رسائل الرّدع والضغط.. قراءة في دلالات التصعيد الروسي على إدلب
تقرير صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري
شهدت الأيام الماضية تصعيداً عنيفاً من قبل الطائرات الروسية وقوات نظام الأسد في العديد من مناطق شمال غربي سوريا، بالتزامن مع الحديث عن تحضيراتٍ تقوم بها بعض الفصائل العسكرية لشنّ معركة جديدة ضد نظام الأسد في حلب[1].
خلّف التصعيد على إدلب وريف حلب الغربي عشرات المدنيين بين قتيلٍ وجريحٍ خلال عدة أيام، وتركّزت الهجمات في قرى ريف إدلب الجنوبي والشرقي وأطراف مدينة إدلب وقرى وبلدات ريف حلب الغربي، مما تسبّب بدمارٍ في البنى التحتية والمرافق العامة ومنازل المدنيين[2]، وجاء ضمن سلسلة متصاعدة من الخروقات في شمال غربي سوريا منذ مطلع العام 2024 بعدد وصل إلى قرابة 3 آلاف هجوم من قبل قوات نظام الأسد والمليشيات الموالية له والطائرات الروسية[3].
يأتي التصعيد أيضاً وسط اتهاماتٍ روسية متكررة لـ”هيئة تحرير الشام-هتش” بالتعاون مع أوكرانيا وحلف الناتو بـ”التحضير لشنّ هجمات بالكيماوي” في إدلب واتهام القوات الروسية بها[4]، وهي الأسطوانة نفسها التي دأبت روسيا على اتهام منظمة الدفاع المدني السوري وفصائل الثورة السورية بها منذ سنوات.
يسعى هذا التقرير إلى تقديم إطلالة على التطورات الأخيرة في شمال غربي سوريا وقراءة في دلالات الرسائل الروسية من التصعيد الأخير، وعلاقتها بما تم الحديث حوله بشأن نية الفصائل إطلاق معركة جديدة في حلب بعد تضعضع قوة المليشيات الإيرانية بفعل العمليات “الإسرائيلية” في لبنان وسوريا ضدها[5].
رسائل النار الروسية؛ عوامل التصعيد ودلالاته:
على الرغم من أن روسيا غالباً لا تحتاج إلى مُبرّرات لتصعيد هجماتها في شمال غربي سوريا، حيث تُتهم بشنّ غارات عشوائية حتى في غياب المعارك البرية[6]، إلا أن ثمّة عوامل قد تدفعها لاستئناف عملياتها الجوية وتُحفّزها لارتكاب مزيدٍ من المجازر لإرسال رسائل إلى الأطراف المحلية والإقليمية. ومن أهم تلك العوامل:
1- الحديث عن استعدادات بعض الفصائل العسكرية لشنّ عملية عسكرية جديدة في حلب:
مع استمرار الحرب “الإسرائيلية” على مليشيا “حزب الله” في لبنان، واستهدافه مع بقية أذرع الميليشيات الإيرانية في سوريا وغيرها؛ تزايد الحديث بين أوساط مختلفة في الشمال السوري عن حالة ضعفٍ يمرّ بها نظام الأسد والميليشيات الإيرانية المنتشرة على خطوط التماس، مما دفع بعض الفصائل إلى الدعوة بشكل أقوى لضرورة استثمار حالة الضعف والهشاشة العسكرية لاستعادة مناطق خسرتها قوى الثورة والمعارضة في السنوات الماضية، خاصة مدينة حلب، فضلاً عن مدن استراتيجية مثل خان شيخون ومعرة النعمان وسراقب في ريف إدلب.
وقد تمّ الترويج للمعركة بشكلٍ ملحوظٍ من قبل الإعلام الرديف التابع لـ”هتش”، لاسيما وأن محاور الهجوم التي تم الحديث عنها تُعدّ ضمن المناطق الواقعة تحت سيطرتها؛ سواء في ريف حلب الغربي، أو سراقب في الريف الشرقي لإدلب[7].
كما دعا بيانٌ لـ”حكومة الإنقاذ” (الجناح المدني والسياسي لـ”هتش”) “غرفة عمليات الفتح المبين” التي تُهمين عليها “هتش” إلى حماية المدنيين واتخاذ “إجراءات فورية وحاسمة” لحماية المدنيين من هجمات نظام الأسد بعد إجباره 10 آلاف عائلة على النزوح مؤخّراً بفعل التصعيد[8].
واللافت أيضاً أن قياديَين من بعض فصائل المعارضة تحدّثوا عن المعركة بشكلٍ صريحٍ في وسائل الإعلام[9]، وسط حديث عن تحضيرات يتم القيام بها والمحاور الممكنة للهجوم، تزامناً مع حشود عسكرية لقوات نظام الأسد على خطوط التماس بعد وصول حشود مماثلة للفصائل مؤخراً.
يبدو أن روسيا تُدرك جيّداً هشاشة الوضع العسكري التي يُعاني منها نظام الأسد، والتي ازدادت بعد الضربات التي تلقّتها الميليشيات الإيرانية في لبنان وسوريا. ولذا فإنها صعّدت عملياتها الجوية في شمال غربي سوريا، لتوجّه رسائل واضحة إلى الفصائل و”هتش” بأن أيّة حالة ضعف يمرّ بها نظام الأسد والميليشيات الإيرانية لن تُغيّر من استراتيجيتها القائمة في سوريا، فهي قادرة على نقض التفاهمات مع تركيا إذا رصدت أية نوايا من قبل المعارضة أو “هتش” لتغيير خطوط التماس القائمة[10]؛ ولهذا كانت هناك تصريحات روسية واضحة بأن الغارات جاءت لمنع الفصائل في إدلب من مهاجمة مواقع تسيطر عليها قوات نظام الأسد “باستخدام الطائرات المُسيّرة وراجمات الصواريخ”[11].
وفي هذا السياق أيضاً لا يستبعد البعض أن تكون لدى ميليشيات المشروع الإيراني المنتشرة على خطوط التماس رغبة في تصعيد الأوضاع في مناطق شمال غربي سوريا ردّاً على الخسائر التي لحقت بها من قبل “إسرائيل”؛ إذ اعتادت تلك الميليشيات -إلى جانب نظام الأسد- الانتقام من مدنيّي شمال غربي سوريا عند تلقّي الضربات من “إسرائيل”، ولذا فإن بعض المحلّلين كانوا يتوقّعون بعد التطورات الأخيرة في لبنان زيادة في عمليات ميليشيات إيران في سوريا، خصوصاً بعد إعادة تموضع ميليشيا “حزب الله” في سوريا نتيجة الضربات “الإسرائيلية” مؤخراً[12].
2- الصمت التركي تُجاه الحديث عن معركة حلب وتحركات الفصائل:
يرتبط هذا العامل بالعامل السابق، لاسيما وأن تركيا تُعدّ الطرف المسؤول عن منطقة شمال غربي سوريا؛ فإن أيّة تحركات بريّة للفصائل العسكرية ضد مناطق سيطرة نظام الأسد ستجري تحت أنظار القوات التركية.
ويبدو أن روسيا تحاول بمثل هذه الضربات على شمال غربي سوريا أن توجّه رسائل إلى تركيا بضرورة ضبط الفصائل بوصفها الضامن لها في اتفاق موسكو، ملوِّحةً بخيار التصعيد بشكل أكبر عبر استهداف المناطق ذات الكثافة السكانية العالية، الأمر الذي قد ينجم عنه موجة نزوح جديدة نحو الحدود الجنوبية لتركيا، في الوقت الذي تسعى فيه تركيا لإعادة اللاجئين إلى تلك المناطق؛ مما يؤدي إلى نسف جهودها وخططها بشأن اللاجئين.
وتملك روسيا الأدوات الكافية لإلحاق الضرر بأية خططٍ تركية تجاه إعادة الاستقرار إلى شمال غربي سوريا؛ فعلى سبيل المثال: استهدفت الطائرات الروسية أطراف مدينة إدلب في 16 تشرين الأول، مما أوقع نحو 42 مدنياً بين قتيل وجريح، وسبقه بيوم واحد فقط قصف روسي على محطة للمياه في ريف إدلب الغربي أدى إلى حرمان نحو 17 قرية من المياه، وسط تحذيراتٍ أُمميةٍ من أن التصعيد الحالي قد أوقف أنشطة إنسانية وعطّل مرافق صحية[13]؛ ولذا فإن تكرار الضربات سيؤدي إلى توسيع نطاق الأزمة الإنسانية، خصوصاً في ظل زيادة عدد المحتاجين بعد وصول أعداد جديدة من السوريين الهاربين من الحرب في لبنان إلى شمال غربي سوريا، واستمرار عمليات الترحيل أو “العودة الطوعية” من تركيا[14].
ولم تصدر أية تصريحات تركية إزاء “معركة حلب” أو تصعيد روسيا ونظام الأسد في شمال غربي سوريا، في حين لا يعدو أن يكون الموقف التركي منسجماً مع الموقف الروسي بعدم الرغبة في حدوث أية تغييرات في خارطة السيطرة الحالية، لعدة عوامل، أبرزها: الحفاظ على اتفاق التهدئة الذي أوقف عمليات الاجتياح البري منذ آذار 2020[15]؛ فيأتي التصعيد الروسي الجديد ليُشكّل عامل ضغطٍ آخرَ على أنقرة كي تُفعّل أدوات ضغط أكبر على “هتش” لمنع إطلاق أية عملية جديدة ضد نظام الأسد والحفاظ على الخطوط الحالية، ولا يبعد عن ذلك ما تستمر به الحكومة التركية من الحديث عن التقارب مع نظام الأسد، الذي اتخذ ألواناً جديدة بعد تصاعد الحرب على غزة ولبنان، وانتقلت بعض الأوساط التركية للحديث عن ضرورة التحالف مع حكومة الأسد لمواجهة تداعيات توسّع الهجمات “الإسرائيلية”[16].
3- ثني “هتش ” عن أي تعاون أمني أو استخباري مع أوكرانيا:
كَثُر الحديث في الآونة الأخيرة من قِبل أطراف روسية مختلفة عسكرية وسياسية عن وجود تعاون استخباري وعسكري بين “هتش” وأوكرانيا[17]، خصوصاً في مجال تطوير الطائرات المسيرة والتدريب عليها، دون تقديم أية دلائل تثبت تلك الدعاوى، في حين لم يُنشر في وسائل الإعلام سوى خبر لصحيفة تركية أشارت فيه إلى أنها التَقطتْ صورة في إدلب للقاء جمع أحد قياديي “هتش” مع وفد أوكراني[18]، في حين يشوب الخبر كثير من الإشكاليات؛ أبرزها أن مكان الصورة غير معلوم، والأمر الآخر أن الصورة ملتقطةٌ كما تبدو في مكان عام، في حين أن مثل هذه الاجتماعات يُفترض أن تكون في أماكن أكثر أمناً.
كما أن الادعاءات الروسية بوصول خبراء عسكريين أوكران إلى إدلب بأعداد وصلت إلى 250 خبيراً لا تخلو من اتهامات مُبطّنة لتركيا؛ فمن المعلوم أن الطريق الوحيد لوصول مثل هؤلاء الخبراء سيكون عبر تركيا، وإلا فإن أي خيار آخر يستلزم سلوك عدة مناطق سيطرة مثل العراق ومناطق “قسد” وجيش الأسد، وهذا ما يبدو مستبعداً[19]، كما أن تركيا لا تبدو في وارد تعكير علاقتها مع روسيا؛ فإنها لن تسمح أيضاً بمرور هؤلاء الخبراء عبر أراضيها.
يبدو أن التصريحات الروسية المتكررة حول التعاون المزعوم بين “هتش” وأوكرانيا جاءت ردّة فعلٍ على تقارير صحفية أوكرانية تزعم تنفيذ قوات خاصة أوكرانية عمليات عسكرية ضد القوات الروسية في سوريا، وذلك في محيط مطار كويرس العسكري في ريف حلب الشرقي وفي موقعٍ آخر جنوب شرقي حلب[20].
هذا الاحتمال يُعزّز الاعتقاد بأن روسيا تستخدم هذه التقارير أداة لتعزيز حملتها الإعلامية حول وجود مؤامرة دولية ضدها في سوريا يُعدُّ حلف الناتو أحد أطرافها، وذلك بهدف ربط ما يجري في سوريا بالحرب في أوكرانيا، ومن ثَمّ تبرير المزيد من التصعيد العسكري في الشمال السوري من خلال التذرُّع بوجود تعاون بين “هتش” والقوى الغربية.
لكن بشكل عام يُثير ما نُشِرَ عن توجيه القوات الأوكرانية الخاصة ضربات للقوات الروسية في سوريا الشكوك بشأن قدرة القوات الأوكرانية على تنفيذ تلك الضربات فعلياً على الأرض السورية، ومن غير المستبعد أن يكون هناك احتمال بأن تكون أطراف محلية هي التي نفّذت الهجمات، وتمّ تسجيلها ونسبتها لاحقاً إلى القوات الأوكرانية من خلال نشر هذه المواد في الصحف الأوكرانية.
فيمكن القول: إن روسيا تحاول ثني “هتش” عن أي تعاون عسكري أو استخباري محتمل مع أوكرانيا من خلال الترويج لاتهامات متكررة وغير مثبتة، وكذلك لزيادة الضغط على تركيا من أجل مراقبة أية عمليات من هذا النوع، وفي ذلك تحقيق عدة أهداف: تثبيط “هتش” عن أية تحركات عسكرية بالتعاون مع الغرب، وتحذير تركيا من التساهل في مراقبة النشاطات العسكرية داخل الأراضي التي تسيطر عليها، وتبرير تصعيد عسكري محتمل ضد مناطق سيطرة قوى الثورة والمعارضة.
خاتمة:
إجمالاً يمكن القول: إن التصعيد الروسي يحمل رسائل متعددة، أبرزها:
- التحذير من أية محاولات لتغيير موازين القوى في المنطقة.
- تأكيد أن موسكو لا تزال الممسكة بزمام الأمور، والقادرة على إدخال الشمال السوري بحالة جديدة من الفوضى والنزوح، وعلى استهداف المنشآت والمرافق الصحية والخدمية.
- التقليل من أهمية وجود المليشيات الإيرانية في خطوط التماس في الوقت الحالي.
- الضغط على تركيا لمنع الفصائل العسكرية من القيام بعمليات جديدة ضد نظام الأسد في المنطقة.
فالتصعيد الروسي في شمال غربي سوريا يعكس رغبة موسكو في الاستمرار بفرض شروطها على الأرض، في الوقت الذي تبدو فيه غير راغبة بإطلاق عمليات عسكرية بريّة جديدة في ظل الاتفاق المبرم مع تركيا في 2020 من جهة، واستمرار الحرب في أوكرانيا منذ 2022 من جهة ثانية، فضلاً عن حالة الإنهاك التي يُعاني منها نظام الأسد والميليشيات الإيرانية وقد تؤدي إلى انهياراتٍ بريةٍ سريعةٍ عند وقوع أية عملية عسكرية؛ ولذا فإن موسكو تُدرك أهميّة عامل القصف الجوي الذي يصنع الفرق، لاسيما مع استهداف مناطق حيوية مأهولة بالسكان، وهذا ما تُلوّح به دائماً لمنع أية عملية ضد نظام الأسد.
إضافة إلى ذلك تحاول روسيا استغلال الاتهامات المتكررة حول التعاون المزعوم بين “هتش” وأوكرانيا أداة ضغط إعلامي وسياسي، وربط ما يجري في سوريا بالحرب في أوكرانيا دون تقديم دلائل واضحة، مما يمكّنها من تبرير أي تصعيد عسكري مستقبلي، وفي الوقت ذاته لتزيد الضغوط على تركيا لمراقبة ما يجري في مناطق شمال غربي سوريا أكثر.
إن شمال غربي سوريا يظل بيئة هشّة معرّضة لتفاقم الأزمات الإنسانية في ظل عدم وجود موانع تمنع روسيا من تنفيذ هجمات جوية عنيفة مثلما فعلت منذ بداية التدخل في 2015، وكذلك على غرار ما تفعله “إسرائيل” في غزة اليوم دون أي اكتراث بالتنديدات الدولية والأممية والحقوقية مع إلحاق الضرر بملايين المدنيين؛ مما قد يجعل البعض يجادل بأن الاستمرار باتفاق موسكو لوقف إطلاق النار والحفاظ على خطوط التماس الحالية يمثل “الخيار الأنسب على الأقل في المديَين القريب والمتوسط”.
على أن الرهان الأكبر يبقى بأيدي قوى الثورة والمعارضة لاستعادة زمام المبادرة بترتيب صفوفها، وبالاستثمار الأمثل للصراعات المعقدة والمتداخلة في المنطقة حتى تكون قادرة على إطلاق عمليات منظّمة تُعيد للثورة ألقها وبعض ما أُهدر من مكتسباتها؛ فمع قسوة ما يجري في غزة ولبنان وعلى الأراضي السورية تبقى فرصٌ يمكن الاستثمار فيها، فضلاً عما يمكن البناء عليه مما مضى من عُمر الثورة على الأصعدة كافة؛ فهل نشهد مبادرة وطنية من قوى الثورة والمعارضة في ذلك؟ الشعب السوري يتطلّع.
مساعد باحث في مركز الحوار السوري، يحمل إجازة في الأدب العربي من جامعة الفرات السورية، عمل كاتباً وصحفياً ومدققاً لغوياً لعدة سنوات في العديد من المواقع والقنوات الإخبارية