
الوضع العام في منطقة الساحل بعد نصف عام من سقوط نظام الأسد
تقرير صادر عن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري
تواجه الدول الخارجة من رحم الحروب أو الثورات منعطفاً حرجاً ومعقّداً في مسيرتها، حيث تبدأ مرحلة إعادة هيكلة الدولة والمجتمع وسط واقع مثقل بالخراب والاضطراب، فغالباً ما تكون هذه الدول قد تعرّضت خلال السنوات السابقة لتدمير واسع النطاق طال البنى التحتية الأساسية، وأصاب الاقتصاد بالشلل، وترك آثاراً عميقة في النسيج المجتمعي، نتيجة الانقسامات والصراعات الطويلة. وفي هذا السياق، تجد الحكومات الجديدة نفسها أمام ضغوط شعبية هائلة تطالب بسرعة معالجة جميع المشكلات في وقت واحد، رغم أن الظروف لا تكون مواتية لذلك. إذ تعاني الدولة في هذه المرحلة من محدودية الموارد المالية والبشرية، وانعدام الأمن والاستقرار، إضافة إلى تهديدات مستمرة باحتمال تجدُّد النزاع في أي لحظة إذا لم تُعالَج جذور الأزمة بشكل جدي.
تتوزّع التحديات التي تواجه الدول في هذه المرحلة إلى عدة محاور مترابطة. فمن جهة، هناك تحديات أمنية تتعلق بفرض سلطة الدولة مجدداً، ووقف مظاهر الفوضى والانفلات الأمني، وبناء مؤسسات أمنية فعّالة وقادرة على الحفاظ على الاستقرار. ومن جهة ثانية، تظهر تحديات اقتصادية هائلة تتمثل في إعادة إعمار ما دمّرته الحرب، واستعادة دورة الحياة الاقتصادية، وخلق فرص العمل، وجذب الاستثمارات، والتقليل من مُعدّلات الفقر والبطالة. وفي المقابل، لا تقل التحديات القانونية والاجتماعية أهمية، حيث تبرز الحاجة إلى ملاحقة ومحاسبة مرتكبي الجرائم والانتهاكات خلال المرحلة السابقة، وإرساء قواعد العدالة الانتقالية، ومعالجة القضايا التي أسهمت في نشوء الصراع، وعلى رأسها التهميش والتمييز وغياب العدالة. إن إغفال أي من هذه القضايا الجوهرية قد يؤدي إلى تقويض الاستقرار وإعادة البلاد إلى نقطة الصفر من جديد.
وبالنظر إلى وضع سوريا اليوم، وبالأخص وضع منطقة الساحل السوري، تبرز هذه التحديات المتشعّبة المعقّدة بشكل واضح، حيث تزايدت التوترات الطائفية المستمرة منذ عهد النظام البائد، والتي تعمّقت بسبب جرائم الحرب الطائفية التي ارتكبها شبيحة نظام الأسد ضد المدنيين في المنطقة والمناطق المجاورة؛ كما تبرز تحديات أخرى مثل مشكلات العدالة الانتقالية، ومشكلات البنى التحتية المدمّرة، وضعف الاقتصاد، والتحديات الأمنية المستمرة لحدّ اللحظة، وهي قضايا مشتركة مع باقي المناطق السورية، مع وجود بعض التفاصيل الخاصة بمنطقة الساحل.
تتشكّل منطقة الساحل السوري من محافظتي اللاذقية وطرطوس، وتمتدّ على مساحة تقارب 4200 كيلومتر مربّع، وتضم عدداً من المدن الكبيرة مثل اللاذقية وطرطوس وجبلة وبانياس والقرداحة[1]، وبلغ عدد سكان المنطقة في عام 2011 حوالي 1.8 مليون نسمة، تتوزع النسب بحسب الطوائف إلى قرابة 65% من العلويين، وحوالي 30% من السنة، ونسب أقل من المسيحيين والإسماعيليين والشيعة، وتغيّرت هذه النسب في عام 2016 بعد حملات التهجير والتغيير الديمغرافي التي نفّذها نظام الأسد، والتي استهدفت المكوّن السني على وجه الخصوص، حيث استقرت نسبة العلويين عند 65%، فيما تراجعت نسبة السنة إلى 20%، وارتفعت نسبة الأقليات الأخرى[2].
وخلال سنوات الثورة، شاركت بعض المناطق داخل الساحل السوري في الثورة السلميّة، ثم في الثورة المسلّحة، وتعرضت هذه المناطق الثائرة إلى مجازر طائفية كبيرة وقصف ممنهج يهدف إلى التهجير، مثل مجزرة البيضا في ريف بانياس التي وقعت عام 2013 وراح ضحيتها أكثر من 200 شخص قُتِلوا بوحشية[3]، كما تعرضت قرى جبل الأكراد وجبل التركمان في ريف اللاذقية الشمالي لحملات قصف عنيف وتهجير من طرف نظام الأسد انتقاماً من مواقفها الداعمة للثورة[4].
يهدف هذا التقرير إلى تقديم رصد موسَّع للوضع العام في منطقة الساحل السوري بعد مُضيّ ستة أشهر على سقوط النظام، مُسلّطاً الضوء على أبرز التحديات التي تواجه هذه المنطقة في المرحلة الانتقالية، كما يسعى التقرير إلى تقديم جملة من التوصيات العملية التي قد تُسهم في تجاوز العقبات الحالية.
الوضع الأمني في الساحل:
شهدت منطقة الساحل في الأسابيع الأولى بعد سقوط نظام الأسد عدداً من التطورات السريعة، إذ دخلت أرتال قوات إدارة العمليات العسكرية لمنطقة الساحل في الأيام الأولى بعد سقوط نظام الأسد وانتشرت في المواقع العسكرية فيها[5]، وبدأت عمليات جمع السلاح من الأهالي لضبط الأمن في المنطقة[6]، فيما وقعت بعض الحوادث الجنائية التي راح ضحيتها مدنيون وعناصر من الأمن[7]، كما خرجت مظاهرات احتجاجية بعد انتشار خبر حرق مقام الخصيبي المقدّس عند الطائفة العلوية في حلب، والذي تبيّن أنه احترق أثناء المواجهات خلال عملية تحرير مدينة حلب[8].
افتتحت الحكومة المؤقتة مراكز لتسوية أوضاع عناصر جيش وشرطة نظام الأسد البائد في جميع المدن السورية الواقعة تحت سيطرتها، وذلك بهدف جمع معلومات المنتسبين للقوات المسلحة واستلام السلاح منهم مقابل السماح لهم بالعودة للحياة الطبيعية، وهي لا تُعفي المتقدم لها من المحاسبة إذا ثبت ارتكابه جرائم حرب خلال فترة خدمته، وكانت منطقة الساحل من أكثر المناطق إقبالاً على التسوية، وقد تجاوز عدد من أجروا التسوية فيها أكثر من 60 ألفاً في اللاذقية[9] وأكثر من 10 آلاف في طرطوس[10] خلال شهر من التحرير.
وخلال الشهرين التاليين، شهدت المنطقة زيادة في كمّ ونوع العمليات المسلحة التي يُنفّذها فلول نظام الأسد ضد قوى الأمن، إذ تزامن انتهاء المهلة التي حددها الأمن العام لتسوية أوضاع عناصر النظام السابق مع وقوع عدة حوادث استهداف مباشر للنقاط الأمنية، راح ضحيتها عدد من منسوبي الأمن العام[11]، وكان من أشهر هذه العمليات قيام “بسام حسام الدين”، أحد قيادات الفرقة 25 التابعة لنظام الأسد البائد، بخطف 7 من عناصر الأمن العام في ريف جبلة في شهر يناير/كانون الثاني 2025، والتي انتهت بتحرير الأسرى وتفجير “حسام الدين” نفسه قبل القبض عليه[12].
ولم تتوقف بعد ذلك محاولات الفلول لاستهداف الأمن العام والمدنيين في منطقة الساحل خصوصاً وسوريا عموماً، إذ صدّقوا انتشار شائعة في نهاية شهر يناير/ كانون الثاني 2025 حول عودة ماهر الأسد شقيق المخلوع بشار الأسد إلى الساحل وانسحاب القوات الحكومية منها وفق اتفاقية دولية بحسب الشائعة، وهاجموا بعض النقاط الأمنية في محاولة للسيطرة على المنطقة، لكنها فشلت وجرى إطلاق حملات أمنية مكثفة في المنطقة لتمشيطها من الفلول[13].
وفي مطلع شهر مارس/آذار 2025 بلغت هجمات فلول نظام الأسد ذروتها، إذ هاجمت عصابات من الفلول دوريات الأمن العام في حي الدعتور في اللاذقية يوم 4 مارس/آذار[14]، وتطورات المواجهات في اليومين التاليين لتصل إلى قتل المئات من الأمن العام في هجمات متزامنة شملت جميع مناطق الساحل، تلا ذلك تحرك سريع للقوى العسكرية التابعة للحكومة السورية الجديدة وعدد كبير من المدنيين المسلحين الداعمين للدولة للدفاع عن عناصر الأمن المحاصرين وهزيمة الفلول ومنعهم من السيطرة على المدن والمواقع العسكرية في المنطقة، ووقعت خلال هذه الأحداث أعمال عنف طائفي راح ضحيتها المئات من المدنيين في المنطقة من منسوبي الطائفة العلوية ومن السنة، وانتهت بهزيمة الفلول وإعادة سيطرة القوى الحكومية على المنطقة[15]؛ وبحسب إحصائيات نهائية لأحداث الساحل نشرتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد بلغ عدد الضحايا الكلي 1334 شخصاً.
أعلنت الحكومة السورية بعد هذه الأحداث عن تأسيس لجنتين؛ الأولى للتحقيق في أحداث الساحل ومعرفة المتورطين في الجرائم ضد المدنيين، والثانية لتحقيق السلم الأهلي، وعيّنت في هاتين اللجنتين شخصيات بارزة متنوعة الخلفية من منطقة الساحل[16].
هدأت الأوضاع في منطقة الساحل بعد هذه الأحداث نسبياً طيلة الأشهر الثلاثة التالية، مع استمرار وقوع بعض هجمات الفلول على الحواجز والمراكز الأمنية[17]، واستمرار نشاط بعض العصابات الإجرامية، لكن في المقابل زاد حجم العمليات الأمنية التي يُقبَض فيها على ضباط من النظام السابق وعناصر من الفلول شاركوا في الهجمات التي وقعت في شهر مارس/آذار[18]، والقبض على العصابات الإجرامية[19]، وضبط مستودعات للسلاح والذخيرة في المنطقة[20].
وخلال هذه الأشهر الستة، خرجت العديد من الشخصيات المحسوبة على نظام الأسد، مثل “مقداد فتيحة”[21]، و”رامي مخلوف”[22]، بمقاطع فيديو ومنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تُحرّض أبناء الساحل مع الطائفة العلوية على التمرُّد ضد الحكومة الجديدة، وتقسيم سوريا وفق نظام فدرالي، كما اعترف قائد ميليشيا “صقور الصحراء” التابعة لنظام الأسد البائد، “محمد جابر”، بإشرافه على تنسيق عمليات الفلول في الساحل مع “غياث دلا”[23]، الذي أسس مطلع شهر مارس/آذار 2025 ما سماه “المجلس العسكري لتحرير سوريا”، وتبنّى هجمات في ريف اللاذقية ، وأعلن أن هدفه “تحرير سوريا من المحتلين وإسقاط النظام الجديد”[24].
كما نشطت العديد من الجهات المحلية في إصدار بيانات وتصريحات حول الأحداث، وكان من بينها عدد ممن يسمون أنفسهم “وجهاء الطائفة العلوية”، مثل “غزال غزال” رئيس ما يُسمّى “المجلس الإسلامي العلوي الأعلى في سوريا والمهجر”[25]، و”صالح منصور”[26]، و”باسل الخطيب”[27]، الذين استمروا منذ سقوط نظام الأسد بإصدار بيانات استفزازية تطالب بحماية دولية للطائفة العلوية ضد ما يدّعونه من وجود “إبادة جماعية تستهدف العلويين”، وتهدد الحكومة السورية بالتمرُّد. فيما صدرت تصريحات من وجهاء من أهالي المنطقة من السنة والعلويين تحاول تهدئة الوضع وتؤكد على وحدة الشعب السوري، وعلى أن الشخصيات التي تخرج بتصريحات تطالب بالحماية الدولية لا تُمثّل رأي الطائفة وأهل المنطقة[28].
فيما انتشرت العديد من الأخبار حول إجراء تسويات لبعض الضباط أو رجال الأعمال المحسوبين على نظام الأسد مقابل مبالغ مالية أو استثمارات، وكان من أبرزهم “فادي صقر”، أحد قيادات ميليشيا “الدفاع الوطني”، والذي أعلنت الحكومة بأنها أعطته الأمان مقابل تحقيق مصالح عليا مثل حقن دماء الجنود وتخفيف التوترات المجتمعية[29]؛ فيما ظهرت أخبار عن إجراء تسوية لرجال أعمال كبار من أبناء المنطقة، مثل “سامر الفوز” الذي كان من المقربين لنظام الأسد، لكن تبين فيما بعد فشل هذه التسوية [30].
رغم الهدوء والاستقرار النسبيين الذين تشهدهما منطقة الساحل في الأسابيع الأخيرة، لا يمكن القول إن المنطقة مستقرة وآمنة بشكل كامل، إذ ما تزال تنشط بعض خلايا الفلول التي تستهدف الحواجز والمواقع الأمنية بين الفينة والأخرى[31]، كما تستمر حوادث السرقة والخطف التي تقوم بها عصابات إجرامية[32]، وفي مواجهة هذه التهديدات، كثفت القوى الأمنية في هذه المرحلة من أعمالها، إذ زادت وتيرة عمليات القبض على الفلول وعلى ضباط نظام الأسد البائد[33]، كما جرى تحرير عدد من المختطفين على يد العصابات الإجرامية[34]، وتستمر عمليات الكشف عن مخازن السلاح والذخيرة المنتشرة في المنطقة[35].
لكن رغم هذا التحسن الملحوظ في الوضع الأمني في المنطقة، لم تتوقف الصفحات التي يديرها فلول نظام الأسد أو جهات خارجية في إيران (والدول التي تدور في فلكها) و”إسرائيل[36]” وتركيا[37] على بث الشائعات حول الوضع الأمني في سوريا عموماً، وحول وضع منسوبي الطائفة العلوية خصوصاً، إذ انتشرت الكثير من الأخبار عن خطف أو قتل مواطنين من الطائفة العلوية في منطقة الساحل أو في مناطق أخرى، وتبيّن فيما بعد أن هذه الأخبار كاذبة أو مفبركة من مقاطع قديمة أو فيها تضليل إعلامي حرفها عن حقيقة الوضع[38]، لكن لم تكن العمليات الأمنية بعيدة عن الانتقادات، إذ تخللت بعض العمليات تجاوزات للعناصر الأمنية بحق المدنيين[39].
وخلال الأشهر الماضية، لوحظت زيادة في عدد المهاجرين غير الشرعيين من منطقة الساحل باتجاه لبنان والعراق، ومنها إلى أوروبا أو الدول الغربية، وترتبط هذه الهجرة بعوامل مختلفة، من أهمها هجرة عناصر نظام الأسد البائد وأسرهم خوفاً من الملاحقة الأمنية، والهجرة بسبب سوء الظروف المعيشية، خاصة بالنسبة للموظفين المسرّحين من وظائفهم الحكومية بعد سقوط نظام الأسد[40].
وفي ظل ارتباط الملف الأمني في الساحل بموضوع محاكمة مجرمي الحرب من جهة والحفاظ على السلم الأهلي من جهة أخرى، أصبح موضوع العدالة الانتقالية مثار جدل في سوريا، خاصة بعد الإفراج المتكرر عن مجموعات من جنود نظام الأسد بحجة عدم تورُّطهم في الدماء، كان آخرها الإفراج عن المئات منهم قبل عيد الأضحى تحت إشراف لجنة السلم الأهلي[41]، في حين نشطت صفحات كثيرة في وسائل التواصل الاجتماعي لمهاجمة هذه الخطوة مستشهدة بدلائل تثبت مشاركة بعض المفرج عنهم في الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد البائد[42].
تُظهر عمليات الأمن المتزايدة ضد الفلول والعصابات الإجرامية والكشف المتكرر عن مستودعات السلاح في منازل المدنيين في منطقة الساحل، وخصوصاً في منطقة القرداحة، في الأشهر الأخيرة وجود تعاون جيد بين الأمن وبعض الأهالي الذين يشاركون في الإبلاغ عن هذه النشاطات غير القانونية، وقد يكون هذا مرتبطاً أيضاً باعترافات المقبوض عليهم أو المتعاونين مع الحكومة ممن أُطلق سراحهم مؤخراً، ما يُظهِر أهمية الاستثمار في هذا الملف من أجل تجريد الفلول من حاضنتهم الشعبية وتحييد خطر تحريض الأهالي ضد الحكومة، لكن بشرط وجود منهجية متكاملة وواضحة تضبط العمل في هذا الإطار وتمنع إعادة تعويم ضباط النظام البائد وتصديرهم كقيادات مجتمعية[43].
وللوصول إلى استقرار أمني أكبر وتقليل الأضرار الجانبية في العمليات يُصبح من الضروري رفع مستوى تدريب القوى الأمنية وتعزيز قدرتها على التعامل مع الحالات الطارئة بأقصى درجات الانضباط، لاسيما مع توثيق الأخطاء والتجاوزات التي يرتكبها بعض عناصر الأمن خلال العمليات الأمنية، إذ تكرّر في الأشهر الماضية عدد من الحوادث المشابهة التي راح ضحيتها مدنيون أو حدثت أضرار مادية لممتلكات الأهالي بسبب قلة الانضباط والتسرّع أثناء العمل أو ضعف الخبرة.
الوضع الاقتصادي:
تشتهر مناطق الساحل السوري بالزراعة، حيث يعتمد مزارعو الساحل على الزراعة البعليّة والبيوت الزجاجيّة، وتتنشر زراعة الحمضيات والخضار والفواكه الاستوائية، كما ينشط قطاع السياحة، إذ توجد آثار تاريخية وطبيعة ساحرة وشواطئ كانت تجذب السياح من كل دول العالم، كما تشتهر بوجود عدد من الموانئ ومصافي النفط التي تدعم اقتصاد المنطقة واقتصاد سوريا ككل، لكن بعد انقلاب البعث على الحكم في سوريا اتبع سياسة طائفية ركزت على الزج بأبناء منطقة الساحل من الطائفة العلوية في الجيش والأمن والمؤسسات الحكومية دون النظر للكفاءة أو الأحقيّة، بل ومنحهم رواتب مقابل وظائف وهمية لا وجود لها[44]، ما جعل العمل في القطاع الحكومي المهنة الأولى بين أبناء المنطقة مقابل تراجع المهن التي توارثوها تاريخياً[45].
ومع سقوط نظام الأسد أصدرت الحكومة الجديدة قرارات بحلّ الجيش وتسريح الكثير من الموظفين في القطاع الحكومي أو إحالتهم إلى إجازة طويلة الأمد، وكان جزء كبير منهم من أبناء منطقة الساحل الذين توظّفوا بناء على أسباب طائفية أو مناطقية، وهذا ما دفع ببعضهم إلى الخروج في مظاهرات احتجاجية للمطالبة بإعادتهم إلى وظائفهم[46]، وهو الأمر الذي استجابت له الحكومة جزئياً عبر إعادة جزء من الموظفين الذين أُحيلوا إلى إجازة 3 أشهر إلى عملهم من جديد[47].
بالنظر إلى وضع قطاع الزراعة، واجه مزارعو الخضار هذا العام تحديات متعلّقة بارتفاع مستويات الجفاف وقلة الأمطار، وهي مشكلة تُعاني منها معظم الأراضي السورية، بالإضافة إلى مشكلات قلة الدعم بالأسمدة والبذار وغلاء هذه المنتجات في الأسواق[48]، كما تسبّب الصقيع في هذا الموسم بتلف جزء كبير من المحاصيل، ما أدى لارتفاع أسعار الخضار والفواكه في عموم سوريا[49]، لكن في المقابل تجاوز محصول الحمضيات في الساحل لهذا العام أرقام العام الماضي، إذ تجاوز حجمه 700 ألف طن في الوقت الذي بلغ فيه محصول العام الماضي 688 ألف طن[50].
كما شهدت المنطقة في الشهور الأخيرة عودة لمهنٍ اندثرت منذ عقود، مثل مهنة تربية المواشي، والتي بدأت تزدهر بسبب مردودها الاقتصادي الجيد في ظل الظروف الصعبة التي يمر بها أهالي الساحل، مثل انهيار الليرة السورية وقلة فرص العمل وارتفاع الأسعار[51].
تمثل عودة النشاط للقطاع الزراعي والحيواني في المنطقة فرصة جديدة لتحريك عجلة اقتصاد المنطقة والبلاد ككل، لذا من المهم دعم المزارعين ومربي الماشية ببيع الأسمدة والأعلاف بأسعار مدعومة، وتعزيز فكرة التعاونيات الزراعية التي تخفف من الأعباء على الحكومة وتزيد من فاعلية عمل القطاع الزراعي وتحسن من سرعة وجودة الإنتاج، وإيجاد حلول لمشكلة الجفاف، والعمل على توفير الكهرباء بشكل أكبر وتقليل ساعات تقنينها في المزارع لمواجهة الظروف الصعبة مثل الصقيع الذي تسبب بأضرار كبيرة للبيوت البلاستيكية، وربط المزارعين بشبكات جديدة من الأسواق تتيح لهم بيع محاصيلهم بأسعار أفضل.
وفي سياق آخر، بدأت عودة النشاط إلى الموانئ ومصافي النفط السورية على البحر المتوسط[52]، إذ وصلت مجموعة من البواخر التجارية، والتي كان منها بواخر مُحمّلة بشحنات من المواد الغذائية[53]، أو السيارات[54]، أو الفحم[55] والنفط[56].
وتعد هذه التطورات بارقة أمل جديدة من الممكن أن تؤدي إلى زيادة فرص العمل في المنطقة، لكن يجب وضع ضوابط صارمة تحكم عمليات الاستيراد والتصدير، إذ إن إغراق السوق السوري ببضائع ذات جودة ضعيفة وقيمة مضافة قليلة ستضر بالإنتاج المحلي وستجعل الاقتصاد السوري استهلاكياً وليس إنتاجياً، وهو أمر سلبي على المدى الطويل.
أما بالنظر للقطاع السياحي في المنطقة، فقد أطلقت الحكومة الجديدة عدداً من المشاريع لتطوير المواقع السياحية، مثل ترميم الآثار[57]، واستحداث الشرطة السياحية المعنيّة بحراسة المواقع السياحية والتواصل مع السياح[58]، وتوقيع اتفاقيات استثمارية مع دول وشركات عالمية لتطوير المنشآت السياحية[59].
من المهم ضبط الأمن في المنطقة وفي سوريا عموماً وضمان استقرارها، إذ يُعدّ الفلتان الأمني واحداً من أهم أسباب تراجع السياحة الداخلية والخارجية، ولا يزال التعويل على القطاع السياحي ضعيفاً بالنظر لعدم وجود حالة استقرار تُشجّع السيّاح العرب والأجانب على القدوم إلى سوريا، كما يجب وضع ضوابط تحكم الاستثمار في هذا القطاع، سواء كان استثماراً محلياً أو خارجياً، بشكلٍ يحافظ على بيئة المنطقة الطبيعية ويضمن عدم احتكار السياحة بيد المستثمرين الأغنياء والسياح الأجانب ويحرم أبناء البلد من السياحة فيها بتكاليف مقبولة.
الوضع الخدمي ونشاط المنظمات المدنية:
على الصعيد الخدمي في الوقت الحالي، تُعاني مناطق الساحل من المشكلات العامة التي تعاني منها سوريا، مثل ضعف البنى التحتية في الكهرباء والماء والخدمات الأساسية، إلا أن المؤسسات الحكومية والمنظمات العاملة في المنطقة تُنفّذ العديد من المشاريع للتخفيف من هذه المشكلات، فقد عملت مؤسسة الكهرباء على الاستعداد لفصل الصيف عبر تكثيف عمليات الرقابة والصيانة[60]، كما بدأت مؤسسة النقل الداخلي بشراء حافلات نقل إضافية لتحسين مستوى النقل داخل المدن[61]، وإعادة تأهيل محطات مياه الشرب[62].
بالنظر إلى المنظمات المدنية العاملة في المنطقة، فقد نشط عدد من الحركات السياسية التي تأسّست حديثاً في تقديم الدعم الإغاثي للمتضررين من أحداث الساحل التي وقعت في مارس/آذار، مثل “الحركة المدنية الديمقراطية[63]“، و”حركة الشغل الديمقراطي[64]“، و”التيار السوري المدني الحر[65]“، وهي حركات ذات توجُّه علماني/يساري يتمركز بعضها في الخارج[66]، وتنشط حالياً بالشكل الأكبر في نشر البيانات حول القضايا السياسية المتعلقة بالبلاد، وليس لها نشاط كبير على الأرض سوى إقامة بعض الندوات الثقافية[67] أو تقديم الدعم الإغاثي[68].
كما نشط في منطقة الساحل بعد أحداث مارس/آذار عدد من المنظمات المدنية والإغاثية من مدن سورية مختلفة، مثل “بسمة وزيتونة[69]“، و”فريق حوران[70]“، ومؤسسة رنا الخيرية التنموية[71]“، و”جمعية فضا للتنمية المجتمعية[72]“، و”شبكة وصل[73]“، وذلك بتوزيع الدعم الإغاثي على الأهالي[74] أو تأمين احتياجات الطلاب الجامعيين في منطقة الساحل الذين تضرروا بسبب الأحداث[75].
ومن المبادرات الأخرى التي هدفت لدعم أهالي الساحل بعد أحداث مارس/آذار كانت مبادرة “الطائفة السورية”، التي أطلقتها وحدة دعم الاستقرار بمشاركة مجموعة من المنظمات والجمعيات، وهدفت هذه المبادرة إلى تقديم الدعم الإغاثي والمعنوي لسكان الساحل ولذوي شهداء الأمن العام الذي قضوا خلال هذه الأحداث، وزيارة الأهالي للاطلاع على أوضاعهم ومواساتهم وتخفيف الاحتقان المجتمعي في المنطقة[76].
ولا يمكن إغفال نشاط بعض المنظمات المدنية التي يديرها أشخاص مرتبطون بنظام الأسد البائد، ومن أبرزهم ما يُسمّى “فريق سقراط التطوعي، الذي يُديره “سقراط الرحية” الذي انتشرت له مقاطع فيديو كثيرة تبرز مشاركته في الأعمال العسكرية إلى جانب جيش النظام البائد[77]، وينشط هذا الفريق بتوزيع الدعم الإغاثي على الأهالي في مدن وقرى منطقة الساحل[78].
من الواضح أن قدرات المحافظات التابعة للدولة لا تكفي لحل جميع المشكلات الخدمية في المنطقة نظراً لضعف الموارد وقلة الإمكانيات وسوء الوضع الخدمي منذ عهد النظام البائد، وهذا ما يجعل دخول المؤسسات المدنية أمراً لا بُدّ منه من أجل الإسهام في تنفيذ المشاريع الخدمية في المنطقة، لكن من المهم وضع ضوابط تحكم عمل هذه المؤسسات وتحكم عملية تنفيذ المشاريع بحيث لا تتم بعشوائية قد تتسبب بنتائج عكسية.
كما يجب متابعة الجهات التي تربطها علاقات بنظام الأسد البائد، وعدم السماح لها بـ”غسل السمعة” وكسب الشعبية باستخدام النشاط المدني والإغاثي، إذ يمكن أن يتسبّب صعود هذه الشخصيات وتزايد شعبيتها في المنطقة بعودة احتمالات التمرد والانقلاب بشكل مشابه لما حدث في مارس/آذار الماضي، بالإضافة لإثارة الاحتقان المجتمعي والانتقادات الشعبية الرافضة لتعويم هذه الشخصيات.
خاتمة:
تختلف التحدّيات التي تواجه الحكومة في منطقة الساحل بسبب تعقيد التركيبة الديموغرافية في المنطقة بشكل أكبر من المناطق الأخرى، إذ ما يزال فلول نظام الأسد يلعبون على الوتر الطائفي لشحن أبناء الطائفة العلوية لدعم فكرة التقسيم أو الفدرلة أو استحضار التدخُّل الخارجي مثل التدخُّل الفرنسي أو “الإسرائيلي”، وهذا يستدعي من الحكومة والقوى المدنيّة العمل على عدة مجالات لإفشال هذه المساعي، ومنها:
- تقديم نموذج أفضل للعمل الحكومي ينتهج سياسات عادلة مع كل المكوّنات، عبر عدم إقصاء وتهميش القرى والأحياء ذات الغالبية العلوية من الخدمات وعدم التهاون مع الجرائم التي تستهدفهم، ما سينتج عنه طمأنة جميع سكان المنطقة وإبعادهم عن دعاية الفلول التي يحاولون نشرها بينهم.
- دعم التحوّلات الاقتصادية التي تحدث في المنطقة بعد سقوط نظام الأسد، وبالأخص دعم العودة للقطاع الزراعي وتربية المواشي اللذين يُشكّلان بديلاً جيداً للأهالي الذين كانوا يعتمدون سابقاً على رواتب ذويهم العاملين في الجيش أو الحكومة أو بأعمال مشبوهة مرتبطة بالنظام البائد.
- الحذر من النشاطات الإغاثية التي تقوم بها بعض الجمعيات التي يُديرها أشخاص مرتبطون بنظام الأسد البائد، والتي قد تكون تستخدم العمل الإغاثي غطاءً لأعمال خارجة عن القانون تستهدف الأمن والأهالي في المنطقة.
- دراسة أسباب زيادة هجرة أبناء المنطقة لخارج البلاد، ووضع خطط مناسبة لحل هذه الأسباب بشكل تدريجي وفق الإمكانيات المتاحة.
- زيادة التعاون مع دول الجوار والدول الأوروبية التي يمكن أن يقصدها فلول نظام الأسد البائد وكبار ضباطه، وذلك عبر تعميم أسماء مجرمي الحرب منهم ومطالبة الدول بتسليمهم لسوريا في حال القبض عليهم، ما يمكن أن يساعد في القبض على الفارين منهم، ويدفع بقية المختبئين إلى إجراء تسوية مع السلطة.
- استحداث وحدة أمنية خاصة بـ”مكافحة الفلول” تُدرَّب على حروب العصابات والأمن المحلي وتقوم بتفتيش دوري للمزارع والمستودعات والمنازل في المناطق التي شهدت نشاطاً سابقاً للفلول.
- إطلاق نظام مكافآت لتحفيز الأهالي على الإبلاغ عن كبار مجرمي الحرب من ضباط وقادة نظام الأسد البائد، أو لتعاونهم في الكشف عن أنشطة الفلول ومخازن السلاح والذخيرة.
- إجراء مسح شامل للقرى والمدن في كامل سوريا وبعض المناطق المتضررة في الساحل السوري لا سيما التي شهدت اشتباكات، لمعرفة حجم الأضرار التي أصابت البنى التحتية وتحديد الأولويات في إعادة الإعمار بهدف تحسين الواقع الخدمي في المنطقة بشكل سريع وفاعل.
أظهرت أحداث مارس/آذار خطورة انجرار منطقة الساحل إلى دوامة العنف مرة أخرى، والتي لن تقف في الساحل وحسب بل ستمتد لتؤثر على جميع أنحاء سوريا، خاصة في حال التنسيق مع مجموعات من مكوّنات أخرى لديها مواقف سلبية من الحكومة، لذا فإن العمل على الحفاظ على الأمن في الساحل بالتزامن مع تحسين الوضع الاقتصادي للأهالي وإصلاح الواقع الخدمي المتدهور منذ سنوات من شأنه أن يُسهم في الحفاظ على استقرار سوريا ووحدتها.
بكالوريوس في قسم الفلك وعلوم الفضاء من جامعة أنقرة، مهتم بالشأن التركي وعلاقته بقضايا اللاجئين السوريين، ونشر وشارك في إعداد عدد من التقارير والمقالات حول هذا الموضوع ضمن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري