مقالات الرأي

في تمرُّد فلول النظام البائد واستكمال إحباطه: أولوية المعالجة السياسية والاجتماعية مع العسكرية

كما كان متوقعاً للكثير من المتابعين؛ أطلق فلول نظام الأسد البائد ما يمكن وصفه بتمرُّد أو محاولة انقلابية شاملة في الساحل السوري وبشكل متزامن وواسع النطاق وعبر هجمات عنيفة على الأجهزة الأمنية والشرطية والمستشفيات والمراكز الحكومية وصولاً إلى نصب كمائن على الطرق الدولية والفرعية، بمشاركة أربعة آلاف مسلّح وفق تقديرات رسمية أولية. نجم عن هذه الجرائم والتعديات استشهاد العشرات من القوى الأمنية والعسكرية ومحاصرة وأسر وانقطاع التواصل مع الكثير منهم، لتُشكّل هذه التهديدات الأمنية والعسكرية الخطر الأكبر على سوريا الجديدة منذ إسقاط نظام الأسد البائد.

استنفرت السلطة الجديدة التي أدركت سريعاً حجم الهجوم وفقدان السيطرة على مناطق واسعة في الساحل، وبدأت بإرسال التعزيزات من الأمن العام ووزارة الدفاع الوليدتين، في الوقت الذي شهدت فيه المحافظات الرئيسية مثل دمشق وحلب وحمص وحماة وإدلب ودرعا هبّات شعبية مؤيدة للدولة، مترافقة مع خروج عدة أرتال عسكرية تطوّعية من مناطق “قوى الثورة والمعارضة” لمواجهة التمرُّد المسلح، وخلال اليومين الماضيين استمرت المعارك الشرسة وسط حالة من الفوضى، شهدت انتهاكات وأعمالاً انتقامية بحق المدنيين وعمليات نهب وسلب تتضارب الأخبار بخصوص مرتكبيها، بين نسبتها إلى المتطوعين الذين ساندوا وزارة الدفاع وجهاز الأمن العام، وبين نسبتها إلى فلول نظام الأسد الذين قاموا بهذه الأفعال من أجل اتهام الأجهزة الأمنية والعسكرية بها، وتوظيفها سياسياً من أجل استجلاب التدخُّل الخارجي.

من خلال متابعة ورصد سريع لمجمل الأحداث المتسارعة يمكن الوقوف على مجموعة من النقاط الرئيسية لفهم ما حصل وأبعاده وأهدافه وصولاً للسعي لاقتراح ما يمكن من حلول رئيسية أقرب ما تكون إلى الإجراءات الإسعافية لمنع تفاقم المشهد.

  • ظهر التمرُّد العسكري لفلول نظام الأسد البائد بنفَس طائفي واضح ومتعمد، مع القيام بعمليات تنكيل وحرق لجثامين الشهداء، واستهدافات واسعة ومتزامنة للمستشفيات وبعض المساجد والأسواق، وبث مقاطع مستمرة بعبارات طائفية بالتزامن مع حملة واسعة على مواقع التواصل دعت لقيام “الإقليم العلوي” بهدف تسخين المشهد طائفياً إلى أبعد حد، واستفزاز الملايين من أسر ضحايا نظام الأسد، والذين استاؤوا خلال الأشهر الماضية أصلاً من عدم إطلاق عمليات محاكمة لمرتكبي الجرائم، والذين غالبيتهم ينتمون لهؤلاء الفلول.
  • تزامن التحرُّك الميداني مع إعلان المجلس العسكري بقيادة ضباط نظام الأسد البائد والتصريح بأسماء كثيرة منهم بهدف تجنيد أكبر عدد من حاضنة النظام البائد في المعركة الجديدة، وترويج كبير من محور مليشيات إيران في لبنان والعراق بهدف إذكاء البُعد الطائفي، فضلاً عن استهداف الرأي العام الدولي بقضية “حماية الأقليات المهدَّدة في سوريا”، مع دور سلبي وتحريضي لبعض القوى الاجتماعية في الساحل وفي مقدمتها “المجلس الإسلامي العلوي”، ومن دون أن ينفي ذلك وجود أصوات إيجابية رافضة للمؤامرة الطائفية.
  • سبق أن جاءت التصريحات الإيرانية الرسمية ولأكثر من مرة وهي “تُبشّر” بالحرب الأهلية في سوريا، وتعلن تشكيل “مقاومة إسلامية”، في الوقت نفسه استمر الكيان الصهيوني بالتوغُّل البري والعمليات الجوية مع رفع شعار حماية الجنوب، ودعم ما يُسمّى بالمجلس العسكري المعادي للسلطة الجديدة، فضلاً عن تحرُّكات وهجمات متقطعة لــ “قوات سوريا الديمقراطية- قسد” وخلايا إيرانية في شرق سوريا بما يظهر تحالف قوى داعمة لفكرة إشعال سوريا إثنياً وطائفياً.
  • ظهرت مجموعة من الانتهاكات المروّعة لتترافق مع دعوات طائفية مضادة وتحريض واسع متبادل على مواقع التواصل الاجتماعي، مع نعوات للكثير من العائلات المدنية، وقسم منها من معارضي نظام الأسد في الساحل السوري، لتؤدي من حيث النتيجة إلى اتخاذ إجراءات رسمية من السلطة الجديدة مثل: السعي لإخراج القوى غير المنضبطة، وإطلاق تصريحات متتالية لتطمين المدنيين، والتوعُّد بالمحاسبة وتحمُّل المسؤولية.

عموماً، لم تكن الأهداف الرئيسية للتمرُّد العسكري محض عسكرية بقدر ما كانت تستهدف الاستثمار في نتائج التحريض والفوضى، بما يقود إلى استفزاز الآلاف من ذوي ضحايا نظام الأسد البائد، بغية خلط الأوراق وإدخال المؤسسات الرسمية الوليدة في ثنائية المواجهة الصعبة مع عصابات الإجرام والتمرُّد من جهة، وضبط الفوضى ومواجهة مشاعر حاضنة الثورة التي يتم استفزازها باستمرار من جهة أخرى.

كذلك كان واضحاً المراهنة على تحرُّك الجنوب، حيث انطلقت مناشدات للشيخ حكمت الهجري، وتحرك موازٍ من “قسد” وتوجيه نداءات إليها، بمعنى جعل اللهيب في الساحل يمتد إلى حالة شاملة تفتح الباب لحرب أهلية ممتدة، تفتح الباب على مصراعيه لفوضى شاملة تترافق مع دعوات من قبل بعض المكوّنات للتدخُّل الخارجي، بما يزيد الوضع الاقتصادي سوءاً، ويُعطّل الخدمات الأساسية المتواضعة أصلاً، ويفقد أي أمل برفع العقوبات الغربية التي تُعدّ خطوة ضرورية لإعادة دوران العجلة الاقتصادية.

أمام هذا المشهد المعقّد في ظروف حسّاسة ضاغطة يبدو أن مواجهة التمرُّد المسلح لا تقتصر على عنوان عسكري فقط، بل تمتد لمسارات أكبر وأكثر عمقاً وهي الكفيلة بإفشال المخطط أو التقليل من مخاطره على الأقل. وانطلاقاً من ذلك وبعيداً عن المثالية التي تفترض أن ما يحصل يتم في ظل دولة مستقرة وفي إطار مؤسسات دولة راسخة ولها القدرة على مواجهة كل التحديات والمساوئ معاً وتحقيق أعلى معايير حقوق الإنسان، ثمة مجموعة من الخطوات التي يمكن التفكير فيها من قبل السلطة أولاً ومن جميع القوى وصولاً للأفراد التي تؤمن بتحقيق استقرار في سوريا، وذلك على النحو الآتي:

أ – فيما يتعلق بالسلطة الجديدة:

  • الموازنة بين الأولويات الأمنية والعسكرية في ردع التمرُّد العسكري ومنع تمدُّده ومواجهة الفلول -رغم الصعوبات الميدانية- مع منع التجاوزات والانتهاكات والمضي بشجاعة في عملية المساءلة والخطوات الجديّة على الأرض لتطمين المدنيين الأبرياء.
  • المسارعة في سدّ فجوة الإعلام الرسمي والفصل الجاد بين الأدوار والمسؤوليات وخاصة لظاهرة التصريحات الشخصية التي تحسب كتصريحات رسمية لبعض الأشخاص، ووضع قواعد لكل الشخصيات الرسمية في تعاطيها مع السياق المعقّد الحالي والمتوقّع.
  • إعلان مجموعة من الإجراءات التحضيرية الواضحة للعدالة الانتقالية، أي الخطوات التأسيسية؛ كالتحفُّظ على الأملاك وإصدار قوائم وأوامر إلقاء القبض علنياً على كبار مجرمي نظام الأسد بغضّ النظر عن القدرات الواقعية لتنفيذها.
  • إعلان حالة الطوارئ الجزئية والمؤقتة في مناطق الاشتباك -وإن كان ذلك بشكل ضمني- بما يتضمّن تعليق ممارسة بعض الحقوق والحريات كالتجمُّعات والتظاهرات، ووضع ضوابط على النشر والإعلام ..إلخ، بما يعطي السلطة أدوات قانونية تُمكّنها من التعامل مع هذا الوضع الاستثنائي.
  • تشكيل لجنة قضائية موسَّعة خاصة بالتحقيق في الجرائم التي ارتُكبت بحقّ العناصر الأمنية والمدنيين الأبرياء مع تشكيل لجان فرعية إدارية مختلطة مع وجهاء مجتمعيّين في المحافظات الثلاث لتسهيل مهام اللجنة القضائية وإعلان النتائج أمام المجتمع السوري.
  • استنفار دبلوماسي للتواصل مع الدول والهيئات الدولية والقوى المؤثرة في الرأي العام الدولي وتقديم الحقائق والأدلة حول ما حصل وغاياته والتدخُّلات الخارجية في تأجيجه.
  • الإسراع في الإعلان الدستوري وتشكيل مجلس تشريعي مؤقّت ووضع قائمة تشريعات رئيسية على سلم الأولويات مع التشدُّد في العقوبات الرادعة وخاصة في القضايا التي تستنفر الهويات ما دون الوطنية، وتستهدف السلم الأهلي وفي مقدمتها: تجريم تمجيد نظام الأسد البائد وإنكار جرائمه، وتجريم التحريض الطائفي.
  • إصدار إعلان خاص بالقطيعة المعنوية النهائية مع انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا تحت أي ظرف ومبرر وبما يتضمّن مبادئ رئيسية “كتعهّدات” بإصدار النصوص ذات الصلة والقيام ببناء قدرات المؤسسات الأمنية والعسكرية والشرطية بقضايا حقوق الإنسان وتفعيل الرقابة الداخلية على التجاوزات.

ب-فيما يتعلق بالقوى المجتمعية وتنظيمات المجتمع المدني:

  • الوقوف بشكل واضح مع فكرة مشروع الدولة بوجه المشاريع الطائفية ومشاريع التقسيم، وممارسة النقد الواعي للعواقب والبعيد عن المثاليات المفرطة مع تقدير حساسيات الواقع وتعقيداته. مع التنويه أن المعيرة والمراقبة هنا ذاتية في المقام الأول وليست وصائية -إن صح التعبير-.
  • ممارسة الرقابة الذاتية على الأعضاء والكوادر فيما يخص التحريض أو المشاركة به والانخراط في دعم الفوضى أو خطاب الكراهية.
  • توجيه الجهود على أرض الواقع للمطالبة بالخطوات المدنية والسياسية بما يدعم حقوق الإنسان بما يناسب الواقع السوري بدلاً من الاعتماد على المعايير الفضلى فقط.
  • التوجُّه نحو التعاون والتشبيك العابر للحيّز الجغرافي والتقوقع المناطقي بما يسمح لأفراد المجتمع بتبادل آرائهم وأفكارهم، وصولاً إلى تحقيق توافقات وطنيّة تستند إلى الثقة والاعتراف بالآخر المختلف، بحيث تجعل المنظمات هذه المساحات الحوارية مجالاً مجتمعياً لبناء الثقة ووقف نزيف رأس المال الاجتماعي.
  • ممارسة النخب للمسؤوليات الوطنية في دعم سيادة القانون ومواجهة دعوات التحريض على القتل والعنف وعدم الانجرار إلى الأفكار الطوباوية مع تجاهل المآلات على أرض الواقع.

ج-فيما يخص المسؤولية الفردية:

في الحالات الوطنية الحرجة كالحالة السورية تُعدّ المسؤولية الفردية هي الأساس لكل مواطن سوري داخل سوريا وخارجها من حيث دعم القانون عبر الالتزام الفردي أصلاً، وصولاً للمسؤولية المجتمعية والتمسُّك بمشروع سوريا كوطن لكل السوريين، ومن مؤشرات ذلك عدم الانخراط في الحملات الطائفية وخطاب الكراهية مع التحرّي الدائم عن مصادر المعلومات والتمسُّك بخيار مشروع الدولة كطوق نجاة فردي وجماعي.

بلا شك تقف سوريا حتى بعد إسقاط نظام الأسد البائد أمام تحدّيات وجودية، ويمكن الاختلاف في الأفكار حول الكثير من النقاط؛ إلا أن مواجهة مخططات التقسيم والحرب الأهلية والتي تُشكّل أبرز أهداف فلول نظام الأسد البائد ومرتكبي الجرائم وأصحاب المطابع الفردية في استمرار تجارة المخدرات والسلاح والانتفاع من الفوضى بشتى الأشكال، تتطلب وعياً جماعياً وطنياً ومن الجميع وليس السلطة الجديدة فقط، وإن كانت هي المسؤول الأول عن قيادة مركب الوطن السوري ومن فيه.

باحث في وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى