بعد احتفالات التحرير؛ من أين نبدأ؟
كما الزلزال المدمر شهدت سوريا منذ الثامن من كانون الأول 2024 لحظة البدء باقتلاع نظام دكتاتوري ضرب جذوره في أرضها منذ قرابة 60 عاماً؛ فبدأ بذلك سقوط المشروع الإيراني السرطاني في بلدنا، وانتهى فيما يبدو وجودها العسكري. لقد عاش السوريون في هذه الأيام مشاعر جيّاشة لم يعتادوها، وجرّبوا مذاق الفرح بالحرية بعد عقود طويلة من الاستبداد والألم والخوف والخذلان.
لعل الأهم في هذا المشهد الصاخب هو ولادة وعي جَمعيٍّ عارمٍ، شمل السوريين في مختلف أصقاع الأرض وعلى اختلاف خلفياتهم وانتماءاتهم ومواقفهم السياسية؛ فقد استعاد هذا الجمهور العريض إحساسه بالانتماء للأرض والوطن بعد أن كانت سوريا رهينة لعائلة واحدة ونظام دمويّ لعقود، واسترجع الشعب شعور بالكرامة والثقة بقدرته على التغيير.
نحو هوية جامعة؛ مَن يلتقط اللحظة؟
تجلّت اللحظة التاريخية الفارقة مذ تحركت جحافل الشباب السوريين الأحرار لإعادة رسم مشهد استقلال الأرض السورية الجديد، لا يثنيهم تثبيطٌ ولا تخويفٌ، فدخل المقاتلون من المحافظات كافّة محرّرين المدينة تلو المدينة والبلدة تلو الأخرى، وحرّروا معها العقول والأرواح من قيود الخوف والتوجس والعبودية؛ فاستقبلهم السوريون رجالاً ونساء بالزغاريد والأهازيج والدموع، ولسان حالهم “تأخّرتم علينا كثيراً”.
لقد حمل مشهد ما بعد التحرير كثيراً من الصور المتناقضة، عاكساً الوضع المعقد الذي يعيشه السوريون؛ فمِن مشهد تأمين المرافق الحكومية وحمايتها في حلب، إلى مشهد الانفلات الأمني الذي غزا العاصمة دمشق في الأيام الأولى، ومشهد آخر بين مَن يُعيد رفع رايات وصور تمجّد قادة المرحلة الحالية ومَن ينزل إلى الشارع ليقوم بتنظيفه بمبادرة ذاتية دون توجيه، ومشهد ثالث بين مَن يحمل الخبز بين المحافظات ويسعى لتحرير المعتقلين ومَن ينشر معلومات كاذبة مضللة لينشر الذعر والخوف من القادم.
إن تلك المشاهدة المعقدة الممتزجة بكثيرٍ من المشاعر المتضاربة تتطلب تدخلاً سريعاً من العقلاء لالتقاط اللحظة واستثمارها؛ فما أحوجنا لهوية وطنية جامعة تعيد لمّ شملنا كسوريين من مختلف المشارب والأعراق والإثنيات والأيديولوجيات، وتصحّح المفاهيم المشوّهة حول الوطن والانتماء ودور السوريين في بنائه، وما أحوجنا إلى مشروع يضمّد فيه السوريون جراح بعضهم ويتشاركون خبراتهم ويشمّرون للمرحلة الجديدة التي تحمل معها الكثير من التحديات.
ورغم أن المشهد العسكري ما زال طاغياً على المشاهد الأخرى حالياً؛ إلا أن اللحظة التاريخية الحاضرة تفسح المجال لإعادة بناء أدوار جديدة للمجتمع المدني ومشاركته الفاعلة في المشهد المعقد. وإن إحساس السوريين الطاغي بانتمائهم واستعادتهم لأرضهم لابد أن يُستثمر في بناء نوى لكيانات وتنظيمات أهلية ومدنية ومؤسسية، تسهم بشكل فعّال في ضبط الأمن وتعزيز التضامن، وخلق مزاج عام يرفض تكرار مظاهر العبودية والارتهان، ويردع كل الظواهر السلبية الدخيلة كالسرقة والنهب والتخريب؛ والأهم من ذلك إقامة ثقافة مدنية راسخة تمنع إعادة توليد الاستبداد بأشكال أخرى وتقوّي مناعة المجتمع تجاهه.
الأولوية لإعادة بناء الإنسان:
لقد أظهرت الكاميرات خلال الأيام السابقة مشهد الخراب المادي غير المسبوق، وتجولت في معظم المناطق مبيّنة الأبنية المهدمة والشوارع المتآكلة نتيجة القصف من نظام الأسد البائد وحلفائه، ومع أهمية ترميم قطاعات الصحة والتعليم والخدمات وتفعيل المؤسسات لا يمكن لأية عملية نهوض أو إعادة الإعمار أن تؤتي ثمارها ما لم تبدأ بإعادة بناء الإنسان الذي تربّى على قيم الخوف والخضوع، ونشأ على قيم التملق والفهلوة والانسحاب من مسؤولياته.
لقد أبرزت السنوات الماضية كثيراً من التشوهات في بنية شرائح واسعة من السوريين اختارت النجاة الشخصية ولو على حساب خراب البلاد، وسمحت بالتسلط والتوحش والقصف والتهجير والتشفي طالما أنه لم يمسّها، ولم تجد حرجاً من التحالف مع الطاغية طالماً أن مصالحها الفردية مضمونة، دون أن تدرك بأنها مكّنت المجرم وأعوانه وساعدتهم على التسلط وأسهمت بشكل غير واعٍ بارتهان البلاد لمشاريع خارجية.
ما تحتاجه سوريا الحرّة هو إعادة بناء الإنسان الحرّ، الذي يتبنّى قيم العدالة والحرية والإيثار ويرفض الظلم، والذي تعلّم من السنوات السابقة بالطريقة الأصعب ودفعَ الأثمان الباهظة، وهي مسؤولية يتحملها جميع السوريين دون استثناء؛ ابتداءً من الأسرة إلى المدرسة والمسجد وصولاً إلى الجامعات والمؤسسات الحكومية والخاصة.
ولا يمكن أن يحدث ذلك دون أن يعود للمجتمع المدني فعاليته، ويبدأ بمشاريع حقيقية تعيد صياغة القيم المجتمعية على أسس سليمة، يشارك فيها الجميع ويتعلم فيها الجميع ويُستهدف فيها الجميع. القيم التي تعكس الهوية السورية الأصلية فتُظهر حقيقة الشخصية السورية الأبيّة المبدعة، لا الهوية الهجينة المدجّنة التي تحاول بعض الجهات فرضها.
إن الانتقال من حالة الفوضى والهدم إلى حالة البناء وإعادة الإعمار تحتاج بعد توفيق الله عز وجل الى الكثير من العقل والتفكير، وتستدعي تضافر كل الجهود ومساهمة الكفاءات السورية كافة من قيادات مجتمعية وخبراء وأكاديميين وشباب ونساء وذوي احتياجات خاصة، وإعادة تصدير وجوه جديدة في المشهد الجديد، وجوه لم تنافق ولم تتلون ولم تتورط بجرائم، تدرك أين تتحرك وأين تقف، ويحتاج أيضاً إلى أفكار خلّاقة تركّز على البشر لا على الحجر، وتعيد بناء هذه الطاقات المكبوتة وتوجيه جهودها على المسار الصحيح.
لقد أظهرت كثير من التجارب المماثلة العربية وغير العربية إمكانية عودة الثورة المضادة والتفافها وابتلاعها كل مكاسب التحرير؛ وذلك لأن أحداً لم يُولِ الجهد ولم ينتبه إلى أهمية التقاط لحظات الوعي الجمعي وتعزيز أفكار التحرر الجديدة ونقلها من مستوى الوعي السطحي إلى مستوى الوعي العميق الذي يلتحم مع الفكر ومع الثقافة ومع السلوك.
إن الانشغال الحالي وتوجيه كامل الجهود لإعادة إعمار الحجر وتأمين الخدمات أمر غير صائب تماماً، لاسيما مع هذه الفوضى؛ فهذه من مسؤولية الحكومة الجديدة، كما أن التقاعس وإهمال الحفاظ على هذه المكاسب سيتسبب بخسائر كبرى، فقيم الثورة وأهدافها لا تترسخ في وعي الجماهير بمجرد تغيير الصور والأعلام والهتاف في ساحات الاحتفال، بل تحتاج إلى قدوات تشتبك مع الواقع وتصلحه، وتحتاج مئاتٍ بل آلافاً من المشاريع القصيرة والمتوسطة والطويلة التي يدعمها سوريون بأموالهم النظيفة لغرس هذه القيم في عمق الهوية السورية حتى تمتزج مع السلوك وتنظّمه، فنعزّز بذلك مناعتنا الداخلية تجاه أي غزو دخيل خارجي أو داخلي.
يمكن للحجر أن ينتظر ليعود إلى مكانه، ويمكن لكثير من المشاريع أن تتحمل التأجيل؛ إلا أن ما لا يحتمل المماطلة والتأخير هو العمل على بناء الهوية السورية وصياغة الإنسان الحرّ الكريم، وإعادة تشكيل الشخصية السورية المبدعة الواعية، تلك التي تعلمت من تجاربها وآلامها واستفادت من تجارب غيرها، تلك التي تنطلق من مسؤوليتها ومن احتياجات وطنها وترفض الارتهان لمشاريع الخارج أو مشاريع الاستبداد.
مديرة الوحدة المجتعية في مركز الحوار السوري، بكالوريوس في الهندسة من جامعة دمشق، دبلوم في التخطيط العمراني وإعادة الإعمار المستدام، عملت في مجال الإعلام المكتوب والمسموع لعدة سنوات، نشرت العديد من الأوراق والتقارير البحثية في مواضيع سياسية واجتماعية، وخاصة ما يتعلق بأوضاع اللاجئين وقضايا المرأة