حدود العلاقة بين “إسرائيل” و”قوات سوريا الديمقراطية-قسد” شمال شرقي سوريا
تقرير صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري
تُعدّ العلاقة بين مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية- قسد” و”إسرائيل” من القضايا التي تُحيط بها الكثير من التساؤلات والتكهُّنات لاسيما أن هذه العلاقة تحمل طابعاً غير علني في كثير من الأحيان، ولكنها تظهر بين الحين والآخر في تقارير إعلاميّة أو من خلال التصريحات القليلة لبعض المسؤولين[1].
تجلّت بعض صور تلك العلاقة بعد معارك التحرير لإسقاط النظام البائد في سوريا خلال كانون الأول 2024، إذ ظهرت دعوات من قبل وسائل إعلام عبريّة ومحلّلين إلى حماية “قسد” من أي هجماتٍ للفصائل العسكرية[2].
يسعى هذا التقرير إلى استكشاف حدود العلاقة بين “قسد” و”إسرائيل” بناءً على ما توفّر من مُعطيات في المصادر المفتوحة في محاولة لمعرفة طبيعة تلك العلاقة وتحليلها، مستعرِضاً في القسم الأول أبرز ما ورد من تصريحات حول العلاقة بين الطرفين، وكذلك ما تجلّى من مواقف على الأرض، وفي القسم الثاني يُقدّم قراءة تحليليّة لطبيعة تلك العلاقة والعوامل المؤثرة فيها صعوداً أو هبوطاً.
دعوات “إسرائيلية” لحماية “قسد” من “الهجمات” في سوريا:
تُشير التقارير الواردة من الإعلام العبري إلى أن مسؤولين كباراً في مليشيا “قسد” طلبوا المساعدة من “إسرائيل” بشكل عاجل بسبب شعورهم بتهديد مستقبل “الحكم الذاتي” الذي يحاولون الوصول إليه شمال شرق سوريا[3]، وبحسب صحيفة “إسرائيل هيوم” العبريّة فإن الحوار كان موجوداً بين “قسد” وإسرائيل”، لكنه بات أقوى بعد سقوط نظام المخلوع بشار الأسد[4].
كما إن مؤسّسات الاحتلال الأمنيّة ناقشت إمكانية الاستجابة لطلبات المساعدة المقدَّمة من قبل “قسد” لكنها أمام مشكلة معقّدة تتعلّق بردود الأفعال الإقليمية والدولية حيال أيّ تدخُّل “إسرائيلي” خاصة مع تركيا التي ترفض وجود “قسد” على حدودها، بحسب الصحيفة نفسها[5].
ومما يُثير الانتباه أن “قسد” تحاول استخدام شمّاعة “التنظيمات الإسلامية” للتحذير من سقوط المناطق الخاضعة لسيطرتها، وبحسب “هيئة البث الإسرائيلية” فإن مسؤولين “إسرائيليين” أجروا خلال الأيام الماضية حواراً أوليّاً مع “قسد” وسط قلقها من تقدُّم المعارضة خاصة “الإسلاميين”[6]، دون استبعاد وجود توجُّه “إسرائيلي” لتشكيل تحالفات جديدة مع الأقليّات، خاصة الأكراد، بهدف زيادة نفوذ “تل أبيب” الإقليمي وسط التغيُّرات الميدانية المتسارعة في سوريا[7].
هذه التقارير ليست الأولى من نوعها، ففي العام 2022 كشف موقع “أكسيوس” الأميركي أن “إسرائيل” ضغطت سراً على إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن من أجل منع عملية عسكرية تركية ضد “قسد” بحجة الخشية من تمدُّد النفوذ الإيراني في سوريا[8]، ويُشير مسؤولون “إسرائيليون” إلى أن “تل أبيب” دأبت على دعم “قسد” طوال تلك السنوات دبلوماسياً وبوسائل أخرى لأنها ترى بها “حليفاً مهماً يقف عائقاً ضد النفوذ الإيراني الآخذ بالتمدُّد في سوريا”[9].
أما ميدانياً وعلى الأرض، فظهرت بعض صور العلاقة بين “إسرائيل” و”قسد” خلال ما جرى مؤخراً بمدينة دير الزور، فخلال السيطرة المؤقّتة لمليشيات “قسد” على المدينة دأب عناصرها على تفريغ ما أمكن من السلاح والذخيرة والمعدّات العسكرية التي تركها النظام البائد قبل انسحابه من دير الزور وتسليمه المدينة لـ”قسد”[10]، ولكن مما أثار الانتباه أن “إسرائيل” لم تُوجّه أي ضربات جوية إلى الأنظمة والمعدّات العسكرية في دير الزور مثلما فعلت بالمناطق التي دخلتها إدارة العمليات العسكرية في دمشق أو حمص وحلب وغيرها من المناطق[11]، ولكن وبعد انسحاب “قسد” بفترة لا تتجاوز الساعات خرج الطيران “الإسرائيلي” واستهدف معدّات عسكرية لم تستطع “قسد” إخراجها من مطار دير الزور العسكري خاصة مع تصاعد حالة الاحتقان الشعبي ضدها في ذلك الوقت[12].
وبعيداً عما جرى في دير الزور، فإن “قسد” كانت تُسهّل دخول الصحفيين “الإسرائيليين” إلى مناطق سيطرتها، وخلال العام 2019 دخل الصحفي “الإسرائيلي” “موآف فرداي” إلى شمال شرقي سوريا وأعدّ تحقيقاً تحت اسم “قصة الأكراد في سوريا” كما التقى بقائد “قسد” مظلوم عبدي[13].
نحو فهم أسباب العلاقة بين “قسد” و”إسرائيل”:
يمكن القول إنه وفي ظل تعقيدات المشهد السوري وتشابك المصالح بين الأطراف الفاعلة فإنّ العلاقة بين مليشيات “قسد” و”إسرائيل” هي نتاج اعتبارات أمنيّة وسياسيّة وديمغرافيّة تختلف بالنسبة لكل طرف وفق مصالحه.
من منظور “قسد” فإن العلاقة مع “إسرائيل” يبدو أنها تُعتبر فرصة استراتيجية تُتيح لها الحصول على دعم سياسي من حلفاء خارجيين[14]، وربما عسكري يُعزّز من موقفها لا سيما مع الضغوط المستمرة من تركيا والفصائل السورية لطردها من مناطق جديدة.
ويكشف ما جرى في مدينة دير الزور مؤخراً أن هناك تنسيقاً عالياً بين “قسد” وإسرائيل” استمرّ طيلة نحو أسبوع من سيطرة “قسد” على المدينة وإفراغها للمؤسسات والمراكز العسكرية والأمنية، ما يُدلّل على أنه ليس هناك مشكلة لدى “تل أبيب” في وصول الأسلحة النوعيّة إلى “قسد”، كما إن الطيران “الإسرائيلي” عمد إلى قصف الجسر التُرابي الذي يربط بين مناطق سيطرة “قسد” وإدارة العمليات العسكرية في دير الزور في محاولة فيما يبدو لعرقلة تقدُّم الأخيرة إلى مناطق “قسد” بريف دير الزور شرق الفرات[15].
أما بالنسبة لـ”إسرائيل” فإن دعمها لـ”قسد” فيما يبدو ينطلق من عدة مُحدّدات لعل من أبرزها:
إضعاف وحدة الأراضي السورية: فمن خلال دعم إنشاء كانتونات في سوريا سواء كانت كردية أو درزية أو غيرها، فإن هذا سيؤدي إلى تعميق الانقسام داخل سوريا حتى إن لم يتم تحقيق حلم الدولة الكردية المستقلة، بل السعي لعزل الأكراد ضمن كانتون خاص بهم مرتبط بالسلطة المركزية بدمشق، وهو هدف تسعى له “قسد” لتكرار شيء من تجربة إقليم كردستان العراق، وهذا في النتيجة يُؤدّي إلى سوريا ضعيفة ومجزَّأة عرقياً وإثنياً فضلاً عن أن مواردها الاقتصادية الهامة -مثل النفط والغاز- ستظلّ بيد “قسد”.
مناكفة تركيا: تُمثّل “قسد” ورقة ضغط “إسرائيلية” ضد تركيا خاصة في ظل التوترات المستمرة بين أنقرة و”تل أبيب” بسبب دعم تركيا السياسي لحركة حماس ووصفها “إسرائيل” بالدولة الإرهابية جراء ممارساتها في غزة بعد مجازرها في غزة عقب عملية “طوفان الأقصى”[16]، ولذلك فإن دعم “قسد” قد يُمثّل فرصة لـ “إسرائيل” للرد على السياسات التركية في ملف يُعدّ مُهدِّداً للأمن القومي التركي.
التركيز على النفوذ الإيراني: بعض التقارير “الإسرائيلية” زعمت أن دعم “إسرائيل” لـ “قسد” يأتي لتقويض النفوذ الإيراني في سوريا[17]، إلا أن هذا الادعاء لا يبدو واقعياً، إذ لم تشهد الساحة السورية أي مواجهات حقيقية مفتوحة بين “قسد” والمليشيات الإيرانية، بل إن النفوذ الإيراني في سوريا كان في محل مواجهة مباشرة مع الفصائل الثورية وبقيت “قسد” بمنأى عن تلك المواجهات رغم أنها كانت على خطوط تماس مع مناطق ذات ثقل إيراني في سوريا قبل سقوط النظام البائد مثل التماس بين الطرفين في منطقتي نبل والزهراء شمال حلب، أو في الميادين والبوكمال وريف دير الزور والرقة بشكل عام، بل إن التنسيق بين “قسد” والمليشيات الإيرانية كان يجري بشكل منتظم عند المعابر الرسمية وغير الرسمية الواصلة بين مناطق سيطرة الطرفين[18]، بينما انتهى النفوذ الإيراني في سوريا على يد الفصائل الثورية وليس على يد “قسد” التي لم تَخُضْ مواجهة مباشرة مع إيران في سوريا.
مع ذلك، من غير المستبعَد أن تكون “إسرائيل” قد استفادت من معلومات استخباراتية قدّمتها “قسد” بشأن التحرُّكات الإيرانية في بعض المناطق بسوريا، خصوصاً في مناطق شرقي الفرات التي كان فيها بعض التحركات لخلايا إيرانية[19]، ولكن ذلك يبقى بطبيعة الحال محدوداً نظراً لأن النفوذ الإيراني في دير الزور كان يرتكز بشكل أساسي في غرب الفرات.
محاولات “إسرائيلية” سابقة في دعم انفصال كردستان العراق:
بغضّ النظر عن العلاقات بين “قسد” وإقليم كردستان العراق والخلافات حول الملفات الداخلية والتحالفات الإقليمية بينهما، إلا أن “إسرائيل” أظهرتْ استعدادها لدعم تطلُّعات شريحة من الأكراد الراغبين بالانفصال، سواء في سوريا أو العراق، ولهذا كانت “إسرائيل” من أبرز المؤيّدين لاستفتاء استقلال إقليم كردستان العراق عام 2017[20]، حيث عبّرت عن دعمها الصريح لتأسيس دولة كردية، رغم الرفض الإقليمي والدولي الواسع لهذا المشروع في حينه حتى من قبل الولايات المتحدة أبرز داعمي كردستان العراق، ورغم أن المُضيّ نحو الانفصال قد لا يُمثّل وجهة نظر كل المكوّن الكردي[21].
ويبدو أن الدعم “الإسرائيلي” يستند إلى أهداف استراتيجية تتجاوز المزاعم بحماية الأقليات من التهديدات الإقليمية، فـ”إسرائيل” تبدو راغبة باستغلال المظلومية الكردية[22] لتعميق التحدّيات أمام دول الجوار من خلال خلق كيانات جديدة تُضعف وحدة هذه الدول وتجعلها منشغلة بمشاكل داخلية وحدودية، ما قد يُشجّع قوميات أخرى على أن تحذو حذو الأكراد في اتخاذ خطوات مماثلة، وهو ما يُضعِف وحدة الدول العربية الإسلامية الضعيفة أصلاً، كما قد يُدخِل المكوّن الكردي في دوّامة من الصراعات الداخلية على الحكم والعلاقات المُضطربة مع المحيط العربي والإقليمي، ولعل هذا ما شكّل دافعاً لشرائح من الأكراد برفض فكرة الانفصال والمضي نحو الانصهار بالدول التي يعيشون فيها مع السعي لتحصيل الحقوق التي حُرِموا منها خاصة بسوريا[23].
وبالإضافة إلى ذلك، تلعب المصالح الاقتصادية دوراً في هذا السياق، إذ تُعد مناطق شمال العراق وشمال شرق سوريا غنية بموارد حيوية كالنّفط والغاز، ما يجعلها هدفاً للتعاون مع حلفاء محتملين يخدمون المصالح “الإسرائيلية”، وهو ما كانت له عدة دلائل في الفترة الماضية وسط تقارير عن رغبة “إسرائيلية” بالحصول على النفط من القوى الكردية شمال العراق وشمال شرق سوريا[24]، كما تشير بعض التقارير إلى أن عملية “نبع السلام” التي أطلقتها تركيا شمال شرق سوريا عام 2019 أثرت بشكل مباشر على عمليات الاحتلال “الإسرائيلي” في العراق[25].
في المجمل، تسعى “إسرائيل” إلى توظيف القومية الكردية كأداة لتعزيز نفوذها الإقليمي بغضّ النظر عن التوترات أو الاختلافات بين الأطراف الكردية في سوريا والعراق، فهي تنأى بنفسها عن تلك الخلافات وينصبّ جهدها في دعم أي مساعٍ كردية في الحصول على الانفصال[26]، بينما من المهم الإشارة إلى أن أي تقارب وتنسيق معلن أو غير معلن بين “إسرائيل” والقيادة السياسية في كردستان العراق أو شمال شرق سوريا لا يُمثّل بالضرورة وجهة نظر المكوّن الكردي الذي قد يختلف جزء كبير منه جذرياً مع توجُّهات قياداته السياسية بخصوص العلاقات مع “إسرائيل”.
الخلاصة:
رغم المكاسب المحتملة لأي علاقة بين “قسد” و”إسرائيل” إلا أن هناك تحدّيات كبيرة تواجهها، أبرزها حالة الرفض الشعبي شمال شرقي سوريا، فمن المحتمل أن يؤدي أي تعاون مُعلَن بين الطرفين إلى إثارة غضب السكان المحليين في مناطق سيطرة “قسد” خاصة مع النقمة الشعبية الكبيرة من سياسات “قسد” بشكل عام لاسيما في المناطق ذات الغالبية العربية مثل الرقة ودير الزور.
ومن جانب آخر، فإن “قسد” قد تخشى من إعلان أي علاقة صريحة مع “إسرائيل” أن تُغضِب تركيا ما يدفعها لتصعيد مواقفها العسكرية والسياسية ضد “قسد” بشكل أكبر، وهذا أمر ربما لا ترغب به حتى الولايات المتحدة داعمة “قسد” الرئيسية نظراً لطبيعة العلاقات والمصالح المشتركة بينها وبين تركيا، ولذلك فإنه من غير المستبعد وجود دور أمريكي يُعرقل بروز العلاقة بشكل صريح بين “قسد” و”إسرائيل”.
ويمكن القول إن العلاقة بين “قسد” و”إسرائيل” تظل غير مُحدّدة المعالم، حيث يسعى كل من الطرفين إلى تحقيق مصالح مُحدّدة دون التورُّط في إعلان شراكة صريحة، ومع ذلك يبقى خفوت أو بروز هذه العلاقة مرهوناً بالتطورات الإقليمية والدولية وطبيعة الدور الذي تسعى “إسرائيل” إلى لعبه في المنطقة بعد رحيل النظام البائد.
باحث مساعد في مركز الحوار السوري، يعمل ضمن وحدة تحليل السياسات، كتب وشارك في العديد من الأوراق المتعلقة بتحليل سياسات الفاعلين في سوريا، يحمل إجازة في الأدب العربي من جامعة الفرات السورية، عمل كاتباً وصحفياً ومدققاً لغوياً لعدة سنوات في العديد من المواقع والقنوات الإخبارية.