
“فزعة مدنية” في مواجهة بوادر حرب أهلية.. فمن لها؟
قدمت أحداث السويداء الأخيرة ومن قبلها أحداث الساحل مجموعة إشارات تحذيرية عالية الخطورة تُنذر ببوادر وقوع حرب أهلية وشيكة في سوريا، خاصة وأن الظروف العامة مهيأة لاستقبال أي شرارة وتصعيدها بشكل عنيف مع وجود جهات داخلية وخارجية من مصلحتها تصعيد العنف الداخلي ومنع الاستقرار.
يؤكد المشهد السوري الحالي على غياب الهوية الوطنية السورية الجامعة لصالح بروز هويات دينية وعرقية تتحرّك وفق مصالح سياسية، فبالنظر إلى كلا الحدثين لم يكن المحرك للأحداث طائفياً بقدر ما كان سياسياً، سعى قادته إلى انتزاع شكل من السلطة واستعادة المكانة السابقة تحت غطاء أيديولوجي وتمترس طائفي.
كما يُظهر كلا الحدثين أن هناك فئة مسلحة سياسية اغتصبت قرار هذه الطوائف وتحدّثت باسمها، وأقحمتها في مواجهة مع بقية المكونات بعد أن أسقطت اعتبارات المصلحة السورية العامة لصالح هوياتها الفئوية الضيقة، محاوِلةً الخروج من عباءة الدولة ومخاطبة المجتمع الدولي وإغراءه بالتدخل، وعندما لم تنجح المناشدات كان لابُدّ من إشعال نزيف دموي تتحول فيه الهويات الطائفية لأدوات ثأر وانتقام وتتبنّى سردية المظلومية والخوف والاستهداف.
كيف تندلع الحروب الأهلية؟
تُقدّم باربرا والتر أستاذة العلاقات الدولية في جامعة كاليفورنيا ضمن كتابها الذي حمل عنوان: “كيف تندلع الحروب الأهلية وكيف يمكن إيقافها؟” إجابة على هذا السؤال، فقد قدم الكتاب دراسة معمّقة امتدت لـ 30 عاماً للحروب الأهلية التي اندلعت بعد الحرب العالمية الثانية، والتي كشفت أنماطاً متماثلة وعوامل مُحرّضة تشترك فيها جميع هذه الحروب بغضّ النظر عن مكان حدوثها.
يُظهر النموذج التنبؤي الذي استخدمته والتر عاملين حاسمين ومؤثرين في اندلاع هذه الحروب من بين 38 عاملاً مختلفاً، إذ تعتبر “الأنظمة الأنوقراطية” البيئة الأمثل لحدوث حروب أهلية لاسيما في حالات الانتقال السياسي، وتعرف هذه الأنظمة بأنها تقع في منتصف المسافة بين الأنظمة الديمقراطية والديكتاتورية، فهي تفتقد البنى التي تتيحها الأنظمة الديمقراطية التي تُمكّن الناس من المشاركة أو الاعتراض أو التظلّم دون اللجوء للعنف، وتفتقد أيضاً القدرة القمعية التي تمارسها الأنظمة الديكتاتورية.
أما عامل الخطر الثاني فيتمثل في وجود انقسام هوياتي حاد أخطره الهويات العرقية أو الدينية التي تسعى للاستفراد بالسلطة لا تقاسمها، وخاصة عند امتلاكها السلاح ووجود قيادات انتهازية، وتؤكد والتر أن المجموعات التي تبدأ في إشعال الحروب الاهلية ليست المجموعات الأضعف ولا الأفقر ولا الأكثر تهميشاً، بل المجموعات التي كانت صاحبة هيمنة سياسية وبدأت تفقد سلطتها بعد التغيير، والتي لا تجد حرجاً من استخدام تكتيكات قذرة للاستفادة من الواقع وحجز موقع لها في المستقبل.
ومما يُعظّم أثر هذين العاملين حالة انهيار المؤسسات التي ترافق عمليات الانتقال السياسي وضعف الحكومات، ومع غياب الأمل بوجود فسحة للمشاركة أو الحفاظ على المكاسب تبدأ عندها عملية التجييش وإعادة صياغة الرأي العام الذي يُركّز على المظلومية ويُعظّم الشعور بالتهديد والحاجة للتكاتف ضمن إطار الهوية الضيّقة.
وتعتبر والتر وسائل التواصل الاجتماعي إحدى الأدوات الهامة والقوية في عالمنا المعاصر، وذلك بالنظر إلى قدرتها على تضخيم الحدث من خلال خوارزمياتها القائمة على إبراز المواد الأكثر إثارة للفتنة والتي تلقى غالباً التفاعل والانتشار الأكبر، فتتحوّل هذه المواقع إلى مكان لحشد الأنصار من خلال بث الأخبار الزائفة وشيطنة الخصوم، وهو ما يُعمّق مشاعر الخوف والكراهية ويزيد من حالة انعدام الأمان.
تُقدّم والتر مجموعة من التدابير الاستباقية التي يُفترض استخدامها لنزع فتيل العنف قبل اندلاعه، معوّلة على الدولة والمجتمع على حدّ سواء، تقوم هذه التدابير على التركيز على تقوية المؤسسات الوطنية وضمان استقلاليتها لاسيما مؤسستي القضاء والإعلام، وإتاحة المجال للعمل السياسي الذي يُعتبر قنوات تصريف آمنة وبديلاً عن العنف، مع ضرورة إنفاذ قوانين تكافح التمييز وتُكرّس المواطنة تحت إطار منظومة من القوانين العادلة، تترافق مع مشاركة فعّالة للمجتمع المدني والذي يمكن أن يُعزّز توجّهات الدولة في بناء خطاب وطني جامع.
هل فات الأوان؟
يُقدّم الكتاب السابق وصفاً دقيقاً للحالة السورية، إذ تبدو كل العوامل المؤجّجة للصراع حاضرة، ابتداءً من مرحلة انتقالية قلقة يحاول فيها السوريون التخلُّص من إرث الاستبداد ومن منتفعيه، وصولاً إلى تشظٍ مجتمعي عميق تراكم فيها موروث الكراهية والاستقطاب والانقسامات الحادة، بالإضافة إلى مخاوف الكثير من المجموعات التي فقدت السلطة والمكانة وباتت تتخوّف من المحاسبة أو الانتقام، وحالة انتشار غير منضبط للسلاح، إلى جانب القرارات المتردّدة أو الخاطئة التي ارتُكبت خلال المرحلة الانتقالية وزادت من تعقيد المشهد.
ومما يزيد الطين بلّة دخول الكيان الصهيوني على معادلة الصراع، ومحاولة إعادة تشكيل المشهد من خلال اللعب بورقة الأقليات ودعمها، وذلك بهدف إضعاف الدولة السورية الناشئة، وإنشاء منطقة عازلة تُبعد أي خيار مستقبلي للردع، والإبقاء على ذريعة للتدخُّل في الشأن الداخلي كلما اقتضت المصلحة.
إن هذا المشهد المتسارع يتطلب من السوريين فزعة مدنيّة مستعجلة لسحب فتيل أي شرارة يمكن أن تُفجّر هذا الوضع، والعمل الإسعافي على تبريد الجبهات المجتمعية المحتقنة، وتهيئتها للدخول في عملية طويلة يتم من خلالها مداواة الجروح المجتمعية وإنشاء تصوّر مشترك لهوية سورية جديدة تعالج مخاوف الإقصاء والانتقام، وتتبنّى مشروعاً وطنياً جامعاً يحمل ملامح سوريا التي نريدها جميعاً.
إن هذه الفزعة المدنيّة المستعجلة تتطلّب بداية استشعاراً بقرب اندلاع حرب أهلية، واعترافاً بوجود مشكلة حقيقية تُهدّد وحدة سوريا ومستقبلها تستدعي تدخُّلاً إسعافياً، ويُتوقع أن يتصدر العقلاء والقيادات المجتمعية والدينية من كافة الأطراف دون استثناء المشهد ليقدّموا خطاباً عاقلاً معتدلاً، ويبدؤوا بمبادرات تهدئة وطمأنة، ويقوموا بضبط الخطاب التحريضي ومنصاته ونبذ المحرضين ومقاطعتهم.
ويتوجب على الحكومة أيضاً التحرُّك بشكل موازٍ تعمل فيه بالتعاون مع المجتمع المدني على تعبئة السوريين وإشراكهم في مسؤولية الحفاظ على السلم الأهلي، والعمل على خطة لضبط السلاح والانفلات الأمني، وفرض رقابة صارمة على مواقع التواصل المجتمعي ومعاقبة كل من يقوم بالتحريض الطائفي أو المناطقي أو السخرية من الرموز الدينية أو يتغنى أو يدعم رموز النظام السابق.
خطوات نحو الاستقرار المجتمعي:
إن هذه الفزعة المدنيّة المطلوبة ليست مؤقتة ولا آنية، ولا هي ردة فعل على حدث عارض، وإنما مساهمة وخطوة باتجاه بناء مشروع وطني سوري – سوري بعيدٍ عن المصالح السياسية الخارجية، يرسم ملامح هوية وطنية حقيقية عابرة للطوائف والمكونات، ويحترم حقوقها وخصوصيتها ويضمن وجودها، وهو أمر ليس بالسهل ولا باليسير.
إن المضي في هذا المشروع يحتاج إلى مجموعة من الوطنيّين المخلصين من أصحاب الوعي والحنكة والصبر، القادرين على خوض الحوارات الطويلة، والغوص في القضايا الشائكة، وبناء مستويات من الثقة والمساحات الآمنة التي تسمح بنقل المخاوف للعلن ومناقشتها، وسماع الجميع بقصد التفهُّم لا بقصد الرد والإفحام.
إن بناء هذه الهوية الوطنية الجامعة والانطلاق بالمشروع الوطني لا يمكن أن يبدأ وسط رفضٍ من بعض المكوّنات لفكرة العيش المشترك، والاستقواء بالخارج واستدعاء التدخُّل والتقسيم، وهي إشكالية حقيقية تحتاج إلى علاج، فالهوية الوطنية لا تنشئ بالفرض والإجبار وإنما بالحوار والإقناع، كما لا يفترض أن تتصدّر مرجعيات دينية الحديث باسم الطائفة ما لم تكن مفوّضة بشكل حقيقي من معظم أفرادها، وهو ما يجب التأكد منه لضمان عدم اختطاف طوائف من قبل بعض المتنفذين وأصحاب المصالح والطموحات السياسية.
إن الحاجة لإعادة كتابة السردية الوطنية أمرٌ مُلح، والاعتراف بالظلم الواقع على الجميع ومسؤولية البعض تجاهه هو الخطوة الأولى نحو العيش المشترك، كما أن الاتفاق على مجموعة من المبادئ الوطنية أولوية لا يمكن التراجع عنها، كوحدة الأراضي السورية ومنع التمييز وسيادة القانون واحترام التعدد الإثني والثقافي والمسؤولية المجتمعية المنوطة على الجميع للدفاع عن الوطن تجاه أي اعتداء.
إن أحداث السويداء، بغضّ النظر عن السيناريو الذي ستؤول له، ماهي إلا جرس الإنذار الأخير قبل الوقوع في الهاوية، يُحتّم على الجميع الوقوف بوعي أمام خطر الانزلاق أمام حرب أهلية تطحن في رحاها ما تبقّى من السوريين، وتبتلع حلمهم الوليد في إقامة الدولة التي يحلمون بها، فالبيئة مهيّأة لحريق لا يبقي ولا يذر، والعدو متربص يحمل الوقود الذي يؤجج هذا الحريق، والخطاب الشعبوي التحريضي الذي يُجرّم الآخر ويُعمّم أخطاءه بات خطاباً شائعاً يدغدغ النفوس المثقلة بالجراح، وإن التصدّي لهذه التحدّيات تتطلب فرساناً شجعاناً على مستوى رفيع من الوطنية والتعقّل والمهارات القيادية، فهل ستشهد سورياً ظهور هؤلاء الفرسان المنقذين قريباً؟
مديرة الوحدة المجتعية في مركز الحوار السوري، بكالوريوس في الهندسة من جامعة دمشق، دبلوم في التخطيط العمراني وإعادة الإعمار المستدام، عملت في مجال الإعلام المكتوب والمسموع لعدة سنوات، نشرت العديد من الأوراق والتقارير البحثية في مواضيع سياسية واجتماعية، وخاصة ما يتعلق بأوضاع اللاجئين وقضايا المرأة