الإصداراتالتقارير الموضوعيةالوحدة المجتمعية

حملات التمويل الجماعية في سوريا: فرص وتحديات

مقدمة:

شهدت سوريا في شهر أغسطس/آب 2025 انطلاق حملات شعبية على نطاق المحافظات، تستهدف جمع التبرعات من أبناء المحافظة والمتبرعين من كل العالم من أجل تأمين التمويل اللازم لتنفيذ بعض الخدمات الطارئة التي تساعد الناس على الحياة في المناطق التي طالها القصف والتدمير؛ وقد لقيت هذه الحملات تفاعلاً شعبياً كبيراً في حمص ودرعا ودير الزور وريف دمشق وإدلب، ونجحت بجمع ملايين الدولارات خلال فترة قصيرة جداً، مما شجع محافظات ومدناً وبلدات أخرى على استنساخ هذا النموذج والدعوة لتنظيم حملات تبرع مشابهة.

بدأت هذه الحملات بمبادرة انطلقت من حمص تمت من قبل ناشطين ومنظمات وقيادات مجتمعية، ساهموا في التخطيط والتنظيم والحشد والتسويق، مروراً بالإدارة، وانتهاءً بالتمويل والتنفيذ، وذلك بالتنسيق مع بعض الجهات الحكومية التي شاركت في الحفل وساهمت في التبرعات.

وقد أثارت تجارب التمويل الجماعي هذه العديد من النقاشات بين مؤيد ومعارض، وأبرزت العديد من التساؤلات حول قدرتها على تأمين الخدمات ومواجهة الاحتياجات الكبيرة لا سيما مع غياب أي حديث حول إطلاق مؤتمر لإعادة الإعمار أو مشاركة الدول الداعمة فيه كما جرت العادة.

 يسعى هذا التقرير إلى استعراض الحملات الشعبية التي بدأت في المحافظات السورية وأهدافها والتحديات التي تواجهها، ثم يتطرق لجدوى مثل هذه الحملات ومشاكلها انطلاقاً من دراسة تجارب مماثلة، ويقوم في القسم الأخير بإسقاط هذه التجارب على الحالة السورية وتقديم مجموعة من التوصيات حول هذا المسار في المستقبل، وذلك باستخدام الأسلوب الوصفي التحليلي عبر الاطلاع على المصادر المفتوحة المنشورة في هذه المجالات.

إعادة الإعمار في سوريا.. تكاليف باهظة واحتياجات عاجلة:

لم تخلُ معظم المحافظات السورية من الدمار والخراب الناتج عن حرب نظام الأسد وحلفائه ضد ثورة الشعب السوري، حيث تعرضت المدن لقصف عنيف من طيران نظام الأسد والطيران الروسي إلى جانب المدفعية الثقيلة، بالإضافة للاقتحامات البرية التي تلاها سرقة المنازل وتدميرها على يد قوات نظام الأسد والميليشيات الداعمة له، وشمل الدمار المناطق السكنية ومرافق البنى التحتية التي تعرضت لتخريب ممنهج[1].

تُقَدّر تكلفة عملية إعادة الإعمار في سوريا بين 250-400 مليار دولار بحسب المؤسسات الأممية، و600-900 مليار دولار بحسب التصريحات الحكومية السورية[2]، فيما تشير التقديرات الأممية إلى أن أكثر من نصف السوريين ما زالوا نازحين، و90% من الشعب تحت خط الفقر[3].

بالنظر إلى قطاع التعليم، توجد في سوريا أكثر من 27 ألف مدرسة بحاجة إلى صيانة، تتضمن 8 آلاف مدرسة تعرضت للدمار، منها 500 مدرسة تحتاج إلى إعادة تأهيل شاملة، و2000 مدرسة تحتاج إلى صيانة ثقيلة، و5500 مدرسة تحتاج إلى صيانة متوسطة[4].

أما في قطاع الصحة، فقد تضررت معظم المرافق الصحية في البلاد بشكل كبير، فيما تواجه المشافي التي ما تزال تعمل ضغطاً كبيراً في عدد المراجعين وضعفاً كبيراً في مستوى المعدّات والأجهزة الطبية والإهمال الطويل، وهذا ما جعل أكثر من 15 مليون سوري بحاجة إلى الرعاية الصحية بحسب منظمة الصحة العالمية[5]. وفي قطاع البنى التحتية، مثل الماء والكهرباء والطرق والاتصالات والزراعة وغيرها، فتُقدَّر الخسائر بين 5.8 مليار و7.8 مليار دولار[6].

تُشير هذه البيانات والإحصائيات إلى أن هناك حاجة ملحّة لكتل مادية ضخمة من أجل استعادة البنية التحتية والخدمية اللازمة لإعادة دورة الحياة وتحريك الاقتصاد، وأن تهيئة البيئة المناسبة لعودة النازحين واللاجئين الذين يُقدَّر عددهم بقرابة نصف عدد الشعب السوري يتطلب تكاليف مرتفعة لا بد أن تترافق مع خطط شاملة وتنموية تشمل كل المحافظات بشكل عادل وشفاف.

حملات التبرع الشعبية؛ مبادرات مفعمة بالأمل:

انطلقت في المحافظات السورية مبادرات محلية لتنظيم حملات تبرُّع شعبية لتمويل الاحتياجات الخدمية الطارئة والتي توافق عليها المنظِّمون من النشطاء والقيادات المحلية، وذلك من خلال تبرُّعات الأهالي ورجال الأعمال والمغتربين، ونجحت هذه المبادرات بحصد الاهتمام المحلي والخارجي بشكل واسع بعد التنسيق مع الجهات الحكومية المعنية.

بدأت هذه المبادرات في محافظة حمص مع حملة “أربعاء حمص”[7]، وحملة “أبشري حوران”[8]، ثم حملة “دير العز” في محافظة دير الزور[9]، وحملة “ريفنا بيستاهل” في محافظة ريف دمشق[10]، ثم حملة “الوفاء لإدلب”[11]، وحملة “السويداء منا وفينا”[12]؛ كما بدأت التحضيرات لإطلاق حملة تبرُّعات مشابهة في محافظة حماة[13] وحلب وعدد من المدن والبلدات المتضررة.

أسست إدارات الحملات لجاناً للمتابعة والشفافية يقوم عليها أشخاص من وجهاء المحافظات المشهود لهم بالنزاهة والخبرة، ويقومون بمتابعة عمليات استلام المبالغ المتعهَّد بها، وعملية صرف المبالغ المستلمة وفقاً للخطط الموضوعة، وتعهدت هذه اللجان بإصدار تقارير شفافية دورية تستعرض فيها الإنجازات والمشاريع التي يتم العمل عليها[14].

نجحت هذه الحملات بجمع مبالغ تجاوزت الأهداف الأولية والمشاريع المراد تنفيذها، وسط حالة من التفاعل الشعبي والحكومي معها، إذ أظهرت روح التضامن والتكافل بين أفراد الشعب، والإحساس العميق بمسؤولية الشعب في المساهمة في إعادة بناء بلاده، والمبادرة لسد جزء من الاحتياجات العاجلة في المجالات الخدمية التي لا يمكن تأجيلها، مثل ترميم المدارس وإصلاح المشافي وحفر الآبار وغيرها.

ومن جهة أخرى، حملت العديد من التبرُّعات إشارات رمزية وتكريم للشهداء من خلال بيع بعض مقتنياتهم في المزاد العلني، الأمر الذي شجَّع بعض المتبرعين على كفالة بعض العائلات[15]، أو مشاركة أمهات الشهداء وأطفال المهجرين في تقديم تبرعات رمزية رغم ضيق الحال[16].

ولكنها وفي نفس الوقت أثارت العديد من التساؤلات والانتقادات، حول سلبيات هذه الحملة التي كرّست صورة  غياب الدولة ومؤسساتها في مقابل رمي هذه المسؤوليات على عاتق منظمات المجتمع المدني والمواطنين، كما طرحت العديد من الأسئلة حول آليات الرقابة والمحاسبة، وعدم وجود شفافية بالمستوى المطلوب في إدارة هذه الحملات، وعدم وجود معايير واضحة تُنظّم عملية الإنفاق وتنفيذ المشاريع[17]، إضافة إلى ذلك برزت مخاوف محقّة من تجاهل بعض المناطق واستبعادها من قائمة تنفيذ المشاريع لاعتبارات ضعف التبرُّعات فيها أو لوجود دوافع فردية مناطقية داخل مُنظّمي الحملات[18]، عدا عن تحدّيات في استلام المبالغ المتعهد بها، إذ تأخر عدد من المتبرعين بتقديم التبرعات التي تعهدوا بها، أو قام البعض بإدخال أرقام التبرعات بشكل خاطئ[19].

ومن الأمور التي أثارت الاستياء، وجود بعض رجال الأعمال المحسويين على نظام الأسد والذين قدموا بعض التبرعات، إذ اعتبر البعض أن هؤلاء الأشخاص تم إجبارهم على تقديم التبرُّعات في إطار تسوية تم إقرارها، أو أنهم قاموا بذلك في محاولات لغسل السمعة[20]، ومن جهة أخرى لا تزال المبالغ التي تم استلامها فعلياً بعيدة جداً عن التعهُّدات التي تم تقديمها والتي تظهر عدم جدية من المتبرعين في تقديم الالتزامات التي تعهدوا بها.

كما أثارت تبرعات جهات حكومية مثل وزارة الصناعة، وبعض المؤسسات الإنسانية كالهلال الأحمر السوري وغرفة التجارة وبعض المنظمات السورية العاملة في الشأن الإنساني أسئلة إضافية، حول أصول هذه التبرعات وفيما إذا كانت مُدرجة ضمن خطط العمل أو المشاريع المقررة، ومدى صحة تقديمها كتبرعات في وقت كانت مقررة التنفيذ.

وتشير التعليقات والتفاعلات الشعبية على وسائل التواصل الاجتماعي إلى شكوك عند المواطنين ومخاوف من حدوث فساد وسرقات وتلاعب، فيما اعتبر آخرون أن هناك أولويات غائبة لم يتم الانتباه لها كتشجير الغابات المحترقة وتعويض المزارعين، فيما اعتبر البعض أن هذه الحملات وما رافقها من تسويق إعلامي رفعت سقف التوقُّعات وأشعرت الفقير والمهجَّر أنه سيعود إلى بيته قريباً، وهو ما سيتسبّب بخيبة أمل لاحقاً عندما يكتشفون أن ذلك غير ممكن.

جدوى حملات التمويل الجماعي وأدوارها؛ دروس من التجارب السابقة:

يمكن اعتبار حملات التمويل الجماعي الشعبية التي حدثت في سوريا مبادرة إسعافية تسعى للتفاعل مع الظروف الاستثنائية، لا سيما مع عدم وجود تصورات وخطة حكومية لاستجابة تدعم واقع سوريا بعد سقوط نظام الأسد حتى الآن وتساهم في الانتقال من مرحلة الاستجابات الطارئة إلى مرحلة التنمية، كما لا يبدو في الأفق بوادر إطلاق أي مؤتمر لإعادة الإعمار برعاية دولية كما هو المفترض في الحالات المشابهة.

ومع وجود تصريحات حكومية سابقة إلى سياسة حكومية لا ترغب بالدخول في القروض والديون الخارجية[21]، والتوجُّهات نحو تشجيع الاستثمارات الخارجية[22] كبديل عن انتظار المساعدات، وفي ظل هذه الظروف يصبح المشهد أصعب، إذ لا توجد دولة خارجة من صراع معقّد استطاعت أن تتعافى اقتصادياً أو تُعيد بناء بنيتها التحتية ومؤسساتها العامة بمفردها دون شكل من أشكال الدعم أو التضامن الخارجي، بل اختلفت درجات الاعتماد وطبيعة المنح وفقاً لكل حالة، وتنوعت بين (منح مباشرة، استثمارات، إعفاءات، ديون ميسّرة، أو تدفقات المغتربين).

وبالنظر إلى أن مصادر التمويل المتاحة حالياً تندرج بين حملات التمويل الجماعي التي يساهم بها المغتربون وأهل المنطقة وبعض المنح المباشرة، لا بد من الاطلاع على تجارب سابقة وتعلُّم الدروس لضمان أن تؤدي هذه الحملات والمنح الأهداف المنوطة بها.

تشير العديد من الدراسات إلى أن عملية التمويل الجماعي الذي تقوم بها الهيئات المدنية هي أكثر من مجرد محاولة لجمع الأموال، بل هي أحد الأدوات اللازمة لتشجيع المشاركة المجتمعية وبناء الثقة بين المواطنين والحكومة، خاصة عندما تُوجَّه لتمويل مشاريع ذات منفعة عامة، فهي تحول المواطنين من مجرد متلقين إلى مشاركين فاعلين ويعزز لديهم المسؤولية المشتركة[23].

يُقدِّم هذا الشكل من التمويل حلاً مقبولاً في الدول المستقرة لتمويل المشاريع التي تعجز البلديات أو الحكومات عن تأمين الاحتياج المالي اللازم لها لاسيما في المدن الصغيرة، وتساهم بشكل ما في تعزيز رأس المال الاجتماعي، إذ يشعر المساهمون بملكية معنوية للمشروع، عدا عن كونها تخلق فرص عمل محلية، وقد استُخدم هذا النمط من التمويل الجماعي في العديد من البلديات في دول مختلفة كالمملكة المتحدة وهولندا وإيطاليا وإسبانيا[24].

يواجه هذا النوع من التمويل المستخدم في دول مستقرة العديد من التحديات، أهمها التحديات القانونية التي يفترض أن تُنظّم عملية جمع الأموال عبر الإنترنت، وهو ما دفع بعض الحكومات مثل هولندا والمملكة المتحدة لاعتماد تشريعات واضحة في هذا السياق. والى جانب ذلك أبرزت التجربة تحديات مؤسسية نتيجة ضعف الشفافية رغم البنية الإدارية المتطورة، والتي أثرت على الثقة في مثل هذه المبادرات، فقد كان لغياب الإعلان عن كيفية صرف الأموال أو متابعة مراحل الإنجاز سبباً في فشل بعض المبادرات، وقد تسبّب فقدان الثقة بتراجع المساهمات المستقبلية بنسبة 40% بعد أول تجربة سلبية[25].

ومن جهة أخرى، يتأثر نجاح هذه الحملات واستدامتها بمستوى الوعي التكنولوجي والمهارات الرقمية للجمهور المستهدف وكيفية التسويق لها، عدا أن الاعتماد على متطوعين أو شركات خاصة قد يزيد من الكلفة التشغيلية، إلا أن التحدي الأبرز لهذه العملية كان تأمين الكلف التشغيلية وكلف الصيانة للمشاريع بعد إنجازها، وهو أمر تسبَّب في فشل عدد من المشاريع لعدم وجود خطة ما بعد التسليم أو ضمان التشغيل والصيانة لعام واحد على الأقل[26].

ومن جهة أخرى، تحوّلت بعض المبادرات المنفذة إلى منصات دعاية لبعض الجهات لاسيما من رجال الأعمال بدل أن تكون مكاناً لدعم عملية تنمية حقيقية، ولهذا فإن التجارب تشير إلى ضرورة أن تنتظم هذه المبادرات بإطار حوكمي تشاركي يبدأ من منظومة قانونية واضحة، ومسار عمل شفّاف وقابل للمساءلة، وبنية رقمية مناسبة، مع التفكير في آليات استدامة بعد التمويل[27]، مع الانتباه إلى أن منصات التمويل الجماعي يمكن أن يتم استغلالها لتمويل جهات إرهابية أو استخدامها في عملية غسيل الأموال تحت ستار العمل الإنساني[28].

تشير بعض الدراسات إلى توجُّه بعض الحكومات الغربية نحو قيادة مبادرات التمويل الجماعي وتوجيهها فيما يخدم الخطة التي تعمل عليها، فعلى سبيل المثال واجهت العديد من الدول الأوروبية إشكالية في تمويل مشاريع البنية التحتية، إذ إن مثل هذه المشاريع لم تكن جذّابة للمستثمرين ولا للبنوك رغم أهميتها الكبيرة في تحريك الاقتصاد لكونها تتطلب كتلاً مالية ضحمة وتحتاج فترات استرداد طويلة، وهو ما دفع بعض الدول الغربية للتوجه لمنصات التمويل الجماعي وابتكار أشكال تمويلية في محاولة لسد الثغرات[29].

فعلى سبيل المثال، أنشأت كندا نموذجاً للتمويل الذي يجمع بين الأموال العامة والخاصة والذي يموّل مشاريع تنموية في دول خارج كندا، وذلك بهدف جذب رؤوس الأموال الخاصة، كما أنشأ الاتحاد الأوروبي منصة “Citizenergy” لتمويل مشاريع الطاقة المتجددة، والتي تُقدِّم تسعة نماذج تمويلية (سهم، قروض، سندات، تبرعات، مكافآت، إلخ). كما أنشأت الولايات المتحدة منصة تربط الشراكات العامة والخاصة والتمويل الجماعي التي أتاحت للمواطنين الاستثمار في مشاريع مختلفة، وفق أشكال مختلفة من الاستثمارات، وفي مجمل الحالات استخدمت الدول في مثل هذه الحلول حوافز ضريبية وتسهيلات للشركات لتُشجّعها على المساهمة، وقد لقيت هذه الحلول نجاحات في تعبئة الأموال الصغيرة[30].

أما في مناطق الصراعات، استُخدمت عمليات التمويل الجماعي في سياقات إنسانية سابقة في كل من سوريا والعراق وفلسطين والبلقان، ففي سوريا اعتمدت بعض المنظمات على هذه العمليات ونجحت بشكل جزئي في الوصول إلى أهدافها، إلا أن هذه الحملات كانت تُدار من خارج البلاد واعتمدت على الثقة الشخصية بالقائمين على هذه المنظمات أكثر من الثقة المؤسسية، أما في كل من العراق وفلسطين فقد أظهرت التجربة أن عملية التمويل الجماعي ظلت ضعيفة التنظيم بسبب عدم وجود دعم حكومي رسمي[31].

أما في حالة أوكرانيا، فقد استخدمت الحكومة قبل اندلاع الحرب مع روسيا عام 2023 التمويل الجماعي كوسيلة لتمويل جهود وزارة الدفاع والإغاثة، فقد أطلقت حملات تعبئة عامة شملت المواطنين والحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني،  وقادت هذه العملية تحت غطاء من الشرعية الحكومية والشفافية المؤسسية في خروج عن الأشكال المألوفة للدعم الشعبي الذي غالباً ما ركَّز على العمل الإنساني، وقد استثمرت أوكرانيا في تطوير منظومة الشفافية والثقة من خلال تطوير أنظمة محاسبة رقمية علنية تستعرض المبالغ المُجمّعة ومجالات الإنفاق[32].

ورغم تركيز الحملة على دعم البنية العسكرية لشراء الأسلحة؛ إلا أنها جمعت مبالغ كبيرة خلال الساعات الأولى نتيجة استخدام بيئة رقمية متقدمة وحملة تسويق استخدمت رمزيات ثقافية تعبوية، كما قامت بحشد مجموعة من المشاهير حول العالم في حملات فرعية وديبلوماسية رقمية، وأنشأت صفحات لدعم الحالات الإنسانية أيضاً في سياق مكمّل للحملات الدفاعية.

لم تكن الحملة الأوكرانية تهدف الى تحقيق هدف مالي مُحدَّد، بل كانت أشبه بعملية مفتوحة وغير محددة بوقت ولا هدف، وهو ما سمح بتدفُّق الموارد ولم يُلزِم القائمين عليها بنتيجة مسبقة، وقد ساهمت التبعية الرسمية للدولة بنجاح الحملة خاصة مع ذهاب التبرعات الى البنوك الوطنية، وزادت التقارير المالية الأسبوعية حول الأموال المجمّعة والمشاريع التي ستخدمها ومواقع التنفيذ من ثقة المستفيدين، إلى جانب التنويع في طرق الدفع الآمن وضمان توثيق المعاملات والنزاهة الرقمية، وهو ما أعطاها مصداقية وشفافية، وتحويل حالة التضامن إلى فعل حقيقي[33].

ومما ساهم في زيادة التحشيد الوطني تحويل التبرُّع الى سلوك جماعي متسلسل من خلال استخدام تقنيات التشجيع النفسي كالعداد الفوري وإعلان الأسماء والشكر العلني عبر الرسائل النصية، كما وسّعت نطاق المستهدفين واستطاعت استقطاب العديد من المتفاعلين من جنسيات أخرى مستفيدة من حالة التضامن القيمي، والخوف من تمدُّد الحرب واستجابة للحملات الإعلامية المكثفة، وتمكنت من المحافظة على زخمها لأكثر من عامين، إذ تكررت تبرُّعات البعض بشكل دوري، خاصة مع استمرار التغذية المستمرة، ورغم النجاحات التي حققتها التجربة إلا أنها واجهت الكثير من التحديات، فقد كان تمويل المجهود الحربي جريمة في بعض الدول، حتى لو كان تحت غطاء إنساني، كما أن نجاح الحملة حرَّض بعض الجهات المحتالة والتي نشرت حملات زائفة واستخدمت بعض الصور والفيديوهات وهو ما أضعف الثقة عموماً، إلى جانب تحديات في تحقيق المساءلة المالية.[34]

تبرز الإشكاليات الرقمة والتقنية كأحد المشاكل الأساسية في عمليات التمويل الجماعي لا سيما الرقمية، إذ إن ضعف البنية التحتية البنكية والكهرباء والإنترنت إلى جانب قلة الوعي الرقمي لدى المنظمات قد تكون أحد القيود الواضحة، فقد أثبتت تجربة لبنان على سبيل المثال أهمية وجود تشريعات ناظمة لجمع التبرُّعات الإلكترونية، كما تسبَّب ضعف الثقة بالنظام المصرفي وارتفاع كلفة التحويل والمشاكل الاقتصادية والرقابة المفروضة إلى ضعف التجاوب مع هذه الحملات لا سيما من قبل رجال الأعمال[35].

وفي فلسطين، ساهم الوضع السياسي بحجز جزء من المساعدات التي تدفقت وتقييد حركة الجمعيات من قبل سلطات الاحتلال، كما فُرضت على بعض المنصات الكثير من القيود والمعايير، وأصبح التمويل أداة للتحكُّم السياسي، في حين قدّم المغرب صورة أكثر نضوجاً لهذه العملية، إذ أُنشأت منظومة قانونية تسمح للمنظمات والجمعيات بفتح حسابات مصرفية واستقبال التبرعات وإشعار الحكومة عند تلقيها تمويلاً أجنبياً، وهو ما ساهم في زيادة الرقابة المالية وضبط العملية، لكنه فرض رقابة مشددة[36].

نحو مسار تنموي راسخ في سوريا الجديدة؛ توصيات تطويرية:

لقد أثبتت حملات التمويل الجماعي والتبرعات المحلية حيوية الشعب السوري وحرصه على الانتقال بسرعة إلى مرحلة إعادة البناء والإعمار ورغبته بالمشاركة الحقيقية، إلا أنه من الصعب التعويل على هذه الحملات واستمرارها المستقبلي لعدة أسباب؛ أهمها ضعف الواقع الاقتصادي للسوريين، وصعوبة تحقيق التجاوب المطلوب مع هذه الحملات مستقبلاً فيما لو تمت إعادتها.

ومع مساهمة بعض المنظمات الإنسانية السورية في إدارة وترتيب هذه الحملات نتيجة امتلاكها للبنية التحتية اللازمة، لا بد من وجود أدوار حكومية حقيقية في هذا المجال تفوق دورها في المشاركة والمساهمة بالتبرعات والتي أثارت العديد من الأسئلة، إذ إن قيادة عملية تنمية في المرحلة الانتقالية يتطلب وجود خطة عمل حكومية شاملة، تحدد أولويات الإعمار بشكل تشاركي مع المجتمعات المحلية.

فعلى سبيل المثال، لا يمكن إعادة ترميم المدارس التي تقع في مناطق ريفية ملوّثة بالألغام ومخلّفات الحرب، كما يحتاج هذا الترميم تقييماً هندسياً مسبقاً يتأكد من سلامة الهيكل الإنشائي وأمانه بعد الاستهدافات المتكررة والانفجارات القريبة التي ولّدت اهتزازات قوية حوله، كما أن مشاريع تعبيد الطرقات ورصف الأرصفة لا بد أن ينتظم ضمن اللوائح والشروط الفنية المقبولة لا أن يتم تنفيذه بشكل تجميلي مُخلِّفاً مشاكل جديدة، وكذلك عملية فتح الطرقات وإزالة الردم لا بد أن تكون مخططة تنقل هذه المخلفات إلى مناطق مُحدَّدة بالتنسيق المسبق مع البلديات.

أما من الناحية القانونية، فمن الأولوية بمكان إنشاء مظلة قانونية تسمح بتنظيم مثل هذه العمليات ومراقبتها وإكسابها شرعية وضمان ألا تُستخدم في أمور غير قانونية، خاصة أن الأموال تُجمع في بنوك غير سورية متوزعة حول العالم تتحكم في قرارات صرفها، ولا تزال هذه البنوك تتجنّب التحويلات الخاصة بسوريا خوفاً من التورط في العقوبات أو الوقوع تحت المساءلة، ولهذا فإن الشفافية القانونية والمالية أمر هام وضروري لضمان ثقة المتبرعين وضمان وصول التبرعات وعدم حجزها.

إن تحويل عملية التمويل الجماعي إلى عملية مستدامة تعني إلزامية بناء إطار حوكمي شفّاف يُنظِّم عملها، ودعم البنية التحتية المصرفية والتقنية، وتقديم حوافز ضريبية تُشجِّع المستثمرين وأصحاب الأموال على تقديم المساعدة، وتستثمر في إحساسهم بالمسؤولية، وتساهم في جعل تبرعاتهم دورية مستدامة.

إن إدارة تجربة التمويل الجماعي السورية الأولى وقدرتها على مخاطبتها الجمهور، وتبيان التقدم وتوضيح العوائق ونجاحها في بناء الثقة معه هو الأساس في بناء مستقبل هذا الشكل من المشاركة وتنظيمها لتتحول إلى عملية آمنة شفافة وذات مصداقية، ومن الضرورة دراسة التجربة بعمق وتحليلها والتعلم من الدروس إلى جانب رفع الوعي الرقمي وزيادة الثقة بالنظام المصرفي الحالي.

وتطرح تجربة حملات التبرع الشعبية (التمويل الجماعي) المزيد من الأسئلة حول كيفية تحديد الأولويات بشكل تشاركي بحيث تقارب ما بين تصوّرات المواطنين وتصوّرات الحكومة، وآليات ضبط التنفيذ وفق معايير ومحددات بلوائح ومعايير ناظمة للعمل وإشراك بعض الجهات المختصة في متابعتها ومراقبتها كالنقابات والجامعات وغيرها، بما يضمن العدالة الاجتماعية وحسن التوزيع وتقديم الخدمات للجميع دون استثناء، حتى لا تتحول مثل هذه التبرعات إلى عامل يزيد الانقسامات المجتمعية.

كما يبدو ضرورياً قيادة الحكومة لهذه العملية وفقاً لخطة وأولويات تم اعتمادها ونشرها، يدعمها في ذلك مؤسسات المجتمع المدني والأهلي ورجال الأعمال، لا أن يتقدم المجتمع المدني ويقود الحكومة تجاه أولويات لم تندرج في خطة تنموية استراتيجية، مع ضرورة التفكير باستدامة المشروع بعد إنجازه، إذ إن كثيراً من التجارب السابقة قد فشلت نتيجة عدم وجود مصاريف تشغيلية أو عدم وجود جهة قادرة على استثمار المخرجات بشكل مستدام، أو بسبب توجيه الدعم والتمويل بعيداً عن الموضع حيث الحاجة الأكبر، والاهتمام بإدارة توقعات الجمهور وتقديم مخطط زمني للتنفيذ وضمان الشفافية اللازم للعمل.

إن حلول التمويل الجماعي الشعبي هي أدوات مُكمِّلة وليست الحل الرئيسي لعملية إعادة الإعمار أو تقديم الخدمات، ولا بد من إعادة بناء تصوّر منطقي مرن لإدارة هذه الأدوات واعتماد خطة تنمية بشكل تشاركي، تهتم بأولويات المواطنين وتضمن مشاركتهم في عملية صناعة القرار، وقيامهم بأدوار رقابية على المشاريع وملاءمتها وجودة تنفيذها وعدالة توزيعها.

إن البدء بعملية تخطيط تنموي بشكل تشاركي وفق قواعد وأُسس علمية من شأنه أن يُحفّز المتبرعين والدول المانحة والجهات الدولية على الاستثمار في مشاريع واضحة التوجه ضمن خطة استراتيجية معروفة، كما من شأنه تحديد العقبات التي يمكن أن تُعيق هذه العملية والعمل على تذليلها بشكل استباقي لا سيما العقبات القانونية التي يمكن أن تعرقل أو تُسهِّل هذه العملية.

والأهم من ذلك كله، هو الاستثمار في حالة الوعي والنضج الشعبي لتعزيز شعور الانتماء والمواطنة وتعميق الإحساس بالمسؤولية وحشد هذه الطاقات في مسارات البناء والنهضة التي تساعد الحكومة وتتفاعل معها، وبما يمكن أن يزيد الثقة مع الحكومة ويُصلح الصورة الذهنية المشوّهة التي أنتجها نظام الأسد، ويُسرّع عملية التنمية والتعافي على كافة المستويات، سواء السياسية منها أم الاقتصادية والاجتماعية، إذ إن ذلك كله من شأنه دعم عملية الاستقرار وترسيخ الأمن وقطع الطريق أمام الفوضى وتجدُّد الصراع، وذلك بخلق فرص عمل جديدة وإطلاق مسارات تنمية تنقل سوريا نحو المستقبل بخطى متسارعة.


[1] “حساب تكلفة الحرب في سوريا”
Counting the costs of the war in Syria“, The World Bank, 4/2/2016
[3]ركائز ثلاث لإطلاق عملية إعادة إعمار سورية“، مركز مالكوم كارنيغي للشرق الأوسط، 8/5/2025
[6] “تقييم الأضرار في سوريا في مدن مختارة”
[13] الحساب الرسمي لحملة “فداء لحماة” في فيسبوك.
[14] “تجاوزت 350 مليون دولار.. أين تذهب أموال حملات التبرع”، المرجع السابق.
[15] في حملة الوفاء لإدلب، اشترى أحد المتبرعين شماغ الشهيد محمد ابن بلدة أبو الظهور بمبلغ 50 ألف دولار، وتبرع بمبلغ إضافي قدره 10 آلاف دولار لوالد الشهيد المعروف بتسجيله الشهير إبّان عملية ردع العدوان وهو يصرخ: “حمودي استشهد أبو زكور”.
[16] حملة الوفاء لإدلب،  منصة سوريا المستقبل، 3/10/2025.
[21] لماذا ترفض سوريا الاستدانة من الخارج؟ ، الجزيرة نت ، تاريخ النشر 10//7/2025
[23]  التمويل الجماعي المدني – نحو تنمية محلية مستدامة
IMC University of Applied Sciences Krems (2020). SU-CCES Report – WP2 Final: Civic Crowdfunding – Towards Sustainable Local Development. Krems: IMC University of Applied Sciences. Available at: https://research.imc.ac.at/ws/portalfiles/portal/37580015/SU-CCES_report_WP2_final.pdf
[24] المرجع السابق.
[25] المرجع السابق.
[26] االتمويل الجماعي المدني – نحو تنمية محلية مستدامة، مرجع سابق.
[27] التمويل الجماعي المدني – نحو تنمية محلية مستدامة المرجع السابق
[28]  التمويل الجماعي لدعم الارهاب
Financial Action Task Force (FATF) (2023). Crowdfunding for Terrorism Financing. Paris: FATF/OECD. Available at: https://www.fatf-gafi.org/publications/Methodsandtrends/crowdfunding-for-terrorism-financing.html
[29]  التمويل الجماعي لتمويل مشاريع البنية التحتية: دروس مستفادة للدول الآسيوية
Pranata, A., Wardhana, I.W. and Yudhistira, M.H. (2020). Crowdfunding for Infrastructure Project Financing: Lesson Learned for Asian Countries. Asian Bureau of Finance and Economic Research (ABFER) Conference Paper. Singapore: ABFER. Available at: https://abfer.org/media/abfer-events-2020/specialty-conf/33_paper_Pranata_et_al_Crowdfunding-for-Infrastructure-Project-Financing.pdf
[30] المرجع السابق.
[31]  التمويل الجماعي وجمع التبرعات في نظام بناء السلام: حالة أوكرانيا
Khoma, N. (2023) ‘Crowdfunding and Fundraising in the Peacebuilding System: Ukraine’s Case’, Lithuanian Annual Strategic Review, 20, pp. 53–75. doi: 10.47459/lasr.2023.20.3.
[32] المرجع السابق.
[33] المرجع السابق.
[34] المرجع السابق
[35]  أطر التنظيمية لجمع التبرعات الرقمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا:
International Center for Not-for-Profit Law (ICNL). (2023). The Regulatory Frameworks for Digital Fundraising in the MENA Region: Case Studies on Lebanon, Morocco, and Palestine. Washington, DC: ICNL. Available at: https://www.icnl.org/wp-content/uploads/Report-EN.pdf
[36] المرجع السابق

مديرة الوحدة المجتعية في مركز الحوار السوري، بكالوريوس في الهندسة من جامعة دمشق، دبلوم في التخطيط العمراني وإعادة الإعمار المستدام، عملت في مجال الإعلام المكتوب والمسموع لعدة سنوات، نشرت العديد من الأوراق والتقارير البحثية في مواضيع سياسية واجتماعية، وخاصة ما يتعلق بأوضاع اللاجئين وقضايا المرأة

بكالوريوس في قسم الفلك وعلوم الفضاء من جامعة أنقرة، مهتم بالشأن التركي وعلاقته بقضايا اللاجئين السوريين، ونشر وشارك في إعداد عدد من التقارير والمقالات حول هذا الموضوع ضمن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى