بين الحياد والانحياز؛ تغطية الإعلام العربي معركة “ردع العدوان” وسقوط نظام الأسد
تقرير صادر عن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري
يُعدّ الإعلام أحد الأعمدة الأساسية في بناء المجتمعات وتشكيل الوعي الجماعي؛ إذ إنّ له دوراً محورياً في نقل المعلومات وتحليل الأحداث وتوجيه الرأي العام، فالإعلام بمختلف أشكاله – المرئي والمسموع والمكتوب – ليس مجرد وسيلة لنقل الخبر، وإنما هو قوة مؤثّرة تمتلك القدرة على تثقيف الجمهور وتعزيز الحوار المجتمعي وتحديد أولويات القضايا العامة.
ومع هذه الأهمية البالغة تأتي مسؤولية كبيرة على عاتق وسائل الإعلام لضمان المصداقية والشفافية وعدم الانحياز، إلا أن الواقع غالباً ما يعكس صورة مغايرة؛ ففي كثير من الأحيان يُستخدم الإعلام أداةً موجهةً لتحقيق أجندات سياسية أو اقتصادية أو أيديولوجية، ويُظهر ذلك مدى تعقيد العلاقة بين الإعلام والحياد؛ إذ تتأثر تغطية الأحداث وصياغة الأخبار بالعوامل التي تتحكم في سياسات المؤسسات الإعلامية ومصادر تمويلها.
لذا فإن تحقيق إعلام نزيه وغير منحاز يتطلب التزاماً صارماً بأخلاقيات المهنة، واستقلالية في العمل، ووعياً من الجمهور نفسه بضرورة البحث عن المصادر الموثوقة والمتنوعة للوصول إلى صورة متكاملة وموضوعية عن الأحداث.
في هذا التقرير نحلّل التغطية الإعلامية لعملية “ردع العدوان” التي شنّتها قوات المعارضة السورية حتى سقوط نظام الأسد، وذلك عبر استعراض منهجي لتناول عدة قنوات إخبارية لهذه الأحداث، ونركّز على كيفية صياغة الأخبار، وانتقاء المصطلحات المستخدمة، ومدى الانحياز أو الحيادية التي اتسمت بها التغطية.
يهدف هذا التحليل إلى تسليط الضوء على الفروق بين التغطيات الإعلامية المختلفة، لاسيما بين القنوات العربية التي تمتلك خبرة وجمهوراً في المنطقة، كقناتَي الجزيرة والعربية، والقنوات الأجنبية التي تبثّ باللغة العربية كالحرّة وسكاي نيوز وبي بي سي.
تغطية قناة الجزيرة[1]:
غطّت قناة الجزيرة عملية “ردع العدوان” بداية بشكل مختصر باعتبارها “هجوماً من المعارضة” ردّاً على “الانتهاكات” التي ترتكبها قوات نظام الأسد وروسيا ضد مناطق سيطرتهم[2]؛ فاستخدمت القناة “فصائل المعارضة السورية المسلحة” لوصف قوات عملية ردع العدوان، و”الجيش السوري” و”المليشيات الإيرانية” لوصف قوات نظام الأسد والمليشيات المدعومة من إيران[3]. ومع استمرار العملية اعتمدت القناة على شهادات ميدانية من مقاتلين أو ناشطين في مناطق سيطرة قوى الثورة والمعارضة[4]، بالإضافة إلى نقل ردة فعل نظام الأسد عبر الوكالات الإخبارية العالمية ووجهات نظر مختلفة[5].
أما النبرة الإعلامية لتغطية الجزيرة فقد أظهرت انحيازاً تجاه المعارضة السورية، من خلال التركيز على معاناتهم وحقّهم في الدفاع عن أنفسهم[6]، وقد نقلت القناة تصريحات شخصيات تابعة لقوى الثورة والمعارضة[7] وبعض المحللين الاستراتيجيين[8]، كما نقلت تصريحات مسؤولي نظام الأسد والنظام الإيراني أيضاً[9]، وغطّت في تقرير لها ردّة فعل الجمهور العربي حول توقيت العملية[10].
ومع تحرير مدينة حلب على أيدي فصائل “ردع العدوان” قدّمت قناة الجزيرة تقارير مفصلة نقلت ما يحدث على الأرض بشكل دقيق، اعتمدت القناة بشكل كبير على مراسليها في المناطق المحررة[11]، وعلى مصادر ميدانية وشهادات محلية لتوثيق مجريات الأحداث؛ مما منحها مصداقية في تقديم الوقائع[12]، كما تم تسليط الضوء على النجاح والتقدم الذي حققته قوات المعارضة والفصائل المسلحة[13]، دون التركيز بشكل كبير على الخلفيات السياسية أو الأيديولوجية لهذه الفصائل. وفي الوقت نفسه أبرزت الجزيرة مخاوف نظام الأسد من تراجع قواته، مشيرة إلى فشلها في مقاومة الهجمات في العديد من المعارك[14].
وبعد أن تقدمت الفصائل السورية لتصل إلى حدود مدينة دمشق، ومع الإعلان عن سقوط نظام الأسد في دمشق أظهرت تغطية قناة الجزيرة انحيازاً واضحاً من القناة لانتصار الشعب السوري على “الطاغية”[15]؛ فقد ركّزت على تصوير سقوط نظام الأسد بوصفه إنجازاً تاريخياً للمعارضة السورية[16]، واستخدمت القناة مصطلحات تحمل دلالات قوية مثل “النظام السوري المخلوع” في إشارة إلى انهيار حكم الأسد[17]، و”المعارضة السورية المسلحة” لوصف الطرف المنتصر؛ بطريقة تعزّز من شرعيتها، وألقت بظلال سلبية على نظام الأسد باستخدام أوصاف مثل “قتل وتصفية” نهاية حكم الديكتاتور”. كما غطّت في تقارير لها تاريخ الثورة السورية وتسلسل أحداثها[18]، وسلّطت الضوء على موضوع السجون وتحرير المعتقلين. اعتمدت الجزيرة على مصادر متنوعة بالإضافة إلى تقارير ميدانية موثقة من مراسليها، إلى جانب الاشارة إلى معاناة صحفييها من نظام الأسد خلال سنوات الثورة [19]، وامتدت التغطية إلى العديد من المحافظات والمناطق مثل حلب، وحماة، ودمشق، وحمص، وجبلة، ومنبج. كما نقلت أخباراً من وكالات عالمية، منها التلفزيون الروسي الرسمي الذي أشار إلى لجوء الأسد وعائلته إلى موسكو[20]، وربطت بين تفاصيل المعارك ونتائجها السياسية، بما في ذلك موقف “إسرائيل” والهجمات التي تشنّها على المنشآت العسكرية في سوريا[21].
رغم تأخر قناة الجزيرة في نقل وقائع عملية “ردع العدوان”، وتغطيتها الباهتة في المراحل الأولى؛ إلا أنها لاحقاً أظهرت انحيازاً واضحاً لصالح قوى الثورة والمعارضة والشعب السوري، فركّزت على إنجازات المعارضة العسكرية ومعاناة المدنيين، مستخدمة مصطلحات تعزّز شرعيتها، مع تصوير سقوط نظام الأسد بوصفه تحولاً تاريخياً في مسار الثورة السورية؛ مما عزّز الانطباع بدعمها الواضح للشعب السوري وثورته.
تغطية قناة العربية[22]:
مالت قناة العربية إلى الانحياز لرواية نظام الأسد في تغطيتها للأحداث؛ فاستخدمت مصطلحات تحمل دلالات سلبية عند وصف المعارضة السورية، مثل: “المسلحين” أو “التنظيمات المسلحة المدعومة من تركيا”[23]، بينما أشارت إلى النظام الأسد باستخدام مصطلحات مثل: “الحكومة السورية” أو “القوات الحكومية”[24].
اعتمدت القناة في تقاريرها على مصادر موالية لنظام الأسد، مثل شهود العيان ووكالة الأنباء الرسمية لنظام الأسد[25]، مع قلة التركيز على روايات قوى الثورة والمعارضة أو تقاريرها، كما أبرزت القناة الدعم الدولي لنظام الأسد خاصة من روسيا وإيران[26]، بينما قلّلت من الحديث عن الضغوط أو الانتقادات الموجهة له، وأظهرت النبرة الإعلامية للقناة تحيزاً واضحاً تجاهه وبررت الأعمال العسكرية باستخدام مصطلحات مثل: “مكافحة الإرهاب” و”استعادة السيطرة على البلاد “[27]، مع تجاهل المعاناة الإنسانية في مناطق سيطرة قوى الثورة والمعارضة.
استضافت القناة ممثلين عن مرصد حقوق الإنسان ووزارة الدفاع الأمريكية[28]، إلى جانب شخصيات من مراكز الدراسات الإيرانية والمعارضة السورية في تركيا[29]، حيث ركزت التحليلات على دعم تركيا لعملية “ردع العدوان”، وتكررت وجهات النظر نفسها حول خلفية “هيئة تحرير الشام” المصنفة إرهابياً، كما شملت النقاشات ضيوفاً من العراق ودول مجاورة عبّروا عن مخاوفهم من تمدّد النزاع وربطه بأحداث غزة ولبنان[30]؛ مما أظهر توجهاً يفتقر للتنوع في الرؤى والتحليلات.
غطّت قناة العربية تحرير حلب بتسليط الضوء على ردود أفعال الدول المجاورة[31] والمجتمع الدولي[32]، واستخدمت مصطلحات دفاع نظام الأسد مثل: “صد اجتياح الميلشيات المسلحة”، و”مكافحة الإرهاب”[33]، مع التركيز على مخاوف احتمال عودة الفوضى والاشتباكات التي تسبب موجات نزوح واسعة بين المدنيين. كما تناولت الصراع بين القوى الدولية داخل سوريا[34]، مركّزة على دور تركيا وطموحاتها بالسيطرة على دمشق[35]، إضافة إلى تسليط الضوء على شخصية الجولاني وخلفيته[36].
تغيرت تغطية قناة العربية للأحداث في سوريا بعد سقوط نظام الأسد؛ إذ ركّزت بشكل أكبر على توثيق التحديات التي تواجه المرحلة الانتقالية، مثل: “إعادة الإعمار”[37]، و”إدارة الأوضاع الإنسانية”[38]، و”التحديات الأمنية”. كما غطّت تقاريرها الانتهاكات السابقة وقضية المعتقلات والدعوات للمحاسبة[39]، و”العدالة الانتقالية”، بالإضافة إلى ذلك أدخلت القناة مراسليها إلى داخل سوريا لنقل الأحداث بشكل مباشر وتقديم تغطية ميدانية للتطورات في هذه المرحلة[40].
ركّزت القناة على استضافة شخصيات كانت مؤيدة للأسد حتى وقت قريب، متجنبة استضافة معارضين أو منشقين منذ سنوات، مما أظهر انتقائية في تغطيتها[41]، مع التركيز على نقل مواقف الجهات الدولية والإقليمية والمخاوف بشأن مستقبل سوريا[42]. وغطّت العربية الهجمات “الإسرائيلية” بتقارير كثيرة وتغطيات على مدار الساعة للقصف على المنشآت العسكرية والتوغلات التي قام بها الجيش “الإسرائيلي” بشكل كبير، واستخدمت تعبيرات مثل: “الاجتياح الإسرائيلي” وغيرها[43]، مما يعكس تحولاً في الأولويات التحريرية بما يتناسب مع الوضع الجديد.
جاءت تغطية قناة العربية للمعركة في سوريا من منظور يميل إلى تأييد موقف نظام الأسد في بداية معارك التحرير؛ فقد اعتمدت على مصادر رسمية تؤيد روايته، مع التركيز على الدعم الدولي من روسيا وإيران، إلا أن سياستها الإعلامية تغيرت بشكل واضح بعد سقوط نظام الأسد مركزة على قضايا عامة. وقد حرصت على تسليط الضوء على الشخصيات السياسية والفنية المرتبطة بالنظام بعد سقوط الأسد، في محاولة لتقديمهم بشكل إيجابي بما يتناسب مع التغيرات السياسية التي تشهدها البلاد، ولم تأخذ هذه التغطية في الاعتبار معاناة الشعب السوري أو تطلعاته في سياق الثورة ضد نظام الأسد.
تغطية قناة الحرّة[44]:
تناولت قناة “الحرّة” عملية “ردع العدوان” بأسلوب يعتمد على توصيف الأطراف الفاعلة في الحالة السورية، وركّزت تغطيتها على عرض الأحداث من خلال الإشارة إلى التفرعات الكبرى للأطراف المتصارعة وتوضيح الأدوار الإقليمية والدولية المؤثرة[45]، فأشارت إليه بـ”النظام السوري”، مع وصف القوات التابعة له بـ”القوات الموالية”، وفيما يتعلق بالمعارضة السورية استخدمت القناة مصطلحات مثل: “فصائل المعارضة المسلحّة” للإشارة إلى الجهات المشاركة في العملية، مع التركيز على المجموعات الرئيسة، مثل “الجيش الوطني” و”هيئة تحرير الشام”. وقد التزمت القناة باستخدام التصنيفات الأميركية الرسمية، فوصفت هيئة تحرير الشام “النصرة” سابقاً بأنها “مدرجة على قوائم الإرهاب”[46].
أبرزت القناة دور كل من روسيا وإيران بوصفهما داعمَين أساسيَّين لنظام الأسد، مع التطرق إلى تأثير مصالحهما المتشابكة في المنطقة على مسار النزاع، وركزّت على التحالفات الميدانية مع الميليشيات المدعومة من إيران، كما تناولت الدور التركي بوصفه “راعٍ” لبعض فصائل المعارضة، مع الإشارة إلى تداعيات تحركاته في الشمال السوري[47]. أشارت القناة لـ”قوات سوريا الديمقراطية بوصفها “مدعومة أميركياً”، مع التركيز على دورها البارز في محاربة تنظيم داعش، في الوقت نفسه سلطت القناة الضوء على التوترات التي تجمعها مع فصائل المعارضة السورية الموالية لتركيا[48]، ووصفت هجمات نظام الأسد وحلفائه بأنها “استهداف مناطق مدنية” و”انتهاك للقرارات الأممية”. وأما في الجانب الإنساني فأبرزت القناة معاناة المدنيين، مركّزة على موجات النزوح والخسائر في الأرواح، مع إسناد معظم المسؤولية إلى نظام الأسد والقوات الروسية والميليشيات الإيرانية[49].
استضافت قناة “الحرة” خبراء من مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة وبعض الضيوف من تركيا، بالإضافة إلى خبراء أجانب، وكان النقاش يتركز في أغلب الأحيان حول المخاوف المتعلقة بخلفية “هيئة تحرير الشام” المدرجة في قوائم “الإرهاب”، ووُصف المقاتلون بـ”المتمردين” من بعض الضيوف، وكانت إشارة إلى القضايا المتعلقة بالإرهاب وتنظيم “داعش”، كما تناولت التهديدات المحتملة من تمدّد القتال إلى العراق[50]، وموقف “إسرائيل” في إطار المخاوف الإقليمية من التصعيد العسكري في المنطقة[51].
استمرت تقارير قناة الحرّة في تغطية معركة تحرير حلب بالتوصيف نفسه للأطراف، إذ استخدمت مصطلحات مثل: “المعارضة السورية” و”هيئة تحرير الشام – جبهة النصرة سابقاً” و”النظام السوري”[52]، مع التركيز على دلالات سلبية في وصف الانسحابات والتقهقر من قبل القوات التابعة لنظام الأسد. واعتمدت القناة في تغطيتها بشكل أساسي على المصادر الميدانية وشهود العيان[53]، إضافة إلى إشارات غير مباشرة حول دور القوى الدولية في التطورات العسكرية. ورغم أن النبرة الإعلامية لم تمِل بشكل صريح إلى أي طرف إلا أن التركيز على تقدُّم المعارضة قد أظهر نوعاً من الانحياز غير المباشر، وقد تركزت التغطية في المقام الأول على البُعد العسكري، ومع الإشارة إلى تأثيرات الحرب على المدنيين فإن تأثير ذلك إقليمياً كان المحور الرئيس[54].
وعقب سقوط نظام الأسد ركزت تقارير قناة الحرّة على انتصار المعارضة السورية وإطاحتها بحكم “نظام حكم سوريا بقبضة من حديد”[55]، واستخدمت مصطلحات حملت دلالات إيجابية للمعارضة وسلبية لنظام الأسد، مثل وصف أفعال المعارضة بـ”تحرير”، وأفعال النظام بـ”قمع” و”فشل استراتيجي” و”هروب الجيش”. وقد اعتمدت في تقاريرها على مصادر متنوعة شملت تقارير ميدانية وآراء محللين دوليين ووكالات أنباء[56]، ورغم التزامها بالحياد فإن التغطية أبرزت الآثار السياسية والإنسانية للحدث، مع تكرار الحديث حول هيئة تحرير الشام وخلفيتها [57]، مشيرة إلى ردود الأفعال عالمياً أيضاً[58]، وإلى علاقات القوى المحلية والدولية المتشابكة وتأثيرها في مسار الأحداث[59].
اتسمت التغطية بتقديم إطار تحليلي وبسياسة تحريرية محايدة حاولت فيه الإحاطة بجوانب الصراع دون تقديم حكم قاطع أو تبنّي موقف صريح، ومع ذلك يمكن ملاحظة أن التغطية ركّزت على تحركات قوى الثورة والمعارضة وإنجازاتها؛ مما يعكس اهتماماً أكبر بإظهار الجانب الديناميكي للأحداث من وجهة نظر المعارضة، مع تقديم الرواية الرسمية لنظام الأسد بشكل أقل بروزاً.
كما سعت القناة في خطابها إلى استحضار أبعاد دولية وإقليمية مثل دور روسيا وإيران وتركيا؛ مما يعكس رؤية تسعى لفهم السياق الأوسع للصراع، بينما يحمل الخطاب في مجمله نبرة داعمة لفكرة التغيير السياسي، مع تأكيد أهمية التحالفات الدولية وتأثيرها في التطورات المحلية.
تغطية قناة “سكاي نيوز”[60]:
تميزت تغطية قناة “سكاي نيوز” بتوصيف أطراف الحالة السورية باستخدام تسميات محددة أظهرت توجهاً واضحاً في التصنيف، فأشارت القناة إلى نظام الأسد بمصطلحات مثل: “النظام السوري” و”الجيش السوري”[61]، في حين وصفت المعارضة باستخدام تعبيرات متنوعة مثل: “الميليشيات المسلحة”، و”المسلحون”، و”المعارضة السورية”، و”الجماعات المتشددة”[62]؛ ويعكس هذا التباين في التسمية اختلافاً في زاوية النظر إلى كل طرف، إذ تُفهم من بعض المصطلحات إشارة سلبية تجاه قوى الثورة والمعارضة مقارنة بنظام الأسد.
لم تُظهر القناة توازناً واضحاً في استضافة شخصيات تمثل قوى الثورة والمعارضة ونظام الأسد، وفي العديد من الحالات استضافت شخصيات موالية لنظام الاسد أو مقربة منه، بينما تم تمثيل المعارضة بشكل أقل أو من خلال تصريحات المحللين العسكريين الذين ينتمون إلى دول أخرى[63].
أما في وصف الأفعال فقد أظهرت القناة تمييزًا واضحًا في اللغة المستخدمة لوصف العمليات العسكرية؛ فاستخدمت تعبيرات مثل: “الاعتداء” و”التحركات العدائية” في الإشارة إلى أفعال المعارضة، بينما صّورت أفعال نظام الأسد في سياق دفاعي أو مشروع، مثل: “استعادة السيطرة على الأراضي” أو “محاربة المرتزقة”؛ واستخدام هذه المصطلحات يُظهر انحيازاً ضمنياً يعكس توجهاً نحو تصوير نظام الأسد مدافعاً عن السيادة الوطنية[64].
ومن حيث المصادر الإخبارية اعتمدت قناة سكاي نيوز على تصريحات المرصد السوري لحقوق الانسان[65]، مع تركيز كبير على روايات من المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة نظام الأسد[66] وحلفائه[67]، وأدى ذلك إلى إضفاء طابع محلي منحاز لرواية نظام الأسد على التقارير، وإعادة إحكام سيطرته وامتصاصه الصدمة[68]، مع غياب تمثيل متوازن لروايات المصادر المحايدة أو تلك المرتبطة بقوى الثورة والمعارضة؛ وهذا التفاوت في المصادر أضعف الشمولية في تغطية النزاع.
كما أظهرت النبرة الإعلامية للتقارير ميلاً واضحاً نحو نظام الأسد؛ إذ ركّزت على تصويره طرفاً يسعى للقضاء على “الإرهاب”، وعلى الرغم من الإشارة إلى بعض وجهات نظر المعارضة فإن اختيار الضيوف والمصادر المتاحة مال بشكل كبير نحو طرف نظام الأسد[69].
وعقب سقوط مدينة حلب ركزت التقارير على التدخلات الدولية كدعم أوكرانيا لـ”التنظيمات المسلحة” لتشتيت الجهد الروسي[70]، وعلى الدور التركي في مساندة الفصائل لتحقيق أهداف جيوسياسية ضد النفوذ الكردي، بينما سلّطت الضوء على استعداد إيران للتدخل العسكري إذا طلبت منها دمشق ذلك[71]، وعلى دعم الولايات المتحدة “قوات سوريا الديمقراطية – قسد” ضد “داعش”[72]، مع تحذيرات من أن التصعيد قد يعقّد التسوية السياسية ويستلزم توافقاً دولياً أكبر[73].
تحولت القناة بعد سقوط نظام الأسد من توصيف النزاع بين الأطراف الذي وصفته بـ”الحرب الأهلية الدموية”[74] إلى التركيز على تداعيات السقوط ومآلات المرحلة الانتقالية، فاستخدمت القناة لغة حاسمة مثل “النظام السابق” و”سقوط الأسد” و”النظام المخلوع”، وركزت تقاريرها على ردود الفعل الدولية، بما في ذلك مواقف الولايات المتحدة والأمم المتحدة، مع تغطية الأبعاد الجيوسياسية للسقوط على روسيا وإيران. كما ناقشت مستقبل سوريا الذي وصفته بـ”مستقبل بلا ملامح”[75]. كما غطت التقارير خلفية الفصائل الإسلامية التي أسقطت نظام الأسد، مشيرة إلى ارتباطها بأيديولوجيات متشددة [76]، مما يؤثر في مسار الأحداث في سوريا، وأبقت على وصفهم بـ”المسلحين” الذين يسيطرون على دمشق[77]، مع تركيزها على تداعيات الوضع بعد سيطرتهم، مثل ارتفاع الأسعار[78]، واكتظاظ المشافي، وتفاقم الضغط على النظام الصحي، ووصف الوضع العام بأنه “مخيف” مع تصاعد المعاناة الإنسانية وتدهور الأوضاع المعيشية. إضافة إلى الخوف من سعي الجماعات المسلحة المتشددة لطمس الهوية الثقافية المتنوعة في سوريا[79] وفرض أيديولوجيات ضيقة وتقييد حرية التعبير والممارسات الثقافية[80].
اتسم خطاب قناة “سكاي نيوز” تجاه الحالة السورية بتوجهات تبرز ميولها الواضحة نحو دعم نظام الأسد، من خلال تقديمه طرفاً مركزياً يسعى إلى تحقيق الاستقرار والسيطرة على الأوضاع الأمنية، وإبراز تحالفاته الإقليمية والدولية، مع الإشارة إلى الدور الحاسم الذي يلعبه في مجريات النزاع. في المقابل قدّمت المعارضة في سياق يشير إلى افتقارها للشرعية السياسية والاستقرار التنظيمي، مما يعزز صورة الأسد خياراً أكثر واقعية للاستقرار.
حتى بعد سقوط نظام الأسد ركّز خطاب “سكاي نيوز” على التحديات الناشئة في المرحلة الانتقالية، مع تسليط الضوء على التداعيات السلبية التي قد تنجم عن صعود قوى متشددة إلى السلطة، خاصة في الجوانب الإنسانية والاجتماعية، وعكس الخطاب قلقاً بشأن قدرة الفاعلين الجدد على إدارة الأوضاع المعقدة، مشيراً إلى المخاطر المرتبطة بعدم استقرار البلاد وتأثير ذلك في التوازن الإقليمي.
تغطية قناة BBC عربي[81]:
اعتمدت BBC عربي في تغطيتها على استخدام مصطلحات تُظهر التباين في تقديم أدوار الأطراف المختلفة في الحالة السورية، فوصفت الهجوم الذي شنّته قوات المعارضة بـ”ردع العدوان” ضد “اعتداءات متكررة” من نظام الأسد وحلفائه، وبدت النبرة الإعلامية محايدة، مع عرض متوازن للمصطلحات مثل: “الجيش السوري” و”قوات الأسد” مقابل “الائتلاف الوطني السوري” و”هيئة تحرير الشام” و”فصائل المعارضة”[82].
كما شملت التقارير الإشارة إلى تصنيف هيئة تحرير الشام ضمن قوائم “الإرهاب” والحديث عن الجولاني[83]، وشملت موضوعات التغطية الجانب العسكري، فتناولت تقدّم قوات المعارضة والسيطرة على مواقع استراتيجية، إضافة إلى تداعيات القصف الروسي على المناطق السكنية؛ مما أضفى انطباعاً يميل إلى إدانة الانتهاكات الإنسانية من جانب نظام الأسد، وناقشت أبعاداً سياسية، مثل دعم روسيا وإيران لنظام الأسد ومواقف القوى الغربية الداعية إلى التسوية السياسية[84].
ركّزت تقارير “بي بي سي عربي” بعد سقوط مدينة حلب على تقدُّم المعارضة السورية والمكاسب الميدانية التي حققتها في مناطق استراتيجية وأهمية هذه المناطق جغرافياً وعسكرياً[85]، كما اعتمدت التقارير على مصادر متنوعة منها تصريحات المعارضة وبيانات حكومة نظام الأسد وتصريحات أممية وتحليلات و خبراء عسكريين، كما غطت ردود الفعل الدولية[86]، بالإضافة إلى إحصائيات منظمات حقوقية كـ”المرصد السوري لحقوق الإنسان”.[87] ورغم تنوع المصادر فقد مالت التقارير نحو قوات “ردع العدوان” من خلال التركيز على إنجازاتها وتصوير عملياتها بأنها استجابة لمطالب الشعب السوري، في حين أظهرت ضعف موقف نظام الأسد مسلطة الضوء على انسحابات قواته واعتماده الكبير على الدعم الروسي والإيراني[88].
أظهرت تغطية “بي بي سي عربي” لسقوط نظام بشار الأسد توازناً نسبياً في المصطلحات المستخدمة، حيث وُصف الحدث بعبارات مثل: “السيطرة على دمشق “، و”إسقاط نظام الأسد”[89]، وركزت التغطية على التطورات الميدانية والسياسية[90]، وعلى ردود الأفعال الدولية والإقليمية من تركيا وإيران وروسيا، مع إبراز الدعوات لضمان مرحلة انتقالية مستقرة[91]، ومصير اللاجئين السوريين بعد سقوط الأسد[92]. واعتمدت القناة على مصادر متنوعة شملت بيانات المعارضة، وتصريحات الدول الكبرى، وشهادات ميدانية تميزت النبرة فيها بالابتعاد عن الأحكام المسبقة، مع التركيز على السياق التاريخي والسياسي لسقوط الأسد[93].
أظهرت تغطية قناة “بي بي سي عربي” توازنًا نسبيًا في تناول الحالة السورية؛ فركّزت على تقدّم قوات المعارضة العسكرية، وأبرزت دعم نظام الأسد من روسيا وإيران، وتم تصوير المعارضة طرفاً يسعى للتغيير ضد الاستبداد، مع الإشارة إلى تحديات مثل تصنيف “هيئة تحرير الشام” ضمن قوائم “الإرهاب”. كما سلطت القناة الضوء على تداعيات سقوط الأسد، مع تأكيد أهمية التسوية السياسية وضمان استقرار المرحلة الانتقالية.
أجرت قناة بي بي سي المقابلة الأولى مع السيد أحمد الشرع “الجولاني”، حيث طرح المذيع جيريمي بوين 26 سؤالًا[94]، تميزت الأسئلة بنظرة نمطية تجاه العالم العربي، تركزت الأسئلة في البداية على القضايا السياسية التي تتعلق بمستقبل سوريا، مثل نظام الحكم والخلافة الإسلامية ونموذج أفغانستان، كما تم سؤاله عن موقفه من القتال ضد إسرائيل وقضية نزع سلاح الجماعات المقاتلة بعد ذلك، انتقل المذيع لطرح أسئلة حول القضايا الثقافية والاجتماعية مثل حقوق المرأة والتعليم والحجاب، وأشار أيضًا إلى حادثة طلب السيد أحمد الشرع تغطية رأس الفتاة عند التقاط الصورة، جاءت إجابات السيد أحمد الشرع حذرة ومجردة من التفاصيل، حيث أشار إلى أن هذه القضايا ستُناقش في إطار الدستور الجديد، وأن السوريين هم من سيحددون القوانين المتعلقة بها[95].
خاتمة:
أظهرت التغطية الإعلامية لمعركة “ردع العدوان” وتداعياتها تفاوتاً ملحوظاً بين مختلف القنوات الإخبارية؛ إذ إن هذه التغطيات تعكس التوجهات السياسية والأيديولوجية من خلال اختيار المصطلحات، والمصادر، والأسلوب التحريري. وقد سعت تلك القنوات الإخبارية في بعض الحالات إلى تقديم تغطية موضوعية تعمل على استعراض الوقائع دون تحيز، مع مراعاة تنوع وجهات النظر بين نظام الأسد وقوى الثورة والمعارضة. في المقابل تبنّت قنوات إخبارية أخرى مواقف منحازة لصالح طرف واحد، مما يعكس تأثير الأجندات السياسية في تشكيل الروايات الإعلامية. ويثير هذا التفاوت في التغطية تساؤلات عميقة حول مصداقية الإعلام واستقلاله وأخلاقياته في ظل الأزمات الكبرى، وأثر ذلك في تشكيل الرأي العام وتوجيهه.
يبرز من خلال هذه التغطية الإعلامية التحدي الكبير الذي يواجه وسائل الإعلام في الحفاظ على معايير المصداقية والحيادية؛ ففي حالات الثورات والصراعات مع السلطات الاستبدادية يصبح من الصعب على بعض الوسائل الإعلامية الفصل بين مهمتها الإعلامية والمواقف السياسية التي تميل إليها، فالعديد من القنوات الإخبارية في العالم العربي لم تكن حيادية أو احترافية في نقل الأحداث؛ فانحازت إلى الأنظمة الاستبدادية بدلاً من الشعوب، وانحاز بعضها إلى الجهات الأقوى على الأرض، وهذا يفتح المجال أمام تساؤلات حول تأثير الإعلام الموجه في المسارات السياسية والاجتماعية في المنطقة، ويعزّز ضرورة تقديم معلومات دقيقة وغير منحازة تسهم في إيضاح الحقائق.
من جهة أخرى يتطلب تحقيق الإعلام الموضوعي والنزيه – سواء الإعلام الرسمي أو الاجتماعي – الحفاظ على معايير المصداقية والحيادية، ويحتاج أن يمتلك الجمهور القدرة النقدية اللازمة لتحليل المعلومات واختيار المصادر المتنوعة بعناية في هذا السياق ولفهم المواقف السياسية خلف التغطيات الإعلامية، كما تبرز الحاجة الملحة إلى دعم إعلام محلي مستقل وغير منحاز، بما يعزّز تحقيق العدالة الإنسانية ويسهم في استقرار المنطقة، بعيداً عن الأجندات السياسية المحدودة؛ فالإعلام في نهاية المطاف أداة محورية في فهم الواقع وتشجيع الحوار البنّاء بين مختلف الأطراف، ويتحمل مسؤولية كبيرة في تشكيل المواقف والمفاهيم التي تؤثر في المجتمعات.
جدول يلخص أبرز السياسات الإعلامية التي اتبعتها القنوات الإعلامية العربية
القناة | الكلمات المفتاحية | التوصيف | المصطلحات المستخدمة | التوجهات والتحيزات | المصادر الإخبارية | التغطية العسكرية والسياسية | النبرة الإعلامية |
الجزيرة | المعارضة السورية المسلحة، والجيش السوري، والميليشيات الايرانية | وصفت تقدم المعارضة بالانتصارات، والقصف الروسي للمدنيين، ورد نظام الأسد | الهجوم المضاد، والانتهاكات ضد المدنيين | دعم المعارضة، وتصوير التقدم كحق دفاعي، والتركيز على انهيار نظام الأسد، والتغطية الإنسانية | شهادات ميدانية، ومراسلون ميدانيون، ووكالات إخبارية عالمية | تقدم المعارضة، ونجاحها في السيطرة على حلب، سقوط الأسد في دمشق، دعم دولي للمعارضة | انحياز لصالح المعارضة السورية، وتصوير الانتصار كونه تحولاً تاريخياً |
العربية | التنظيمات المسلحة المدعومة من تركيا، والقوات الحكومية السورية، الميليشيات المدعومة من إيران | وصفت تقدم المعارضة بالاجتياح، والرد من الأسد بالدفاع واستعادة السيطرة | مكافحة الإرهاب، واستعادة السيطرة في إشارة إلى الأسد | دفاع عن الأسد ضد الفوضى والجماعات المتشددة، وتسليط الضوء على الضغوط الدولية والمخاوف | وكالات إعلامية موالية للأسد، وتقارير دولية، والمرصد السوري لحقوق الإنسان | التركيز على دعم الأسد من روسيا وإيران، والقتال ضد الميليشيات، ومخاوف من الفوضى الإقليمية | تحيز واضح لصالح نظام الأسد، وتجاهل معاناة المدنيين في مناطق المعارضة، وإعادة تدوير الشخصيات المؤيدة |
الحرة | فصائل المعارضة المسلحة المدعومة من تركيا، والإشارة إلى “جبهة النصرة سابقاً”، وقوات الأسد، وميليشيات إيران | مسافة معقولة بين الأطراف، مع التركيز على تقدم الفصائل المسلحة وتراجع جيش الأسد، وتغطية التحركات الدولية | انتهاك الأسد للقرارات الأممية، واستهداف مناطق مدنية | التركيز على معاناة المدنيين، وتسليط الضوء على دور القوى الدولية في النزاع وخلفية تحرير الشام | مصادر ميدانية، وشهادات عيان، وخبراء دوليون، ووكالات عالمية | الحديث عن خلفية هيئة تحرير الشام، والتنسيق التركي، والتهديدات الأمنية الإقليمية | توازن غير مباشر في التصوير، ودعم فكرة التغيير السياسي |
سكاي نيوز | الجيش السوري، والميليشيات المسلحة، والمسلحون، والمقاتلون | ميل إلى دعم استعادة سيطرة الأسد والدعم الدولي له، وتقليل من حضور المعارضة وإنجازاتها | التحركات العدائية من قبل الميلشيات، ومحاربة المرتزقة من قبل الأسد | تصوير الأسد مدافعاً عن السيادة، وتصوير المعارضة بشكل سلبي بأنها جماعات متشددة | المرصد السوري لحقوق الإنسان، وروايات من مناطق سيطرة نظام الأسد، ووكالات إيرانية ودولية | التدخلات الدولية، والتدخل التركي والإيراني، ودور أمريكا و”إسرائيل” في سوريا | تمييز واضح في اللغة والتحيز لصالح نظام الأسد حتى بعد سقوطه |
بي بي سي عربي | الجيش السوري، وقوات الأسد، وفصائل المعارضة، وهيئة تحرير الشام | تقديم الأطراف المختلفة في النزاع السوري، وتغطية تقدم المعارضة المسلحة وتراجع القوات الحكومية | الانتهاكات الإنسانية وممارسات الأسد، والضغط الدولي، والهدنة | تميل إلى الحيادية، مع تسليط الضوء على الأبعاد الإنسانية والتدخلات الخارجية | وكالات دولية، وتقارير من الأمم المتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان | تغطية شاملة للأبعاد العسكرية والسياسية، مع تحليل الأدوار الدولية المؤثرة في النزاع | محايدة، رسمية، تركيز على الأبعاد الإنسانية والسياسية |