
خطوات عملية لبناء مؤسسات حكومية فعّالة في سوريا
ورقة سياسات
ملخص تنفيذي:
تناقش هذه الورقة مسألة إعادة بناء مؤسسات الدولة في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، وتُقدّم خارطة طريق عملية للإصلاح المؤسسي في سياق انتقالي معقّد.
تنطلق الورقة من فرضية أن بناء السلام وإتمام عملية الانتقال السياسي بشكل حرّ وتشاركي لا يمكن أن ينجح دون مؤسسات حكومية فعالة، شرعية، وقادرة على تقديم الخدمات وإنفاذ القانون، إذ تشير التجارب إلى فشل العديد من التجارب وتجدد النزاعات في الدول الهشة نتيجة ضعف حوكمة المؤسسات وعدم قدرتها على دعم الأمن والاستقرار والانتقال إلى نظام جديد.
تعرض الورقة تحليلًا لواقع المؤسسات السورية، مستندة إلى مؤشرات دولية حول هشاشة الدولة، وتوضح كيف صنع نظام الأسد السابق خلال سنوات حكمه مؤسسات شكلية ومترهلة، تفتقد للكفاءة والمساءلة، وتشير إلى أن استمرار هذه المؤسسات بنفس الوتيرة ونفس منظومة العمل بعد التغيير السياسي دون إصلاح عميق سيؤدي إلى إعادة إنتاج الاستبداد بصور جديدة.
تتبنى الورقة مقاربة “المأسسة قبل التحرير” (IBL)، مؤكدة على ضرورة البدء بإصلاح الإدارة العامة، وبناء جهاز قضائي مستقل، وأمن مهني، قبل إطلاق المسار الدستوري أو إجراء الانتخابات، وتقترح العمل على أربعة مستويات متداخلة؛ وهي إعادة بناء الهياكل التنظيمية لمؤسسات الدولة وإصلاحها، ثم الانطلاق في بناء نظام سياسي وطني يبدأ من كتابة الدستور ثم الانتخابات بخطوات تشاركية تعزز شرعية النظام الجديد وتراعي الخصوصية الثقافية والتجربة التي مرت بها البلاد.
تقدم الورقة خارطة طريق تبدأ بجمع المعرفة وتقييم المؤسسات القائمة، ثم تمر بإعادة الهيكلة، وبناء القدرات البشرية، وتفعيل نظم الرقابة والمساءلة، مع أمثلة تطبيقية (كوزارة التربية)، وتشدد على ضرورة مواءمة الإصلاح مع السياق المحلي، والابتعاد عن النماذج الجاهزة.
تؤكد الورقة أن الإصلاح المؤسسي هو حجر الأساس في نجاح أي تحول سياسي، وأن تجاهله يمثل خطرًا كبيرًا على الاستقرار، والعدالة، وثقة المواطنين، وتقدم مجموعة من التوصيات للحكومة وللمنظمات وتركز على فهم آلية سير عمل المنظومة المؤسسية السابقة وتحديد الفجوات وإصلاحها والتعلم من الدروس لمنع تكرار حدوث الانتهاكات، بالإضافة إلى ضرورة تعزيز الشفافية واستخدام التكنولوجيا للتخفيف من البيروقراطية والفساد، كما تشير إلى أهمية الاستثمار في رفع كفاءة الموظفين وتدريبهم والاستفادة من الكفاءات السورية في الداخل والخارج.
مقدمة:
دخلت سوريا في كانون الأول 2024 مرحلة انتقالية بعد ما يزيد عن عقد من انطلاقة الثورة السورية وما جرى على إثر انطلاقتها من حرب نظام الأسد البائد على الشعب السوري وانطلاق صراع حادّ بأبعاده العسكرية والسياسية والاقتصادية، نتجت عنه خسائر ودمار هائل على المستوى المادي والمعنوي والبشري نتيجة اعتماد نظام الأسد البائد على الحلول العسكرية لمعاقبة المعارضين لنظامه وسياسته واستقدامه الدعم الإيراني والروسي.
لقد أدى سقوط نظام الأسد البائد إلى انهيار مؤسسة الجيش والأمن بشكل مباشر، بينما توقفت العديد من المؤسسات الحكومية عن أداء بعض خدماتها لفترات متفاوتة[1]، وبدأت الحكومة المؤقتة الأولى “حكومة محمد البشير” بتسيير شؤون الوزارات والمؤسسات[2] ريثما تم اختيار أعضاء الحكومة الانتقالية التي استلمت مهامها في مطلع شهر نيسان 2025[3].
وجدت الحكومة الجديدة نفسها أمام إرث ثقيل وتحديات داخلية وخارجية كبيرة[4]، ومؤسسات مهترئة، وصعوبات كبيرة في تقديم الخدمات للمواطنين، خاصة الخدمات العاجلة والطارئة. إلى جانب ملفات فساد إداري وترهُّل وظيفي[5]، وخزينة فارغة للدولة لا تملك السيولة الكافية، إضافة إلى ضرورة استبعاد المتورطين ورجالات النظام السابق من المفاصل الحساسة، وكثير من ملفات الظلم والفساد التي خرجت للعلن[6].
وقد واجهت الحكومة تحديات كبيرة في إدارة المؤسسات القائمة، وارتكبت الأخطاء، وأصدرت بعض القرارات وتراجعت عنها[7]. وبدأت هذه المشاكل تظهر بشكل أوضح في المؤسسات الجديدة التي تم إنشاؤها على عجل، كالمؤسسة الأمنية والجيش اللتين أظهرتا الحاجة لكثير من الضبط وإعادة الهيكلة والتدريب والرقابة، لاسيما بعد الأخطاء والانتهاكات التي حدثت خلال الفترات السابقة[8].
يمكن القول: إن ثمّة توافقاً كبيراً على ضرورة إعادة بناء مؤسسات الدولة العامة في سوريا، بما يدعم الرؤية المستقبلية المنشودة للدولة، ويتناسب مع الرغبة في الانفتاح الاقتصادي السريع والتعافي من آثار الحرب السابقة. وقد قُدمت العديد من التصورات حول الخطوات المطلوبة لتجاوز التحديات، وكانت تركز على سياقات عامة مثل الدعوات لإصلاح المنظومة القانونية والدستورية والبدء بمسار عدالة انتقالية وغيرها[9]، كما حاول كثير من الخبراء والباحثين تقديم مقاربات تعتمد على دراسة حالات شبيهة[10].
رغم أهمية هذا الزخم الفكري إلا أن إسقاطاته العملية التطبيقية لا تكاد تُرى؛ ولذا يرى البعض أنه بقي يدور بدرجة كبيرة في دائرة التنظير وتوصيف الواقع ومشكلاته والتوصيات بحلول، ولم يقترب من آليات التنفيذ التي تأخذ طريقها للتنفيذ العملي، وتسمح بالوصول إلى درجة الاستقرار المطلوبة اللازمة لإتمام عملية الانتقال السياسي بشكل فعال؛ فكان من الضروري والمهم تقديم رؤية تفصيلية تساعد صانع القرار في وضع الخطوات الأولى لعملية إعادة بناء مفاصل الدولة على نحو سليم.
إن أغلب الاهتمام والتركيز والجهد ينصبّ في المراحل الانتقالية على الجوانب السياسية والأمنية، كإعادة كتابة الدستور وإطلاق الحريات وإنشاء الأحزاب وإطلاق مسار العدالة الانتقالية وسحب السلاح العشوائي، بينما يظل الاهتمام بإعادة بناء المؤسسات بدرجة أدنى، ولا يتطرق لمستويات عميقة؛ وهو ما يجعل عملية ضبط الأمن وإنصاف المظلومين، ومكافحة الفساد، وتقديم الخدمات لا تتوافق مع طموحات المواطنين وتصوراتهم حول الانتقال الآني إلى نظام جديد، وغالباً ما تواجه هذه العملية الكثير من العراقيل والبيروقراطية والنقص في الكفاءات، إلى جانب إرث ثقيل من الانتهاكات والمظالم التي تورطت فيها بعض المؤسسات في العهد البائد.
تسعى هذه الورقة إلى تقديم تصوُّر عمليّ مبنيّ على مجموعة من الأدبيات الرصينة والأدلة العالمية التي أنتجتها مؤسسات دولية متخصصة خاضت العديد من التجارب، وذلك بالاعتماد على منهجية البحث المكتبي والبحث الاستشرافي، محاولة الإجابة عن الأسئلة الآتية:
- أين تقع عملية إعادة بناء المؤسسات في أولويات عملية الانتقال السياسي؟
- ما هي الخطوات العملية المطلوبة لإعادة بناء المؤسسات في سوريا ما بعد الأسد لتصبح مؤسسات ذات كفاءة وفعالية؟
تتطرق الورقة في قسمها الأول إلى العلاقة بين الهشاشة والدولة والسلام، ثم تناقش في محورها الثاني الأولويات في المراحل الانتقالية ما بين بناء نظام سياسي جديد أو بناء المؤسسات، ثم في المحور الثالث تناقش الجوانب التي يُفترض أن يتم التركيز عليها في عملية إعادة البناء المؤسسي، لتقدّم في المحور الرابع خارطة طريق أولية تساعد في فهم عملية الإصلاح المطلوبة بمراحلها، ثم تُختتم الورقة في القسم الأخير بمجموعة من النتائج والتوصيات المقدمة لصنّاع القرار والمعنيين بهذا الموضوع.
أولاً: الدول الهشّة وعملية بناء السلام
يقدم مفهوم “الدولة الهشّة” نموذجاً عن جوانب الضعف التي يمكن أن تولّد مشكلات وصراعات داخلية وخارجية؛ إذ ينجم عنه اختلال كبير في علاقة الدولة مع المجتمع، ويرفع احتمالية حدوث نزاعات وكوارث إنسانية، ويزيد من فرص انهيار الدولة، ويخلّف أزمات تتعدى الحدود الإقليمية للدولة المعنية[11].
ازداد الاهتمام بتتبّع الدول الهشّة لأنها أصبحت تشكل تهديداً للأمن الدولي؛ نظراً لإمكانية تورّطها في انتهاكات لحقوق الإنسان، والتسبب بأزمات وصراعات داخلية ينتج عنها هجرات جماعية، فضلاً عن كونها بيئة مناسبة لنمو المجموعات المتطرفة أو تحولها إلى مناطق خارجة عن القانون، كما أنها تصبح مساحة للتدخلات الخارجية نتيجة ضعف حوكمة المؤسسات، مما يزيد من تآكل السيادة فيها ويولّد ضغوطاَ خارجية تسمح بالتدخل في شؤونها[12].
فحينما تنهار مؤسسات الدولة الرسمية في سياقات النزاع أو ما بعده لا تغيب السلطة عن المشهد العام، وإنما يتبدل شكلها؛ ففي كثير من الحالات تملأ الفراغَ قوى بديلة تمارس أنماطاً مختلفة من الحكم؛ سواءٌ عبر السيطرة المسلحة، أو توفير الخدمات، أو فرض قوانين محلية غير رسمية؛ فتتحول الدولة إلى مجرد واجهة شكلية، وتتآكل شرعية القانون ومؤسساته بشكل قد يصعب بعدها إعادة بناء المؤسسات[13].
ومن جهة أخرى تميل الدول الخارجة من صراعات غالباً إلى إعطاء الأولوية لإحلال الأمن وإعادة بناء الجيش والشرطة، متجاهلة الإصلاح القضائي والمؤسساتي والإداري؛ مما يؤدي إلى أمن هشّ قائم على القمع، بدلاً من الشرعية، وقد تعيد إنتاج الانتهاكات التي كانت سبباً في تفجُّر الصراع[14].
وعند الحديث عن الدولة[15] لابد من التمييز بين نطاق عمل الدولة، أي المهام والخدمات التي تقدمها، وبين قدرتها على تنفيذ هذه المهام بكفاءة وعدالة؛ فعلى سبيل المثال: قد تملك الدولة أجهزة أمنية قوية، ولكنها تعاني من ضعف إداري في أبسط الخدمات العامة، فتحمل الدولة مسؤوليات كبيرة دون أن تمتلك أدوات تنفيذ فعالة، وهو ما يؤدي إلى الفشل المؤسسي[16].
تستمد الدولة شرعيتها الأولى من قبول المجتمع المحلي طوعياً بها، ومن الاعتراف بسلطتها وبمؤسساتها والاستجابة لقوانينها، واعتبارها ممثلة له وخادمة لمصالحه، وهذه الشرعية هي السبيل الوحيد لخلق حالة من الاستقرار والاستدامة. ومع ذلك قد تنجح سيطرة الدولة الجبرية وفرض الطاعة بالعنف وتكميم الحريات وتخويف المواطنين أحياناً في فرض نظام؛ لكنها لا تبني ثقة، ومع تراجع القوة ينهار النظام[17]؛ وهو ما حدث في سوريا.
وبالنظر إلى أداء الحكومات في عهد نظام الأسد البائد لطالما كانت سوريا ضمن مراتب متقدمة في مؤشر الهشاشة العالمي، ضمن فئة الإنذار الأحمر (المرتبة الثامنة والأربعون عام 2011)، وهو ما قدّم مؤشرات حقيقية على قرب انهيار وشيك يستدعي تدخلات عاجلة؛ إلا أن نظام الأسد تجاهل لسنوات هذه المؤشرات، واستمر بسياساته نفسها لسنوات، حتى انفجر الوضع واندلعت الثورة. ومع إصراره على الحل العسكري واستدعائه التدخل الخارجي تدهور الوضع في سوريا، وتصدرت المرتبة الرابعة عالمياً على المؤشر العالمي للهشاشة عام 2024 بمعدل وصل 108.1 نقطة ضمن فئة الإنذار العالي (الشكل1)[18].
ويُعد هذا المؤشر الذي أعدّه صندوق السلام[19] أداةً مهمة؛ فهو يشير إلى المواضع الحرجة التي يمكن أن تدفع دولةً ما نحو حافة الانهيار، وذلك بتركيزه على مجموعة مؤشرات فرعية، كمؤشر التماسك الذي يركز على الأجهزة الأمنية والنخب المنقسمة والمظالم الاجتماعية، والمؤشرات الاقتصادية التي تبحث في التدهور الاقتصادي والتنمية غير المتكافئة وهجرة الأدمغة، والمؤشرات السياسية التي تقيس شرعية الدولة والخدمات العامة وحقوق الإنسان وسيادة القانون، بالإضافة إلى المؤشرات الاجتماعية التي تتابع الضغوط الديمغرافية والنازحين واللاجئين والتدخل الخارجي[20].
جدول 1 : سوريا وفق مقاييس الهشاشة العالمية، في أعوام 2006-2011-2018-2024[21]
تشير الأرقام الواردة في الجدول (1) إلى أن سوريا قبل اندلاع الثورة كانت تعاني من مشكلات جادّة جداً في مواضيع المظالم الاجتماعية، والتنمية غير المتكافئة وشرعية الدولة وحقوق الإنسان وسيادة القانون، كما كانت تعاني من مشكلات واضحة في أجهزة الأمن والنخب المنقسمة، والضغوط الديمغرافية، والنازحين، واللاجئين.
وبالنظر إلى هذا الإرث الطويل من عوامل الهشاشة المزمنة التي تراكمت آثارها في السنوات الماضية، ثم انهيار الوضع بعد عام 2011 لتبلغ مستويات قياسية في الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية كافة إلى جانب التماسك. ومع دخول البلاد في عهد جديد أصبح من الضروري معالجة هذه الإشكاليات، والتخفيف من مستويات الهشاشة المتأصلة في بنية الدولة ومؤسساتها؛ نظراً لكونها ترفع إمكانية إعادة إنتاج الصراع ولو بأشكال جديدة، كما أنها تؤثر بشكل كبير في عملية التعافي الاقتصادي وتأمين الخدمات وتعزيز الأمن والعدالة التي تُعد من أولويات المراحل الانتقالية.
ثانياً: بناء النظام السياسي أم بناء المؤسسات؛ أيهما أولاً لتعزيز السلام في المراحل الانتقالية؟
عملية بناء السلام بعد النزاعات من المهام الدولية التي طُبقت في العديد من الدول والمناطق بإشراف الهيئات والمؤسسات الأممية، وغالباً ما ركّزت في ممارساتها على إجراء الانتخابات والخصخصة وتحرير السوق كوسيلة لتعزيز الاستقرار؛ إلا أن الواقع على الأرض أوضح أن تكرار العملية بالاعتماد على نماذج جاهزة مستوردة من الخارج لم يجلب السلام، لاسيما عندما تتجاهل هذه النماذج السياق المحلي وخصوصيته، فتكون النتيجة أن التجربة لم تنتج أنظمة مستقرة، بل أعادت إنتاج نموذج الهشاشة الذي رفع احتمالات تجدُّد الصراع[22].
إن عمليات بناء السلام النظرية تفترض وجود دولة قائمة ومستقرة يمكن التعويل على مؤسساتها في تنفيذ الخطوات المطلوبة؛ إلا أن الواقع والتجربة يشيران إلى أن الدول الخارجة من نزاعات تعاني من غياب الدولة أو هشاشتها، وهو ما يجعل عملية التنفيذ ضعيفة؛ ولذا فإن الحديث عن إعادة بناء الدولة يصبح شرطاً أساسياً لتعزيز الاستقرار، لأن وجود مؤسسات قوية، من قضاء مستقل وإعلام حرّ وأجهزة أمنية محايدة ومجتمع مدني نشط، سيكون هو الضامن لنجاح عملية التحول[23].
ومما يعزّز هذه الفرضية دراسات لتجارب دول عدة خرجت من صراعات، وقامت بتحليل عوامل الفشل والتحديات التي واجهتها؛ فقد أظهرت نتائج التحليل أن بناء المؤسسات هو لبنة أساسية قبل البدء بتطبيق الديمقراطية والانفتاح الاقتصادي؛ ففي كوسوفو رغم صلاحيات الأمم المتحدة الإدارية في الإقليم كان تأخير الحسم الأمني والبناء المؤسسي ذا نتائج سلبية، وفي سيراليون رغم النجاح في ضبط الأمن تمت إعادة إنتاج الاستبداد لعدم وجود مؤسسات قوية[24].
كما أن غياب أو ضعف مؤسسات الدولة، وافتقادها لجهاز قضائي مستقل، ومؤسسات فعالة وأجهزة أمنية يعني فقدان الدولة قدرتها على تطبيق القوانين وحفظ الأمن وإدارة الاقتصاد، إضافة إلى كون الفساد المنتشر عاملاً مقوّضاً للعملية السياسية بأكملها؛ فهو يفسد الثقافة والقيم، ويقدم أصحاب الولاءات الشخصية على أصحاب الكفاءة والقدرة، فتضعف ثقة المواطن بالدولة، فتتحول المؤسسات إلى أدوات بيد النخب العسكرية أو الأحزاب الحاكمة[25].
لماذا يُعد بناء المؤسسات أولوية؟
إن عملية الانتقال نحو نظام سياسي تشاركي تبدأ من عملية إصلاح إداري عميق للمؤسسات البيروقراطية، تعزّز الاستقلال المؤسسي، خاصة في المؤسسات الرقابية والقضائية، وتركز على ثقافة الخدمة العامة والنزاهة الإدارية، فهناك حاجة لإدارة الصراع السياسي بطرق سلمية، وضمان إنفاذ القانون حتى لا ينهار النظام أو يعيد إنتاج نسخة سابقة[26].
إنّ وجود مؤسسات وطنية، فعّالة، شرعية، منضبطة دستورياً هو الأساس لضبط التنافس السياسي والاقتصادي، وضمانة لعدم إعادة إنتاج الاستبداد عبر انتخابات متسرعة؛ فكما أن غياب الدولة يجعل التنافس فوضوياً تعجز فيه المؤسسات عن ضبط الحريات أو حلّ النزاعات السياسية، فإن إعادة بناء مؤسسات الدولة يجب أن يأتي أولاً ليحضّر البيئة المطلوبة لمناخ حرّ يفضي إلى عملية استقرار وسلام مستدام، وهذه الدولة يجب أن تكون “قادرة” تمتلك أدوات تنفيذ القانون وتقديم الخدمات، وأن تكون “مقيدة” لا تحكم بشكل تعسفي، وإنما تخضع لدستور وتوازن سلطات[27].
إنّ الدولة هي التي تحمي الحريات، وقد أثبتت التجارب أن الحريات لا يمكن أن تُمارس أو تُحمى أو تُترسخ دون وجود دولة فعالة وقادرة، بل إن استراتيجية بناء المؤسسات قبل التحرير[28] “Institutionalization Before Liberalization – IBL” تقتضي إعادة بناء منظومة الأمن والقضاء ثم المؤسسات الإدارية، قبل البدء بإعادة كتابة الدستور وإطلاق الانتخابات، ولكن البدء بهذه الاستراتيجية يحتاج إلى إرادة سياسية ودعم وتمويل دولي، وهو يواجه تحديات جمّة؛ نظراً للضغوط الخارجية لتسريع إنتاج نظام جديد، وغياب التنسيق والدعم الدولي والتكلفة المالية والزمنية، فضلاً عن مقاومة النخب المحلية التي تفضّل انتخابات سريعة على عملية إصلاح جذري طويلة[29].
إن وجود الدولة لا يكافئ فقط مفهوم السلطة والسيادة، بل يتجذر في وجود إدارة عامة وفعالة تنفّذ القوانين وتجمع الضرائب وتنفّذ السياسات العامة، وكلما تراجعت القدرة على الإدارة العامة للدولة تصبح الدولة هيكلاً فارغ المضمون بما يقوض شرعيتها[30].
وبحسب دراسات معمّقة فإن بناء الدولة لا يبدأ بالدستور، وإنما بالموظف والمحاسب ورجل المرور، وإن الافتراض بأنّ الإدارة ستتطور تلقائياً مع الوقت دون الاستثمار بالبنية التحتية هو افتراض خاطئ؛ ولذا فإن الإصلاح الإداري مهم جداً لأنه استثمار طويل الأمد يمكن من خلاله ضمان بناء جهاز إداري مهني ومحايد قائم على توظيف الأكفاء، وتدريب مستمر للكوادر، وضمان حيادية المؤسسات من خلال تشريعات تحظر التدخل السياسي المباشر في التعيينات والقرارات الإدارية[31].
وفي الحالة السورية ينتظر السوريون انتقالاً سياسياً سلساً وفعالاً، يسمح لهم بالتعافي من سنوات الديكتاتورية وتقييد الحريات وتجميد المجتمع المدني، ومع أن الاهتمام يركّز بمعظمه على الخطوات المتعارف عليها في مثل هذه الحالات، كاختيار مجلس تشريعي جديد والبدء بكتابة الدستور؛ إلا أن هذه الخطوات لن تكون كافية وحدها لتحقيق استقرار وإقناع السوريين بحدوث تغيير حقيقي، لاسيما وأن الخطوات السياسية تحتاج إلى زمن وترتيبات مسبقة وحالة من الأمن والاستقرار لا يمكن أن تحققها مؤسسات الدولة الحالية التي لا تزال تحتفظ بهيكليتها ومنظومتها القانونية والإدارية القديمة والمهترئة والمبنية على أسس تعزّز الفساد، إضافة إلى كون المنظومة القضائية السابقة غير قادرة على التجاوب مع التحديات الجديدة[32]، وتحتاج إلى إصلاحات حقيقية لضمان إعادة الحقوق لأصحابها ومحاسبة المتورطين في الانتهاكات على اختلاف صلاحياتهم ومواقع عملهم، مع الحاجة إلى معالجة الترهُّل الإداري[33] والبيروقراطية التي صُمّمت لإخضاع السوريين وابتزازهم[34].
إنّ إنجاز أي استحقاق انتخابي يتطلب وجود مؤسسات حقيقية قادرة على تقديم معلومات وبيانات عن الواقع الجديد وعن أعداد السوريين المعنيين بهذه العملية ومناطق توزعهم، كما أن ضمان وجود البيئة اللازمة لهذا الاستحقاق يحتاج إلى مؤسسات أمنية راسخة، وإلى منظومة قضائية قادرة على البتّ في النزاعات والشكاوى والصراعات السياسية، وإلى جانب ذلك فإن حصول المواطنين على الخدمات الأساسية بشكل لائق وكريم سيجعلهم أكثر رغبة في المشاركة والمساهمة الفعالة بعد أن توفرت احتياجاتهم الرئيسة؛ مما يزيد من شرعية الحكومة في نظرهم، ويشجّع المستثمرين والجهات الداعمة على الدخول إلى السوق والاستثمار فيه بعد أن اطمأنوا لوجود مؤسسات محوكمة، بعيدة عن الفساد، قادرة على حماية استثماراتهم وتسهيلها.
ثالثاً: إعادة بناء المؤسسات: على ماذا سنركّز؟
تَظهر مؤشرات ضعف الإدارة العامة للدولة من خلال عدة أمور، منها: غياب الكوادر ذات الكفاءة والهياكل الإدارية الفعالة، وعدم وجود آليات فعالة لضبط إيراداتها وتعاظم نفوذ بعض المجموعات المحلية أو الطائفية، إلى جانب غياب آليات الرقابة والمحاسبة التي تنتج فساداً مزمناً، كما تعاني المؤسسات في الدول الهشّة من عدم القدرة على الموازنة بين التفويض والرقابة، مما يحدّ من الكفاءة والابداع. إضافة إلى غياب الأهداف الواضحة القابلة للقياس التي تعيق الأداء المؤسسي، مما يجعل عمل المؤسسة غامضاً تتضارب فيه الأدوار وتتداخل فيه السلطات بحيث لا يمكن مساءلتها، ويصبح تقييمها خاضعاً للانطباعات الشخصية والاعتبارات السياسية[35].
يشير بعض الخبراء إلى أن بناء الدولة يتطلب العمل على 4 مستويات، ولا يمكن استنساخ المعرفة من سياقات أخرى إلا في المستوى الأول فقط، وهذه المستويات هي[36]:
- التصميم والإدارة التنظيمية (Organizational design): يشمل الهيكل البيروقراطي والمؤسسي للدولة.
- تصميم النظام السياسي (Political system): بكونه نظام رئاسي أو برلماني أو فيدرالي، وغيره، وما يتعلق بذلك من تنظيم العلاقة بين مكونات الدولة.
- أسس الشرعية (Legitimization) .
- العوامل الثقافية والاجتماعية (Social/Cultural factors).
جدول 2: مستويات بناء مؤسسات الدولة
لقد فشلت كثير من التجارب بسبب تصورات حول إمكانية إصلاح المؤسسات من خلال استيراد أنظمة جاهزة، دون اعتبار أن المؤسسات منتجات ثقافية تاريخية طويلة الأمد، وكائنات حية متجذرة في السياق؛ إذ من الضروري مراعاة الخصوصيات الاجتماعية والدينية والقبلية، وفهم من يمتلك السلطة الحقيقية على الأرض، ومعرفة أنماط الشرعية المتجذرة ونظرة الناس للدولة، والعمل على إعادة البناء بشكل تدريجي لغايات إصلاح حقيقي وليس للتجاوب مع مطالب المساعدات الخارجية[37].
إن الإصلاح المؤسسي الحكومي ممكن، لكنه بطيء ومعقد؛ إذ يتطلب خبرات إدارية وفهماً سياسياً للسياق، ويحتاج لكي ينجح أن يركز على القواعد والعمليات أكثر من السلوكيات والعقليات، وترتفع مقومات النجاح عند وجود دافع ذاتي محلي لذلك. وبعد التقييم لابد من بناء خطة إصلاح مرحلية واقعية مرنة تتزامن مع بناء قدرات مؤسسية وعملية تشاركية، حيث تفسح مراحل الانتقال الديمقراطي الفرصة لعمل ذلك، مع التركيز على معالجة العوامل السلوكية والثقافة التنظيمية بالحوافز وإعطاء الأولوية للقضايا الأساسية، خاصة الشفافية ومكافحة الفساد، وضمان استمرارية العملية الطويلة، بعيداً عن تجاذبات السياسة[38].
إن إعادة بناء المؤسسات المعنية بالإدارة العامة في مراحل ما بعد الصراع ليست مجرد عملية تقنية، بل يجب أن تركز على معالجة جوانب الشرعية والعدالة والثقة، وإعادة بناء الثقة في مؤسسات الدولة، وتحقيق التوازن بين الكفاءة والشرعية الاجتماعية والسياسية لضمان عدم استبعاد أي مكون للوصول إلى ما يُعرف بـ “الشرعية التفاوضية”؛ إذ لا تكفي الكفاءة فقط للوصول إلى ثقة الجماهير، بل ستُعتبر هذه المؤسسات إحدى أدوت التحكم وقد تفاقم الانقسام، كما يبدو ضرورياً تبنّي مسار تدريجي وتشاركي لبناء مؤسسات الدولة قائم على التكيف المحلي والابتكار، من خلال إشراك المجتمع المحلي في ذلك، ومن الطبيعي أن تختبر السياسات الجديدة بشكل تدريجي والتعلم من الأخطاء وتعديلها[39].
أما بالنسبة لبناء القدرات المحلية فمن الضروري ترشيد الاعتماد على الخبراء الدوليين والمؤسسات الأجنبية، مع الاستثمار في رأس المال البشري المحلي، وإطلاق برامج لجذب الكفاءات وبرامج التوءَمة مع دول أخرى، وإجراء تقييمات دورية لأداء الوزارات، مع الانتباه إلى أهمية تعزيز شعور المواطن بوجود الدولة، من خلال دفع الرواتب للموظفين واستمرار عمليات تسجيل السكان وإصدار الوثائق الأساسية[40].
إن مجرد التركيز على بناء الهياكل أو إعادة التشغيل السريع للمؤسسات لا يكفي دون إعطاء الأهمية للتعلم المؤسسي، وذلك لضمان عدم إعادة إنتاج الفشل بهيكل جديد، ويتضمن التعلم المؤسسي تطوير منظومة تقييم الأداء ونشر ثقافة الاعتراف بالخطأ وتحويل التقارير الروتينية إلى أدوات قابلة للتحليل والقياس، وجمع الدروس المستفادة وتوثيقها وتعديل السياسات بشكل دوري. ومن المهم جعل التدريب ورفع كفاءة الموظف جزءاً من روتين العمل وتشجيع العاملين على تطوير أنفسهم وتدوين المعرفة المكتسبة وتعميمها، وثمّة حاجة لتطوير نظام الأرشفة وتوثيق السياسات لتجنّب فقدان الخبرات المتراكمة ورصيد التجارب[41].
إن وجود مؤسسات قوية فعالة وشرعية هو المفتاح الرئيس للانتقال إلى مرحلة السلام والاستقرار والتنمية، ومن دونها لا يمكن تقديم الخدمات أو إنفاذ القانون أو استعادة الثقة بين الدولة والمواطنين، وإن فهم السياق المحلي وتحدياته هو الأساس لتطوير الأنظمة الإدارية وتفعيلها؛ فالمؤسسات الحكومية هي الجهة الوحيدة التي لها امتداد أفقي وعامودي في كامل الجغرافيا، وهي تمثل وجه الدولة المباشر في نظر المواطن، كما أنها تمارس وظائف تعيد تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع، وتسهم في رفع التهديدات.
رغم كل المحاولات في سوريا لإدارة الفترة الانتقالية واستقطاب الخبرات والكفاءات، وإعادة تشغيل المؤسسات لا يزال أداء المؤسسات الحكومية متأرجحاً ودون النحو المأمول؛ إذ إن زيادة الأخطاء التي وقع فيها جهاز الأمن العام خلال أدائه مهامه[42]، وعودة جرائم السرقة والقتل والخطف للواجهة[43]، وتأخر استئناف عمليات نقل الملكيات وتسجيل النفوس[44]، والمشاكل البيروقراطية في الحصول على بعض الأوراق الرسمية كجوازات السفر، واستمرار ضعف بعض الخدمات كالإنترنت والكهرباء رغم الوعود والمشاريع الموقعة، وعدم وجود تصورات عند الحكومة لإعادة إعمار المناطق المهدمة ومعالجة قضايا العائدين من النازحين واللاجئين؛ كلّ ذلك يشكّل انطباعات عامة عن ضعف أو غياب الدولة بشكلها الجديد، خاصة في المؤسسات الخدمية التي تؤثّر في حياة الناس بشكل مباشر.
رابعاً: مِن أين نبدأ؟ (خارطة طريق)
تقدم العديد من الأدلة التي أنتجتها مؤسسات رصينة خارطة عمل مبنية على حصيلة التجارب والدروس المستفادة، حتى لا تعيد اختراع العجلة وتكرر الأخطاء نفسها[45]، وتقدم بعض هذه الأدلة تصورات تركز على الحاجة لفهم السياق المؤسسي الحالي وتحليل البيئة السياسية والمؤسسية ورسم خرائط القوة وتحديد مَن يمتلك النفوذ والقدرة على التغيير، بالإضافة إلى تمييز العقبات الظاهرة والمخفية وراء الأداء الحكومي، كالديناميكيات الطائفية أو شبكات المصالح[46].
كما تركز على تحليل دوافع الفاعلين وسلوكهم المتوقع، والقواعد الرسمية وغير الرسمية التي تحكم سلوك الأفراد، والاطلاع على العوامل التاريخية والثقافية والسياسية التي أسهمت في تشكيل البيئة، مع الاهتمام بمعرفة عوامل الردع والحوافز التي تؤثر فيهم، وبدراسة السياق التاريخي وتفسير سبب تعثُّر السياسات الحالية، وتحديد أنماط التهميش والاحتكار المؤسسي، وفهم سبب مقاومة التغيير، ووضع تصور يوضح كيف وصلت الأمور إلى هنا[47].
وفي محاولة لتبسيط الأفكار الواردة في الأدلة السابقة وتلخيصها ونمذجتها يمكن أن نقدّم تصوراً حول الجوانب التي تتطلب جمع المعرفة والمعلومات قبل إطلاق عملية إصلاح مؤسسي شاملة وتدريجية (الشكل 2)؛ إذ تبرز الحاجة إلى:
- تصنيف المؤسسات العامة حسب مجالات عملها؛ إذ يحتاج كل منها إلى رؤى ودراسات تخصصية للإصلاح ومعالجات منفردة.
- تحليل الوضع السابق للمؤسسات وتوابعها، ودرجة علاقتها بالنظام السابق وتورطها في الانتهاكات، لاسيما وأن بعض هذه المؤسسات كأنت إحدى أدوات القمع الممنهج أو أنها خضعت للتسيس بشكل كبير؛ فيمكن إعداد التصورات المستقبلية عنها بناءً على قابليتها للإصلاح أو ضرورة التفكيك، خاصة المؤسسات المعنية بتحقيق العدالة[48].
- تقييم الوضع الحالي والاحتياجات المطلوبة على مستوى المنشآت والكوادر، والمنظومات الإدارية، والقانونية، والتمويل.
- النظر في الاعتبارات الخاصة للسياق السوري والخلفيات التاريخية والسياسية، ومدى تأثيرها في الأداء، وكيفية معالجة الثغرات المستحدثة فيها.
الشكل 1: المعرفة الأولية المطلوبة قبل إنجاز الإصلاح المؤسسي
وبعد إنجاز المرحلة الأولى: يمكن الانتقال إلى وضع الخطط التفصيلية لكل وزارة على حدة مع مؤسساتها المعنية؛ إذ يفترض أيضاً عمل تقييم وتشخيص تفصيلي يتم فيه تحليل الواقع واحتياجاته والتوصل إلى أسباب الفشل، ثم الانتقال إلى مرحلة المساءلة والتدقيق الوظيفي الذي يشمل محاسبة المتورطين وفق آلية مؤسسية عادلة وشفافة[49]، ليتم بعدها إعادة الهيكلة على مستوى اللوائح والقوانين وعلى مستوى الكوادر، بالإضافة إلى القيم المؤسسية وتحديد الاحتياجات والتدريبات والخبرات والموارد المطلوبة. ولضمان سير العمل بالشكل المطلوب تحتاج المنظومة الجديدة لآليات حوكمة راسخة تضمن عدم إعادة إنتاج المنظومة السابقة أو تكرار الأخطاء، وذلك من خلال إنشاء هيئات رقابة وشفافية ومساءلة حكومية ومجتمعية، مع الحاجة إلى تعزيز الثقافة المؤسسية والمشاركة الفاعلة من المجتمع، وذلك كله للوصول إلى مؤسسات سورية فاعلة ومؤثرة محوكمة خاضعة للرقابة، وتمتلك منظومة قانونية راسخة قادرة على تقديم برامج ورؤى فعالة لإدارة البلاد نحو الاستقرار( الشكل 3).
الشكل 2: خطة إصلاح المؤسسات
وفي خطوة إضافية لإنزال الأفكار إلى حيز الواقع نقدم في هذا المخطط تصوراً لكيفية البدء بإصلاح منظومة التعليم ما قبل الجامعي في سوريا، وذلك من خلال رسم خريطة لتقييم الوضع الحالي؛ نظراً لكون وزارة التربية والتعليم في سوريا إحدى الوزارات الخدمية ذات التأثير الكبير في السكان، وتتعامل مع الأجيال التي ستقود سوريا مستقبلاً، مع دورها في بناء القيم وغرس المواطنة.
يقدم هذا التصور خطة عمل أولية قابلة للتطوير والتعديل يمكن أن تتم محاكاتها وتعديلها لتتناسب مع مؤسسات أو وزارات أخرى.
يستند التقييم المطلوب لوزارة التربية والتعليم في سوريا إلى تقييم واقع الوزارة قبل الثورة وخلالها وبعد التحرير في كل مناطق النفوذ، بما يشمل أشكال التعليم الرسمي وغير الرسمي كافة، بالاستناد إلى تصورات الفاعلين والمعنيين بالعملية التعليمية والوثائق والتقارير الرسمية المتاحة (الشكل 4).
وإلى جانب تقييم واقع المنشآت والكوادر والمناهج التي يتم التركيز عليها بشكل كبير لابد من التركيز على واقع الطلاب واحتياجاتهم، وتحليل واقع العملية التعليمية ودرجة تسييسها السابق وتورطها في الانتهاكات، واختبار البنية الهيكلية والوظيفية والقانونية، والتحقق من درجة الشرعية والثقة المجتمعية والقابلية للإصلاح.
إن الوصول إلى المعلومات السابقة ليس بالأمر السهل؛ لكنه يُعد الخطوة الأولى لتقييم الواقع بشكل دقيق، وفهم تأثير السياقات المحلية السابقة واللاحقة التي ستساعد في تحديد مواقع الخلل والفجوات وتضارب المصالح والاحتياجات المطلوبة لإعادة هيكلة هذه المؤسسات، بما يضمن رفع أدائها إلى ما يتوافق مع توقعات المواطنين.
وبالاعتماد على مخرجات عملية التقييم الشاملة يمكن الانتقال إلى تطبيق المراحل الأخرى وفق الخطة الزمنية المقترحة التي يمكن تطبيقها بشكلٍ متوازٍ، وفقاً للترتيب الموضح في الجدول الآتي (الجدول 3):
الجدول 3: الخطة الزمنية المقترحة لإنجاز عملية إصلاح منظومة التعليم في سوريا
الشكل 3: نموذج تقييم لواقع وزارة التربية والتعليم السورية ومؤسساتها
خامساً: نتائج وتوصيات
إن المراحل الانتقالية في حالات الانتقال السياسي _خاصة بعد نزاع طويل_ تتصف بحساسية واحتمالية مرتفعة لتجدُّد النزاع، لاسيما مع ضعف البنى المؤسسية وسجل الانتهاكات السابق الذي تورطت فيه بعض المؤسسات، وممانعة التغيير من قبل بعض المستفيدين؛ إلا أن حالة السلام الهشّ التي تترافق مع حالات الانتقال السياسي لا يمكن أن تفضي إلى سلام حقيقي دون إعادة بناء المؤسسات العامة التي تشكّل الركيزة الأساسية لعملية انتقال سياسي مستدام، والجهة الحامية للحريات والحقوق التي تُشعر المواطنين بولادة نظام مختلف جديد.
إن إعادة بناء المؤسسات يجب أن يكون على قائمة أولويات الحكومة الانتقالية؛ بناءً على قناعة حقيقية بأهمية هذه الخطوة في تعزيز مناعة البلاد تجاه إعادة إنتاج نظام قمعي جديد، لاسيما مع ما تحمله الفترات الانتقالية من رغبة عامة في إحداث تغيير حقيقي وتعزيز شرعية النظام الجديد.
إن التهاون أو التباطؤ في البدء بمسار إصلاحي شامل يعني تفويت فرصة عظيمة تسمح بتغيير عميق في السياسات، والحصول على دعم خارجي مادي وتقني يسهم في إرساء الاستقرار ودعم عملية السلام ومنع تجدد النزاع، كما أنه يعني عودة إنتاج النظام السابق بقوانينه وسياساته وبُناه المهترئة، ولكن بوجوه جديدة تجعل المواطنين يشككون في حالة التغيير، ويرتبطون شعورياً بالماضي الذي كان أكثر استقراراً.
إن إصلاح المؤسسات لا يتحقق باستقدام بعض الخبرات والكوادر المدربة، ولا بتغيير بعض القيادات والشخصيات الإدارية فحسب؛ إذ إن ذلك كله لن يكون قادراً على إنشاء مؤسسات جديدة ما لم يتم التغيير من القواعد والبنى الإدارية والقانونية ودراسة الثغرات وجوانب الضعف وتعارض المصالح وتأثير السياسات السابقة في الأداء المؤسسي، وإعادة إنتاج منظومة جديدة محوكمة وشفافة تستطيع إعادة بناء الثقة مع المواطن وتقديم الخدمات المطلوبة بأعلى كفاءة.
إن إعادة بناء المؤسسات العامة عملية معقدة ومرهقة؛ لكنها ضرورية ومطلوبة لأنها تعيد إنتاج الشرعية الداخلية، وتحسّن من علاقة الحكومة مع المواطنين، وتجعلهم حريصين على استمرار النظام طالما أنه قائم على الشفافية والعدالة والمشاركة وتحقيق الصالح العام، وهو ما يدعم الاستقرار الأمني والاقتصادي ويشجّع المستثمرين وأصحاب المصالح على العودة والاستثمار في عملية إعادة الإعمار.
كما أن بناء المؤسسات القوية هو الضامن نحو انتقال سياسي عادل ومستدام في سوريا؛ إذ إن هذه المؤسسات الجديدة ستكون صمّام الأمان لضبط الحريات وعملية التنافس السياسي وحلّ النزاع، وقيادة هذه البلاد نحو عملية التعافي والتقدم وإدارة انفتاح السوق وعملية الاستثمار؛ بما يمنع الانزلاق إلى حرب أهلية، ويدعم الشرعية السياسية الخارجية، ويساعد في إدارة المنح والدعم الخارجي.
بناءً على ما سبق نقدم في هذه الورقة مجموعة من التوصيات السياساتية للمعنيين بهذه العملية:
إلى الحكومة الانتقالية:
- إعداد خطة وطنية شاملة للإصلاح المؤسسي ضمن رؤية واضحة للمرحلة الانتقالية، وإنشاء مؤسسة معنية تتبع لوزارة التنمية الإدارية متخصصة في ذلك تضع الخطط والبرامج وتراقب مراحل سير العمل.
- التركيز في عملية إعادة بناء المؤسسات على إصلاح القواعد التنظيمية والهياكل المؤسسية والبنى القانونية، بالتوازي مع التركيز على تغيير السلوكيات والأفكار؛ حيث إن تغيير هذه السلوكيات يصبح أسهل في ظل منظومة حكومية قوية ومحوكمة ومنضبطة، وهو ما يساعد الموظفين على الامتثال والتفاعل مع روح المؤسسات الجديدة.
- اعتماد خطط مرحلية مرنة، ذات أهداف واضحة ومؤشرات أداء قابلة للقياس، تتم مراجعتها وتعديلها وفقاً للسياق وللظروف على الأرض.
- استخدام التقنية للتقليل من العمليات البيروقراطية المؤسسية؛ نظراً لسرعتها وقدرتها على مكافحة الفساد، وتحسين جودة الخدمات.
- الاستثمار الجادّ في بناء قدرات الكوادر المؤسسية، خاصة في المستويات الإدارية المتوسطة؛ لأنها حلقة الوصل بين صنّاع القرار والتنفيذيين.
- تطوير منظومة حكومية فعّالة لـلرقابة والتدقيق الداخلي، تقوم بتوليد التقارير الدورية بشفافية، وتراقب مؤشرات الأداء.
- تعزيز الشراكة مع المؤسسات الفكرية والمعرفية المختصة بهذه المواضيع، يمكن أن تسهم في حل المشاكل وتطوير المنظومة.
- تعزيز المشاركة المجتمعية في عمليات التخطيط والإشراف على إعادة بناء المؤسسات، لزيادة شرعية العملية، وللاستفادة من تصورات المواطنين حول شكل الخدمات التي يريدونها.
- إنشاء منظومة أرشيف إلكتروني، بهدف تدوين الخبرات والدروس المستفادة والتعلم منها والبناء عليها.
- تفعيل المعهد الوطني للإدارة العامة، وتوسيع تخصصاته لتشمل تطوير منظومة الحكم الرشيد لإعداد جيل جديد من الكوادر المهنية المؤهلة، وإدراج بعض العلوم الإدارية المتطورة في التخصصات الجامعية.
- إطلاق برامج تهدف لاستقطاب الكفاءات السورية المهاجرة، والعمل على الاستفادة من خبراتها، وربطها بخطط الإصلاح.
إلى المجتمع المدني والأهلي:
- تحفيز الكفاءات السورية على المشاركة في تصميم برامج الإصلاح المؤسسي وتنفيذها، وتشجيعهم على تقديم المبادرات، وتحويل الانتقادات إلى برامج إصلاحية، وتصورات تطويرية بشكل منهجي.
- المساهمة في تقديم منح تعليمية وتدريبية للطلاب المتفوقين في دراسة علوم الحوكمة والإدارة العامة.
- تطوير برامج تدريب قصيرة موجهة لتأهيل الكوادر الإدارية الحالية وفقاً لاحتياجات كل مؤسسة، بما يرفد خطة تأهيل الكوادر العامة.
- توعية المجتمع بضرورة المشاركة والمتابعة وضوابط النقد الفعال وقنواته، وأهمية ممارسة الرقابة المجتمعية لتطوير أدوار هذه المؤسسات.
إلى الجهات المانحة والمنظمات الدولية:
- دعم خطط الإصلاح المؤسسي المبنية على التقييم المحلي والسياق الثقافي.
- تمويل برامج بناء القدرات وبرامج التقييم والإصلاح المؤسسي، وتقديم الخبرات الاستشارية الفنية مع تعزيز التملك المحلي للعملية.
- تجنُّب فرض نماذج جاهزة وتقديم دعم مرن مبنيّ على الشراكة مع الفاعلين المحليين.
- إعادة بناء التعليم في سوريا بعد التحرير: دراسة مقارنة لتجارب الدول، مركز الحوار السوري، تاريخ النشر7/7/2025.
- نهضة رواندا الاقتصادية بعد 30 عاماً من الإبادة؛ كيف يُستفاد من هذه التجربة في سوريا؟ ، مركز الحوار السوري، تاريخ النشر17/6/2025.
- إعادة بناء مؤسسات الدولة بعد الصراعات: دراسة حالة رواندا وإمكانات التطبيق في السياق السوري، مركز الحوار السوري، تاريخ النشر 21/2/2025.
- القواعد الناظمة لهيئات الحقيقة في التجارب المختلفة: نحو هيئة عدالة سورية فاعلة، مركز الحوار السوري، تاريخ النشر 25/6/2025.
- العدالة الانتقالية في التجارب العربية وما يُستفاد منها في الحالة السورية، مركز الحوار السوري، تاريخ النشر 21/4/2025.
- التطبيقات العملية للعدالة الانتقالية: الدروس المستفادة من التجارب الدولية، مركز الحوار السوري، تاريخ النشر 11/2/2025.
- المحاكم الجنائية الخاصة بملاحقة الجرائم الدولية: في الإجابة حول الخيار الأنسب لسوريا، مركز الحوار السوري، تاريخ النشر 17/1/2025.
- التقرير التمهيدي: العدالة الانتقالية وأهمية إنضاج المقاربة السورية، مركز الحوار السوري، تاريخ النشر 26/12/2024.
- التطبيقات العملية للعدالة الانتقالية: الدروس المستفادة من التجارب الدولية، مركز الحوار السوري، تاريخ النشر 11/2/2025.
مديرة الوحدة المجتعية في مركز الحوار السوري، بكالوريوس في الهندسة من جامعة دمشق، دبلوم في التخطيط العمراني وإعادة الإعمار المستدام، عملت في مجال الإعلام المكتوب والمسموع لعدة سنوات، نشرت العديد من الأوراق والتقارير البحثية في مواضيع سياسية واجتماعية، وخاصة ما يتعلق بأوضاع اللاجئين وقضايا المرأة