الإصداراتالتقارير الموضوعيةوحدة الهوية المشتركة والتوافق

حشود نظام الأسد العسكرية في السويداء: قراءة الأهداف واستشراف السيناريوهات

تقرير صادر عن وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري

مقدمة:

تعيش محافظة السويداء في جنوب سوريا منذ أكثر من أسبوع حالة من الترقب والقلق عقب إرسال نظام الأسد وميليشياته تعزيزات عسكرية ضخمة ضمت قوات من “الحرس الجمهوري” و”الفرقة 15″، ومجموعات تتبع لـ “لواء القدس” و”فاطميون”، وقد وصل عدد الآليات إلى نحو 100 آلية مكوّنة من دبابات وعربات نقل جنود وسيارات مزودة برشاشات متوسطة وثقيلة وحافلات تحمل ضباطاً وصف ضباط وعناصر[1]، توزعوا على الأطراف الشمالية والغربية للمحافظة ضمن مطاري خلخلة والثعلة، وفوج 44[2]، بالإضافة لتموضع جزء منها في الفوج 127 قوات خاصة بين قريتي رساس والعفينة والفوج 404 شرق القريات، والفوج 405 شرق المجدل، والفوج 157 بين قريتي الصورة ولاهثة وضمن الأفرع الأمنية ومقار عصابات المخدرات والخطف المنتشرة في المحافظة[3]،  فيما نُقل جزء من هذه القوات إلى داخل حدود المدينة.

جاءت التعزيزات الأخيرة بعد سلسلة أحداث، منها: قضية اعتقال نظام الأسد الطالب الجامعي “داني عبيد”، ورد الفصائل المحلية باحتجاز ضباط من قوات نظام الأسد، وسبقها أيضاً منع وفد نظام الأسد الدخول إلى المدينة للمشاركة في احتفاليات “عيد الجلاء” وحينها دعا الوفد إلى اتخاذ إجراءات من شأنها زيادة القبضة الأمنية وتقليص قدرات الفصائل وتقييد الحراك الشعبي الذي دخل شهره التاسع[4].

ومما كان لافتاً مواظبة أبناء السويداء على النزول إلى الساحات والاحتجاج بشكل سلمي على الرغم من الحشود العسكرية والأمنية، وقد شهد يوم الجمعة 3/5/2024 -أي بعد أيام من وصول التعزيزات-، تجمُّع المئات من المحتجين في ساحة الكرامة ووصول العديد من الحافلات التي تحمل محتجين قادمين من ريف المحافظة أو من مناطق البدو، فيما يبدو أنها محاولة للتأكيد على سلمية الحراك وحالة التماسك الشعبي بين مكونات المحافظة، بالمقابل استنفرت معظم المرجعيات بما في ذلك المرجعيات الدينية والوجهاء والفصائل المحلية والقوى المجتمعية، لصياغة خياراتها في التعامل مع هذا التصعيد.

 وعلى الرغم من أن نظام الأسد سبق وعزز وجوده الأمني في المحافظة، ولم يألُ جهداً في دعم ميليشياته وكان له دور بارز في هندسة الوجود الإيراني في السويداء، إلا أن إرساله قوات عسكرية وأمنية بهذا الحجم يطرح تساؤلات عن أهدافه من وراء ذلك، وطبيعة مواقف الفواعل الداخلية والخارجية منها، واستشراف السيناريوهات التي يمكن أن تؤول إليها هذه التعزيزات.

وبناءً على ذلك، سيستعرض التقرير مواقف القوى السياسية والعسكرية والمدنية في السويداء من التصعيد الأخير والخيارات المتاحة أمامها، وموقف أهل السويداء في المنطقة، كما سيتطرق إلى مواقف الدول الداعمة للحراك، بالإضافة إلى استعراض مواقف حلفاء نظام الأسد مما يجري السويداء، سواء في سياق الحراك الشعبي أو تفاعل المرجعيات ونشاط الفصائل المحلية هناك، واستشراف السيناريوهات التي يمكن أن تؤول إليها حشود نظام الأسد العسكرية.

الحفاظ على السلمية وإبقاء الباب مفتوحاً لخيارات المواجهة:

في ضوء التطورات الأخيرة التي شهدتها المحافظة أصدر حكمت سلمان الهجري، أحد أبرز الوجهاء الدينيين في المحافظة والذي بات في الآونة الأخيرة بمثابة القائد الروحي للحراك، بياناً يُحذّر فيه من مغبّة التصعيد أو المضي بأي خيار من شأنه إدخال المنطقة في صراع عسكري، مؤكداً سلمية حراك أبناء السويداء واستمراره حتى تحقيق مطالبه، إلا أنه في الوقت نفسه، ألمح إلى أن أبناء المحافظة مستعدون للتعامل مع كل السيناريوهات المحتملة، في إشارة إلى إمكانية الدفاع عن أنفسهم في حال استُخدمت في حقهم القوة[5].

وعلى الرغم من أن كلمات الهجري الأخيرة لم تحمل الكثير في مضمونها إلا أن المواقف والبيانات التي تلتها من قبل الفصائل والقوى المحلية والسياسية والمجتمعية تُفسّر ما أُريد إيصاله للحاضنة والرأي العام، حيث أكدت “حركة رجال الكرامة” دعمها لما جاء في بيان الهجري تجاه التعزيزات العسكرية مع التأكيد على رفض أي تصعيد محتمل[6]، فيما أصدرت “مضافة الكرامة” وهي إحدى المرجعيّات العسكرية والمدنية في المحافظة ويترأسها أبناء “وحيد البلعوس” بياناً تُحذّر فيه نظام الأسد والميليشيات الإيرانية من تنفيذ أي هجمات بحق “أبناء الجبل” مع إعلان استعدادهم لرد أي اعتداء محتمل[7].

من جانبه، أكد “تجمع أحرار جبل العرب” وهو الفصيل الذي احتجز الضباط للإفراج عن الطالب المحتجز لدى قوات نظام الأسد تمسُّكه بسلمية الحراك، فيما أعلن قائده “سليمان عبد الباقي” عدم وجود نية لعسكرة الحراك مع استعدادهم الانخراط بالحرب حال فُرِضت عليهم، معتبراً أن “معركة الطائفة اليوم هي معركة وجود” وأي خيار لضربها سيُهدّد المنطقة بأكملها[8].

كذلك صدر بيان عن دار الزعامة التاريخية لآل هنيدي في المحافظة يؤيد فيه بيان الهجري ويتهم نظام الأسد بجر المدينة إلى المناطق “الخطأ” مع التأكيد على أن أبناء المحافظة هم “أهل نضال” ومن الصعب كسر “شوكتهم”[9]، وأيضاً صدر بيان عن “تجمع عشائر الجنوب” وهم من البدو يؤكدون موقفهم الداعم لأبناء المحافظة ورفضهم لأي خطوات تصعيدية، معلنين وقوفهم تحت راية “الشرفاء وشيوخ العقل”[10]،  وإلى جانب البيانات التي صدرت شهدت المحافظة خلال الأيام الماضية سلسلة من الاجتماعات ضمت في معظمها شيوخ العقل “حكمت الهجري وحمود الحناوي ويوسف جربوع” مع وجهاء من المحافظة كـ لؤي الأطرش “أمير دار عرى” وشخصيات من آل النعيم وغيرهم، وذلك لبحث ومداولة الخيارات المتوفرة لدى أبناء المحافظة.

وينطبق هذا الموقف أيضاً على القوى السياسية والحاضنة الشعبية، حيث أكد نشطاء من داخل الحراك رفضهم بشكل قطعي دفع المحافظة نحو الانخراط في صراع عسكري مع نظام الأسد والميليشيات التي تدعمه، إلا أنهم أكدوا أن أي اعتداء على أبناء الجبل أو محاولات اجتياح وتوغّل ستُواجه بالمثل، أما “حزب اللواء السوري” أحد أبرز الواجهات السياسية والمدنية في المحافظة فقد أكد ضرورة عدم الانجرار وراء العنف والتصعيد مع الاحتفاظ بحق الدفاع عن الأرض وحماية المدنيين من أي اعتداء دون الانزلاق بحرب داخلية، معتبراً أن الخيار الأفضل هو الحفاظ على سلمية الحراك.

وبحسب مضامين البيانات التي صدرت يظهر  أن هناك توافقاً بين المرجعيات الدينية ووجهاء المحافظة والقوى السياسية والحاضنة الشعبية والكتل العشائرية على “الحفاظ على حالة الاستقرار النسبي” و”الدفع نحو التمسُّك بسلمية الحراك” ومنع حدوث أي انقسام داخل السويداء، والاستعداد في الوقت نفسه لمواجهة أي “اعتداءات محتملة”، وبصورة أشمل يمكن فهم ما جاء في مواقف هذه القوى على أن المجتمع المحلي في السويداء جادٌّ بعدم الرضوخ أو التراجع خطوة إلى الخلف، سواء فيما يتعلق بمطالبه في الساحات، أو تجاه دعم التحركات التي تقوم بها الفصائل المحلية وهدفها في الضغط المستمر على نظام الأسد وأفرعه الأمنية لمنع التفرُّد بأبناء السويداء وفق “المعادلة الأمنية” القائمة على خطف ضباط وعناصر نظام الأسد في حال اعتقاله مدنيين من السويداء.

قلق غربي وصمت روسي يزيدان الغموض في السويداء:

زاد الاهتمام الأمريكي والأوروبي بمحافظة السويداء بعد انطلاق الحراك الشعبي، ولعل ذلك مرتبط بجملة أسباب وعوامل منها: اتساق أهداف الحراك مع الرؤية الأمميّة للحل في سوريا فيما يتعلق بتطبيق القرار 2254، ومع الرؤية الأمريكية من زاوية تحجيم الوجود الإيراني في سوريا، ورغم أن الموقف الأمريكي والأوروبي الداعم للحراك لم يتجاوز حدوده المعنويّة والرمزيّة إلا أنه حمل طابعاً سياسياً عقب التواصل الأمريكي مع الزعيم الروحي للدروز حكمت الهجري، وإعلان العديد من النواب الأوروبيين تضامنهم مع الحراك في السويداء واعتبار أن الوقت قد حان لتنفيذ القرار 2254[11].

مؤخراً، ومع حشد نظام الأسد قواته على أطراف محافظة السويداء، أدانت الولايات المتحدة الأميركية أي استخدام للقوة المفرطة ضد المتظاهرين السلميين في السويداء مجددة دعمها للسوريين في ممارسة حقهم بالتجمع السلمي وحرية التعبير، وحذر الاتحاد الأوروبي من التصعيد في محافظة السويداء، داعياً نظام الأسد إلى التعلُّم من الماضي وعدم استخدام القوة ضد المتظاهرين[12].

رغم أن التصريحات الأخيرة توضّح موقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إلا أنها لا تمتلك تأثيراً كبيراً نظراً لأنها لم تصدر رسمياً، بل جاءت خلال تصريحات عبر قناة تلفزيونية محلية، والسبب الثاني في قلة التأثير هو عدم احتوائها على أي تصعيد ملموس قد يدفع بنظام الأسد والميليشيات الإيرانية لإعادة النظر في إستراتيجياتها في حال تنفيذ أي هجمات، سواء كانت محدودة أو واسعة النطاق، وبالتالي يمكن القول إن الحراك في السويداء حتى الآن لا يستند على موقف غربي- أمريكي صلب؛ سواء سياسي أو عسكري يمكن البناء عليه في مواجهة أي تصعيد محتمل، خاصة أن السياسة العسكرية الأمريكية في سوريا أصبحت في عهد بايدن تقوم على معادلة “الدفاع وليس الهجوم”، مصحوبة بذاكرة سلبية لدى السوريين عن التراخي الأمريكي منذ خطوط أوباما الحمراء[13].

بالنسبة لروسيا والتي تصدّر نفسها كضامنة للمنطقة الجنوبية فلم يصدر عنها حتى الآن أي تعليق  أو تصريح على خلاف الأحداث السابقة، فعلى سبيل المثال كانت ترسل وفوداً عسكرية إلى السويداء عقب التوترات الأمنية[14]، أو تبعث دبلوماسيّيها للقاء زعماء من الطائفة الدرزية  كاللقاء الذي جمع السفير الروسي “أناتولي فيكتوروف” مع “موفق طريف” الرئيس الروحي للطائفة الدرزية في “إسرائيل” في أيلول من عام 2023 لبحث التطورات في السويداء[15]، ورغم ذلك فإنه من خلال تتبُّع سلوك الروس في المنطقة الجنوبية فإنه من غير المستبعد أن تحاول موسكو تهدئة الأوضاع والعمل على إيجاد حلول لتفادي التصعيد العسكري وإبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه حتى وإن اُضطرت للضغط على نظام الأسد.

كيف سيتعامل نظام الأسد وميليشياته مع حراك السويداء؟

منذ بدء الحراك في السويداء قبل تسعة أشهر كان واضحاً أن نظام الأسد لن يتجه نحو التصعيد أو استخدام الخيار العسكري “الفج” وسيعمل على استثمار الحراك خارجياً للتأكيد على “التزامه بحماية الأقليات” كما فعل في الاحتجاجات السابقة عامي 2020 و2022، مقابل ذلك سيسعى لاحتواء الحراك والحد من اتساعه جغرافياً، مع اتباع سلسلة إجراءات  كتشويه سمعة الحراك من خلال وسائل إعلامه وإظهاره كمُعطّل للحياة في المحافظة، والدفع نحو انقسام الشارع، إلا أن ذلك لم يؤثر بشكل مباشر على الحراك وداعميه، حيث حافظ المحتجون على سلمية الحراك وسقف المطالب المرتفع، وربما من الأمور التي حفّزت الحراك أكثر ودفعت المحتجين للتمسُّك بمطالبهم الانتهاكات التي ارتكبتها قوات أمن نظام الأسد من استهداف مباشر للمحتجين أو اعتقال بعض أبناء السويداء، وهو ما ردت عليه الفصائل المحلية باحتجاز ضباط وعناصر لنظام الأسد.

ورغم أن قضية الطالب “عبيد” وما تبعها من تداعيات ليس بالأمر الجديد على المحافظة التي تكررت فيها حالات خطف وتوقيف ضباط وعناصر لنظام الأسد مقابل الإفراج عن محتجزين لديه، إلا أنه من الواضح أن الحادثة الأخيرة أحرجت نظام الأسد أمام حاضنته، لذا حاول توظيفها لإيهام الناس بأن الهدف من التعزيزات إعادة “فرض هيبة الدولة وضبط الاستقرار”[16]، خاصة بعد سلسلة الإهانات والانكسار النسبي لشوكة “حزب البعث” والأفرع الأمنية في المحافظة، وانتشار بعض المشاهد المتكررة التي تُذكّر ببداية الثورة السورية 2011، عندما حُطّمت التماثيل ومُزّقت اللوحات التي تحمل صور حافظ وبشار الأسد[17].

واستناداً إلى هذا السياق فإن التحركات الأخيرة لنظام الأسد والميليشيات الإيرانية يمكن قراءتها من ثلاثة سيناريوهات:

السيناريو الأول: عزل السويداء ودعم الوجود العسكري والأمني لنظام الأسد

سيناريو عزل السويداء وتقطيع أوصالها عسكرياً وأمنياً من بين الطروحات الأكثر قابلية للتنفيذ، والمقصود هنا ليس فرض حصار عسكري شبيه بما جرى في باقي المحافظات مثل: حمص أو حلب أو الغوطة الشرقية، إنما انتشار أمني وعسكري لنظام الأسد يُمكّنه من إعاقة وعرقلة حرية الحركة لأبناء السويداء، وبما أن محافظة السويداء إلى اليوم لم تدخل في “صراع مسلح” معه فإن هامش التحرُّك والانتشار العسكري والأمني ممكن، ومن العوامل المساعدة لتحقيق هذا السيناريو أن نظام الأسد يُدرك جيداً أن أبناء السويداء والفصائل المحلية لن تُقدم على أي خطوة من شأنها عسكرة الحراك على اعتبار أن سياستهم قائمة على “الدفاع وليس الهجوم” حسب ما جاء في بياناتهم وتصريحات مرجعياتهم، وبالتالي حتى وإن أثارت هذه التعزيزات حفيظة حراك السويداء وفعالياته، إلا أنها وفق المعطيات الحالية لا تُشكّل خطرا مباشراً عليهم طالما لم تُوجَّه ضدهم.

بناء على ذلك، يعد هذا السيناريو الأقل تكلفة على نظام الأسد داخلياً؛ فلا ينخرط بحرب مفتوحة مع أبناء السويداء ومن خلفهم “دروز المنطقة”، ويحافظ على الصورة الذهنية التي سعى خلال السنوات الماضية لتصديرها للعالم على أنه “حامي الأقليات”، وبالتالي فإن تحركاته في المنطقة ستكون محدودة  وهدفها تأمين المواقع الإستراتيجية، وتعزيز السيطرة الأمنية على القرى والبلدات، وضمان انتشار عسكري على الطرقات الرئيسية والفرعية وتقييد حركة الفصائل المحلية دون الاحتكاك بها عسكرياً، وزيادة الدعم وتقوية العصابات والمجموعات الموالية له، ويُضاف إلى ذلك فإن عملية الانتشار تساعد نظام الأسد في تقويض عمل “المجتمع المدني الناشئ” الذي استطاع خلال الأشهر الأخيرة تحقيق قفزات في مجال العمل المدني كتشكيل “التجمع المهني”[18]، والانخراط في مبادرة وطنية عُرفت باسم “وثيقة المناطق الثلاث”، وهو ما يعني أن الحراك بدأ يخرج عن النطاق الجغرافي المحدَّد له[19].

السيناريو الثاني: ضرب الفصائل وإنهاء الحراك

يعتمد هذا السيناريو على قرار نظام الأسد بخوض عملية عسكرية في ظاهرها ضرب الفصائل المحلية الخارجة عن “سيطرة الدولة” وفي مضمونها ضرب الحراك في المحافظة بشقيه المدني والعسكري، إلا أن تنفيذ هذا السيناريو متوقف على من سيُطلق الرصاصة الأولى، وبما أن الفصائل أكدت التزامها بسلمية الحراك وهي تدرك أن انخراطها بمواجهات مع نظام الأسد سيُكبّدها خسائر كبيرة بسبب اختلال ميزان القوى لصالحه، وبالتالي فإن  تنفيذ هذا السيناريو متوقف على قرار يجب أن يتخذه نظام الأسد دون معزل عن روسيا الضامنة للمنطقة الجنوبية من سوريا والتي قد تعطي نظام الأسد ضوءاً أخضر محدوداً بحيث يُمكّنه من الضغط والسيطرة دون إشعال حرب مفتوحة كما تفعل مع أي منطقة متمردة في درعا والجنوب السوري.

أما بالنسبة لـ “إسرائيل” والولايات المتحدة وما يدور من حديث عن غض بصر “إسرائيلي” أمريكي عن تعزيزات نظام الأسد ومنحه ضوءاً أخضر لإقفال ملف السويداء كمكافأة لضبطه جبهة الجولان خلال حرب غزة، فإن ذلك يصطدم بالواقع على الأرض الذي يُشير إلى وجود ميليشيات إيرانية ضمن التعزيزات، وهو ما ترفضه “إسرائيل” أصلاً، إضافة لاستمرار الضربات “الإسرائيلية” في الجنوب وعلى مقربة من السويداء، حيث تعرَّض موقع عسكري لنظام الأسد مساء يوم الثاني من أيار  للاستهداف من قبل “الإسرائيليين” على طريق دمشق والسويداء، والذي يُضاف إلى سلسلة حوادث من القصف “الإسرائيلي” في المنطقة[20].

تُعزّز هذه الرؤية عدم رغبة “إسرائيل” وواشنطن بالدخول في منعطف ضيّق يحرجها أمام الرأي العام من حيث حماية “الأقليّات”[21]، إلى جانب حرج قد تعيشه “إسرائيل” داخلياً، حيث بدأت أصوات المكون الدرزي داخلها بالتحرك لدعم دروز السويداء[22].

وبموجب ذلك، فإن إقدام نظام الأسد على تنفيذ مثل هذا السيناريو -أي الهجوم العسكري الشامل والصدام مع الفصائل المحلية- قد يكون مستبعداً في الوقت الراهن وسيبقى مُجمَّداً لحين توفر الظروف الدولية الإقليمية الملائمة لشن عملية يعيد من خلالها نظام الأسد فرض سطوته، خاصة أنه في الوقت الحالي لا يُشكّل الحراك تهديداً وجودياً له، وإلى حين ذلك قد يكتفي بعمليات محدودة كما أشرنا في السيناريو الأول.

السيناريو الثالث: تعزيز النفوذ الإيراني جنوب سوريا والاستفادة من الهوامش

تشير المعلومات الواردة من السويداء بأن جزءاً من الحشود العسكرية التي وصلت إلى المنطقة تضم ميليشيات إيرانية، ورغم أن إيران تتمتع بنفوذ لا بأس به في السويداء وتتمركز ضمن 15 نقطة منها الفوج 404[23]، إلا أن دورها شهد تراجعاً بشكل ملحوظ وخاصة بعد اندلاع الحراك الشعبي في السويداء وتولّي الفصائل المحلية عملية ضبط الإيقاع الأمني في المنطقة والتضييق على مُهرّبي المخدرات.

وبالنظر إلى جغرافية محافظة السويداء وحدودها الجنوبية مع الأردن والخصوصية التي تتمتع بها كون أن غالبية سكانها من الطائفة الدرزية وتربطهم علاقات متينة مع جميع دروز المنطقة في “إسرائيل” ولبنان والجولان المحتل فإن خيار التمركز فيها بالنسبة لإيران قد يكون خياراً تكتيكياً وإستراتيجياً في نفس الوقت لسببين:

  • الأول: قد يساعد في تقليل الضربات “الإسرائيلية” التي تتعرض لها إيران نظراً لبعدها عن خطوط التماس مع الجولان، وبالتالي أي محاولة للتصعيد سيدفع بالمحافظة إلى منطقة التوتر، وقد يسقط حينها ضحايا مدنيون، وهو ما سيُحرج ربما “إسرائيل” أمام اللوبي الدرزي لديها، فضلاً عن أن أي تصعيد قد يؤدي إلى إضعاف الحراك الشعبي وهو ما يريده نظام الأسد، وعليه يكون حقّق مبتغاه في كبح الحراك دون الانخراط في ذلك مباشرة.
  • الثاني: يدعم جهود الميليشيات الإيرانية في الحفاظ على السويداء كمركز لتهريب المخدرات إلى الأردن وإعادة ترتيب شبكات التهريب التي تعرضت في الآونة الأخيرة لهجمات من قبل الفصائل المحلية[24]، إضافة إلى ذلك يخدم التمركز في السويداء خطة إيران في تقويض استقرار الأردن وإثارة الفوضى، خاصةً مع مساعي الحكومة الأردنية للحد من نشاطات إيران الدينية ورفض إقامة مراكز حج شيعية في الجنوب[25].

خاتمة:

من الواضح أن الحراك في السويداء بعد مُضيّ تسعة أشهر على انطلاقه، أصبح يُشكّل خطراً على نظام الأسد -لا تهديداً على وجوده-، وذلك بسبب حفاظه على الحالة السلمية وسعيه لبلورة مشروع داخل السويداء قائم على قيم ومبادئ تحظى بتأييد شريحة واسعة من السوريين منذ انطلاق ثورتهم عام 2011.

ويدرك نظام الأسد أن علاقته بمنطقة السويداء “علاقة تكتيكيّة” لا أكثر تقوم على تحييدها واستغلال خصوصيتها وإبعادها عن دائرة التأثير الفعلي، وهذا ما فقده في الحراك الأخير، ورغم أن الخيار العسكري كان حاضراً لديه لإعادة السويداء إلى سيطرته إلا أن القدرة على تطبيقه كما حصل في مناطق سورية أخرى مستبعد بسبب تداخل ملف السويداء بملفات إقليمية والخصوصية التي تتمتع بها، كما يرتبط ذلك بحسابات أخرى تتعلّق بحلفاء نظام الأسد نفسهم كروسيا الضامنة للجنوب كما تُقدِّم نفسها.

 ورغم سعي نظام الأسد خلال الفترة الماضية لربط محرّكات الاحتجاج بعوامل خارجية؛ تارة باتهام الحراك بالتبعية للمشروع الأمريكي، وتارة أخرى بوصفه أنه أحد أدوات “إسرائيل” في المنطقة، إلا أن الخطاب الصادر عن قادة الحركات وعن مرجعيات السويداء كان يخالف ذلك ويسقط رواية نظام الأسد.

ومع عدم نجاح نظام الأسد في تفتيت وحدة مجتمع السويداء وإبعاده عن مرجعياته وفشله في استخدام الوقت والمماطلة كأدوات لكبح ديناميكية الحراك ومع تصاعد قوة الفصائل المحليّة، يبدو أن السيناريو الأكثر قابلية للتنفيذ هو سيناريو عزل المحافظة وتقطيع أوصالها مع فرض إجراءات أمنية واسعة تمنح نظام الأسد هامشاً أكبر للتحرُّك والتدخُّل في المجتمع المحلي من خلال أساليب الضغط حال عودة حواجزه وقواته إلى المحافظة، وقد يستخدم ورقة “داعش ” كمبرر لأي حملة عسكرية أو أمنية في المنطقة كما استخدمها سابقا في عام 2018[26]، وفي درجة ثانية تطبيق السيناريو الثاني المتعلق بتعزيز النفوذ الإيراني، وهنا قد يدمج نظام الأسد هذين السيناريوهين؛ فيعمل على عزل المحافظة وتقطيع أوصالها، ويعزز النفوذ الإيراني من خلال الميليشيات في الوقت ذاته. أما فيما يتعلق بسيناريو ضرب الفصائل وإنهاء الحراك فإنه كما أشرنا مستبعد في الوقت الراهن وسيبقى مُجمّداً لحين توفر الظروف الدولية الإقليمية.


