حدود العلاقة بين دراسات الهجرة وصناعة السياسات
تُعتبر قضايا الهجرة من القضايا الأبرز على أجندة صانعي السياسات سواء على المستوى المحلي أو على المستوى الإقليمي والدولي، خاصة مع الزيادة المرتفعة في أعداد المهاجرين الدوليين التي يُتوقَّع أن تصل إلى 4% من سكان العالم عام 2050[1]، وارتفاع معدلات اللاجئين والنازحين قسرياً بشكل هائل، حيث يدور جدال في الأروقة العلمية والأكاديمية حول حدود العلاقة مع صناعة السياسات، وهل تملك المراكز البحثية والأكاديمية القدرة الحقيقية على التأثير.
وبين من يعتقد أن دور البحث العلمي يقتصر على توليد المعرفة الخالصة والعمل على فهم الظواهر المستجدة المعقّدة، يجادل البعض بضرورة التوجّه والسعي للتأثير على صنّاع القرار، وذلك بهدف نقل نتائج البحث من صفحات الكتب والأوراق إلى ميدان العمل الحقيقي، معتقدين بوجود دور واضح للبحث العلمي في إعادة صياغة وتوجيه السياسات.
وقبل الخوض في استعراض وجهات نظر الطرفين لا بُدّ من تحديد المقصود بصانعي السياسات بشكل دقيق، ويمكن تعريف السياسة من ضمن التعريفات المتعددة والواسعة لها بأنها “مبدأ أو مسار عمل تم اعتماده أو اقتراحه باعتباره مرغوباً أو مفيداً أو ملائماً؛ خاصة لجهة تابعة للحكومة رسمياً، أو جهة سياسية أو …”.[2]، وبهذا يضم صانعو السياسات كل أصحاب القرار في المؤسسات الحكومية والوزارية وفي منظمات المجتمع المدني والمنظمات الإنسانية أو الجهات والمؤسسات والشركات التي يمكن أن يكون لقراراتهم تأثير واضح في حل المشكلات أو تنمية المجتمع.
وسأجادل في هذا المقال أن هناك علاقة متبادلة ومؤثرة بين صانعي السياسات والدراسات الأكاديمية والعلمية المتعلقة بسياسات الهجرة، وأن هذه العلاقة تتشكل بشكل تفاعلي بين الجهتين وباتجاهين، إلا أنه من الضروري أن تكون هذه العلاقة واعية لاختلاف ديناميكيات القوة بين الطرفين، وتحافظ على النمط المطلوب من التوازن والاستقلالية والحيادية وتسعى لإحداث الدرجة المرجوّة من التأثير الإيجابي الذي يساهم في حل المشاكل ويدعم حقوق الفئات الهشة.
دراسات اللاجئين، استجابة لاحتياج صانعي السياسات:
من الصعب تتبُّع العلاقة ما بين بعض مجالات الدراسات الأكاديمية وصناعة السياسة المتخصصة في هذا المجال، وذلك لتنوع التخصُّصات واختلاف قدرتها على التأثير، إلا أنه لابُدَّ أن ننتبه إلى وجود مجالات معينة كان فيها العلاقة بين الطرفين تبادلية تفاعلية بشكل واضح، فعلى سبيل المثال نشأت بعض التخصُّصات استجابة للتعامل مع مشاكل طارئة أو جديدة احتاجها صانعو السياسات، كدراسات الهجرة، دراسات الصراع، ودراسات الإرهاب وغيرها من المجالات المتجددة أو المستجدة، وأُنتجت العديد من الأبحاث والدراسات لإرشاد هذه صانعي السياسات في هذه المواضيع[3].
وقد تطورت هذه الدراسات وتحولت إلى مجال بحثي مستقل ركّز على جوانب أخرى أبعد مما يريده صانعو السياسة[4]، فعلى سبيل المثال أصبحت دراسات الهجرة مظلة تضم خلالها دراسات الأنثروبولوجيا ودراسات تتعلق بالعرق والاقتصاد والسياسة والحقوق وغيرها[5]. كما أنها عالجت ظواهر غامضة ومعقّدة ومتحولة احتاجت إلى تفسير وتحليل، وتتبعت جذور الهجرة والأسباب الجديدة الدافعة لها، بالإضافة إلى تحليل التفاهمات والقرارات المتعلقة بها والتي غالباً ما تكون نتيجة سياسات لدول أخرى[6].
لقد أثرت دراسات الهجرة الطوعية والقسرية في السياسات على المستوى المحلي وعلى المستوى الإقليمي والدولي في بعض الأحيان، وأصبحت التسميات والمصطلحات والتوصيفات التي اعتمدها أكاديميون كمصطلح “اللاجئ” و”المهاجر” و”طالب اللجوء” وغيرها مفاهيم سياسية، تم إقرارها في بعض اللوائح والقوانين الدولية، وتمكنت من إرشاد صنّاع السياسات والجهات المانحة على مستويات دولية وتقديم المعرفة المستنيرة لهم[7].
ولهذا من الصعب أن نتوقع انفصالاً بين الطرفين، خاصة وأن العلاقة فيما بينهم علاقة تبادلية تفاعلية مؤثرة لا يمكن تجاهلها، خاصة في الدول التي تعتمد على آليات وأساليب رصينة في عملية صناعة القرار، وتلك التي تشجع البحث العلمي وتدعمه.
تأثير دراسات الهجرة على السياسات:
لقد ساهمت المعرفة التي تم توليدها في الفترة من 1980 إلى 2005 في تشكيل وتبرير السياسات الغربية تجاه قضايا الهجرة المستجدة[8]، وأدت أزمة الهجرة إلى الاتحاد الأوروبي بين عامي 2013- 2015 إلى زيادة الاهتمام بتوليد المعرفة التي تساعد صنّاع السياسات[9]، فقد كان هناك احتياج كبير لإنتاج معلومات حول واقع الهجرة والتغيُّرات التي طرأت عليها وفهم الدوافع والطرق والآثار إلى جانب تحليل الاستجابات السياسية والمؤسسية للدول المستضيفة[10].
لقد خلقت الأزمات والحاجة إلى حل المشكلات ودراسة تأثير السياسات في تحديد هوية اللاجئين إلى زيادة المعرفة لصالح اللاجئين[11]، كما ساهمت دراسة الهجرة من منظور اجتماعي ومن تتبع التفاعل والتفكير الشعبي تجاهها إلى التأثير في السياسات والممارسات المتعلقة بقضايا اللاجئين[12].
لقد تمكنت الأبحاث العلمية الرصينة في العديد من الحالات من تزويد صانعي السياسات بالمعرفة المستنيرة التي ساعدتهم في تحسين عملية صنع القرار، بالإضافة إلى إضفاء الشرعية عليه، وتعزيز المصداقية لكافة السياسات التي يتبنّونها[13]، كونها بُنيت على حجج منطقية واستندت إلى الأدلة والبراهين التي تؤكد أن اتباع التوصيات الأكاديمية من شأنه أن يحل المشكلة قيد الدراسة.
تحذيرات من انزلاق البحث العلمي في دوامة السياسة:
رغم الحديث المتكرر عن تأثير الباحثين والأكاديميين على صناعة السياسات، وسعي عدد من مراكز الدراسات والجامعات وحتى منظمات المجتمع المدني إلى معالجة بعض المشاكل وتقديم الحلول لها بطرق علمية منهجية، إلا أنه لا يمكن تجاهل إمكانية أن يؤدي هذا الاهتمام المتزايد إلى مزالق ومخاطر تؤثر على عملية توليد المعرفة المستقلة.
لقد حذّر بعض الباحثين بأن تركيز الأبحاث ومحاولتها التأثير بشكل كبير في صناعة القرار من شأنه أن يؤثر على نتائج البحث، وذلك لكونه يُضيّق نطاق التحليل ويجعله محصوراً ومتأثراً بالتصورات والأفكار والافتراضات العامة التي يتبنّاها الساسة[14]، كما أن هذا التوجُّه قد يُفقد البحث استقلاليته ومنهجيته فيتأثر بتوجُّهات وسياسات الجهات المانحة أو الجهات الحكومية الراعية بقصد أو بدون قصد[15]، وبالتالي يمكن أن يركز على الجوانب من الإشكاليات التي يرغب صانع القرار بتسليط الضوء عليها ويتجاهل أو يهمل إشكاليات أو فئات أخرى متضررة غير مرئية[16].
وفي بعض الأحيان، يمكن أن تؤثر سياسات بعض الجهات الحكومية أو المانحة في بعض التسميات والتوصيفات التي يودون العمل بها، كالدراسات المهتمة بالعودة الطوعية، أو التعافي المبكر، أو الهجرة غير الشرعية وغيرها، وبالتالي قد يصبح البحث مُقيّداً بتسميات وافتراضات ذات منشأ سياسي، تؤثر أو تُقيّد أسئلة البحث والعينة المختارة وتتحكم ببعض المنهجيات والتحليلات المعتمدة، فيخرج البحث بنتائج ضيقة ومحدودة ويضع سياسات غير مناسبة لعلاج المشكلة وإن كانت تتوافق مع سياسة المانح أو الجهة صاحبة التكليف[17].
وإلى جانب ذلك، يمكن للأبحاث الموجَّهة لصانعي السياسات أن تُخفّض سقف تحليلاتها الناقدة، وقد تستجيب – بشكل ما – وتتجاوب مع بعض التسميات المستحدثة أو تضفي الشرعية لبعض السياسات والانتهاكات التي تقوم بها الحكومات، كعمليات الصد عبر الحدود، واستبعاد بعض الشرائح وحرمانها من حقوقها تحت مسميات جديدة مثل لاجئي التنمية والمناخ واللاجئين المُزيّفين، بما يزيد من تهميش بعض الشرائح واستبعادها[18].
وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن عملية التأثير في صناعة القرار والسياسيين ليست بالأمر السهل ولا اليسير، وهي عملية معقّدة لها العديد من التشعّبات والمؤثرات، يصعب فيها تتبُّع العامل الحاسم في صناعة القرار، وفي الكثير من الأحيان تتعارض الزاوية التي ينظر السياسي فيها للمشكلة بشكل سلبي، مع الزاوية التي ينظر الباحث لها من وجهة أخرى ويلاحظ فيها جانباً إيجابياً[19]، وبالتالي لا يرغب السياسي في الاستماع للرأي الآخر لأنه يريد المُضيّ في تنفيذ سياساته بالشكل الذي يراه مناسباً.
وفي غالبية الأحيان، يرتبط تغيير العلاقة بين صانع السياسة والباحثين بعاملين، إما أحداث خارجية جديدة كالأزمات الطارئة التي تستدعي فهم الظروف الجديدة التي أدت إليها، أو تغير في العلاقات بين الأكاديميين وصنّاع السياسات وحدوث حالة من التفاعل وتبادل الأفكار ووجهات النظر بشكل منفتح وشفاف، ولكن الوصول إلى هذه الدرجة من العلاقة المؤثرة يحتاج إلى تفاعلات متكررة ومنتظمة على مدى طويل، كما أنه يتأثر أيضاً باختلاف ديناميكيات السلطة بين الطرفين[20].
وفي الكثير من الأحيان، لا يرغب صنّاع السياسات في إنتاج معرفة نقدية[21]، بل غالباً ما يتواصلون مع الأطراف ذات التفكير المماثل التي يمكن أن تنتج الأبحاث والتقارير التي توافق رؤيتهم وسياساتهم المعتمدة[22]، فهم يبحثون عمن يدعم حججهم ويعزز مصداقيتهم لا من ينقدهم[23].
كما أن إنتاج الأبحاث لبعض الجهات المؤثرة في صناعة القرار كالسياسيين وأعضاء الحكومات والمنظمات الدولية وغيرها، لا يعني قدرة الباحث على التحكم في الآلية التي سيتم فيها تفسير النتائج واستخدامها، فقد يتم تعميم بعض النتائج وتفسيراتها من قبل صنّاع السياسات بما يتجاوز سيطرة الباحث ونتائج بحثه[24].
وإلى جانب ما سبق، تشير التجارب إلى أن محاولة التأثير في السياسات من قبل بعض الأطراف يمكن أن تؤدي إلى نتائج عكسية، فعلى سبيل المثال تأثرت الوكالات الإنسانية العاملة في سياق الهجرة واللاجئين بالمجال السياسي الذي عملت به وتبنّت عملها من زاوية ليبرالية، تتقارب مع وجهة نظر الدول الممولة لها، مما جعلها أقرب إلى مصلحة الدول منها إلى مصالح اللاجئين[25].
كما تأثرت بعض الأبحاث خلال محاولتها التأثير في صناعة السياسات، فقدمت توضيحات وتبريرات لبعض السياسات الحالية وفقاً لوجهات النظر التي تتبنّاها تلك الدول بدلاً من تقديم مقترحات لتغيير الواقع وتحسينه، الأمر الذي حدّ من اكتشاف أنواع جديدة من المعرفة، كما أنه ورّط بعض الأبحاث في الانخراط في عملية سياسية شرعت بعض الانتهاكات والسياسات التعسُّفية، وجعلت الباحثين شركاء في إحداث الضرر[26].
شكل العلاقة المطلوبة بين دراسات الهجرة وصانعي السياسات:
لا يمكن للباحث عند مواجهة أي مشكلة أن يتجاهل مسؤوليته في إحداث تغيير في واقع الشريحة التي يدرسها، والتي قدمت له المعلومات وشاركت معه جوانب من حياتها وكشفت عن مكامن ضعفها وهشاشتها، وبالتالي فهناك ضرورة مُلحّة لوصول مخرجات البحث إلى صنّاع السياسات بشكل فعّال.
ولكن وفي نفس الوقت، فإن الاهتمام المفرط بالتأثير على صنع السياسات يمكن أن يؤثر سلباً على مصداقية ومنهجية البحث ويؤدي إلى نتائج عكس المتوقّع، خاصة أن التأثير على السياسات يُشكّل تحدّياً كبيراً ونتائجه غير مضمونة، وهو ما يطرح إشكالية حول شكل العلاقة المطلوبة بين الأبحاث العلمية وصانعي السياسات لتحقيق تأثير إيجابي متبادل.
لقد انشغل العديد من العلماء والأكاديميين في دراسة هذه المعضلة وحاولوا أن يقدموا تصورات علمية تضبط شكل العلاقة بين الطرفين بما يحقق حلاً للمشاكل وتخفيفاً للمعاناة، ودعم صانعي السياسات ومساعدتهم في اتخاذ قرار رشيد، وقد وصلت بعض الدراسات إلى ضرورة أن تكون مهمة البحث العلمي إجراء تحليل نقدي للسياسات من وجهة نظر الشرائح الضعيفة للحد من التحيُّزات والأجندات السياسية[27].
فيما رأى أخرون أنه من الضروري انتقاد وتحدّي افتراضات السياسيين المبسّطة حول دوافع بعض المشاكل والتسميات المسيسة المنوطة بها[28]، إلى جانب ضرورة تحدّي هياكل السلطة وانتهاكاتها وإظهار آثار تلك السياسات على المستوى القريب والمتوسط والبعيد[29].
وتبرز هنا أهمية البحث الأكاديمي في قدرته على تسليط الضوء على الأسئلة الصعبة، ووضع التوصيات، والنظر في خطورة إضفاء الشرعية على افتراضات بعض الدول[30]، إلى جانب إخضاع اللغة السياسية للنقد، وإزالة الإنشاءات المبتذلة، وعدم تسييس التصنيفات، وتحدي الأفكار والحقائق المقبولة، والكشف عن السياسات التي تحاول الدول إخفاءها بدلاً من إظهارها[31].
الخاتمة:
لا يبدو للبحث العلمي دوراً واضحاً في صناعة السياسات في عالمنا العربي، إلا أن ذلك لا يجب أن يكون مثبطاً أو رادعاً للمراكز البحثية والأكاديمية أن تتقاعس عن أداء الدور المنوط بها، بل يجب أن يرتبط البحث العلمي بالواقع ارتباطاً وثيقاً، وأن توضع الدراسات العلمية في مكانة راسخة تسمح لها بتقييم السياسات المحلية والإقليمية والدولية من منظور إنساني وتعمل على تطويرها، وإعادتها إلى المسار بما يخدم مصالح الشرائح الهشة، لا سيما مع وجود تحوّل يُركّز على مصلحة الدولة وصنع السياسات بشكل ضيّق بدلاً من التركيز على حل المشاكل[32].
إن هناك حاجة مُلحّة لتقليص الفجوة بين السياسات المطبّقة وبين احتياجات الشرائح المتضررة لاسيما في سياق دراسات الهجرة والمهاجرين[33]، وهو أحد واجبات الباحثين، إلا أن القيام بهذا الواجب على النحو المطلوب يتطلّب من العاملين في هذا المجال الوعي والحذر من الانزلاق في دوامة السياسات والاهتمام بضرورة أن تظل الأبحاث العلمية إنسانية ومتعددة العدسات ونقديّة، تُركّز في جانب منها على دراسة السياسات ونقدها وإبراز آثارها وثغراتها بهدف إعادة توجيهها وتزويد صانع القرار بالحلول والمعلومات التي تساعده على اتخاذ القرارات السليمة، وتُركّز في بقية الجوانب على توليد المعرفة السليمة التي تسمح بفهم أعمق للظواهر والمشكلات وآثارها على المستوى الاستراتيجي والبعيد.
مديرة الوحدة المجتعية في مركز الحوار السوري، بكالوريوس في الهندسة من جامعة دمشق، دبلوم في التخطيط العمراني وإعادة الإعمار المستدام، عملت في مجال الإعلام المكتوب والمسموع لعدة سنوات، نشرت العديد من الأوراق والتقارير البحثية في مواضيع سياسية واجتماعية، وخاصة ما يتعلق بأوضاع اللاجئين وقضايا المرأة