مقالات الرأي

جدليّة العلاقة بين التنظيم والحرية: قراءة في القرارات الأولى لحكومة تصريف الأعمال في دمشق لإعمال الحق في تشكيل الجمعيّات

تُمثّل القواعد المعيارية لممارسة العمل المدني والأهلي والتي تشكّلت تدريجياً، أحد أهم حقوق الإنسان المدنية والسياسية، والتي تُترجم عملياً بوجود منظمات غير حكومية حرة ومستقلة عن السلطة، وتستند هذه القواعد إلى مبدأ أساسي وهو: واجب الدولة في إنشاء الإطار القانوني والتشريعي الملائم لممارسة الحق في حرية تشكيل الجمعيات والالتزام بتطبيقه، حيث تبدأ هذه الضمانات (القواعد المعيارية) منذ لحظة البدء بتشكيل منظمة المجتمع المدني وصولاً إلى إنهائها مروراً بإجراءات التأسيس وقواعد الإدارة وممارسة النشاط.

تتمثّل ضمانة الحق في تشكيل منظمات المجتمع المدني بمختلف أشكالها، بمؤشرين: الأول: عدم تعليق ممارسة “إنشاء منظمة غير حكومية” على التسجيل الرسمي؛ بمعنى ألا يكون اكتساب الشخصية القانونية شرطاً مسبقاً إلزامياً على ممارسة الحق. والثاني: بساطة إجراءات اكتساب الشخصية القانونية؛ بحيث تكون الإجراءات الإدارية مُيسّرة من حيث السرعة وبأقل حدّ ممكن من الشكليّات، وألا تكون السلطة التقديرية للجهة الإدارية بالموافقة أو الرفض سلطة واسعة.

أصدرت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في حكومة تصريف الأعمال بتاريخ 29/12 تعميماً إلى المديريات في المحافظات لتنظيم إجراءات تأسيس المنظمات غير الحكومية (جمعية -مؤسسة-فريق)”، وعلى الرغم من طبيعة المرحلة يمكن التوقف عند ثلاث نقاط رئيسة تبدو سلبية لجهة حرية العمل المدني واستقلاله:

النقطة الأولى: الاعتماد على قانون الجمعيات لعام 1958 وبناء التعميم على أساسه عموماً، والإشارة لذلك في الفقرة 8 من المادة (ثانياً)، وهو ما يعني حتمياً نقل كل إشكاليات هذه النصوص القانونية الموروثة من مرحلة الأسد البائد إلى المرحلة الحالية، وللأسف فإن القانون بمجمله خارج الزمن والصلاحية وإن كان من الناحية القانونية ساري المفعول حتى اللحظة.

النقطة الثانية: وجود سلطة تقديرية واضحة للإدارة العامة ممثّلة في الوزارة أو المديريات الفرعية في منح الترخيص من عدمه، فعلى الرغم من أن التعميم أشار ضمنيّاً بإعطاء المنظمة/الجمعية/الفريق ترخيصاً مؤقتاً تلقائياً لمدة ستة أشهر، إلا أنه علّق الترخيص الدائم على إرادة الإدارة وبعد تقييم أداء المنظمة/الجمعية/الفريق، وهو ما يبتعد أساساً عن فكرة التسجيل بوصفه حقاً وإجراءً كافياً لاكتساب الشخصية الاعتبارية، وبالتالي فإن ذلك يُوسّع من الدور الرقابي للإدارة العامة -بما يتجاوز الرقابة المالية ومتطلّبات الامتثال القانوني المفهومة -وهو ما يفتح الباب أمام المزاجية الوظيفية المعتادة في سوريا.

النقطة الثالثة:  معاملة الفرق التطوعية والمبادرات المحلية.. إلخ من الأنماط الواسعة للعمل المدني -والتي لا تدير عادة أموالاً أو تقدّم استجابة إنسانية ضخمة- معاملة المنظمات غير الحكومية الإنسانية ذات الاحتكاك المباشر بالمؤسسات الخدمية المختلفة، فلا يُعقل معاملة تأسيس فريق تطوعي من عشرة أشخاص للقيام بأعمال الطبابة المجانية معاملة تأسيس منظمة إنسانية لتقديم خدمات الرعاية الصحية والعمل الصحي. على الأغلب ستؤدي المساواة في المعاملة مع الفارق الواضح في الأهداف والإجراءات وحجم العمل إلى إخماد تدريجي لفكرة ممارسة الحق في النشاط المدني التطوّعي بأشكاله المجتمعية، وخاصة مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية بث هذه الروح التي أخمدتها أجهزة نظام الأسد الأمنية سابقاً.

فضلاً عما سبق يمكن قراءة التعميم الصادر عن مكتب تنسيق العمل الإنساني في سوريا HAC  بضرورة الحصول على ترخيص لكل نشاط أو تدخُّل إنساني والموافقة الرسميّة لكل مشروع أو حتى نشاط والتحذير من المساءلة القانونية التي تصل من دون تدرُّج واضح لحدّ سحب “الترخيص”، إلى وجود توجُّهات مُقيّدة على مستوى القواعد التنظيمية، على الرغم من أن التطبيق العملي حتى الآن يُشير إلى معاملة تميل للإيجابية، مع التركيز على التنسيق المفيد للمصلحة العامة.

على الرغم من تفهُّم وجود متطلّبات عملية عديدة حالياً وإشكاليات سابقة أدت تدريجياً لضعف الثقة بين السوريين والمنظمات غير الحكومية، وأن المضي بعملية الإصلاح القانوني الشامل تحتاج للزمن، فإن التأسيس لسوريا الجديدة يتطلّب بدوره إثارة النقاش العام حول جدليّة الموازنة بين متطلّبات التنظيم ومكافحة الفساد وهدر الأموال والجهود وبين ضمان حرية واستقلالية العمل المدني والحفاظ على مكتسبات الثورة السورية في هذا الصدد. بمعنى آخر؛ إنتاج النصوص والممارسة التي تراعي الممارسات المعيارية، مثل: تشكيل هيئة رسمية مستقلة تشاركية مع المجتمع المدني لتنظيم العمل المدني والنقابي بدلاً من النموذج الوزاري، وتطبيق الضمانة القضائية؛ بمعنى أن تكون كل الأفعال والقرارات التي تمسّ المنظمات غير الحكومية –ابتداءً بالموافقة أو الرفض على طلب إنشاء منظمة– قابلة للطعن أمام القضاء المستقل.

مرحليّاً وكإجراءات انتقالية أيضاً على مستوى تنظيم العمل المدني ريثما يتم إلغاء القانون رقم 93 لعام 1958، يمكن اقتراح بعض المحدّدات الرئيسة ومن أهمها: الانطلاق من مبدأ تنظيم العمل المدني بمعناه الواسع كأصل عام والاستثناء هو التقييد، والتركيز على أن تكون الممارسة مُرفقة بتعاميم وقواعد تنظيميّة تُكرّسها طالما نتحدث عن سيادة القانون، فالممارسة بدون نصوص تعني الخضوع لإرادة الموظّف، وأخيراً ترسيخ قواعد متدرّجة في العقوبات المسلكيّة، فلا يُعقل أن تكون المخالفة مباشرة سحب الترخيص في انتهاك صارخ لمبدأ التدرُّج في العقوبات.

ختاماً، يمكن القول إن الإعمال الحقيقي والمتوازن في سوريا الجديدة للحق في تشكيل الجمعيات وما يتفرّع عنه حكماً بالضرورة يقتضي وجود مقاربة سورية جديدة، ومن المفيد جداً أن تُدرج في خضم الحوار الوطني القادم بغية التأسيس للمبادئ الكبرى والتي تسمح بتنظيم قانوني شامل مستقبلاً، فضلاً عن أهمية بناء الممارسات الإدارية منذ الآن من منظور الالتزام بأكبر قدر ممكن من الضمانات الدولية، الأمر الذي يُسهم في تحقيق التغيير المنشود في سوريا على قاعدة واجب السعي لإيجاد بيئة تمكينية وإيجابية للنشاط المدني والمجتمعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى