حول تقرير منظمة وورلد فيجين World vision لواقع مخيمات الأطفال والأرامل
إضاءات تحليلية ضمن مسار الراصد تصدر عن الوحدة المجتمعية
أثار تقرير صادر من منظمة “الرؤية العالمية”World vision [1] يحمل عنوان “مخيمات النساء والأطفال في سوريا: الأصعب في الوصول، والأكثر عرضة للخطر“[2]، استنكاراً واسعاً بين شرائح مجتمعية سورية متنوعة، بينها عدد من المنظمات التي شاركت في جمع البيانات؛ نظراً لما حمله من اتهامات ونِسب رآها العديد من العاملين في هذا المجال تفتقد للصحة أو المصداقية، وتحاول تشويه الجهود المبذولة مع هذه الفئات.
ويُعدّ الحديث عن النساء -لاسيما الفئات الهشة منهن كالأرامل أو المطلقات أو زوجات المفقودين- ذا حساسية بالغة، لاسيما في مجتمعات تتسم بالمحافظة؛ فالشريعة الإسلامية حضّت المجتمع على تقديم الرعاية والكفالة للنساء دون معيل، خاصة الأرامل، وقد ورد في الحديث الشريف عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: “الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله”، وأحسبه قال: “وكالقائم الذي لا يفتر، وكالصائم الذي لا يفطر”، متفق عليه.
وانطلاقاً من التوجيه الإسلامي تحاول المجتمعات العربية والإسلامية جهدها لتقديم ما تحتاجه هذه الشريحة من دعم ورعاية أينما وجدت، من خلال تقديم كفالات شهرية لتأمين احتياجاتها[3]؛ إلا أن العمل مع هذه الفئات قد يعتريه كثير من الأخطاء والمشاكل، لاسيما في المجتمعات غير المستقرة أو مجتمعات الصراع والحروب التي يتزايد فيها حجم هذه الشريحة بشكل قد تعجز الإمكانيات المحلية عن استيعابه، وتصبح حماية هذه الشريحة من الاستغلال أمراً بالغ الصعوبة.
وقفات مع تقرير منظمة World vision
تقرير منظمة World vision هو أول تقييم معروف من نوعه، تجريه منظمة دولية غير حكوميةINGO ، تم تنفيذه بمساندةٍ من منظمات غير حكومية محلية، وفقاً لما ورد في التقرير؛ إلا أن أصداء هذا التقرير والمعلومات الواردة فيه لم تلقَ القبول المجتمعي، بل أثارت موجة عارمة من الغضب وسط اتهامات بالمبالغة وغياب الدقة والموضوعية.
كان لابد خلال هذه الزوبعة من التأنّي والرجوع إلى النسخة الأصلية من التقرير الصادر باللغة الانكليزية، بدل الاعتماد على ما أوردته صحيفة الغارديان في تقريرها[4]، الذي تلقفته مختلف الوسائل الإعلامية العربية وغير العربية، وركزت فيه على العنوان الفرعي البرّاق[5] الذي حمل مصطلح ” survival sex ” ويعني في العربية “الجنس من أجل البقاء”، واختزال كل ما ورد في هذا التقرير بهذه الجملة.
وبالعودة إلى التقرير الأصلي فالتقرير كتبتْه باحثتان بريطانيتان، إحداهما عرفت عن نفسها كباحثة مستقلة والأخرى تعمل ضمن فريق المنظمة، وقد أسهم أيضاً في التقرير بشكل ثانوي 6 باحثين أجانب، بينهم باحثة عربية يُعتقد أنها من الأردن، وأعضاء مجموعة المناصرة والتقييم التابعة للمنظمة والمعنية بسوريا، بالإضافة إلى باحث عربي -يُعتقد أنه من الأردن- أسهم في عملية تحليل البيانات، في غيابٍ واضحٍ لأي مشاركة من باحثٍ سوريٍّ مطلعٍ على الوضع في منطقة الدراسة، وفي غيابٍ لمشاركة المنظمات التي قامت بجمع البيانات خلال عملية التحليل وتفسير النتائج، وعدم إطلاعهم على مسودة البحث قبل النشر كما كان مفترضاً خلال الاتفاق[6].
وقد اعتمد التقرير على بيانات تم جمعها عبر 4 منظمات محلية تعمل في المجال الإغاثي والطبي في الشمال السوري، في كانون الثاني وشباط من عام 2022، من 28 مخيماً في مناطق إدلب وحلب (بعضها مخصص للأرامل وبعضها مخيمات عامة)؛ حيث تم جمع البيانات من 200 امرأة و139 مراهقاً و80 طفلاً تتراوح أعمارهم بين 6-11 سنة، يعيشون في مخيمات الأرامل لسنوات.
وارتكز التقرير أيضاً على مقابلات مع 6 أشخاص أُطلق عليهم “أشخاص مفتاحيون” من العاملين في قطاع الاستجابة الإنسانية، لم يُعرف جنسهم ولم تُعرف صلاحياتهم ولا مجال أو مكان عملهم، رغم أن معظم التقارير البحثية ترمز لأصحاب المقابلات أو تعرّفهم بصفتهم الاعتبارية وبجنسهم؛ إذ من الضروري معرفة جنس الأشخاص الذين تمت مقابلتهم، لاسيما وأن العمل في هذه المخيمات أو العمل مع الأرامل يتم عادة من قبل النساء ويُحظر على الذكور الاحتكاك بهن بشكل مباشر.
وقد بدأ التقرير باستعراض أنواع مخيمات الأرامل التي قُسمت لمخيمات خاصة بالأرامل ومخيمات مختلطة، ومعسكرات مخصصة لزوجات وأرامل ومطلقات من عناصر تنظيم داعش، حيث يثير إدراج النوع الثالث من المخيمات الكثير من التساؤلات عن سبب إقحام هذا النوع من المخيمات في الدراسة رغم عدم وجوده في المنطقة المعنية بالدراسة، وهي إدلب وريف حلب[7]، وتكرار الحديث عنه في التقرير؛ فالمخيم الوحيد المعروف من هذا النوع هو “مخيم الهول” ويقع تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية-قسد” في حيز جغرافي مختلف، وهو معسكر اعتقال بالمعنى الحرفي، ويضم عائلات التنظيم ذكوراً وإناثاً، حتى بدا وكأن صورة مخيم الهول قد تم تعميمها على بقية المخيمات من قبل فريق البحث.
وعند سؤال أكثر من جهة تعمل أو تشرف على مخيمات الأرامل[8] أشار الجميع إلى أن لكل مخيم نظامه وخصوصيته، فلا يوجد نظام موحد يحكمه، كما لا يمكن تعميم ما يحدث في مخيم ما على بقية المخيمات، خاصة فيما يتعلق بقيود الحركة أو استبعاد الأطفال الذكور عن عائلاتهم، كما لا يمكن تعميم وضع المخيمات الموجودة في مناطق سيطرة “هيئة تحرير الشام-هتش” على تلك الموجودة في المناطق تحت الإشراف التركي.
وفيما يتعلق بالعينة المستطلعة آراؤها لم يقدم التقرير معلومات وافية عن صفة هذه العينة، كالشريحة العمرية للنساء اللواتي تمت مقابلتهن أو مكان السكن، في حين يشير التقرير إلى أن 20% من العينة كانت من الأطفال بين سنّ 6-11 عاماً، وهنا يبرز سؤال مهم حول الضوابط التي تمت فيها هذه المقابلات مع أطفال في هذا السن، وهل كان جامعو البيانات على درجة من التأهيل والمعرفة التي تمكنهم من إجرائها، والتحقق من دقة الإجابات وفهم الطفل لهذه الأسئلة؟ وهل تمت هذه المقابلات بموافقة الأهل؟ لاسيما وأن المواضيع التي يبحث فيها التقرير ذات حساسية بالغة كمواضيع الإهمال والتحرش والصحة النفسية.
معلومات مغلوطة أو متحيزة:
لابد من الإشارة إلى أن التقرير أورد العديد من المعلومات التي تستدعي التوقف والتحقق، فعلى سبيل المثال: أشار التقرير إلى أن مخيمات الأرامل يتم دعمها من قبل الجمعيات الخيرية الإسلامية والخليجية، ثم يدعي التقرير عدم تقديم تصاريح للمنظمات الأجنبية العاملة فيها من قبل “حكومة الإنقاذ” الذراع الإداري لـ “هتش” أو من قبل مؤسسة آفاد[9]، حيث لم يُسمح إلا لعدد محدود من المنظمات المحلية بتقديم مشاريع للحماية أو للدعم النفسي.
وتبدو الجملة السابقة متحيزة، أو تحاول فيها المنظمة تبرير تقاعس المنظمات الدولية في دعم الفئات الهشة؛ فلو افترضنا أن مخيمات الأرامل تضع قيوداً على عمل المنظمات الأجنبية كما يدعي التقرير فلماذا لم تدعم هذه المنظمات الأرامل في المخيمات المفتوحة والتي لا قيود فيها على تقديم المشاريع وتلبي احتياجاتهم، خاصة وأن دراسة سابقة أجراها مركز الحوار السوري بعنوان “بلا أستار.. بلا حماية، الجانب الخفي من حياة النساء في المخيمات” تشير إلى أن وضع النساء في المخيمات سيئ جداً، وأن الاستجابة الإنسانية المقدمة لهن في قطاع الإصحاح (أي المياه والصرف الصحي والمرافق الصحية) على سبيل المثال لم تقارب الحدود الدنيا التي وضعها ميثاق إسفير[10] رغم مرور سنوات عليها، ولم تُقدم للنساء في هذه المخيمات وغيرها ما تحتاجه من سلال نظافة أو حتى مشاريع تعليمية مستدامة.
وعند سؤال بعض العاملين في الشأن الإنساني[11] أفادوا أن مخيمات الأرامل مفتوحة أمام المشاريع الموجهة لهذه الشريحة، لاسيما مشاريع التمكين الاقتصادي ورفع القدرات؛ إلا أن المنظمات الأجنبية لا تهتم بمثل هذه المخيمات، ولا تحاول استهدافها إلا ضمن أنماط معينة من المشاريع تنحصر ضمن مشاريع الحماية والدعم النفسي.
ومن المعلومات المشوشة التي أوردها التقرير ادعاؤه وجود طبيبين نفسيين فقط لما يقارب 4 مليون شخص[12]، رغم أن هذه المعلومة صحيحة لكنها لا تعبر عن واقع خدمات الصحة النفسية ؛ فهناك عدة أطباء مقيمين متفرغين للعمل النفسي لا يقل عددهم عن 5 أطباء رغم أنهم لم يحصلوا على شهادة اختصاص، وهناك أكثر من 100 طبيب رأب فجوة قد تم تدريبهم من قبل منظمة الصحة العالمية وعدد كبير منهم يقدم الخدمة في المراكز الصحية، بالإضافة إلى 300 داعم نفسي اجتماعي في الشمال السوري.
ويذكر التقرير في موضع آخر الجملة الآتية: “بسبب غياب الرعاية المختصة – الرعاية النفسية الطبية – يلجأ ما يقارب ثلث النساء للصلاة كطريقة إيجابية للتعامل مع مخاوفهن“؛ حيث إن إيراد هذه الجملة بهذه الصياغة تشير إلى أن القائمين على البحث بعيدون جداً عن المجتمع المدروس وعن قيمه الثقافية والفكرية والدينية التي تعدّ الصلاة ركناً أساسياً يحافظ عليه شريحة واسعة من المجتمع، تساعدهم في شحن طاقاتهم الروحية في كل الأوقات، ويلجؤون إليها بشكل إضافي في الأزمات لطلب العون والدعم من الله، وليس لأنهم يفتقدون الرعاية المختصة.
حساسيات ثقافية ومجتمعية غائبة:
لعل الفقرة التي لاقت الاهتمام الأكبر من وسائل الإعلام العربية والغربية -التي تجاهلت بقية الفقرات التي تعرض جوانب مهمة من الاحتياج – كانت الفقرة التي تتحدث عن العنف الجنسي ضمن هذه المخيمات، وهو ما تسبب برفضٍ مجتمعيّ بالغٍ للتقرير والجهة التي أصدرته؛ نظراً لأن القائمين على البحث لم يكن لديهم تصوُّر لحساسية عرض مثل هذه المواضيع في المجتمعات العربية، وضرورة الدقة في عرض المعلومة حتى لا يتم التسبب بمشاكل مجتمعية جديدة.
فقد أشار التقرير إلى أن “25% من النساء كانوا شهوداً على اعتداءات جنسية تحدث يومياً أو أسبوعياً أو شهرياً”[13]، وهو ما طارت به بعض المواقع الإعلامية العربية لتدّعي أن رُبع النساء في المخيم تعرضن لاعتداء جنسي، في محاولةٍ لتقديم ما تظنه سبقاً صحفياً وإثارة لزيادة القراءة، وتجاهلت هذه المواقع الجملة اللاحقة التي أشارت إلى أن 9% من النساء أشرن إلى أنهن تعرضن لهذا الاعتداء[14] دون التفريق بين التعرض للاعتداء أو شهود الاعتداء أو السماع عنه.
وبالعودة لما ورد في التقرير تبدو الجملتان أعلاه متناقضتَين؛ فالحديث عن أن رُبع النساء شهدن مثل هذه الحوادث التي تتكرر بشكل يومي أو أسبوعي أو شهري قد لا يكون صحيحاً، خاصة في بيئة مفتوحة مثل المخيمات لا يمكن فيها التستر عن حوادث الاعتداء أو الاغتصاب التي تتم دون رضا الضحية، وقد يكون المقصود بشهود مثل هذه الحوادث السماع عنها أو وصول بعض أخبارها؛ فالشهود العيني أمر غير ممكن في مثل هذه المجتمعات، ومما يعزز هذه الفرضية الاقتباس الوارد على لسان أحد الذين تمت مقابلتهم في التقرير ذاته والذي يشير إلى أنهم يستقبلون بين 2-3 حالات اغتصاب سنوياً وأن هذه الحالات موثقة[15].
وتشير إحدى العاملات في أحد المخيمات المخصصة للأرامل إلى أن حوادث التحرش موجودة، وهي لا تتعدى ما كان ملاحظاً في مجتمعاتنا السابقة؛ إلا أن الحديث عن حوادث اغتصاب أو اعتداء جنسي بالمعدلات التي وردت في تقرير المنظمة أمر مبالغ به، لاسيما وأن مثل هذه الحوادث لا يمكن التكتم عنها، وأن 90% من حوادث الاغتصاب يتم التبليغ عنها طبياً أو مجتمعياً ويتم إنزال العقوبة بالجاني[16].
وحول إمكانية التستر عن مثل هذه الانتهاكات أشار بعض العاملين في المنظمات الإنسانية إلى أن الجهات المانحة فرضت على المنظمات العاملة إنشاء وسيلة لاستقبال الشكاوى التي يفترض أن ترد إلى المنظمة في كل أنماط المشاريع، ويتم التحقق من آلية متابعة الشكاوى ومدى اطلاع المستفيدين عليها واستخدامهم لها من قبل طرف ثالث يقوم بعملية رقابة وتقييم إضافي، تحت طائلة حرمان المنظمة من الدعم في حال المخالفة، هذا بالإضافة إلى وجود منظومة تبليغ إضافية عن الشكاوى أو الانتهاكات يمكن من خلالها للمستفيدات تبليغ عناصر الأمن أو إدارة المخيم أو حتى السلطات المحلية التي سبق وتجاوبت مع عدد من التبليغات.
وحول قيود الحركة المفروضة على مخيمات الأرامل، وبالعودة إلى سؤال عاملين وعاملات لهم احتكاك بهذه المخيمات فقد وضعت جميع مخيمات الأرامل قيوداً صارمة على دخول الذكور إلى داخل المخيم، لكنها أفسحت المجال للإناث من خارج المخيم لزيارة أقاربهن، وأفسحت المجال للمقيمات ضمن المخيم بمغادرة المخيم بعد إعلام الإدارة بشرط عودتهن قبل ساعة معينة، كما أفسحت إدارة المخيمات المجال للعديد من المنظمات لتقديم دورات وتدريبات في مجال الحماية وبناء القدرات بشرط أن يكون القائمون على تلك الدورات من الإناث، وذلك في محاولة لحماية هذه الشريحة من الاستغلال أو التجاوزات[17].
وقد خلط التقرير بشكل واضح بين واقع مخيمات الأرامل والمخيمات العامة، وعمّم فكرة حرمان النساء من مغادرة المخيم وعزلتهن عن المجتمع على جميع مجتمع الدراسة؛ إلا أن المواقع الإعلامية أخطأت بشكل مضاعف ومقصود عندما استلت عبارة وردت مرة واحدة على لسان أحد الذين تمت مقابلتهم يعبر فيه عن رأيه حول إمكانية استغلال تضييق الحركة من قبل المسؤولين على النساء مقابل خدمات جنسية، وهو ما أُطلق عليه” الجنس من أجل البقاء”، لتطير هذه الجملة وتصبح العنوان العريض والنتيجة الأبرز الذي خلص إليه التقرير الذي روّجته صحيفة الغارديان، ورددته بعدها عشرات المواقع العربية دون تثبت أو تحقق.
لقد أسهم التقرير بشكل ما، وأسهمت الوكالات والشبكات الإعلامية بشكل أكبر بتنميط صورة مغلوطة عن شريحة ذات حساسية، وإشاعة حالة من الوصمة المجتمعية السلبية تجاهها؛ بما يعزز من ضعفها ويزيد من مشاكلها، ويجعلها عرضة للاستغلال الإضافي بحجة ضعف مقاومتها واحتياجها.
جوانب محقة في التقرير تجاهلها الإعلام:
ضم التقرير 4 محاور أساسية؛ تحدث الأول عن واقع الإهمال وعمالة الأطفال، والثاني عن العنف الجنسي الذي تتعرض له النساء والأطفال، والثالث عن احتياجات كبيرة في مجال الصحة العقلية والدعم النفسي، فيما ركز القسم الأخير على قيود الحركة ونقص الخدمات العامة، وهي جوانب مهمة كان من المفترض أن تلقى الاهتمام نفسه والتغطية نفسها من الشبكات الإعلامية التي تجاهلتها عمداً، وسعت إلى التركيز على جزء واحد فقط.
ولعل هذا التقرير يسلط الضوء على بعض جوانب الخلل في التعامل مع قضايا الأرامل والأيتام، لاسيما مع غياب الدراسات المعمقة لواقع هذه الشريحة واحتياجاتها المتجددة في ظروف غير إنسانية يعيشها المجتمع بأكمله، من أبرز هذه القضايا مسألة فصل الأرامل عن المجتمع تحت ذريعة الحماية المبالغ بها، ومصادرة حريتهم بشكل جزئي تحت ذريعة تقديم الدعم.
وتشير إحدى المنظمات التي عملت منذ عام 2014 على تشييد مخيمات للأرامل إلى أن تجربة فصل الأرامل لم تكن تجربة ناجحة، وأنها اضطرت في وقت لاحق لدمج مخيم الأرامل مع المخيم العام الذي يجاوره، وتسعى حالياً لتكرار التجربة مع المخيم الآخر، لاسيما وأن هذا الفصل أضعف اندماج هذه الشريحة مع المجتمع، وخفّض من إمكانية تمكينها لتكون جاهزة للاعتماد على نفسها مستقبلاً فيما لو توقف الدعم[18].
ومن جهة أخرى تبدو إشكالية فصل الأطفال الذكور الأيتام عن عائلاتهم بعد بلوغهم سن 11 كما أشار التقرير، أو بعد بلوغهم سن 14عاماً كما ورد على لسان بعض المشرفين على مخيمات أخرى مشكلة أخرى تزيد من تشتت العائلة، وتضاعف حالة اليتم لدى الطفل أو المراهق الذي لم تُتح له الفرصة لأن ينشأ بشكل سوي تحت ذريعة حماية الأرامل.
ومن جهة أخرى تبرز مشكلة زواج القاصرات أو عمالة الأطفال التي وردت في التقرير كإحدى المشكلات المحورية التي يجب تسليط الضوء عليها بالمزيد من البحث والدراسة، خاصة مع التراجع الشديد لدعم قطاع التعليم وتسرب 44% من الأطفال في سن التعليم من المدارس في مناطق المعارضة وفقاً لدراسات ميدانية أخرى[19]، حيث إن هذه المشاكل تبدو من ارتدادات الحرب، وليست مشاكل مقصورة على الأيتام أو على مخيمات الأرامل.
ماذا بعد التقرير؟
رغم كل الزوبعة التي رافقت التقرير يمكن القول: إن من الإيجابيات التي استطاع التقرير تحقيقها هو تسليط الضوء مجدداً على شريحة الأرامل والأيتام، وهي إحدى الشرائح الهشة، وإظهار مدى تفاقم الاحتياج ومحدودية الاستجابة التي تتلقاها، خاصة المشاريع والدعم المقدم من جهات دولية بهدف إيلائها المزيد من الرعاية والاهتمام.
ولعل هذا التقرير يكون بمثابة جرس إنذار يدفعنا كمجتمعات ومنظمات محلية تثمّن قيم المجتمع وتعرف ثقافته المحلية وشبكات التأثير فيه لإعادة النظر والتقييم المنصف لجهود الاستجابة المقدمة ومدى نجاحها وقدرتها في حل المشكلة، لاسيما وأن مفهوم الرقابة والتقييم وقياس الأثر لا يزال محدوداً جداً يتم العمل به كجزء مفروض على المشروع، ولا تتم الاستفادة منه في ترقية حقيقية وفعالة للخدمة المقدمة.
ومن جهة أخرى يُظهر التقرير أهمية وجود دراسات سورية معمقة تناقش الظواهر والمشاكل المجتمعية من وجهة نظر منضبطة وحيادية، وتلفت الانتباه إلى مكامن الخطأ والثغرات التي تجب معالجتها، على ألا تبقى هذه الدراسات حبيسة الأوراق؛ وإنما تتحول إلى ورشات عمل ومشاريع تتعامل معها المنظمات العاملة في المجال الإنساني بالتعاون مع المؤسسات التربوية والدعوية والنفسية والتعليمية بجدية واهتمام لتطوير عملياتها، لاسيما فيما يتعلق بالعمل مع الشرائح الهشة كالأيتام والأرامل؛ حيث إن تكامل الجهود بين هذه الجهات يرفع من سوية هذه الشرائح، ويعزّز من تمكينها، ويجعل التضييق المجتمعي تجاهها في أضيق مجالاته.
لقد نجحت العديد من المنظمات الإنسانية السورية في تطوير عملها والاستمرار به رغم كل الصعوبات التي واجهتها؛ إلا أن التحدّي الحقيقي الذي يواجهه الجميع هو تطوير العمل الإنساني والمجتمعي والارتقاء به انطلاقاً من همّ وطني، وحرصاً على بناء مجتمع سويّ معافى، وسعياً للوصول به إلى درجة الإحسان والإتقان الذي أمرنا به الإسلام، لا من أجل الحرص على إرضاء الداعمين وضمان استمرار تمويلهم، وهذا ما يقتضي المزيد من الدراسات والمزيد من الشفافية وتقبل النقد والاعتراف بالخطأ والسعي إلى تصحيحه لضمان تحقيق الأثر المرجو الذي يتناسب مع حجم الجهود والإمكانيات المبذولة.
ومن المأمول حالياً أن يتحرك هؤلاء الغاضبون الغيورون على أعراض النساء السوريات لتصحيح الواقع الحالي، وسد الثغرات ومراجعة الأخطاء وتقديم مشاريع نوعية تتناسب مع الاحتياجات الحقيقية لهذه الشريحة، والاهتمام بإقامة ودعم مشاريع التعليم والدعم النفسي والرعاية الصحية، ومكافحة عمالة الأطفال التي من شأنها مساعدة هذه الشريحة الهشة على تجاوز ظروفها والتغلب عليها والتحول إلى فئات فاعلة منتجة قادرة على الاعتماد على نفسها وتحقيق النجاح المأمول منها.
لمشاركة المقال: https://sydialogue.org/vmlu
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة