللاجئين، ومعالجة الانقسامات الداخلية، ووضع آليات لتذليل العقبات أمام الأطراف المتصارعة[5].
أما في الحالة العراقية: فقد أدّت بعض منظمات المجتمع المدني -بحسب بعض الكتّاب[6]– دوراً جزئياً في دعم مسارات الحل المتعلقة بالمشكلات الناجمة عن الصراع “الطائفي”؛ حيث أسهمت في عملية التوعية السياسية والاجتماعية، وتقديم المشورة السياسية لبعض القوى والأحزاب، وإقامة ورشات عمل حوارية من أجل تقريب وجهات النظر[7].
في المحصلة وفي كلا الحالتَين لم يكن لمؤسسات المجتمع المدني دورٌ محوريٌّ في مجال النشاط السياسي أو التأثير فيه بحسب السياق المحلي والأولويات المفترضة للعمل السياسي. على عكس ما جرى في تونس؛ حيث لعب الاتحاد التونسي للشغل دوراً مهماً في تشكيل المشهد السياسي الذي تلى الثورة التونسية، فبدأ الأمر من رعايته الحوار الوطني بين الأحزاب السياسية إلى جانب ثلاث منظمات مجتمع مدني أخرى، هي: الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والهيئة الوطنية للمحامين، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. ثم ليكتمل هذا الدور بعد إجراء الانتخابات وبناء المؤسسات وكتابة الدستور، مع وجود عدة نصوص تشريعية ودستورية تعطي المجتمع المدني أدواراً استشارية مهمة، كما هي حالة هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة[8]، والمجلس الوطني للحوار الاجتماعي[9].
تكاد الحالة اليمنية تتطابق مع الحالة التونسية من حيث أهمية المجتمع المدني في المجال السياسي؛ فإلى جانب دوره في صنع السياسات ومُساءلة الحكومة أثناء الفترة الانتقالية 2011-2014[10] فقد حجزت منظمات المجتمع المدني ومجموعات الشباب والنساء أربعين مقعداً لكل منها في مؤتمر الحوار الوطني، وبالتالي شكَّلوا معاً 120/565 مندوباً[11]، وهذا الحضور القوي للمجتمع المدني في عضوية مؤتمر الحوار الوطني قد أسهم لاحقاً في الوصول إلى وثيقة حكومية في أيلول/سبتمبر 2013 تهدف إلى تعزيز الشراكة بين الحكومة والمجتمع المدني لدفع التنمية المستدامة وتحسين الخدمات[12].
لم تقتصر مشاركة المجتمع المدني اليمني السياسية في الحوار الوطني، وإنما كان له دورٌ مهمٌّ أثناء الفترة الانتقالية في صنع السياسات ومساءلة الحكومة؛ غير أنه لم يستطع المحافظة على هذه المكانة في فترة الصراع نتيجة انتشار القمع وطغيان التهديدات الأمنية وشح التمويل. مع ذلك بقيت منظمات المجتمع المدني ناشطة على المستويين المحلي والوطني؛ فمحلياً: استمرت في مناصرة سياسات التغيير وزيادة المشاركة المجتمعية، ووطنياً: كان لها دور في دعم وتشكيل المحادثات التي تقودها الأمم المتحدة، ودعم المسار الثاني المساند لهذه المحادثات والموازي لها[13]، وتعزيز مشاركة النساء في المفاوضات، إلى جانب الدفاع عن حقوق الإنسان وتعزيزها في محادثات السلام[14].
الأدوار السياسية للمجتمع المدني السوري؛ أدوار قائمة في سياق مضطرب:
في السياق السوري وبعد عام 2011 لعب المجتمع المدني أدواراً مختلفة في المجال السياسي؛ فعلى المستوى الوطني: بعد انطلاق الثورة تشكلت عدة تنسيقيات وفرق شبابية إغاثية وطبية شكّلت أحد روافد المجلس الوطني السوري الذي كان يُنظر إليه على أنه الممثل السياسي للحراك الثوري، كما أنه في عام 2016 تأسست غرفة دعم المجتمع المدني لتكون -بحسب فريق المبعوث الأممي إلى سوريا- آلية من أجل التشاور مع الجهات الفاعلة على الأرض، وفهم توجهات المجتمع السوري، وإدراج أصوات المجتمع المدني ضمن العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة[15]، وفي العام نفسه عمد ديمستورا إلى تشكيل ما بات يُعرف بـ “المجلس الاستشاري النسائي”، وذلك بهدف “منح المرأة في المجتمع السوري دوراً في رسم مستقبل البلاد اجتماعياً وسياسياً”[16]، وفي عام 2019 ولدى تشكيل اللجنة الدستورية مُنح المجتمع المدني ثلث المقاعد البالغ عددها 150، وحينها أُوكل لقائمة المجتمع المدني مهام تمثيل المصالح والمطالبات والتحديات التي يواجهها المجتمع المدني السوري، وتقديم مقترحات وتوصيات لصياغة الدستور، كذلك كان لبعض منظمات المجتمع المدني وممثليها على المستوى الشخصي مشاركة في مؤتمر الرياض1 و 2 الذي كان يهدف إلى إيجاد أرضية للحل السياسي في سوريا، إلى جانب الدور الداعم غير المباشر لبعض مراكز الأبحاث والدراسات في تقديم مقترحاتها ورؤى المجتمع المحلي بخصوص الدستور لمكتب المبعوث الخاص إلى سوريا[17].
على المستوى الداخلي: تعددت أدوار مؤسسات المجتمع المدني السورية؛ إذ تكاد تكون مارست أبرز أوجه المشاركة السياسية المشار إليها في الأدبيات، باستثناء ترشيح أعضائها للانتخابات بحكم عدم إجراء الأخيرة في مناطق شمال غرب سوريا. أما ما سوى ذلك فقد مارست مختلف الأدوار السياسية، مثل: تقديم المشاورة والتوصيات والمقترحات تجاه قضايا سياسية وقانونية وحوكمية …إلخ، عبر الدراسات أو اللجان المشتركة للأجسام السياسية[18]، والقيام بحملات مناصرة لبعض القضايا الوطنية المرتبطة بمكافحة الفساد ومحاسبة المسيئين وتطبيق قواعد الحكم الرشيد[19]، إلى جانب تركيز عدة منظمات على قضايا التوعية السياسية بخصوص حثّ المواطنين _خصوصاً النساء والشباب_ على المشاركة في الشأن العام[20]، فضلاً عن إصدار البيانات السياسية لتأكيد الثوابت الوطنية[21]، وممارسة بعض الأعمال في مجال الرقابة على السلطات القائمة والضغط عليها[22].
هل الفضاء المدني السوري غائب عن السياسة؟
تشير الأمثلة السابقة إلى انخراط منظمات المجتمع المدني السورية بمختلف تخصصاتها وأشكالها في المجال السياسي بشكل واضح على الرغم من الاعتراضات التي تطالها في هذا الخصوص؛ إلا أنها غالباً تكون محصورة في مضمون الآراء والأنشطة السياسية التي تطبّقها هذه المنظمات، من دون أن يشمل الأمر أصل أحقّيّتها في المجال السياسي السوري، فيمكن القول: إن الفضاء العام والسياسي تحديداً لم يكن بالأساس مغلقاً على المجتمع المدني بمفهومه الواسع؛ ولذا تبدو المطالبة بفتحه لها متناقضة مع الواقع.
من هنا تأتي مطالب منصة “مدنيّة” بالأحقّيّة السياسية للفضاء المدني -كما جاء في البيان الختامي في 6 حزيران الجاري- لا تتطابق مع الواقع الذي يشير إلى انخراط مختلف منظمات المجتمع المدني السورية، بما فيها بعض المنظمات المشاركة في المنصة في المجال السياسي. فما جاء في البيان ذاته من: “مطالبة المؤسّسين أن يكونوا أصحاب إرادة وقرار مستقل فيما يتعلق بمستقبل بلدهم”، وأن تكون المنصة “مساحة حرة تسمح بتنظيم صفوفهم وتقديم رؤيتهم للحل في سوريا على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية”، فضلاً عن تأكيدهم مبادئ “مدنية” في مجال الحل السياسي: “على قرار مجلس الأمن 2118 و2254، إطلاق سراح المعتقلين، تسيير دخول المساعدات، عدم عودة اللاجئين حتى تحقيق الحل السياسي، المحاسبة والمساءلة والعدالة …إلخ”، هي كلها بالأساس ليست محل جدل أو اعتراض بالعموم، وتمثل تياراً عريضاً لقوى الثورة والمعارضة بمختلف تخصصاتها السياسية والعسكرية والمدنية. لقد كان تراجع الفضاء المدني السياسي في غالب الأحيان مرتبطاً بمنظمات المجتمع المدني ذاتها، والتي كان بعضها يتذرع بمبادئ الحياد و”عدم التسييس” لتبرير عدم مشاركته في بعض الأنشطة السياسية[23]. وما يدلل على ذلك أن غالبية الاعتراضات التي أتت على المبادرة ركّزت إما على الجوانب الهيكلية من قبيل تركيبة مجلس الإدارة، وعدم الاعتماد على الانتخاب في تشكيله، وغياب مشاركة النقابات والاتحادات المهنية والمجالس المحلية فيها، وإما على الجوانب المتعلقة بمضمون توجهاتها السياسية، مثل انخراط بعض أعضائها في مسار اللجنة الدستورية[24]، ولذا لم تكن ثمّة اعتراضات على أساس مشاركتها في المجال السياسي.
في ضوء ذلك يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً: إذا كان مجال المشاركة السياسية مفتوحاً أمام الفضاء المدني؛ فما هي القيمة المضافة التي ستشكلها “مدنية” إذا أخذنا بالحسبان أن غالبية المنظمات المشاركة فيها هي بالأساس تمارس النشاط السياسي بشكل مباشر أو غير مباشر؟
هل من مسارات سياسية جديدة يمكن لـ “مدنيّة” القيام بها؟
نعتقد أن ثمّة ثلاثة مسارات جديدة نسبياً يمكن لـ “مدنيّة” أن تنخرط فيها سياسياً، وأن تميزها عن الأنشطة السياسية الأخرى التي تمارسها منظمات المجتمع المدني أساساً، ونلخصها فيما يلي:
- التمثيل السياسي: على الرغم من تأكيد القائمين على “مدنية” أنهم ليسوا بديلاً عن الأجسام السياسية القائمة فإن زيادة النشاط السياسي لبعض منظمات المجتمع المدني، خصوصاً الجاليات السورية في الدول الغربية بما فيها “مدنية” التي يظهر أنها ستكون إحدى الجهات الفاعلة في أوروبا على شاكلة تحالف المنظمات السورية في الولايات المتحدة؛ قد يدفعها لاحقاً إلى التفكير بالحلول -ولو جزئياً- محل الأجسام الرسمية التي ما تزال عطالتها السياسية قائمة، خصوصاً في الآونة الأخيرة التي تشهد تراجعاً واضحاً لحضورها في مقابل التوجه نحو التطبيع مع نظام الأسد[25].
إلا أنّ ثمّة -بالمقابل- عوامل تحدّ من الانخراط في هذا المسار، يأتي في مقدمتها: طبيعة المجتمع المدني التي لا تؤهّله من الناحية التخصصية لأخذ دور الأحزاب والكيانات السياسية، خصوصاً في السياق السوري، إلى جانب انسحاب المشكلات التي تعاني منها الأجسام السياسية على المجتمع المدني نفسه من ضعف ثقة الحاضنة بها[26]، فضلاً عن تناقض مثل هذا الدور مع طبيعة عمل قسم لا بأس به من المجتمع المدني السوري خصوصاً المنظمات غير الحكومية بمختلف تخصصاتها الطبية والخدمية والإغاثية والتعليمية والصحية.
- زيادة فعالية المجتمع المدني سياسياً: لا يُعد ذلك مساراً جديداً، وإنما هو فعالية أكبر للمجتمع المدني في المجال السياسي يمكن لـ “مدنية” أن تأخذه على عاتقها من جهة وجود كتلة كبيرة من منظمات المجتمع المدني السوري البارزة تحت مظلتها، وبحكم وجودها في إحدى أهم الدول الأوروبية.
لعل مثل هذه الفعالية تكون مضاعفة في حال تركيز “مدنيّة” على نقاط يمكن أن تمثل فيها قيمة مضافة، مثل: ملف محاسبة نظام الأسد، والتأكيد على حماية اللاجئين في بلاد اللجوء من الإعادة القسرية، وضمان حقهم في عودة آمنة وطوعية وفق معايير الأمم المتحدة.
قد يعطي مثل هذه التخصص “مدنية” قيمة مضافة سياسياً بحكم الروافع التي تؤهلها لذلك في بعض الملفات؛ إلا أن أبرز عائق أمام ذلك هو رغبة القائمين على “مدنية” كما يبدو ذلك في بيانهم بتاريخ 6-6-2023، من حيث إنهم يريدون “تقديم رؤيتهم للحل في سوريا على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية”.
- الوساطة والرعاية: على الرغم من أن القائمين على “مدنيّة” لم يصرّحوا برغبتهم في ممارسة أي نوع من أنواع الوساطة بين “أطراف الصراع في سوريا” و”الأطراف السياسية”؛ إلا أن الامتداد الجغرافي للمنظمات المشاركة فيها قد يدفعهم للتفكير بهذا الدور، لاسيما وأن النموذج التونسي يشكّل أنموذجاً في رعاية المجتمع المدني للحوارات الوطنية.
باستثناء الحوار مع نظام الأسد والذي يعود إلى طبيعة هذا النظام، واستحالة أي شكل من أشكال الحوار لحل “الأزمة السورية”، وطبيعة تشكيل “مدنية” المحسوبة على طرف الثورة والمعارضة[27]؛ فإن أبعاداً أخرى للوساطة والرعاية للحوارات السياسية بين “أطراف الصراع” و”الأطراف السياسية” يمكن لـ “مدنيّة” القيام بها، مثل: الحوار بين الأطراف المسيطرة في شمال سوريا، أو حتى الحوار بين قوى الثورة والمعارضة نفسها لدفعها نحو توافقات قد تؤدي إلى تشكيل أو إعادة هيكلة الأجسام الحالية.
لا شك أن هذا المسار يُعد من أهم المسارات التي يمكن لـ “مدنيّة” القيام به على المستوى المحلي أو على مستوى قوى الثورة والمعارضة؛ إلا أن نجاحه يبقى مرتبطاً بقدرة القائمين على هذه المبادرة في كسب ثقة مختلف الأطراف التي تُعد شرطاً لازماً لممارسته.
خاتمة:
قد لا يُجادل في أحقية المجتمع المدني في النشاط السياسي؛ إلا أن الجدل ينصبّ على مدى هذا النشاط وحدوده، ولا يمثّل السياق السوري استثناء عن السياقات المشابهة؛ حيث إن المجتمع المدني السوري عقب 2011 انخرط بشكل واضح في المجال السياسي، إلا أن الانتقادات طالت فعالية المجتمع المدني السياسية، والتي نعتقد أنها مرتبطة بعاملَين أساسيين هما:
- الثقة بينها وبين الحاضنة الشعبية: وهذا لا يكون إلا من خلال انبثاق المجتمع المدني من البيئة السورية وتعبيره عن مطالب أبنائها؛ فكلما كانت قاعدته الشعبية أكبر وعبّر عن مطالبها زاد ذلك من رصيده، وأعطاه دفعة أكبر لتأدية أدواره السياسية بصورة فعالة.
- التوافق على المبادئ: لا شك أن أبرز ميزة للمجتمع المدني هو تنوعه واختلافاته التي تعكس المجتمع؛ إلا أن ذلك لا ينفي ضرورة وجود توافقات وطنية أساسية تمثل المبادئ العليا التي يسعى الجميع لتكريسها.
لا نقول: إن عدم تحقق هذين العاملين يعدم الفاعلية السياسية للمجتمع المدني؛ وإنما يُضعفها، ويجعل الأخير أقرب ما يكون لكيانات منفصلة عن واقعها، إن لم نقل معادية له.
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة