
في سؤال الجدوى: الارتكاز على المسار والهيكل الواحد أم المتعدد للعدالة الانتقالية في سوريا؟
منذ لحظة إسقاط نظام الأسد البائد برزت قضية العدالة الانتقالية في سوريا إلى الواجهة بعد سنوات طويلة من الاهتمام العام بالتحضير للحظات التحوّل على صعد عديدة كتوثيق الانتهاكات ولاسيما الجسيمة منها لحقوق الإنسان، وإعداد الدراسات والمقترحات والاستطلاعات والرؤى.. الخ، وهي المهمة التي حملها عموماً المجتمع المدني السوري ومراكز الفكر وروابط الضحايا والمنظمات الحقوقية.
على الرغم من ذلك كله، جاءت لحظة الانتقال المفاجئة في سوريا لتنقل قضايا العدالة في سوريا إلى مستوى أكثر جدية بما تحمله التجربة العملية والواقع من صعوبات وتعقيدات على شتى المستويات؛ مثل: حالة الانهيار الكاملة “للمؤسسات الأمنية والعسكرية” التي يعول عليها في إنفاذ القانون، والانقسامات المجتمعية الحادة، والتحديات الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن هشاشة السياق العام لجهة وجود قوى سيطرة مختلفة قائمة عملياً.
ومع مرور الأشهر الخمسة الأولى من لحظة التحول بدأت تنتشر عمليات الانتقام الفردي والتي يقوم من خلالها مجهولون عادة باستهداف شخصيات يقال إنها متورطة في قتل السوريين أو إخفائهم قسرياً، كما بدأت قضايا ساخنة تطفو على السطح ومن أهمها: ما حصل من انتهاكات بحق مدنيين سوريين في الساحل السوري أثناء قيام “فلول النظام” بهجمات واسعة على القوى الأمنية والعسكرية في المناطق الساحلية، عدا عن الضبابية في عملية تنظيم الوظيفة العامة والإصلاح المؤسساتي، والأهم ما يُشاع عن عمليات مصالحة مع بعض كبار مموّلي النظام البائد وبطريقة غامضة ..الخ.
وسط هذا السياق الذي يختلف بشدة في توصيفه أو تفسير أسبابه بين من يتمسك بالواقعية وبين من يرفع شعار مناصرة العدالة وبين شرائح أخرى تتوسّط النموذجين؛ تأتي أنباء عن اقتراب إنشاء هيئة عدالة انتقالية سورية، وهيئة خاصة بشؤون المفقودين والمختفين قسراً، وتدارس قانون للعدالة الانتقالية.. الخ، ومن أبرز هذه المؤشرات كان التصريح الأخير لرئيس الجمهورية أحمد الشرع أثناء زيارته الأخيرة لفرنسا حين قال إن تشكيل هيئة العدالة الانتقالية وهيئة خاصة بالمفقودين ستكون حاضرة قريباً.
بالنظر إلى هذه الأنباء وما سبقها مما جاء في المادة 49 من الإعلان الدستوري التي نصت على إنشاء هيئة عدالة انتقالية “تعتمد آليات فاعلة تشاورية” لتحديد سبل المساءلة ومعرفة الحقيقة والإنصاف وتكريم الشهداء، فإن أسئلة عديدة تبرز من أهمها: هل تتجه التجربة السورية إلى الارتكاز على مسار وهيكل واحد أم إلى مسارات وهياكل متوازية لتحقيق العدالة الانتقالية؟ وما هي المقاربة الأكثر جدوى بناء على الدروس المستفادة من تجارب أخرى؟
بالعودة لمجموعة من أبرز التجارب نستطيع أن نقول إن فكرة وجود هيئة عدالة انتقالية كهيكل مختلف عن هيئة الحقيقة أو حتى عن هيئة الكشف عن المفقودين غير موجودة في أبرز التجارب الشهيرة للعدالة الانتقالية ويقتصر حضورها على مشروع دستوري ظهر في الحالة اليمنية غير المكتملة بسب الانزلاق لنزاع شامل مجدداً، حيث تم النص في المادة 434 من مشروع الدستور اليمني لعام 2015 على إنشاء هيئة العدالة الانتقالية مع تحديد أنها ناجمة عن قانون للعدالة والمصالحة والذي يُحدّد اختصاصها وصلاحياتها، ويبدو أن التسلّل اللفظي الذي طغى على مواقع التواصل الاجتماعي والفضاء العام السوري قد تسرّب منها.
في مقابل ذلك، نلحظ وجود ارتكاز عام على هيكل واحد وهو هيئة الحقيقة بمسمّياتها المتعددة في الكثير من التجارب، وهي التي تنشأ بعد مسارات تشاورية كممارسة معيارية وليس بعدها؛ على سبيل المثال ارتكزت عملية كشف الحقائق وإطلاق المحاكمات وخطط جبر الضرر على اللجنة الوطنية العليا للأشخاص المفقودين في الأرجنتين عام 1983، وهو ما تكرّر في تشيلي عبر لجنة شبيهة للحقيقة والمصالحة عام 1990م، كذلك ارتكزت تجربة جنوب إفريقيا على مسار رئيس يتمثّل بإنشاء هيئة الحقيقة تحت مسمى “مفوضية الحقيقة والمصالحة” بموجب قانون دعم الوحدة الوطنية والمصالحة رقم 34 لعام1995م، كذلك الأمر تركزت تجربة المغرب على إنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة عام 2004 بعد جهود طويلة من هيئة دائمة ومستمرة وليست استثنائية وهي المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان في المغرب، كذلك تونس التي استقرت بعد مسارات مبعثرة عديدة أنشأت من خلالها مجالس وهيئات ولجاناً عديدة بين عامي 2011 الى 2013 على تركيز المسار على هيئة حقيقة تحت مُسمّى “هيئة الحقيقة والكرامة” نهاية عام 2013 ومطلع عام 2014، كذلك الأمر فإن ليبيا رغم عدم اكتمال تجربتها بسبب انزلاق الأوضاع إلى نزاع شامل بين الأطراف قد بدأت بالارتكاز على هيئة حقيقة بموجب أحكام القانون رقم (17) لعام 2012 بشأن إرساء قواعد المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية وتحت مسمى “هيئة تقصي الحقائق والمصالحة “.
مما سبق يُظهر سبر التجارب وجود ميل نحو الارتكاز بداية على هيئة حقيقة أساسية، سواء أُنشئت بموجب قانون أو عبر مرسوم، سواء كانت واسعة الاختصاصات أو مقيّدة أو مهما اختلفت معايير تكوينها، وبعد إنجاز هذه الهيئة لمهامها تنطلق عادة عمليات أخرى مترتبة عليها وخاصة جبر الضرر وحفظ الذاكرة والإصلاح المؤسساتي، أو تكون متوازية مع أعمالها بقوانين منفصلة كقوانين العزل السياسي وإصلاح الأجهزة الأمنية والعسكرية وقوانين الأحزاب والانتخابات ..إلخ. وحتى الحالة اليمنية التي تنصّ على إنشاء هيئة العدالة الانتقالية فإنها تظهر كهيئة حقيقة تنشأ وتمارس صلاحيتها بموجب القانون، وبالتالي فإن المشاورات الخاصة بأسس القانون حصلت بالفعل عبر مؤتمر الحوار الوطني الشامل والسابق على مشروع الدستور.
وعليه يبدو توجُّه السلطة الانتقالية إلى تشكيل مسارات وهياكل عديدة ما ينتج عنه في تقديرنا تشتت للجهود وخلق للتناقضات، فمع إنشاء هيئة العدالة الانتقالية وهي حكماً هيئة استثنائية، أي مقيّدة بزمن ومهام تزول بزوالها لتقود مشاورات ستفضي حكماً لهيئة حقيقة لإعمال الحق الجوهري في المعرفة، والتصريح بإنشاء هيئة خاصة بالمفقودين تتولى بطبيعة الحال أبرز أنشطة كشف الحقائق وهي مصير المختفين قسرياً نكون أمام ثلاثة هياكل تحتاج لثلاثة قوانين في الحالة المعيارية، ولموازنات وجهود ومعايير قد تخلق اضطراباً عملياً وتوقع التجربة السورية في فخخ التشتّت.
ما يبدو عليه التوجُّه السوري الحالي قياساً بالتوجُّهات المختلفة:
كيف نمضي إذاً؟.. مقترحات في المسار الإجرائي للمقاربة السورية:
مع وجود الإعلان الدستوري السوري والذي نص على إنشاء هيئة العدالة الانتقالية وكونها التي تقود مشاورات لرسم المقاربة السورية، يبدو أن عكس المسار هو المطلوب مع تفسير النص بشكل موسّع قليلاً وتجاوز حرفيته، بمعنى آخر فإن العملية تبدأ بتشكيل السلطة التنفيذية للجنة مشتركة تجمع بين الوزارات المعنيّة ومنظمات المجتمع المدني وخاصة الحقوقية وروابط الضحايا بمهمة محددة، وهي قيادة مشاورات واسعة للبحث في أسس القانون الناظم للعدالة الانتقالية في سوريا، مع تجنُّب التوجُّه نحو مشاورات مطوّلة جداً والدخول بدوامات لا تنتهي عادة.
تنتهي اللجنة بتقديم مشروع قانون خلال فترة زمنية غير مطوّلة كأن تكون بين ثلاثة إلى ستة أشهر، لتقوم بعدها السلطة التنفيذية بإعداد مشروع القانون الرسمي الخاص بالعدالة الانتقالية وعرضه على المجلس التشريعي المؤقت الذي يُفترض أنه تشكَّل بالتوازي مع العملية السابقة، وبالتوازي بطبيعة الحال مع إجراءات أو تدابير رئيسة لابُدّ منها لتطمين الرأي العام كالحجز الاحتياطي ومذكّرات التوقيف بحق كبار مجرمي نظام الأسد البائد ..إلخ، ليصدر المجلس وفق ولايته الدستورية قانوناً للعدالة الانتقالية يتضمّن إحداث هيئة العدالة الانتقالية السورية بوصفها هيئة حقيقة سورية تقوم بدورها بإعمال حرفية النص الدستوري وبإجراء مشاورات إضافية للقضايا التفصيلية كأنشطة الهيئة والتعاون المحلي والدولي وضمان حساسية أعمالها للفئات المهمّشة كالضحايا من النساء ..الخ، وتتولّى المهام ذات الصلة بكشف مصير المفقودين والقضايا الأخرى كتحديد قوائم الضحايا، وتقديم خطط جبر الضرر والإصلاح المؤسساتي وحفظ الذاكرة الوطنية وضمانات عدم التكرار، فضلاً عن إحالة الملفات القضائية للدوائر القضائية المتخصّصة بمحاكمة كبار مجرمي الحرب.
وبغية استدامة المسارات وإعمال النتائج على أرض الواقع يتم إحداث اللجان الخاصة بالتنفيذ أو الهيئة الوطنية السورية الرسمية لحقوق الإنسان، والتي تحتاج لقانون خاص يدمج في مهامها وصلاحياتها إعمال نتائج كشف الحقائق.
مقترحات لبناء مسار سوري مرتكز على هيكل رئيس:
ختاماً؛ يمكن القول إن التفكير بقضايا العدالة الانتقالية سواء من حيث المسارات أو من حيث حوكمتها وتقسيم الأدوار والمسؤوليات وصولاً للمضامين يشهد بطبيعته وجهات نظر مختلفة، وهذا يعد أمراً طبيعياً نتيجة لنسبية مفهوم العدالة الانتقالية واختلاف التجارب وآليات التفكير بالسبل الأكثر ملاءمة للسياقات العملية، ولذلك يبدو التوافق -قدر الإمكان- على مقاربة واضحة وشاملة للعدالة الانتقالية أول وأهم شرط للمضي قدماً في الحالة السورية ومنع التشتت والاضطراب أو القيام بخطوات دون تحقيق نتائج ملموسة بما يُولّد حالة من الإحباط العام أو الانتكاسة في تحقيق غايات العدالة الانتقالية التي تنشدها أصلاً.
باحث في وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية