
شبكات الحماية المجتمعية خطوة في تعزيز السِّلم والاستقرار
التحدّي الأمنيّ من أبرز التحديات التي تواجه السوريين حكومة وشعباً، لاسيما مع حالة الانقسام والاستقطاب السياسي والاجتماعي الحادّ، ومع انتشار السلاح بشكل غير منضبط، ووجود مجموعات من الفلول لم تتقبل الواقع الجديد وتريد تخريبه بأية طريقة كانت؛ فضلاً عن مصالح بعض الدول التي تعتقد أن إفشال تجربة إعادة بناء الدولة السورية أمر يتقاطع مع مصالحها.
رغم مضي ما يزيد عن خمسة أشهر على تحرير سوريا ما زالت حالة عدم الاستقرار الأمني واضحة ومتوقعة، وتُلقي بظلالها على ملفات أخرى؛ إذ بدأت تُستخدم لتقويض حالة السلم الأهلي وإثارة الذعر، والتركيز على ضخّ الإشاعات والأخبار التي لا يتم التأكد من صحتها وتتحدث عن انتهاكات حدثت بصبغة طائفية أو مناطقية اعترفت الحكومة بحدوث عدد منها خلال أحداث الساحل.
يبقى التساؤل هنا: كيف يمكن أن تسهم المجتمعات في عملية ضبط الأمن والتبليغ عن التجاوزات، وفي قطع الطريق أمام الشائعات والمعلومات المسيسة، والتعامل مع مخاوفها من إمكانية حدوث أي انتهاك قد تقوم به أي من الجهات التي تملك السلاح؟ إلى جانب متابعتها الجهود المبذولة بهذا الخصوص، خاصة مع تكرار حوادث الخطف والقتل والتهديد والابتزاز والترويع والسرقة التي ظهرت منذ سنوات، ولم يكن أحد يتجرأ على البوح بها.
شبكات الحماية المجتمعية ودورها في تعزيز السلام:
تبرز فكرة شبكات الحماية المجتمعية كإحدى الحلول الناجعة في دعم الجهود الحكومية وتوثيقها وتفعيل الرقابة الشعبية عليها، لاسيما وأن عملية ضبط الأمن تحتاج فترة زمنية قد تكون طويلة؛ نظر لوجود العديد من الانتهاكات التي تختلف دوافعها بين دوافع جرمية أو سياسية أو بدافع الثأر والانتقام.
لقد ظهرت فكرة شبكات الحماية المجتمعية في سياقات متشابهة، وتطورت أفكارها انطلاقاً من كون المجتمعات المعرضة للأزمات تُعد الجهات الأكثر قدرة على تحديد التهديدات التي تواجهها، والأكثر دراية بأسبابها وطرق علاجها، فضلاً عن كونها تملك دوراً رئيساً في معالجتها أو التخفيف من حدتها، الأمر الذي شجّع العديد من المنظمات على التركيز على هذه الجهود ودعم المجتمعات المحلية في مساعيها لمواجهة حالات التهديد وضعف الأمن.
تُعرف هذه الشبكات بأنها: الإجراءات والوسائل التي يتخذها الأشخاص المهددون بالخطر لمواجهة الإساءة والعنف، سواء من خلال تكوين لجان تنظيمية، إلى إنشاء خطط حماية أو أنظمة إنذار مبكر، وتُعد إحدى وسائل دعم الاستقرار وتعزيز عملية السلام والتماسك المجتمعي والتعايش السلمي.
برزت هذه الشبكات في بداية الثورة السورية بوصفها حلولاً ارتجالية في مواجهة المخاطر الأمنية المحدقة، وتنوعت بين فرق مهمتها استكشاف مناطق المظاهرات، أو عرقلة وصول الأمن من خلال مجموعات مهمتها افتعال أزمة مرورية، وصولاً إلى خطط الحماية الأمنية للناشطين وشبكات الإبلاغ المشفّر عن حالات الاعتقال بشكل مبكر، والمجموعات التقنية التي كانت مهمتها إغلاق حسابات الفيس بوك الثورية، التي حمت كثيرين من النشطاء من الوقوع في فخّ الاعتقال أو الاعتراف على الآخرين.
لم تكن التجربة السورية هي التجربة الوحيدة في هذا السياق؛ فعلى سبيل المثال: دفعت الفصائل المتحاربة في كولومبيا المجتمعات المحلية إلى ابتكار ما عُرف باسم “مجتمعات السلام” التي ظهرت عام 1997 عندما قامت فيها هذه المجتمعات بتحييد نفسها عن الانحياز أو المشاركة مع أي طرف من الأطراف المتصارعة، ووقّعت على اتفاق مكتوب ألزمت فيه نفسها بعدم حمل السلاح أو المشاركة في أي عمل مسلح أو تقديم معلومات لأي طرف، ثم طوّرت هذه المجتمعات الفكرة وأصدرت لافتات طرقية وهويات شخصية وزّعتها على أفرادها للإعلان عن مسارها وموقفها؛ وبذلك تمكنت من إيجاد وسائل مقاومة مدنية ساعدتها على تجاوز عجز الحكومة عن توفير الأمن، فنجحت في تحييد بعض هذه المجتمعات عن المواجهات في بعض المناطق، وفشلت مناطق أخرى.
ومن التجارب الملهمة أيضاً كانت تجربة راوندا، التي أنشأت شبكات مراقبة وإنذار مبكر حول الهجمات المسلحة ذات الطابع العرقي والأنشطة غير الاعتيادية، وكانت مهمة هذه الإنذارات استدعاء المساعدة أو إخطار للمنظمات الدولية، ولم تكن هذه الشبكات عالية التقنية؛ فقد استخدمت بعض القرى أسلوب القرع على صفائح الوقود بصوت عالٍ تحذيراً للنائمين من وجود نشاط مباغت، وكانت هذه التحذيرات تنتقل من قرية إلى أخرى وفق نظام إنذار لإخطار قوات الدفاع المحلية في حال حدوث أي اقتحام.
هل بالإمكان تطبيق هذه الفكرة؟
تبدو تجربة شبكات الحماية الاجتماعية مناسبة للسياق السوري الحالي وقابلة للتكرار والتوسعة، وذلك بهدف ضبط الانتهاكات والتهديدات وإيصالها للحكومة وصانعي القرار، وتحقيق مشاركة مجتمعية حقيقية تساعد عناصر الأمن في مهامهم، إلى جانب كونها حالة من الرقابة والمتابعة تسمح بقطع الطريق أمام الشائعات التي تهدف إلى بثّ الذعر وزيادة الاحتقان والاستقطاب.
لقد وفرت الطفرة التقنية وبرمجيات الذكاء الاصطناعي إمكانية تحويل الفكرة إلى واقع، وتم إنشاء تطبيقات خاصة في بعض البلدان كتركيا للتبليغ عن المتضررين بسبب الزلزال أو للتبليغ الفوري عن حالات العنف ضد النساء، وذلك من خلال التسجيل المسبق في بعض التطبيقات بما يتيح لصاحب العلاقة سرعة التبليغ وضمان خصوصيته، ويتلاءم مع الظروف الاستثنائية في بعض الأحيان.
قد يختلف السياق السوري بضعفه وهشاشته عن سياق الدول المستقرة؛ إلا أن الفكرة بحد ذاتها قابلة للتطوير والتكيُّف مع ظروف البلاد، ويمكن أن تكون وسيلة تعيد بناء علاقة الثقة مع مؤسسات الدولة ومع المنظمات الإنسانية والأهلية؛ إذ يُتوقع أن تأخذ دور الجهة الثالثة الرقابية، التي يمكنها متابعة الانتهاكات ومعرفة تفاصيلها العامة، والتأكد من صحة الادعاءات والإجراءات الحكومية الأمنية، بل وطلب المساعدة من المجتمع حول قضايا حساسة تتعلق بالخطف والابتزاز على سبيل المثال.
يمكن النظر إلى الفكرة بكونها شبكة إنذار مجتمعي مبكر، تشارك فيها المجتمعات بجزء من مسؤوليتها في ضبط عملية الأمن، والتبليغ عن التحركات المشبوهة أو بعض المتورطين بها، بما يوفر على الأفراد حالة التنقل والإبلاغ الرسمي ويحميهم من التهديدات والانتقام في بعض الحالات؛ إلا أن هذه الفكرة تحتوي كثيراً من التحديات والثغرات التي يمكن تداركها من خلال إشراك أصحاب المصلحة والقيادات المحلية في التفكير بحلول بدل التذمر والشكوى والغرق في المخاوف.
كما أن هذه المنصة يمكن أن تتطور لاحقاً وتسهم في ضبط الخطاب التحريضي وخطاب الكراهية على السوشيال ميديا، من خلال التبليغ عن الحسابات التي تسعى إلى تخريب السلم الأهلي وبثّ الفزع، وهي خطوة قد تكون قليلة التكاليف مقارنة بما يمكن لحالات التحريض والادعاءات الكاذبة فعله في المجتمعات الهشّة التي يمكن من خلال إشاعة ما إشعال بذور حرب أهلية لا يمكن التكهن بتوقيتها ولا التحكم بها؛ ولذا فإن شبكات الحماية المجتمعية ليست مجرد نظام إنذار مبكر، إنما هي وسيلة لإعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع فيما بينها من جهة، وإعادة ثقتها بمؤسسات الدولة من جهة أخرى، إلى جانب مشاركتها في مسؤولية حفظ الأمن وتعزيز الاستقرار، والوقوف في وجه مَن يريد بثّ الإشاعات وتحريض المجتمعات وتقويض أمنها.
إن المجتمع السوري اليوم بمكوناته وأطيافه كافة منهكٌ نتيجة استنزافه في صراع دموي كان هدفه حماية عائلة الأسد المجرمة، وهذا المجتمع يحتاج إلى فسحة من السلم والأمان يرمّم فيها جروحه ويستعيد توازنه، ويسعى لإعادة بناء حياته واستدراك ما فاته، ولكن ذلك كله لا يمكن أن يحدث في ظل حالة من الخوف والهلع وانعدام الثقة بالأخر؛ ولذا فإن طمأنة هذه المخاوف من خلال إشراك هذا المجتمع بمكوناته في هذه الشبكات يمكن أن يكون من الحلول التي تدفع بهذا المجتمع نحو التعافي والتماسك والاستقرار.
مديرة الوحدة المجتعية في مركز الحوار السوري، بكالوريوس في الهندسة من جامعة دمشق، دبلوم في التخطيط العمراني وإعادة الإعمار المستدام، عملت في مجال الإعلام المكتوب والمسموع لعدة سنوات، نشرت العديد من الأوراق والتقارير البحثية في مواضيع سياسية واجتماعية، وخاصة ما يتعلق بأوضاع اللاجئين وقضايا المرأة