المنظمات غير الحكومية السورية ومفاهيم الانتماء والمواطنة في المناطق المحررة- التحديات وسبل تجاوزها
تشتكي غالبية المنظمات غير الحكومية السورية خصوصاً العاملة منها في مجال التمكين السياسي من ضعف التفاعل الشبابي مع الفعاليات التي تطلقها بين الحين والآخر والهادفة إلى تعزيز أفكار المواطنة وانتماء الفرد إلى وطنه، الأمر الذي يثير الكثير من الأسئلة حول أبرز التحديات والعوائق التي تقف أمام التفاعل مع مثل هذه الفعاليات.
السياق الصعب
في إحدى إعلانات التدريبات ضمن مجال الممارسة السياسية، حيث أشير أن الهدف منها هو “رفع مستوى الوعي السياسي” يقول أحدهم لصديقه: كم ستدفع لنا المنظمة إذا التحقنا بهذه الدورة؟ يجيبه صديقه: لا أدري، ولكن اعتقد أن الدخول فيها سيفيدنا بغض النظر عن وجود البدل المادي من عدمه. يأتي التعليق سريعاً: أنت حر، بالنسبة لي البدل المادي هو الأهم.
تمثل هذه النظرة لقضايا يفترض أنها تمثل عنصراً مهماً في إعادة الاهتمام بالشأن العام، إحدى أبرز التحديات التي تعاني منها المنظمات السورية العاملة في مجال التمكين السياسي. لعل ذلك يكون متفهماً في سياق انتشار الفقر والبطالة، واستمرار حركة النزوح والتهجير، وقلة الموارد. حيث تمثل مثل هذه المواضيع نوعاً من الرفاهية وفق “هرم ماسلو” للاحتياجات الإنسانية. وكذلك في حال كان المتدرب الشاب يتكلف وقتياً أو مادياً لحضور مثل هذه الفعاليات.
هذا السياق على سبيل المثال، دفع الكثير من المنظمات غير الحكومية الفلسطينية سابقاً إلى التركيز على البعد الاقتصادي للمواطنة المتمثل بتقديم المساعدات والمأوى قبل اتفاق أوسلو، لتنتقل المنظمات ذاتها بعد الاتفاق إلى الاهتمام بالعنصرين المدني والسياسي للمواطنة.
غير أنه في بعض الحالات، لا تكلف الفعاليات ذات الصلة مادياً بحكم أنها افتراضية، ولا وقتياً كالمشاركة في بعض استطلاعات الرأي السريعة، هنا يصبح التذرع بقضية التضارب بين هذه الفعاليات والاحتياجات محل نظر.
للقوى الحاكمة دور أيضاً
يمثل انعدام النشاط السياسي في سوريا قبل الثورة، وضعف الحوكمة القانونية والإدارية داخل المناطق المحررة، وتعدد الجهات الحاكمة المسيطرة، وقلة النصوص القانونية الناظمة للعلاقة بين السلطات القائمة وأبناء المجتمع، تحديات متراكمة أمام النشاطات الهادفة لتعزيز الانتماء ومفهوم المواطنة. حيث ساهمت هذه العوامل إلى جانب أخرى في تكريس انطباع سلبي لدى السوريين تجاه مفهوم الوطن الذي أصبح في كثير من الأحيان مرادفاً في اللاوعي السوري للنظام الحاكم، كما أن الإرث السلبي لحكم البعث انعكس في كثير من الأحيان على سلوك الجهات الحاكمة التي تتعامل أحياناً مع مفاهيم المواطنة والتعددية والديمقراطية والمجتمع المدني وفق أحكامها المسبقة، إما كمفاهيم غربية تهدف لإدخال ثقافة غريبة على المجتمع السوري أو كجهود تحريضية للأفراد المقيمة في المناطق المحررة ضد هذه الجهات، يدعم كل ذلك الأحكام التعميمية وتطبيقات نظرية المؤامرة التي على ما يبدو ما تزال ماكثة في عقلية كثير من السوريين.
تحديات ذاتها خاصة بالمنظمات غير الحكومية السورية نفسها:
تسعى المنظمات الإنسانية السورية لسد الفراغ الكبير الذي خلفه غياب الدولة في المناطق المحررة عبر جهودها في مجال الصحة والتعليم والخدمات والإغاثة…إلخ. على الرغم من كل ذلك، لا توظف هذه الجهود لتعزيز مفاهيم المواطنة والانتماء، ولعل البعض يتساءل ما العلاقة بين تقديم هذه الخدمات وبين تلك المفاهيم! الجواب: ثمة علاقة غير مباشرة يمكن من خلالها تعزيز هذه المفاهيم عبر الربط بين تقديم هذه الخدمات وبين السوريين الذي يتمتعون بها باعتبارهم مواطنين لهم حقوق. فوضع عبارات من قبيل “من حقك كسوري”، أو ذكر بعض المواد الدستورية الموجودة في الدستور السوري الأكثر شرعية لعام 1950، والتي تشير إلى ضمان بعض هذه الحقوق كالحق في السكن وتأمين حياة كريمة والصحة، على صندوق الإغاثة أو في لوحات توضع على جدران المستشفيات والمراكز الصحية وفي مراكز هذه المنظمات، أمر كفيل باعتقادنا لتكريس شيء من هذا الانتماء في اللا وعي لدى المستفيدين.
إلى جانب ضعف اهتمام المنظمات بإيجاد نوع من العلاقة بين نشاطها وبين تعزيز مفاهيم المواطنة والانتماء، يضاف ضعف الخبرة المطلوبة لتنفيذ البرامج والأنشطة السياسية لدى بعض المنظمات، والتي يمكن أن تساهم في هذا المجال باعتبار أن هذه الأنشطة تعد حديثة نوعاً ما، إضافة إلى الاعتماد بشكل رئيس على التمويل الخارجي، الأمر الذي قد ينعكس سلباً على اختيار طبيعة النشاط أو مكان التنفيذ أو الشريحة المستهدفة، فضلاً عن ضعف تمويل مثل هذه المشاريع، خصوصاً إذا كان لها أهداف وطنية مستقلة ولا تتماشى مع رؤية المانحين وأجندتهم.
سوداوية في الصورة المتشكلة عن المواطنة والانتماء في العقلية السورية:
عقب قيام إحدى المنظمات غير الحكومية بتأهيل وترميم إحدى الحدائق في مدينة إدلب، يتفاجأ القائمون عليها بقيام البعض بتكسير مقاعد الجلوس، في عمل يشير في أحد أبعاده إلى أن من يرتكب هذا الإثم، لم يقم به بهدف السرقة أو الاستفادة المادية، بقدر الاستهزاء أو عدم الشعور بالملكية العامة والمصلحة العامة.
هذه الصورة وشبيهاتها تمثل التحدي الأبرز الذي يواجه جهود المنظمات يتمثل في الانطباعات المتشكلة لدى السوريين حول مفهوم الوطن والانتماء؛ فنتيجة عقود من الاستبداد وتقديس فردية الحاكم والدمج بين مفاهيم الدولة والمؤسسات وبين نظام الحكم، تدفع شرائح واسعة من السوريين للنفور باللاوعي من كلمات مثل الوطن والانتماء والمصلحة العامة التي ترتبط بنظام الإجرام والقتل والتشريد.
كما أن ضعف الهوية الوطنية بصورة عامة وبروز الانتماءات العرقية والطائفية والمناطقية بعد الثورة، زادت من العوائق النفسية التي تقف أمام الجهود الهادفة لتجاوز هذه الانتماءات التي تمثل لدى البعض الدوائر التي يمكن اللجوء إليها في ظل فقدان سلطة الدولة، وحالة الفوضى المنتشرة في مختلف المناطق.
هل من أدوات للنهوض بدور المنظمات السورية في تعزيز المواطنة:
يمكن للمنظمات السورية غير الحكومية بالإضافة للفاعلين بالشأن العام اتخاذ جملة من الإجراءات من شأنها تقوية دورها في مجال دعم المواطنة والانتماء في المجتمع.
لعل المجال الأساس الذي يفترض أن تركز عليه المنظمات غير الحكومية هي قضية رفع الوعي؛ فعلى الرغم من تعدد التحديات أمام تعزيز مفاهيم المواطنة والانتماء، إلا أن قضية التوعية تمثل حجر الزاوية؛ لأنها متعلقة بقناعات السوري وتفكيره، مما يعني أن تجاوز هذا التحدي سيساعد في تجاوز بقية التحديات بصورة أو بأخرى، ولعل الوسيلة الأفضل حالياً لذلك توظيف النشاطات والخدمات الاقتصادية من أجل تصحيح التصورات المغلوطة. في مرحلة تالية يمكن أن تبادر المنظمات إلى إنشاء منصة إلكترونية دائمة للحوار وإبداء الرأي حول مختلف المواضيع الخدمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بما يساهم في تعزيز فكرة الاهتمام بالشأن العام، بالإضافة لتوفير قناة تواصل مستمرة بين السياسيين السوريين في الخارج وأبناء المجتمع السوري في المناطق المحررة. إلى جانب تصميم برامج لتعزيز مفاهيم الحقوق والحريات والتداول السلمي للسلطة عبر المنابر الإعلامية.
بالنسبة للتحديات الذاتية المتعلقة بالمنظمات غير الحكومية ذاتها، يفترض أن تسعى إلى تأمين مصادر تمويل ذاتية ومحلية وتطويرها، لأجل القدرة على متابعة الأعمال في حال توقف الدعم الخارجي أو تقييده بشروط معينة، كذلك التركيز على النشاطات التي تعزز الانتماء بتكاليف وقتية ومالية محدودة جداً، إلى جانب العمل على بناء قدرات العاملين في المجال السياسي، ورفع سويتهم لأجل أن يكونوا مؤهلين كما ينبغي لتنفيذ البرامج والأنشطة السياسية.
يمكن أن تبذل المنظمات غير الحكومية السورية جهوداً في دعم تشكيل النقابات المهنية، وتفعيل دورها في رعاية مصالح أعضائها والمطالبة بحقوقهم، على اعتبار ذلك أحد أوجه الاهتمام بالشأن العام التي يمكن أن تساهم في تعزيز مفاهيم المواطنة.
إلى جانب تصميم برامج وتدريبات تستهدف العاملين في المجالس المحلية من أجل تعزيز روح الانتماء وثقافة المشاركة في الخدمة العامة وتطوير أدائهم بما يحقق جودة أكبر للخدمات المقدمة، إلى جانب المساعدة في تطبيق مبدأ “الشعب مصدر السلطة” بحيث يكون هو صاحب القرار والمرجع النهائي في كل ما يتعلق بالوطن. يجب أن تعمل هذه البرامج والتدريبات على تعزيز مبدأ “تحمل المسؤولية”، وتكريس قيم ومفاهيم الانتقال السلمي للسلطة والاحتكام لصندوق الانتخاب…إلخ، وغير ذلك من المفاهيم التي تساعد على زيادة الشعور بالانتماء والمواطنة.
في هذا السياق، يمكن التنسيق مع قيادة الجيش الوطني من أجل تنفيذ تدريبات من شأنها زيادة الشعور بالانتماء لدى أفراده، وأيضا بما يكرس مفاهيم من قبيل التداول السلمي للسلطة، وعدم إقحام العسكريين في القضايا السياسية، بما يهيئ بيئة مناسبة للمنظمات للقيام بدورها في تعزيز المواطنة من دون مضايقات من العسكر، والتي على ما يبدو نحتاج وقتاً لنتجاوزها.