[3] مرهف الشاعر، أين توزعت التعزيزات العسكرية الحكومية على مدار الأيام السابقة في السويداء؟، موقع نورث برس، 29/4/2024، شوهد في: 3/5/2024.
[4] ليث أبي نادر، تواصل احتجاجات السويداء.. والنظام السوري يرسل تعزيزات عسكرية، العربي الجديد، 26/4/2024، شوهد في: 3/5/2024.
[5] تضمن البيان الذي أصدره شيخ الطائفة الدرزية حكمت الهجري قوله: “رجالنا وحرائرنا.. وطنيون مسالمون، وعند اللزوم هم أهل للدفاع عن الوطن”، حكمت الهجري يحذر النظام من التصعيد في السويداء، موقع القبة الوطنية السورية، 30/4/2024، شوهد في: 3/5/2023.
[6] مع مخاوف من التصعيد العسكري.. ترقّب حذر واجتماعات في السويداء، تلفزيون سوريا، 1/5/2024، شوهد في: 3/5/2023.
[8] مقابلة أجراها تلفزيون سوريا مع قائد تجمع أحرار جبل العرب ضمن برنامج “ما تبقى”، مرجع سابق.
[9] بيان صادر عنعاطف هنيديكبير آل هنيدي في السويداء، صفحة الراصد على فيس بوك، 1/5/2024، شوهد في: 3/5/2024.
[11] اتصال بين نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي إيثان غولدريتش وحكمت الهجري، صفحة السويداء 24، 27/9/2023، شوهد في: 3/5/2024، وحراك السويداء يدخل أسبوعه الثالث والبرلمان الأوروبي يعلن التضامن، تلفزيون سوريا، 03/9/2023، شوهد في: 08/5/2024.
[12] تحذيرات أميركية أوروبية من التصعيد العسكري في السويداء، تلفزيون سوريا، 30/4/2024، شوهد في: 3/5/2024.
الديلي تلغراف: ما جدوى خطوط أوباما الحمراء؟، بي بي سي عربية، 22/8/2013، شوهد في: 9/5/2024.
[14] وفد روسي في السويداء بعد أسبوع من التوترات الأمنية، الشرق الأوسط، 7/4/2022، شوهد في: 3/5/2024.
[15] روسيا تتحرك لاحتواء احتجاجات السويداء جنوب سوريا، الشرق الأوسط، 18/9/2023، شوهد في: 3/5/2024.
[17] محتجون يزيلون أسماء رموز النظام من حديقة عامة في السويداء، تلفزيون سوريا، 06/5/2024، شوهد في: 08/5/2024.
[18] المجتمع الأهلي في السويداء يلفظ البعث والمدنييحاول، العربي القديم،  26/4/2024، شوهد في: 4/5/2024.
[19] من أهداف هذه الوثيقة “تمكين السوريين من تأميم السياسة السورية وعدم تسليمها لأي قوة أجنبية، وتوحيد الجهود لتحقيق الحرية والكرامة ونبذ الطائفية لتحقيق الدولة الوطنية الواحدة لجميع السوريين”، وقد تعتبر هذه المبادرة أحد أوجه النشاط العابر للمناطق السورية والتي قد تتجاوز في آثارها وأبعادها محافظة السويداء، الأمر الذي قد يقلق نظام الأسد أكثر من الحراك الداخلي في المحافظة.
[20] قصف إسرائيلي يستهدف موقعاً أمنياً في نجها بريف دمشق، تلفزيون سوريا، 3/5/2024، شوهد في: 4/5/2024.
[21] فيديو يظهر مسيرة سيارات في الجولان السوري تضامناً مع انتفاضة السويداء، صفحة مركز إعلام الانتفاضة، 4/5/2024، شوهد في: 4/5/2024
[22] من ضمن الأصوات “الإسرائيلية” المنددة بالحشودات العسكرية لنظام الأسد في السويداء، السياسي من أصول درزية “أيوب قرا” العضو السابق في حزب الليكود في الكنيست “الإسرائيلي” والوزير السابق أيضاً في حكومة بنيامين نتنياهو عام 2019، حيث حذّر نظام الأسد وميليشياته من أي تصعيد ضد المكون الدرزي وأكد أن ذلك سيؤدي إلى انتفاضة الطائفة الدرزية في جميع المناطق كالجليل والجولان ولبنان. ينظر:
[23] وائل علوان وآخرون، مواقع القوى الخارجية جنوب سورية، مركز جسور للدراسات، 24/11/2023، شوهد في: 4/5/2024، الفوج 404 .. بوابة النفوذ العسكري الإيراني في السويداء، موقع ملفات سوريا، 5/11/2020، شوهد في: 5/5/2024.

صحفي سوري ومساعد باحث في وحدة التوافق والهوية المشتركة، تتركز اهتماماته البحثية على سياسات القوى المحلية والفاعلة في الملف السوري، شارك بإنجاز العديد من الأوراق البحثية المتعلقة بالحراك السوري وكتب العديد من التقارير التحليلية.
عمل في مجال كتابة تقارير المعلومات في الصحافة الالكترونية وإعداد النشرات التلفزيونية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى