الإصداراتالتقارير الموضوعيةوحدة تحليل السياسات

المشهد السوري؛ نظرة على الوضع في جنوبه ومحاولة استشراف لمآلات شماله

تقرير لندوة حوارية أقامها مركز الحوار السوري بحضور عدد من الباحثين والفاعلين

على أعتاب الذكرى الثانية عشرة للثورة السورية، وفي ذكرى سقوط حلب بأيدي قوات النظام والمليشيات الإيرانية، ومرور 4 سنوات على اتفاق التسوية في محافظة درعا، وفي سياقٍ دوليٍّ وإقليميٍّ مأزومٍ ومعقَّدٍ تمرّ فيه المنطقة، ومع تسارع خطوات “التطبيع” التركي مع نظام الأسد؛ عقدَ مركز الحوار السوري ندوة حوارية لمناقشة الأوضاع الحالية في محافظة درعا وديناميات اتفاق التسوية والمصالحة هناك، وانعكاس ذلك المشهد على الحل السياسي في الشمال، كما ناقشت الندوة إمكانية تطبيق اتفاق درعا في مناطق الشمال السوري مع ارتفاع خطوات التطبيع التركي مع نظام الأسد، وذلك في يوم الأربعاء، 27 جمادى الأولى 1444ه الموافق 21 كانون الأول 2022 م، وذلك بحضور عدد من السياسيين والباحثين وممثلي قوى الثورة والمعارضة السورية، وكانت هنالك مداخلات أساسية لكل من الأساتذة: أحمد أبا زيد؛ الكاتب والباحث السوري، ومعن طلاع؛ مدير البحوث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، وفراس فحام؛ الباحث في مركز جسور للدراسات.

وقد أُعدّ هذا التقرير الموضوعي من خلال اتباع قاعدة “تشاتام هاوس”[1]، ومن دون التقيّد بالترتيب الزمني للعرض والمداخلات، وتم التقسيم الموضوعي للتقرير بقصد ترتيب الأفكار بطريقة سلسة وموضوعية تساعد القارئ- ما أمكن- على فهم المضمون، ويحاول التقرير تلخيص أبرز محتويات الندوة الحوارية وفق الآتي:

ديناميكيات المشهد في درعا:

جرى استذكار سردية الأحداث في محافظة درعا؛ ابتداءً من الحملة الروسية عام 2018 إلى إجراء المصالحة، وسقوط المناطق الجنوبية، ويمكن تقسيم نماذج المناطق هناك إلى: مناطق سقطت عسكرياً مثل مدينة بصرى الحرير واللجاة والريف الشمالي الشرقي لدرعا، ومناطق جرت فيها مصالحة محلية ودخلها النظام سلماً بفعل تدخُّل أعضاء سابقين من حزب البعث أو الفصائل المحلية، ومناطق ثالثة جرى عليها ما سُمي “اتفاق التسوية” المبرَم مع الروس بوجود نظام الأسد، وهي مناطق درعا البلد وطفس والريف الغربي.

يُلاحظ أنه في النموذجين الأول والثاني كانت سيطرة نظام الأسد شبه مطلقة ومُحكمة، وذلك على عكس النموذج الثالث؛ فقد ظهرت فيه ديناميكيات أخرى، مثل إنشاء اللجان المركزية ممثلةً للمنطقة مكوَّنة من مزيج من القادة الثوريين العسكريين والمدنيين بعد اتفاق 2018، كما تكونت فيها مجموعات كانت امتداداً للجيش الحرّ غير مرتبطة بأي جهاز، من أفرع مخابرات نظام الأسد أو اللواء الثامن التابع لروسيا؛ ولعل ذلك تم باستخدام مقاربة “التكيُّف” مع الوضع الجديد عبر اتفاق التسوية الذي لم يتضمن تغييراً في شكل السيطرة الفعلية، حيث باتت تلك اللِّجان هي الحاكم الفعلي للمنطقة في استمرارٍ للوضع ذاته ما قبل 2018.

إلى جانب ذلك برزت إلى الواجهة في مناطق “اتفاق التسوية” مناطق اللواء الثامن في منطقة بصرى الشام بحكم أنها منطقة تسوية ولم تسقط عسكرياً، واللواء مشكل بالأساس من فصيل “قوات شباب السنّة” بقيادة أحمد العودة، وقد شكّلت ما يشبه قوات محلية تابعة للقيادة الروسية، وإن كانت شكلياً ضمن هيكلية قوات نظام الأسد، ولاحقاً تحول اللواء الثامن إلى ملاك الفيلق الخامس، وبقي تحت القيادة الروسية حتى عام 2021، قبل أن يتحول إلى هيكلية الأمن العسكري التابع لنظام الأسد.

كما انضمّت مجموعات من الريف الشرقي والريف الغربي إلى اللواء الثامن لحماية نفسها من نظام الأسد؛ وبذلك توسَّعت مناطق اللواء خارج بصرى الحرير، بالإضافة إلى انضمام مجموعات أخرى للفرقة الرابعة بشكل شكلي دون أن تدخل الخدمة الفعلية ضمنها، بل بقيت تتمتع بنوع من الاستقلالية، وهناك عدة مجموعات معارضة سابقة صارت مليشيات فعلية عاملة ضمن فرع الأمن العسكري كمجموعة “الكسم” في درعا البلد، أو في المخابرات الجوية كمجموعة “أبو علي اللحام”؛ في محاولةٍ من النظام لتأسيس مجموعات محلية تابعة له، وفي الوقت ذاته حافظت مجموعاتٌ على استقلاليتها وتبعيتها للجان المركزية تمنع دخول قوات نظام الأسد إلى المنطقة.

 أمام هذه الحالة المختلطة وتداخل السيطرة، واستعادة الحراك المدني زخمه ضد نظام الأسد في العديد من المناطق، وفي درعا البلد خاصة، وما رافق ذلك من حالة انفلات أمني واغتيالات وحرب عصابات؛ فقد ظهر مجدداً الإشكال بالنسبة لنظام الأسد كما ظهر في العام 2021 عندما أصرّ السكان المحليون على مقاطعة الانتخابات الرئاسية في عموم المحافظة، حتى في المناطق خالصة السيطرة لنظام الأسد.

دفاع عن الوجود من بقايا القوى الثورية والسكان المحليين:

شكّلت حالة التظاهر ضد نظام الأسد في مدينة درعا في الذكرى الحادية عشرة للثورة فرصةً له للقيام بعملٍ يغيّر فيه ذلك الواقع، وعليه قام نظام الأسد بشنّ حملة عسكرية في 29 تموز على درعا البلد، استقدم فيها تعزيزات عسكرية كبيرة من الفرقة الرابعة والفرقة 15، إضافة إلى مليشيات أجنبية لاقتحام المنطقة ضد المقاتلين المرتبطين باللجان المركزية بسلاحهم الخفيف، أعقب ذلك هجمات من المقاتلين المحليين -حتى أولئك المنتمين للواء الثامن أو الفرقة الرابعة- ضد حواجز نظام الأسد في كل المحافظة، في حالةٍ من “الفزعة” الثانية (إشارة إلى أن الفزعة الأولى كانت في آذار 2011)، وإثر تلك الهجمات سقطت العديد من الجواحز بأيدي المقاتلين، وتم أسر المئات من عناصر قوات نظام الأسد، وفي أعقاب ذلك تم عقد اتفاق تسوية جديدة في العام 2021.

إثر تلك الهجمات عمل نظام الأسد على تغيير شكل اللواء الثامن الذي عمل وكأنه قوات فصل بين نظام الأسد من جهة، والأهالي واللجان المركزية من جهة أخرى؛ فقد قام الروس بتغيير ملاك اللواء من الفيلق الخامس إلى الأمن العسكري، وشهدت المنطقة بعد ذلك تصاعداً في عمليات الاغتيال التي استهدفت في جزء كبير منها قادة الحراك الثوري غير المنضمين تحت أية إدارة عسكرية.

كل ذلك أسهم في أن يكون نموذج درعا مختلفاً عن كل نماذج التسويات التي جرت في عموم سوريا؛ إذ كان الهدف الأساسي من تلك الترتيبات بالنسبة للسكان تجنُّب عمليات التهجير الكبيرة من المنطقة، وذلك من خلال التعامل مع التسوية على أنها حالة من الشكلانية والتكيُّف الموضوعي مع تطور الأمور، وليست حالة من تغيير العقيدة والهوية السياسية، في تداخلٍ عضوي بين المجتمعات والفصائل المحلية للمساهمة في الحفاظ على المنطقة، وذلك على الرغم من أن نظام الأسد نجح في اختراق بعض المناطق عبر تجنيد مليشيات تابعة للأفرع الأمنية أو عبر تجنيد خلايا لداعش في المنطقة.

الولايات المتحدة و”داعش” والجيش الحرّ في درعا:

رأى بعض المشاركين في الندوة أن استعمال الولايات المتحدة لمصطلح “الجيش الحرّ” في عملية قتل زعيم تنظيم داعش في درعا لا يحمل أية دلالات سياسية أو إشارات لإعادة خطط الدعم، وإنما هي التفافٌ على المصطلحات لتفويت الفرصة على نظام الأسد بادّعاء قتله زعيم التنظيم، ولعدم إعطاء أي رصيد لنظام الأسد أو الروس بنسبة قتله إليهم؛ على الرغم من أن المجموعات التي قتلته تنتمي -هيكلياً- لنظام الأسد، لكنها في الواقع في حالة تكيُّف تكتيكي، ولم تشأ الولايات المتحدة أن تدخل في تعقيدات المصطلحات، فاستخدمت مصطلح “الجيش الحرّ” للدلالة على ذلك.

فيما رأى آخرون أن الأنباء التي تحدثت عن نبش قبر زعيم التنظيم وتسليم رفاته للتحالف الدولي في قاعدة التنف من قبل اللواء الثامن تدلّ على وجود تعاون متجاوز للسيطرة الروسية على اللواء، كما يدل -مع استخدام مصطلح الجيش الحرّ- على موقف الولايات المتحدة الذي يبدو جديراً بالتحليل والتأمل.

كما تمّت الإشارة إلى استثمار نظام الأسد في خلايا داعش، وكان العديد منها يتبع أساساً لبقايا “جيش خالد بن الوليد”،  بالإضافة إلى قدوم خلايا من خارج المنطقة، وعقدت تلك الخلايا تحالفات مع بعض المجموعات المحلية الرافضة لسياسة اللجان المركزية.

محاولة التموضع الإيرانية في الجنوب:

من الملاحَظ أن تكتيكات نظام الأسد المتبعة في الشمال -كما تمت الإشارة في الندوة- مختلفة بعض الشيء عن تلك المتبعة في درعا، ويمكن الاستنتاج بناءً على عدة مؤشرات أن النفوذ الإيراني وتوجهاته هو المتحكم بورقة الجنوب داخل نظام الأسد؛ فبعد اتفاق 2018 حاولت إيران تجذير تموضعها في الجنوب بعد أن استثمرت طويلًا في نظام الأسد، وهي حريصة ألا تخرج من الجنوب خالية الوفاض، لاسيما وأن وجودها كقوة متحكمة في المنطقة على حدود “إسرائيل” يمكّنها من ورقة تفاوض قوية في الملف النووي وغيره.

وفيما يتعلق بمحافظة السويداء تشهد المحافظة إعادة هندسة للحالة الخاصة بديمغرافيتها فيما يخصّ الوجود الإيراني، لاسيما بعد سيطرة إدارة المخابرات العسكرية في دمشق على ملف الجنوب؛ فقد ظهر توجُّه جديد بضرورة التحكم بالفصائل المحلية بطريقة ما، إن كان بتشكيل عصابات مسلحة كانت منشقة عن حركة الكرامة، أو بالإغراء بالمال، أو بالإعفاء من الخدمة العسكرية وغيرها، وكان كل ذلك يخدم التموضعات الرئيسة التي يريدها نظام الأسد، وحدث هذا سابقاً من خلال افتعال معارك بين اللواء الثامن وأهالي السويداء في 2020، تلك المعارك التي كان لروسيا دور في إنهائها وإعادة الاستقرار.

ولذا فإن إثارة التوتر بين درعا والسويداء، والفوضى الداخلية في كل محافظة هي استراتيجيات متبعة لدى نظام الأسد يحاول فيها تصدير سردية الفوضى الموجبة لتدخل “الدولة”، وكل ذلك يسهم في إعادة التموضع الإيراني في المنطقة.

مع ذلك تمت الإشارة إلى أن الوضع في الجنوب يمتلك بعض الهوامش، على العكس مثلاً من الوضع في حلب الشرقية والغوطة التي يُحكم النظام السيطرة عليها أمنياً بشكل تام؛ فلا يمكن لأي حراك محلي أن يكون في تلك المناطق لأن نظام الأسد عمل على تهجير واسع لتلك المنطقة ويرفض عودة أحد إليها، كما يرفض أن يعمل على الواقع الخدمي في تلك المناطق، ويتم التعامل معها بمنطق المستوطنة؛ فالدخول والخروج منها يكون بإذن خاص، يُضاف إلى ذلك عدم وجود حدود مع دول أخرى يمكن أن تسهم في صنع هوامش للتحرك.

تأملات في حالتَي الجنوب والشمال:

أُشير في الندوة إلى فوارق أساسية بين تجربتَي الشمال والجنوب؛ ففي الشمال ثمّة وجود لدولة داعمة للمعارضة تنشر قوات من جيشها على الأرض، حيث إن الأولوية التركية ترتكز على محددات أساسية أمنية وسياسية، تتمثل بالتخلص من خطر “قسد” من خلال إبعادها عن الحدود التركية مسافة كافية، وإبعادها أيضاً عن العملية السياسية منعاً  لفرض أجندتها في شكل سوريا المستقبلي، وهو الأمر الذي غدا أكثر أهمية من معالجة التهديدات الناتجة عن وجود نظام الأسد باعتبار تحوله إلى مليشيات غير منضبطة تنتشر على الحدود، وقد تحدثت بعض الأنباء عن نية تركيا العمل على تشكيل حرس للحدود بالتعاون مع مختلف المكونات الموجودة، سواءٌ كانت “هيئة تحرير الشام-هتش”، أو “الجيش الوطني”، أو حتى وحدات معينة تتبع لنظام الأسد وتكون قريبة من روسيا.

من المرجَّح أن منطقة الشمال الغربي لسوريا لن تكون معرَّضة لاجتياحات عسكرية من قبل نظام الأسد بناءً على تفضيل تركيا بقاء قوات “متعاونة” معها فيها، ومن بعدها يُناقش الشأن السياسي؛ إذ تركّز التصريحات السياسية التركية على سلال ثلاث أساسية في حقل التعاون مع نظام الأسد، وهي: مكافحة الإرهاب، والحل السياسي، وعودة اللاجئين، ويبدو أنه لا ضمانات لدى تركيا لأن يكون هناك تعاون من قبل الروس والنظام الأسد دون بقاء قواتها في الشمال السوري، مع اختلافٍ عن تجربة درعا التي شهدت تحوُّل قوات المعارضة هناك إلى فصائل محلية تتحرك بشكل غير منسق، لكنّ الحاجة في الشمال قائمة لتحرُّك منسق باعتبار حاجة الفاعل التركي لذلك.

وبالنسبة إلى الدول الراعية للحل في الجنوب – الأردن تحديداً إشارة لاتفاق 2018- فإنها قبلت بروسيا ضامنة لعدم انتشار المليشيات الإيرانية، ثم تراجعت للخلف؛ ربما بسبب عدم القدرة على التدخل لعدم امتلاكها الإمكانات العسكرية والاقتصادية، على غرار ما حصل مع تدخل الأتراك في الشمال؛ ففضلت الاعتماد على روسيا ضامناً، ولكن مع عدم وفاء الروس بتلك التعهدات -لعدم القدرة أو لعدم الرغبة- فلا يُتوقع أن يثق الأتراك بالروس لتحقيق ذلك.

خاتمة:

مع توجُّه الفاعلين الإقليميين والدوليين للبحث عن حلول جزئية ترقيعية سريعة بعيدة عن الحل السياسي وفق القرارات الأممية؛ فإن قوى الثورة والمعارضة السورية تجد نفسها أمام مرحلة جديدة تحتاج فيها إلى تمحيص مختلف الفرص والمخاطر والتشاور حولها، وإلى محاولة توسيع الهوامش المتاحة لاستمرار العمل على تحقيق أهداف للشعب السوري في حريته وكرامته وسيادته على أرضه.


[1] يقصد بقاعدة “تشام هاوس” بأنه: “حينما يعقد اجتماع أو جزء منه في إطار قاعدة تشاتام هاوس، فإن المشاركين يكونوا أحراراً في استخدام المعلومات التي يحصلون عليها، لكن من دون كشف هوية المتحدث أو انتمائه أو أي شخص آخر؛ دفعاً للقارئ للتركيز على سياق الحوار ومضمونه بغضّ النظر عن أشخاصه.

باحث ومستشار، كتب و شارك في كتابة العديد من الأوراق المتعلقة بالملف السوري. كما عمل مستشاراً وباحثاً في الشأن السوري لدى عدة مراكز سياسات سورية ناشئة، ولدى منظمات دولية. مدرب في مجال أساسيات ريادة الأعمال وأساسيات التحليل السياسي،

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى