الإصداراتالراصدوحدة تحليل السياسات

دلالات التراشق الإعلامي المتصاعد بين “هيئة تحرير الشام” وتنظيم “حراس الدين”

إضاءات تحليلية ضمن مسار الراصد تصدر عن وحدة تحليل السياسات

تشهد القنوات والمعرفات التابعة لكل من تنظيم “حراس الدين” و”هيئة تحرير الشام – هتش” في تطبيق التلجرام وفي غيره من وسائل التواصل الاجتماعي حالة من التراشق الإعلامي المستمر والاتهامات المتبادلة[1]، وبطبيعة الحال، فإن هذه التراشقات والاتهامات المتبادلة ليست إلا انعكاساً لحالة الاحتقان والترقب جراء الحملات الأمنية المتكررة التي تقوم بها “هتش” ضد قيادات وعناصر “حراس الدين”، في استكمال لجهود تفكيكه وتقويض نشاطه بشكل أكبر.

إحدى جولات التراشق هذه بدأت بُعيد الكلمة الجديدة ل “أيمن الظواهري” زعيم تنظيم القاعدة، والتي نشرت في الذكرى العشرين لأحداث الحادي عشر من ستمبر[2]، وقد ثمّن فيها “الظواهري” عملية “تل السمن” التي تبناها تنظيم “حراس الدين” ضد القوات الروسية في محافظة الرقة[3]، ودعا فيها إلى ضرورة استمرار هذا النوع من العمليات، تلا هذا الظهور للظواهري بيان منسوب “لأبي همام السوري” قائد تنظيم “حراس الدين” يدعو فيه قادة “هتش” إلى الامتثال لدعوات النزول إلى القضاء الشرعي عند “أبو قتادة الفلسطيني” أحد أشهر المنظرين لتنظيمات الغلو والتطرف، والذي كان يرتضيه “الجولاني” سابقاً كحكم في القضايا والأمور العالقة بين الفصيلين، وأهمها قضية المعتقلين والمختفين قسرياً في سجون “هتش”.

جاء رد “هتش”عبر تغريدات صادرة عن شخصيتن بارزتين “مظهر الويس” و”أبو ماريا القحطاني” ، حيث اعتبر كل منهما أن النزول إلى القضاء الشرعي أمر غير مقبول في حالة الخلاف والنزاع بين الفصيلين، وأن هذه الدعوات “المشبوهة” هي مقدمات “لشق الصف وإثارة الفتن”، وأن “تحكيم الشرع الحقيقي يكون بتحقيق الاعتصام، ولا ينحصر في باب التحاكم والعقوبات فقط”، فيما بدا أنه محاولة للتأسيس على شرعية سلطة “هتش” التي تتعامل بالتالي مع “حراس الدين” على أنهم مارقين وخارجين على السلطة الشرعية.

لاحقاً، ومع استهداف طائرات أمريكية لأحد القيادات التابعة لتنظيم “حراس الدين” قبل أيام قليلة[4]، تكررت اتهامات أنصار “حراس الدين” والمدافعين عنه ضد “هتش” بالتنسيق مع التحالف الدولي والتعاون معه لتصفية العناصر والقيادات التابعة للتنظيم، ويردد المؤيدون للتنظيم مقولة أن “من يعجر عنه التحالف تتولى أمره “هتش”، وأن من تعجز عنه “هتش” يتولى أمره التحالف”[5]، كذلك كثيراً ما يشير أنصار “حراس الدين” إلى عدم قيام “هتش” بإدانة هجمات التحالف ضد عناصره وقياداته في إدلب أو عدم التعليق عليها أساساً، ويستنكرون كذلك انطلاقاً من “مبدأ شرعي” قيام “هتش”  بملاحقتهم واعتقالهم في الوقت الذي يُستهدفون فيه من قبل طائرات التحالف[6]، مما يشير إلى وجود تعاون بينهم.   وفق أدبيات تنظيم “حراس الدين” وعموم اديولوجيا تنظيمات الغلو والتطرف، فإن استحضار معنى التعاون والتنسيق بين “هتش” و”التحالف الصيليبي” يمكن فهمه على أنه تكفيراً ضمنياً ل “هتش”، مما يؤسس لقتال شرس ضدهم لاحقاً، وفي الجهة المقابلة تستثمر “هتش” هذه التصريحات في اتهام “حراس الدين” بتهم “الدعشنة”، وفي تبرير حملاتها الأمنية المستمرة ضد عناصر التنظيم وقياداته.

ردُّ “حراس الدين” الرسمي على تغريدات شرعيي “هتش” لم يتأخر كثيراً، حيث قام “أبو همام السوري” بنشر بيان جديد تعجب فيه من “استكبار الهيئة والحيدة عن الحق وعدم الانقياد للقضاء الشرعي”، كما اعتبر أن تبريراتهم وأعذارهم بأنهم “أصحاب الشوكة والسلطة” لا “تعفيهم من وجوب الاستجابة لطلب النزول إلى القضاء الشرعي كما فعل الخلفاء الراشدون”، كما يشبه اعتذاراتهم هذه باعتذارات “جماعة الدولة”، وساق كلاماً للشرعي العام “لهتش” “عبد الرحيم عطون” يعيب فيه على “تنظيم الدولة” أثناء بداية القتال بينهم وبين “جبهة النصرة” آنذاك استكبارهم عن النزول إلى القضاء الشرعي “وتمنعهم بالشوكة”، وهي ذات الأعذار التي تتمسك بها “الهيئة” اليوم، وهو بذلك يبرز تناقض “هتش” وتخليها عن مبادئها في سبيل مصالحها من ناحية، ويُصعّد لهجة الخطاب تجاهها من ناحية أخرى، إذ يطلق بعض الأحكام الشرعية عليها مثل “الامتناع بالشوكة” بعد رفضها الامتثال للقضاء الشرعي.

ومن الجدير بالذكر أن حالات التراشق الإعلامي الشبيهة في سياق جماعات الغلو والتطرف المماثلة عادة ما كانت تنتهي بالاقتتال المباشر والاحتكام للسلاح، خاصة أن الايديولوجيا التي تتبناها لا تشجع على وضع الخلافات تحت مظلة الاختلاف السياسي في البرامج والمشاريع أو في خانة الاختلاف الفكري المجرد، بل عادة ما تستخدم الألفاظ والتعبيرات التي تحمل في مضمونها أحكاماً شرعية بمستوى الردة والتكفير، بهدف شحن العناصر والمقاتلين، وتؤدي في نهاية الأمر إلى الاقتتال المباشر.

 ويبدو بأن “هتش” تنظر إلى “حراس الدين” باعتباره تهديداً حقيقياً وفرصة للاستثمار في ذات الوقت، فتنظيم الحراس بأفكاره وقدراته يشكل وجهة جذابة لكثير من عناصر “هتش” غير الراضين عن توجهاتها الأخيرة التي توحي بالاعتدال وخلع عباءة “السلفية الجهادية”، خاصة بعد إعلان التنظيم عن توجهه إلى العمل خلف خطوط العدو والدعوة إلى عدم الرضوخ للاتفاقات الدولية التي هدفها “وأد الجهاد والثورة”، وهو بذلك يظهر بمظهر المحافظ على مبادئه والقادر على الرد على انتهاكات ميليشات النظام وأعوانه.

ومن جهة أخرى فإن “هتش” ترى في قدرتها على ضبط تنظيم “حراس الدين” وتقويض قدراته القتالية، فرصة جيدة لإثبات أجدريتها وقدرتها على ضمان أمن اللاعبين الاقليميين والدوليين ومنع اتخاذ المنطقة منطلقاً لهجمات ضدهم، وذلك عن طريق ملاحقة التنظيم وغيره من الجهات والمجموعات “الجهادية” الصغيرة الأخرى غير الراضية عن الاتفاق الروسي التركي الأخير في آذار من العام الماضي، وتسعى “هتش” بذلك لحجز مقعد لها على طاولة المفاوضات وتقدم نفسها كلاعب أساسي على مسرح الأحداث في السيناريوهات المقبلة، ومن جهة أخرى، تستثمر “هتش” وجود “حراس الدين” بأفكاره وخلفيته المرتبطة بالقاعدة في إثبات تمايزها عن هذه الجماعات، وتصدير صورتها المحلية الجديدة المتجهة نحو مشاريع الحوكمة والإدارة المحلية والمنتظمة تحت سقف التوازنات الإقليمية والدولية.

مع ذلك، ومن زاوية أخرى بعيدة عن زاوية رؤية كل من الفصيلين، فإن هذه الدعاوى والاتهامات المتبادلة تعيد إلى الأذهان سلسلة القضم والتفكيك التي خاضتها “جبهة النصرة” قبل أن تصبح بمسمى “هيئة تحرير الشام”، وقبل أن يخرج “تنظيم حراس الدين” من عبائتها، في تلك المرحلة كانت فصائل المعارضة المسلحة والمنضوية تحت مسمى الجيش الحر تتعرض إلى حملات ملاحقة وتفكيك مستمرة من قبل “جبهة النصرة”، الفصيل الأم لكلا الفصيلين[7]، تحت ذرائع ودعاوى متعددة كالخيانة والعمالة، وقد تصل في بعض الاحيان إلى إطلاق الأحكام الشرعية كالتكفير والردة، وكانت دعاوى الاحتكام إلى القضاء والمحاكم التي تطلقها فصائل المعارضة المسلحة تبقى معلقة من غير إجابة[8]، مما يعني أن مباديء الاحتكام إلى الشريعة والنزول لحكم القضاء مجرد شعارات لا يتم تطبيقها إلا عندما تتفق مع مصالح الأطراف المتنازعة، ومن المفارقات في هذا السياق أن يقوم أنصار “حراس الدين” بتشبيه ملاحقة “هتش” للتنظيم باستئصالها لفصائل المعارضة المسلحة المختلفة، في حين أن قيادات وعناصر “حراس الدين” كانوا هم رأس الحربة في عمليات التفكيك والاستئصال التي قامت بها “جبهة النصرة ” ضد فصائل المعارضة المسلحة المنضوية تحت الجيش الحر في تلك الفترة، وهم ذاتهم الذين يتهمون “هتش” بعدم الامتثال ل”القضاء الشرعي” بعد أن رفضوا بدورهم النزول للقضاء أثناء قيامهم بهجماتهم الاستئصالية ضد فصائل المعارضة المسلحة.

على الرغم من اعتبار “هتش” ل”حراس الدين” تهديداً لها، إلا أنها ستبقى مستمرة في الغالب في محاولة الاستثمار واللعب في ورقته باعتبارها التنظيم الذي يمكن أن يضمن أمن المنطقة المعقدة، خاصة مع استمرار توتر الأوضاع في ادلب عموماً، وسط ترقب نتائج  قمة سوتشي بين الرئيسين التركي والروسي، خصوصاً مع التصريحات الروسية الأخيرة التي اتهمت فيها أنقرة بعدم القيام بالتزاماتها في إدلب بالتزامن مع قيام الروس بحملة تصعيد كبيرة، الأمر الذي قد يؤدي في النتيجة إلى زيادة ضغط “هتش” على تنظيم “حراس الدين” والجماعات الصغيرة المماثلة لإبقائها مجمدة وبعيدة عن التأثير في المسار الأمني والعسكري المحلي[9].


[1] من المفيد استحضار وجود خاصية أساسية في مثل هذه التنظيمات وهي التفكك من الداخل، وأن حدوث هذه الشروخ والاقتتالات هو تأكيد لهذه الخاصية التي تدل التجارب المتكررة عليها. كذلك نجد أن التراشق الإعلامي والاتهامات المتبادلة هي خطوة لاحقة للتفكك والانقسام من الداخل.
[2]تسجيل جديد للظواهري عن 11 سبتمبر وسط شائعات عن وفاته“، العربي الجديد، 12/9/2021. يمكن أن يكون الدافع لهذا الاطراء تنظيمياً وأيديولوجياً. فولاء “حراس الدين” لتنظيم القاعدة كان سبباً معلناً لانفصالها عن جبهة النصرة حينها، كذلك تأييد القاعدة لفكرة “الجهاد العالمي” يجعل العمليات المذكورة محل احتفاء، ويمكن أن يفهم منه كذلك أنه نوع من المناكفة و”تعيير” هتش بسبب مسايرتهم للاتفاقيات الإقليمية والدولية.
[5] مقولة يرددها أنصار “حراس الدين”، على سبيل المثال بعد الاستهداف الأخير يوم الاثنين الماضي، أوردت قناة “ردع عدوان البغاة” في التلجرام خبر الاستهداف ثم ذكرت هذا الاتهام المباشر “لهتش”.
[6] يردد انصار “حراس الدين” كلاماً لأحد شرعيي التنظيم ويدعى “أبو محمد السوداني”، والذي استنكر على “هتش” ملاحقة عناصر التنظيم وهم يتعرضون لقصف التحالف “الصليبي”، كما يسوقون على سبيل السخرية أن من يتعرض منهم للإصابة من قصف التحالف لا يستطيع الذهاب إلى المشافي في إدلب لأنه سيكون عرضة للاعتقال من قبل عناصر “هتش”، مما يشير إلى صرامة الحملة الامنية والمتابعة التي تفرضها “هتش” عليهم.
[7] “أحمد أبازيد” “خطة الجولاني الأخيرة.. الحرب بحثاً عن السياسة“، مركز إدراك، 7/2/2017.
[9] يبقى رد “حراس الدين” المرتقب على ذلك محل استشراف وتكهنات: فهل ستقبل الحراس بذلك نتيجة ضعف إمكاناتها بالمقارنة مع “هتش”، أم ستدخل في مواجهة مفتوحة، أم تلجأ إلى عمليات أمنية، أم تحاول الضغط على “هتش” من خلال التفجيرات التي تستهدف الدول الفاعلة في إدلب؟

مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى