تشهد محافظة درعا بوادر تصعيد جديد في ظل حصار كامل تتعرض له أحياء درعا البلد، بعد رفض الأهالي ووجهاء المدينة الرضوخ للمطلب الروسي المتمثل بتسليم جميع الأسلحة الفردية التي بحوزتهم، مقابل إخراج ميليشيات اللجان الشعبية التابعة لأجهزة نظام الأسد الأمنية من أحياء المنشية وسجنة وجمرك درعا القديم؛ في ظل تعليق لجنة درعا المركزية (المسؤولة عن مفاوضة نظام الأسد وروسيا) المفاوضات مع الروس، وسط دعوات من قبل ناشطي المدينة للتظاهر تضامناً مع درعا البلد والمطالبة برفع الحصار عنها؛ ما يؤذن بظهور بوادر تصعيد شامل في المحافظة.
عموماً لا يُعدّ التصعيد الحالي في درعا البلد وليد اللحظة؛ إذ يمكن القول: إنَّه منذ توقيع “اتفاق التسوية” في تموز /2018م ظلَّت التوترات والفوضى الأمنية والاضطرابات المستمرة في عموم المحافظة غالبة؛ تمثّلت بمناوشات واشتباكات متقطعة، وبخروج احتجاجات متكررة ضد نظام الأسد، وباغتيالات لا تكاد تتوقف منذ بدء “اتفاق التسوية”. فضلاً عن تأثير محرّكات وعوامل عديدة محلية وإقليمية لإذكاء الصراع، في محاولةٍ للهيمنة على درعا والجنوب السوري عموماً، باعتبار موقعه الاستراتيجي القريب من الجولان المحتل وحدود “إسرائيل”، الأمر الذي أسهم بإيجاد نوع من التنافس التكتيكي بين روسيا وإيران على النفوذ هناك. وإصرار نظام الأسد على استمرار سياسة الحل الأمني الدموي الممنهج بهدف إخضاع المحافظة بالقوة مستغلّاً الدعم الإيراني، وإخماد أي شرارة مستقبلية ضده؛ هو المحرك الأساسي لتكريس حالة التوتر في عموم المحافظة على مدار السنوات الثلاث السابقة.
وزيادةً على ذلك يُلاحظ أنَّ روسيا حاولت سابقاً المحافظة على لعب دور “الوسيط” بين نظام الأسد وإيران من جهة وأهالي درعا من جهة أخرى؛ فقد سعى الروس للحفاظ على التهدئة النسبية في عموم المحافظة، مع استثمار هجمات النظام وميليشيات إيران الانتقامية ضد مناطق الجنوب السوري للضغط على الأهالي في سبيل تحصيل مكاسب ونفوذ روسي في المنطقة، ولكن مع التهديد الروسي الصريح بالتصعيد العسكري، وفرض حصار كامل على المنطقة وإغلاق الطرق الرئيسية، ومع تحليق للطيران الحربي الروسي في سماء مدينة درعا البلد؛ يُرجح أنَّ روسيا باتت تسعى لإنهاء العمل باتفاق “التسوية”، أو تغيير صيغته التي أعطت فصائل المعارضة السابقة هامشاً ضئيلاً للاحتفاظ بكينونتها، مع نوع من الحماية من ميليشيات الأسد وإيران تحت المظلة الروسية نفسها، لاسيما وأنَّ تلك التهديدات جاءت على لسان جنرال روسي جديد إلى المنطقة معروف باسم “أسد الله”، يحاول من خلالها فيما يبدو تثبيت قواعد جديدة للصراع وتوسيع النفوذ الروسي في الجنوب؛ وبالتالي تحوّل الروس من “ضامن للتهدئة” إلى طرف ضاغط إلى جانب نظام الأسد وإيران.
والتهديد الروسي بعمل عسكري واسع سيكون قوامه في الغالب قوات النظام وميليشيات إيران، مما يعني رسائل روسية مفادها التلويح بالتخلي عن التزاماتها الضمنية للولايات المتحدة و”اسرائيل” المتعلقة باتفاق الجنوب في العام 2018م؛ التي تضمنت سيطرة النظام على الجنوب السوري مقابل العمل على إبعاد مليشيات إيران عن الحدود مع الجولان، ولا يُستبعد بالتالي أن تكون التطورات الأخيرة مرتبطة بضغط الولايات المتحدة والقوى الغربية على روسيا بشأن فتح المعابر، وهو ما سيشكل عامل ضغط على “إسرائيل”، وبالتالي على الولايات المتحدة الملتزمة بأمن “إسرائيل”.
وفي السياق ذاته تساعد مراجعة حالة درعا في فهمٍ أفضل لطبيعة العلاقات الروسية الإيرانية التي يمتزج فيها التحالف الاستراتيجي في خيار دعم نظام الأسد مع التنافس التكتيكي على النفوذ داخل مؤسساته والمناطق التي يسيطر عليها، وبالتالي لا يمكن الاعتماد على الفاعل الروسي كـ “ضامن” للتهدئة في درعا، ولا يمكن التعويل على الخلافات الروسية الإيرانية في الجنوب؛ لأنها خلافات تكتيكية لا تكاد تُرى في بعض الأحيان.
بناءً على ما سبق: يبدو أنَّ روسيا لا ترغب حالياً بشنّ حملة عسكرية شاملة في درعا البلد، باعتبار أن مثل هذه الخطوة ستترافق مع تصعيد في عموم مناطق المحافظة غالباً، وهو ما يتضح من محاولتها التفاوض مع اللجنة المركزية وعدم السماح للنظام وللمليشيات الإيرانية باقتحام المدينة، مع التهديد المستمر وفرض الحصار. ولا يخفى أيضاً أنَّ أي خطوة روسية لنزع سلاح عناصر “التسوية” أو الحسم عسكرياً ستصبُّ في صالح إيران ونفوذها في المنطقة، وهو ما يشكّل قلقاً ورفضاً “إسرائيلياً” وأمريكياً، ولذا فقد تحرص روسيا على التصعيد بالقدر الذي يحقق لها مكاسب جديدة دون اللجوء إلى حركة تصعيدية استفزازية للولايات المتحدة و”إسرائيل”.
للاطلاع أكثر على موضوع تضارب أجندة الفاعلين في الجنوب السوري يمكن مراجعة تقرير تحليلي صادر عن وحدة تحليل السياسات سابقاً بعنوان: نموذج السيطرة الهشة للنظام في الجنوب السوري: تجليات فقدان نموذج الدولة شكلاً ومضموناً، وتضارب أجندة الحلفاء والفاعلين.
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة