الإصداراتالتقارير الموضوعية

بين بيان النصر والخطاب الرسمي الأول؛ قراءة تحليلية موجزة

تقرير صادر عن وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري

تمهيد:

شهدت سوريا منذ إسقاط نظام الأسد البائد نقاشاً عاماً فاعلاً حول الأسس الناظمة للسلطة في المرحلة الانتقالية، وقد تنوعت الآراء بين طيف واسع من الخيارات التي تستند إلى الفقه الدستوري أو المعطيات الواقعية أو التجارب المختلفة؛ فنادى بعضهم بالتأسيس عبر حوار وطني، وآخرون نادوا بالتمسك بمنطق القرار 2254، فيما طُرحت خيارات أخرى تقليدية؛ منها: تفويض القوى العسكرية بوصفها القوى الرسمية المسيطرة على السلطة بعد نجاح الثورة عملياً باقتلاع نظام الأسد وليس عبر الحل السياسي. وفي ظل كل تلك الطروحات خلال المدة الوجيزة السابقة شاعت حالة من الشعور بالفراغ في السلطة السياسية، وانعكس ذلك على نقاش شرعية إجراءات “الحكومة المؤقتة” أو حكومة تصريف الأعمال في دمشق المشكلة برئاسة محمد البشير.

ومع توجه الإدارة الجديدة بداية نحو خيار مؤتمر الحوار الوطني والحديث عن تكليف لجنة تحضيرية أو منسق عام، والجدل حول عملية التحضير ككل وأهداف المؤتمر وفرص نجاحه جاء يوم 29/1/2025 ليشهد عقد مؤتمر ضمّ القوى العسكرية الثورية، وتم فيه إعلان “بيان النصر” متضمناً في أبرز بنوده تكليف القائد أحمد الشرع برئاسة الجمهورية في المرحلة الانتقالية، وهو ما يُعد عملياً الإجراء الرسمي التأسيسي للمرحلة الانتقالية في سوريا، الذي شهد بدوره جدلاً واسعاً بين السوريين كأفراد وقوى، ليأتي الحدث الثاني المكمل للأول في رسمه ملامح المرحلة الحالية في سوريا عبر إلقاء رئيس الجمهورية “الشرع” خطابه الأول للشعب السوري يوم 30/1/2024.

في ضوء ما سبق يسعى هذا التقرير لتقديم قراءة تحليلية موجزة لأبرز مضامين البيان والخطاب، مع مراعاة الجوانب الإيجابية والسلبية؛ بما يساعد في تكوين تصوُّر واضح للرسائل الأساسية لمشروع القيادة السورية في المرحلة الحالية وآثار ذلك على المستقبل السوري.

أولاً: نظرة في السياق العام في سوريا قبيل مؤتمر النصر وبعده:

منذ تشكيل حكومة تسيير الأعمال في دمشق توجهت أنظار القوى السورية إلى الآلية التي سيتم من خلالها التأسيس للمرحلة الانتقالية، ومع إعلان التحضير لمؤتمر حوار وطني[1] انصبّ الاهتمام على التحضير المطلوب والدعوات وتوجيهها وقضايا التمثيل والمخرجات المحتملة، حيث قُدمت طروحات عديدة[2].

أما عسكرياً  فقد شكلت قضية دمج الفصائل العسكرية في هيكلية وزارة الدفاع الجديدة وتشكيل الجيش السوري الجديد أحد أكبر الملفات أولوية؛ فقد بدأت جولات متواصلة من اللقاءات شملت فصائل عسكرية من مرتبات الجيش الوطني وفصائل محلية في الجنوب السوري وفصائل أخرى، وبدأت عملياً ملامح مشروع توحيد القوة العسكرية بالتقدم شيئاً فشيئاً، مع بقاء حالة من الغموض فيما يخصّ بعض فصائل الجنوب، خاصة مع تصريحات بعدم تسليم السلاح حالياً، ووجود مفاوضات غير معلنة مع معارك عسكرية في شمال شرق سوريا مع قوات سوريا الديمقراطية “قسد”[3].

أما على صعيد الإجراءات الأساسية في مجال الخدمات والمؤسسات العامة فقد شهدت الفترة السابقة إعادة تدريجية لعمل بعض المؤسسات، وأهمها التعليمية والخدمية والصحية، مع موجة من القرارات الخاصة بهيكلة الموظفين من منظورين اثنين؛ أولهما: التطهير المؤسساتي للعناصر المرتبطة بالمؤسسات الأمنية سابقاً كما حصل بقرار عزل القضاة[4]، وثانيهما: التفحص الوظيفي الخاص بمكافحة الفساد والترهل الإداري؛ وهو ما أثار بدوره بعض ردود الأفعال اعتراضاً على المسار الإجرائي أو على المضمون، حيث شهدت بعض المدن _مثل: حلب والسويداء واللاذقية_ مظاهرات عدة تطالب إجراءات أكثر قوة في هذين المجالين “مكافحة الفساد والترهل الإداري”[5].

على المستوى الاقتصادي شهد سعر صرف الليرة السورية تحسناً مستمراً في السوق الموازية[6]، وتوفير الخدمات الأساسية كالخبز والمحروقات، فيما استمر تردّي أوضاع الطاقة الكهربائية.

أما على الصعيد الأمني فقد كان الأمر مسيطراً عليه نسبياً، على الرغم من تسجيل حالات انتقامية وثأرية، خاصة في المناطق الأكثر حساسية في المنطقة الوسطى والساحل، أو حالات من تشكل عصابات جرمية في قسم كبير منها من فلول نظام الأسد، حاولت في أكثر من مكان زعزعة الأمن وخلق توترات[7].

بالانتقال إلى المشهد الإقليمي والدولي شهدت المرحلة السابقة تطورات لافتة، لعلّ أبرزها يتمثل بالانفتاح الجيد على الإدارة الجديدة إقليمياً، خاصة من القوى المؤثرة كتركيا وقطر والمملكة العربية السعودية، ثم جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي، والانفتاح التفاوضي الذي يميل تدريجياً نحو الإيجابية أيضاً من القوى الغربية مثل: ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة ثم الاتحاد الأوروبي، وهو ما تُرجم في بيان الرياض الذي ذهب نحو الإقرار بالإجراءات الإيجابية والدعوة لرفع العقوبات[8]، في مقابل البيان الدولي الأول “بيان العقبة” الذي صدر عشية إسقاط نظام الأسد وتمسك بالجوانب المطلبية وتدويل الشأن السوري[9].

مما سبق يمكن القول: إن السمات العامة للسياق السوري رغم انقسام الآراء حول العديد من القضايا، ووجود حالة غموض في إجراءات أخرى، والتحديات في الملفات الأساسية يفيد بالاستقرار التدريجي والنضوج النسبي للمرحلة.

ثانياً: أبرز الإيجابيات في البيان والخطاب؛ مِن تسلُّم السلطة إلى البرنامج الطموح:

بالوقوف على مضامين بيان إعلان انتصار الثورة السورية الصادر عن كبرى الفصائل العسكرية في سوريا _باستثناء قوات سوريا الديمقراطية “قسد”_ فقد جاءت أبرز النقاط الإيجابية التي يمكن الإشارة إليها على النحو الآتي:

  • توافق آلية الإعلان والقرارات المتخذة مع مبادئ الشرعية الثورية: التي تمثل حالة فوق دستورية وترتبط بنجاح الثورات، وهي إحدى الطرق الرئيسة لملء فراغ السلطة في مراحل الانتقال السياسي[10]؛ وبذلك فإن الإجراء المتبع في سوريا عبر إعلان القوى العسكرية الثورية لا يُعد شاذّاً عن السياق الواقعي والتجارب الإنسانية.
  • حسم شكل السلطة في المرحلة الانتقالية وإنهاء حالة الغموض: عبر تحديد شخص رئيس الجمهورية في المرحلة الانتقالية، وهو ما يسمح له بالقيام بالمهام الرئيسة لرأس السلطة التنفيذية بشكل مشروع، وتغدو أعمال الحكومة وقراراتها مستمدة تبعاً من شرعية السلطة التنفيذية ككل؛ وهو ما يسمح بتعاطٍ أكثر استقراراً مع القضايا الداخلية الملحّة، وعلى النحو ذاته التفاعل مع الدول الأخرى بصفة رسمية واضحة المعالم.
  • اعتماد اليوم الوطني لسوريا في يوم إسقاط نظام الأسد: وهو ما يُعد أولى خطوات حسم الرواية التاريخية والرسمية لسوريا الجديدة، ويقطع الباب أمام فلول نظام الأسد وحواضنه والقوى المتربصة، ويبشّر بخطوات واضحة المعالم في تجريم النكران وكشف الحقائق الوطنية وتثبيت نضال الشعب السوري في المناهج التعليمية.
  • إسقاط دستور عام 2012 وإيقاف العمل بمنظومة القوانين الاستثنائية: وهو ما يحتاج لتحديد مباشر لاحقاً؛ إلا أن مدلولاته الرئيسة ترتبط بمجموعة قوانين استخدمها نظام الأسد البائد لقمع الحقوق والحريات، كقانون الإرهاب رقم 19 لعام 2012 وتبعاته، والقانون 20 لعام 2012، أو القوانين المنشِئة للمحاكم الاستثنائية كمحاكم الميدان العسكرية ومحكمة الإرهاب، كما تمتد القوانين الاستثنائية إلى الجوانب غير السياسية كالقضايا المالية أو المصادرة.. إلخ.
  • إسقاط السلطة التشريعية المتمثلة بمجلس الشعب وما يتفرع عنها من لجان: وهو ما يؤسس بدوره لحل إشكالية السلطة التشريعية في المرحلة المؤقتة، ويسمح بإصدار أو تعديل القوانين ومواكبة التغييرات التي تحتاجها عملية بناء سوريا، والتحضير لعودة الحياة السياسية مستقبلاً.
  • إعلان حل المؤسسة العسكرية والأمنية لنظام الأسد البائد: على الرغم من كون الإعلان جاء كاشفاً عن واقع أكثر من أن يكون منشِئاً له إلا أن التبعات الإدارية أصبحت واضحة من حيث الأفراد ومستحقاتهم من جهة، ومن حيث تثبيت المنطق العام لسوريا المستقبل الذي يتعاطى مع هذه المؤسسات كأدوات للانتهاكات بحق الشعب السوري ويفتح الباب أمام المساءلة وانطلاق المحاكمات من جهة أخرى.
  • إسقاط المنظومة السياسية الحزبية لنظام الاستبداد، ومنع إعادة تشكيلها: وذلك عبر حلّ حزب البعث ومنظماته كالطلائع الثورية والشبيبة ..إلخ، وأحزاب الجبهة الوطنية التي شكلت رديفاً حزبياً لحزب البعث ومظلة سياسية لأكذوبة التعددية في سوريا منذ استيلاء الأسد الأب على السلطة، واستعادة أصولها كافة لفائدة الدولة السورية، والأهم هو التصريح بمنع إعادة تشكيلها؛ فهو ما يمكن سحبه لاحقاً على الكوادر في المناصب القيادية التي تعيد التموضع عادة بتشكيلات جديدة. وكل ما سبق يًعد تطبيقاً أولياً ومهماً لمنطق العزل السياسي، وتنقية الحياة السياسية القادمة في سوريا من مخلّفات الاستبداد.
  • حل الفصائل العسكرية: وهو ما يُنهي الحالة الفصائلية ويمضي قدماً بمشروع إنشاء جيش وطني وحصر السلاح في يد الدولة[11]، ويبشّر بانتهاء فوضى السلاح في سوريا ككل، بوصف ذلك شرطاً لازماً للاستقرار العسكري والأمني، وهو ما يسمح بدوره بإطلاق عجلة التنمية وإعادة الإعمار.

مما سبق يظهر بيان مؤتمر إعلان النصر في سوريا كونه إطلاقاً فعلياً رسمياً للمرحلة الانتقالية، ويُنهي حالة من المخاوف العامة.

وعلى الرغم من ذلك فقد ظهرت انتقادات واسعة للطريقة التي حصل فيها افتتاح المرحلة الانتقالية وتفويض السلطة على أساس التمسك بآلية حوار وطني وعدم وجود وضوح لمجموعة من التفاصيل الحالية والمستقبلية، ليأتي الخطاب الرسمي لرئيس الجمهورية أحمد الشرع في اليوم الثاني حاملاً في طياته مجموعة أوسع من النقاط الإيجابية، أدّت إلى تحسُّن كبير في المزاج العام للشارع السوري، خاصة حاضنة الثورة السورية. ويمكن تحديد أبرز الإيجابيات بما يلي:

  • تخصيص الخطاب بفئات محددة فضلاً عن الشعب السوري عامة: كضحايا الانتهاكات وذويهم ونشطاء الثورة في كل مكان، وهو ما قدّم تطميناً أساسياً وجوهرياً حول طريقة تفكير السلطة الانتقالية تجاه تضحيات الشعب السوري وتقديرها، مما يعني قدراً أكبر من الانفتاح للتشاركية خارج دائرة “هيئة تحرير الشام” أو حكومة الإنقاذ سابقاً.
  • توطين ذاكرة النضال السوري منذ أيام التظاهر السلمي وصولاً إلى النضال العسكري والصمود الشعبي أمام جرائم وانتهاكات نظام الأسد وميليشياته داخل الخطاب الأول يؤكد جوهرية الإنصاف والعدالة في المرحلة القادمة، وعدم النسيان وطيّ الماضي ككلّ، ويعالج التلكؤ في القيام ببعض الإجراءات الرئيسة في سوريا في المرحلة السابقة.
  • الانتقال من مفهوم الحاكم والأب والقائد الملهم التي كرّسها نظام الأسد إلى مفهوم الخدمة العامة التي يتولى بموجبها الرئيس مهامه لتقديم خدماته لأبناء الشعب: وهو ما يرتبط بواحد من كبرى أهداف الثورة السورية.
  • حضور مجموعة قيم أساسية من قيم الثورة السورية، ومن أهمها: المشاركة، والحرية، والكرامة، والتنوع، والانتخابات القادمة، واستخدامها في الحديث عن المرحلة الانتقالية والمستقبل.
  • إعلان تشكيل لجان تحضيرية لاختيار مجلس تشريعي مصغر ومؤتمر الحوار الوطني: وهو ما يعني استخدام آليات المشاركة في الصلاحيات الأساسية التي يمتلكها رأس السلطة التنفيذية، وعدم التوجه بشكل فردي نحو الاختيار؛ وهذه آليات تتوافق أيضاً مع منطق الحكم الرشيد، وبدورها تشكل المخرجات من الحوار الوطني والمداولات التشريعية مدخلات للإعلان الدستوري.
  • إعلان قائمة أولويات محددة تمسّ الواقع المعاش: وهي قضايا السلم الأهلي، والعدالة الانتقالية بشكل حقيقي وفعال، ووحدة الأراضي السورية، والسلطة السياسية، وبناء مؤسسات قوية تخلو من الفساد والترهل المعتاد في زمن منظومة الاستبداد، وتحسين الظروف الاقتصادية.

فيما ظهرت السمة الإيجابية العامة في الخطاب ككل وهي الوضوح والكلام الموجز المباشر، بعيداً عن متاهات الفلسفة التي اعتاد عليها السوريين في خطابات نظام الأسد بوصفها خطابات جوفاء وخشبية لا تقدم جديداً ولا تحتكّ بالقضايا الواقعية.

ثالثاً: ملاحظات تطويرية على البيان والخطاب؛ الحاجة إلى مزيد من الضوابط:

بالانطلاق من بيان إعلان انتصار الثورة السورية، وبغضّ النظر عن المسار الإجرائي الذي ذهب إلى خيار ثوري واقعي بعد رفع سقف التوقعات بالخيارات الأخرى مما سبّب انتكاسة معنوية لدى بعض الشرائح يمكن الإشارة إلى مجموعة من المحاذير للتجاوز والتطوير، ومن أبرزها:

  • على الرغم من أهمية جزئية حلّ جميع الفصائل العسكرية _كما تمت الإشارة إليه_ لتشكيل جيش وطني واحتكار السلاح بيد الدولة فإن دمج “الأجسام الثورية والسياسية والمدنية” في البند ذاته، والنظر إليها بالطريقة ذاتها والتعامل معها بالمآل عينه _أي: الدمج في مؤسسات الدولة_ يُعد توسعاً غير مقبول، خصوصاً ما يرتبط بالأجسام المدنية التي تُعد قطاعاً ثالثاً لا يمكن تأميميه _إن صح التعبير_ ودمجه في المؤسسات العامة؛ إلا إذا كان المقصود بذلك المؤسسات التي وُلدت بأساليب أهلية خلال مسيرة الثورة السورية على مبدأ الضرورة وسدّ الفراغ،  كالمجالس المحلية والهيئات التمثيلية.

وما دام أن القرار جاء لحل الجميع فكان من الأفضل حضور أوسع يشمل إلى جانب أعضاء من حكومة الإنقاذ والفصائل آخرين من النقابات والحكومة المؤقتة والائتلاف وهيئة التفاوض، وعدم الاقتصار على القوى العسكرية ومكونات من “لون واحد”، وهو ما كان سيعطي _فيما لو حصل_ بُعداً أوسع لفكرة الشرعية الثورية.

  • من المعروف بالضرورة أن السلطات الثلاث هي التشريعية والتنفيذية والقضائية: ومع ذلك لم يتم الحديث عن السلطة القضائية؛ حيث انصبّ التركيز على السلطتين التنفيذية والتشريعية، ولم يتم الحديث عن آلية إدارة السلطة القضائية هيكلياً، وكأن المقصود هو إحالة الأمر إلى رئيس الجمهورية، وهذا خلطٌ غير مفضل تبعاً لحساسية السلطة القضائية، وأهمية إظهار أكبر قدر ممكن من كفالة استقلالها وحيادها.

وإذا كان من المفهوم تولي رئيس الجمهورية رئاسة مجلس القضاء الأعلى في سوريا بحكم النهج المستقر حتى الآن؛ فإن إجراءات جديدة كانت غائبة رغم وجود حلول عديدة متاحة باعتبار إسقاط المنظومة الدستورية السابقة، وإطلاق مرحلة انتقالية، ومنها تشكيل لجنة من القضاة المنشقين والقضاة العاملين في حكومة الإنقاذ سابقاً لتتولى مهام مجلس القضاء الأعلى في المرحلة الانتقالية، ولتشرف على إعادة هيكلية السلطة القضائية.

  • مع أهمية تفويض رئيس الجمهورية بصلاحيات واسعة في المرحلة الانتقالية لضمان سير المؤسسات العامة والتمتع بالقدرة على التعاطي مع التحديات في بلد مدمر ومهدد بمخاطر عديدة داخلية وخارجية؛ إلا أن تفويضه بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت للمرحلة الانتقالية جاء خياراً أشد مركزية من خيارات أخرى متاحة؛ فمن الأفضل التوجه إلى تشكيل لجنة جماعية مفوضة بذلك حتى لا تتكدس كل الصلاحيات التنفيذية والتشريعية والقضائية بيده.
  • جاء تعبير “إيقاف العمل بجميع القوانين الاستثنائية” ليفيد بحالة مؤقتة (إيقاف) استناداً إلى التفسير اللغوي، وبالنظر إلى إلغاء الدستور فإن إلغاء القوانين الاستثنائية أيضاً كان خطوة على القدر ذاته من الأهمية، وباستخدام مصطلح قاطع بإنهائها للأبد من الحياة العامة السورية.

بالانتقال إلى خطاب رئيس الجمهورية الأول وباعتباره جاء متضمناً لبرنامج عمل يعبّر عن مجمل أهداف الثورة، وإن كان مختصراً وقابلاً للتفسير في بعض الدلالات كالمشاركة وإعمال القيم؛ فإنه لم ينطوِ عموماً على سلبيات جديرة بالإشارة، سوى خلوه من برنامج زمني، وإن كان قد نجح في التأثير في عموم الشعب السوري وإزالة الكثير من الالتباسات السابقة.

خلاصة وتوصيات:

تعيش سوريا لحظات تاريخية فارقة بعد إسقاط نظام الأسد البائد؛ فمن الأهمية بمكان رصد وتحليل وتقييم توجهات السلطة الانتقالية، وإغناء النقاش العام في سوريا بوصفه بوابة لإعادة بناء الإنسان السوري المهتم بالشأن العام وقضاياه؛ ولذا فإن عدم الاكتفاء بالإشارة إلى النقاط الإيجابية، والسعي لإكمال الصورة من خلال طرح النقاط السلبية أو الإشارة إليها يُعد بدوره مشاركة في ترشيد السلطة العامة ودعم نجاحها.

وبما أن البيانَين اللذَين يرصدهما هذا التقرير يُعدان الأساس الذي تُبنى عليه المرحلة الانتقالية في سوريا، وعليها يُراهن لتحقيق أهداف الثورة السورية وتطلعات عموم الشعب السوري في سوريا حرة ومستقرة لا تتكرر فيها جراح الماضي يمكن تقديم مجموعة من التوصيات، على النحو الآتي:

  • تعزيز الإيجابيات التي تمت الإشارة إليها: وذلك من خلال تحويل المبادئ المعلنة إلى منظومة إجراءات، يرافقها حُسن التطبيق على أرض الواقع مع النصوص المعلنة، على سبيل المثال: إيلاء أهمية كبرى لتصميم مقاربة سورية في مسار العدالة الانتقالية المطلوبة، والانفتاح بالشراكة على الضحايا وذويهم والقوى المدنية والفكرية المختلفة لتحقيق أكبر قدر ممكن من الفوائد، وتجنب أكبر قدر ممكن من المسارات المشتتة وإهدار الوقت الثمين[12].
  • تلافي السلبيات: لعلّ من أهمها التوجه لتفعيل الحوار العام وإدماج القوى السورية المختلفة في المشاورات الخاصة بالخطوات القادمة، أو توضيح بعض النقاط الغامضة القابلة للتفسير منعاً للتأويلات المختلفة، ووضع برنامج زمني واضح لتنفيذ الخطوات التي تم الالتزام بها؛ مع أن من المتفهم أن كثيراً من تلك الخطوات يفترض أن تكون مرتبطة بالإعلان الدستوري الذي قد يُناط إقراره بالمجلس التشريعي المؤقت وإصداره من رئيس الجمهورية.
  • الشمول: فلا يقتصر تشكيل المجلس التشريعي المؤقت أو مجلس القضاء على لون واحد، بل يعمل على شمول القوى والمكونات السورية؛ وهذا الأمر لن يؤثر في السلطة التنفيذية التي تُعد من “لون واحد” في هذه المرحلة.
  • الكفاءة: مع أهمية الثقة والسجل الداعم لقضية الشعب السوري، والتضحية في سبيل الخلاص من منظومة الاستبداد؛ فإنّ من الضروري حضور معايير الكفاءة المحددة والمتلائمة مع المسؤولية بوصفها مرحلة تاريخية نأمل كسوريين أن تؤسس لمرحلة استقرار طويلة لسوريا حرة.

[2] للتوسع يُنظر: أحمد قربي وخليل صباغ، المرحلة التحضيرية للحوار الوطني؛ ما تقوله الأدبيات والتجارب المقارنة، مركز الحوار السوري، 15/1/2025، شوهد في 2/2/2025.
[4] يُنظر: القرار رقم 120 الصادر عن وزير العدل في حكومة البشير بتاريخ 28/1/2025، بناء على قرار مجلس القضاء الأعلى بموجب القرار رقم 3 بتاريخ 23/1/2025.
[5] يُنظر: سعاد جروس، حكومة تصريف الأعمال في سوريا أمام الترهل الإداري وإنهاء الوظائف، الشرق الأوسط، 27/1/2025، شوهد في 2/2/2025.
[7] ينظر على سبيل المثال: مقتل 14 من عناصر الداخلية السورية على يد “فلول” نظام الأسد، وكالة الأناضول، 26/12/2024، شوهد في: 31/1/2025.
[8] للتوسع يُنظر: قراءة في بيان اجتماع الرياض بشأن سوريا: تحليل أوّلي بالمقارنة مع بيانَي العقبة، مركز الحوار السوري، 14/1/2025، شوهد في 2/2/2025.
[9] للتوسع يُنظر: قراءة في بيانات اجتماع العقبة الخاص بسوريا: التمسك بتعويم الملف السوري، مركز الحوار السوري، 16/12/2024، شوهد في 2/2/2025.
[10] للتوسع يُنظر: بشر شبيب، تستند عليها المرحلة الانتقالية في سوريا.. ماذا تعرف عن “الشرعية الثورية”؟ عربي 21، 31/1/2025، شوهد في: 2/2/2025.
[11] وحدة التوافق والهوية المشتركة، دمج الفصائل العسكرية في الجيش السوري الجديد: بين التحديات والفرص، مركز الحوار السوري، 11/1/2025، شوهد في: 2/2/2025.
[12] أصدر مركز الحوار السوري عدة تقارير وأوراق مواكبة للحدث تحليلاً وتسديداً وربطاً بتجارب سابقة مشابهة؛ للتوسع يُنظر مثلاً: التقرير التمهيدي: العدالة الانتقالية وأهمية إنضاج المقاربة السورية، مركز الحوار السوري، 26 /12/ 2024، ودمج الفصائل العسكرية في الجيش السوري الجديد: بين التحديات والفرص، مركز الحوار السوري، 11/1/2025. والمحاكم الجنائية الخاصة بملاحقة الجرائم الدولية: في الإجابة حول الخيار الأنسب لسوريا، مركز الحوار السوري، 17/1/2025، شوهد في 2/2/2025.

باحث في وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى