مقالات الرأي

عن السوريين الذين تحرّكهم المخاوف

صفعت أحداث الساحل ثم السويداء جمهوراً واسعاً من السوريين الحالمين بنهايات سعيدة، ممن رسموا ملامح مستقبل قريب ينقلهم بقفزات سريعة نحو تغيير جذري للواقع السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعي؛ إذ لم يكن هذا الاستقطاب الداخلي الحادّ مطروحاً كسيناريو محتمل، ولم يكن متوقعاً أن يصبح خطاب الكراهية والتخوين اللغة السائدة، ولا أن يتحول بعض حلفاء الأمس لأعداء اليوم.

 لقد كان شهر تموز حافلاً بالتوتر والانقسام، وأصبحت الكلمة مثل الرصاصة في بلد ينتظر من الجميع أن يداووا جروح بعضهم، وأن يتعاونوا على إصلاح إرث الخراب الثقيل ويدفعوا العجلة نحو المستقبل الأفضل. وبغضّ النظر عن الأسباب المباشرة والعوامل المؤجِّجة للتصعيد الأخير نحتاج قراءة هادئة وتحليلاً عميقاً للدوافع وراء مجموعة من السلوكيات والأفعال الأخيرة لبعض المكونات من السوريين؛ فلو أننا عدنا بالزمن بضعة أشهر لم تكن هذه السلوكيات حاضرة، ولم تكن هذه المواقف الحادة المتشنجة موجودة، بل كان الجميع يحتفلون جنباً إلى جنب ويتشاركون رؤاهم نحو الحاضر والمستقبل.

إرث الاستبداد الثقيل:

تحمل تجارب التاريخ مادة ثرية ومفيدة للدراسة، لاسيما مع تكرار الأحداث وتشابهها، وتقدم تجربة “التشيك” نموذجاً لفهم سياق المجتمعات التي عاشت في كنف أنظمة قمعية لفترات طويلة؛ فقد عانى التشيكيون من تأثير الأنظمة الشمولية والتعرض المطول للقهر لأكثر من 70 عاماً أثّرت بشكل واضح في سلوك المجتمع، وظهرت هذه الآثار بأشكال متنوعة؛ كفقدان الثقة بالمؤسسات، والانسحاب من الحياة العامة، وتجنُّب المشاركة السياسية. ومع أن المجتمع التشيكي بدأ باستعادة عافيته بعد الثورة غير العنفية التي قادها المجتمع المدني عام 1989؛ إلا أن الإرث النفسي للتهميش بقي حاضراً بعدها، وتجلّت آثاره في حالة الإحباط من النخب الجديدة، وضعف المشاركة السياسية الفاعلة التي اقتصرت على الوجود في صناعة القرار بهدف المعارضة لا المشاركة.

يمكن لهذه لتجربة التشيك وغيرها أن تفسّر كثيراً من السلوكيات الشائعة بين السوريين حالياً، لاسيما مع إرث طويل من القمع والاستبداد ظهر على شكل التحزُّب والالتفاف حول هويات فرعية، وضعف الثقة والخوف من الآخر؛ فقد بنى نظام الأسد ركائز حكمه على تفتيت المجتمع السوري وشرذمته وإضعاف بناه الاجتماعية،  فقمع كل أشكال العمل المدني والأهلي، وأبقى على البُنى الطائفية والعشائرية والدينية التي جيّرها لتخدم مصالحه أولاً، محوّلاً إياها إلى كيانات قائمة على الولاء المطلق للسلطة، وسلّط على هذه البُنى بعض القيادات التي يضمن ولاءها وورّطهم في الفساد والانتهاكات التي طال أذاها المكونات التي يمثلونها أولاً.

كما استطاع إعادة إنتاج الهوية السورية التي ربطها باسمه من خلال الأدوات التعليمية والإعلامية والسياسية، وتمكن من إقناع الجميع بأنه الضامن الوحيد من الفوضى والتطرف وصمّام الأمان لبقاء الطوائف من خلال منظومة البطش والخوف والاستبداد التي أقامها في البلاد، فلم يعد للقانون ولا للعدالة ولا للمؤسسات القدرة على تقديم الحماية أو الحفاظ على الحقوق لأي طرف سوري ما لم يكن هذا الطرف مديناً بالولاء المطلق، أو منغمساً في شبكة الفساد والقمع التي شكّلها هذا النظام؛ فتحولت العلاقة مع الدولة إلى علاقة قهرية، لا علاقة انتماء، وتحولت الدولة من كونها حارساً للحقوق إلى مصدر للخطر.

إدمان الخوف والعنف:

سقط نظام الأسد بشكل مفاجئ وغير متوقع عند العديد من السوريين، وتغير المشهد السوري بشكل جوهري على الأصعدة كافة، فانكشف ضررٌ كبيرٌ طال البشر والحجر، كما نُزع غطاء الاستقرار الظاهري لتطفو معه على السطح مخاوف مكبوتة وهواجس مشروعة تتعلق بالحاضر والمستقبل، تتجاوز أخطاء الماضي لمنع تكرارها، وإنّ تفهُّم هذه المخاوف _دون الغوص في تبريرات لها_ قد يكون مهماً لإيجاد حلول حقيقة تضمن نجاة الجميع من هذا المخاض العسير.

فلو أننا نظرنا إلى الأقليات السورية بشكل عام فقد زعزع سقوط النظام البائد منظومة التوازنات والمصالح، ودمّر مشهد الاستقرار الموهوم الذي حمته دولة الاستبداد السابقة ، وإلى جانب ذلك مكّن الواقع الجديد الأكثرية المقهورة من استعادة مكانها وإعادة بناء هويتها، من خلال استدعاء رمزيات وسرديات وشعارات ذات مدلول تاريخي والتغنّي بالنصر العظيم الذي حققته، وهو ما أشعر الأقليات بأنهم خارج المنظومة الحالية، وأعاد المخاوف الراسخة التي غرستها ماكينة الأسد الإعلامية حول مَن دأبت على وصفهم كـ”متشددين”، “متطرفين”، “همج”، “دواعش”، وصفات أخرى تم استحضارها مجدداً في توصيف المشهد الحالي بما يدل على تجذُّرها في العقول.

سواء في أحداث الساحل سابقاً أو في أحداث السويداء الأخيرة تم استدعاء الخوف وكأنّ السوريين مدمنون عليه، وتم تعظيم مخاوف التهميش والفوضى والانتقام وفقدان المكانة، والأهم من ذلك فقدان الحماية والاستهداف الوجودي من الآخر، وبدأت التساؤلات تحضر مجدداً “مَن سيحمينا؟” لاسيما مع غياب تام للمنظومة القانونية وآليات العدالة التي نسف نظام الأسد قواعدها.

وارتبك المشهد وزاد تعقيداً بعد أن أسهمت التدخلات الخارجية ذات الأجندات بتعزيز هذه المخاوف، خاصة مع التصريحات والتلميحات والتركيز الكبير على الأقليات في الخطاب السياسي، والتواصل الخاص مع قياداتها، لاسيما من طرف “إسرائيل”، وتقديم وعود بدعم قريب لإعادة رسم المشهد في سوريا بعد التشكيك بقدرة الدولة الوليدة على ضبط الأمن أو فرض الحماية، والدفع نحو عرقلة قبولها من المجتمع الدولي، من خلال تضخيم أخطائها تارة والاستفزاز تارة أخرى.

وفي السياق نفسه لا يمكن أن نتجاهل مخاوف الأكثرية السنّيّة ذات الخلفيات المتعددة التي تعرضت لتهميش طويل، وشهدت تجربة قاسية جداً من الملاحقة والاعتقال والقصف والتجهير والشيطنة والربط بالتطرف والتجاهل الدولي، فقد استعادت هذه الأكثرية وجودها وقيادتها بعد ثمن باهظ جداً قدمته من الدماء والشهداء والجرحى والمهجرين والنازحين لا ينافسها بعددهم أي طرف، ولكنها في الوقت ذاته وجدت نفسها مسؤولةً عن بناء دولة تشاركية عادلة لم تمتلك الأدوات اللازمة لها بعد، ومطالبةً بالتصدي وحدها للمخاطر وضبط الأمن وإطفاء الحرائق المادية والمعنوية، في وقت تقوقعت فيه بقية المكونات في مناطقها متشبثة بسلاحها لا تملك سوى رفض المبادرات ولا تريد سوى تحصيل المكاسب.

لم يملك السوريون المتصارعون الذين كانوا ضحايا لإرث طويل من القمع أدوات تساعدهم على مواجهة مخاوفهم المتأججة والتعامل معها بعقلانية، ولم يجدوا أمامها مع تطور التوترات سوى اللجوء للعنف اللفظي أو الجسدي سلوكاً دفاعياً وقائياً، فارتدّ كل مخزون القهر والإذلال والانتهاكات التي كانوا ضحاياها لعقود ليصبحوا متورطين بها أو مبررين لها من باب “نقتلهم قبل أن يقتلونا”، أو “نفعل بهم كما فعلوا بنا”؛ في محاولة لإنقاذ أنفسهم من هذا التهديد المتصور في معركة وجودية أقنعهم بها آخرون.

الأولوية لصوت العقل والحكمة:

من الصعب اختصار هذا المشهد المعقد وتحليل أسبابه في هذه السطور القليلة؛ فالخوف الذي عاشه السوريون لعقود لم يكن مجرد شعور، بل كان نظاماً اجتماعياً وسياسياً ونفسياً فكّك كل منظومات الأمان التي ترعاها الدولة، وباتوا أمام استحقاق مهم كيف نتعامل مع هذه المخاوف ونحمي وجودنا المهدد، وكيف نتعايش مع “هؤلاء” وقد تم تصويرهم خطراً وجودياً يجب تحييده أو استئصاله.

لقد كشف سقوط نظام الأسد عمق الجرج السوري؛ فنحن اليوم نحصد نتائج سنوات من تدمير ممنهج لبنى المجتمع المدني الذي أنتج أفراداً معزولين، عديمي الثقة، يفتقدون المؤسسات التي تمثلهم كما يفتقدون القدرة على العمل معاً، لم يتربوا سوى على النجاة الفردية، ولا يملكون سوى العنف لحل المشاكل، ولم يتعلموا كيفية التعامل مع الخلافات والاختلافات وتقبُّل الرأي الآخر رغم محاولات البعض في الشارع الثوري مواجهة هذه المشكلة وإيحاد حلول لها. وفي هذه اللحظات الوطنية العصيبة تقدم بعض أصحاب المشاريع السياسية وأمراء الحرب لتثبيت أقدامهم في الواقع الجديد، مستفيدين من فراغ فكري وثقافي وسياسي ومن غياب للنخب الوطنية المؤثرة، فأعادوا استثمار الخوف الذي أدمنت عليه النفوس، ونجحوا في صناعة تهديد جديد واستفزاز الآخرين بما يعزز التهديد ويضمن حشد الخائفين حولهم.

ليست الحالة السورية فريدة ولا استثنائية، وما حدث كان متوقعاً؛ إذ لم يشهد العالم حالة انتقال سياسي سلسة مرّت دون تحديات، بل إن كل ما نواجهه حالياً قد يكون نسخة مكررة بالتفاصيل ذاتها حدثت في أماكن أخرى من العالم، وشهدت الفوضى والاستقطاب وضعف الثقة. ومن السذاجة أن نتوقع بعد عقود من التهميش أن ينتقل المقموعون المرهبون من تلقاء أنفسهم إلى مراتب متقدمة من المشاركة والثقة، دون سعي ولا جهد ودون تفكيك المنظومة السابقة سياسياً وقانونياً ورمزياً ووجدانياً، وإعادة بنائها من جديد.

في حالتنا لا تكفي القوانين والمؤسسات والمشاريع والاتفاقيات والاجتماعات الشكلية لمعالجة الإرث النفسي التهميش والخوف، بل لابد من حالة اعتراف جماعي بميراث متراكم من الأذى النفسي، وإعادة تأهيل مجتمعي نفسي إلى جانب الإصلاحات السياسية، تبدأ من اعتراف الجميع بعدم قدرتهم على حل المشكلة بالضربة القاضية ولا بالاستقواء بالعدو الخارجي؛ إذ لا يمكن أن يتحقق الأمان والحماية في وسط تحيطه الكراهية والأحقاد والرغبة بالانتقام، بل إن الضمان الحقيقي لحياة آمنة ومستقبل لامع يكون بالمشاركة الكاملة والحقيقية في بناء منظومة قانونية وقضائية جديدة، تضمن حقوق المواطنة العادلة، وتشكل صمّام الأمان في وجه الانتهاكات والأخطاء المحتملة.

إن معادلة النجاة اليوم صعبة، لكنها ليست مستحيلة؛ فهي تتطلب ابتداءً تفهُّم مخاوف كل طرف من قبل الآخر، والاعتراف بها وبالأخطاء التي ارتكبها الجميع، ثم البحث في سبل إصلاحها. كما تبرز الحاجة لمكاشفات صريحة يقوم بها العقلاء تنظر للعواقب بهدوء واتزان؛ فالانجرار وراء التصعيد والتحريض ومشاريع الآخرين يعني إهدار المزيد من الدماء في معركة لم تكن معركتنا، سيتحول فيها الشباب الذين نتأمل أن يعيدوا بناء الوطن إلى وقود في مشاريع سيحصد ثمارَها غرباء، وسنُضيّع فرصة بناء منظومة العدالة والقانون التي ما زالت متعثرة حتى الآن، وهي التي ستكون الضامن الوحيد لإعادة بناء دولة مستقرة آمنة عصيّة على التدخل، تصون كرامة السوريّ وحقوقه دون أن تسأله عن خلفيته.

مديرة الوحدة المجتعية في مركز الحوار السوري، بكالوريوس في الهندسة من جامعة دمشق، دبلوم في التخطيط العمراني وإعادة الإعمار المستدام، عملت في مجال الإعلام المكتوب والمسموع لعدة سنوات، نشرت العديد من الأوراق والتقارير البحثية في مواضيع سياسية واجتماعية، وخاصة ما يتعلق بأوضاع اللاجئين وقضايا المرأة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى