قراءة في أزمة رفع أسعار الكهرباء في مناطق الشمال السوري، تحليل للعلاقة بين الحاضنة الشعبية وهيئات الحكم القائمة
مقال تحليلي صادر عن وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري
مقدمة:
شهد قطاع الكهرباء في الشمال السوري المحرر[1] بعد تنفيذ عمليات “درع الفرات” ثم “غصن الزيتون” ثم “نبع السلام” توقيع ستة عقود مع شركات خاصة تركية، كان أولها في مدينة أعزاز وآخرها في منطقة عفرين، وجميعها بوساطة الولايات التركية بين المجالس المحلية والشركات، وتمتاز جميع هذه الاستثمارات بوجود مجموعة من الأسئلة المبهمة حولها، كطبيعة العقود ومدتها وأسباب عدم نشرها للعلن[2].
في الوقت الحالي تستثمر في مناطق درع الفرات “جرابلس واعزاز والباب” وغصن الزيتون “منطقة عفرين وريفها” ونبع السلام “تل أبيض ورأس العين” ثلاث شركات في الطاقة الكهربائية، وهي: شركة الطاقة السورية التركية (STE enerji) التي بدأت بعقد مع مجلس صوران[3]، ثم أخترين وأخيراً منطقة عفرين في نهاية عام 2020[4]، وشركة الطاقة والكهرباء ((Ak energy التي تستثمر في كل من اعزاز[5] والباب وريفها والراعي وجرابلس وصولاً إلى منطقة نبع السلام “تل أبيض ورأس العين”، وأخيراً شركة الشمال لتوزيع الطاقة الكهربائية[6]، وهي شركة محلية من حيث الأصل تأسست في مدينة مارع وتزودها بالطاقة عبر شرائها من الشركة الأخرى حالياً[7].
أما في منطقة شمال غرب سوريا “إدلب وريف حلب الغربي” التي تخضع لسيطرة هيئة تحرير الشام “هتش” فقد قامت المؤسسة العامة للكهرباء التابعة لحكومة “الإنقاذ” بمنح استثمار الكهرباء لشركة “Green Energy” في آذار 2020، والتي جاءت كنسخة جديدة عن شركة “وتد” التي تحتكر المحروقات[8].
أسهمت هذه المشاريع بشكل كبير في دعم حركة الحياة العامة والنشاطين الصناعي والتجاري في المنطقة، رغم وجود بعض الإشكالات التقنية المرتبطة بجودة التيار الكهربائي واستقراره، إلا أن الفترة الحالية شهدت أزمة هي الأكبر حتى الآن[9]؛ فقد أقدمت الشركات على رفع أسعار الطاقة الكهربائية مؤخراً تزامناً مع انخفاض أسعار صرف الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي، وهو ما فجّر أضخم موجة احتجاجات في غالبية مدن وبلدات مناطق درع الفرات وغصن الزيتون وبدرجة أقل في مناطق نبع السلام، وما تزال الاحتجاجات مستمرة حتى الآن في هذه المناطق، على عكس محافظة إدلب التي لم تشهد أية مظاهرات.
تثير هذه الأزمة الحالية مجموعة من التساؤلات حول العلاقة المتداخلة ما بين الحاضنة والمجالس المحلية والشركات المستثمرة؛ ولعل أبرزها: ماهي مؤشرات سلوك الحاضنة ومطالبها؟ وكيف استجابت المجالس المحلية لهذه الضغوط؟ وما هي ماهية تجاوب الشركات مع الاحتجاجات وإدارتها للأزمة مع الجمهور؟
تعاطي شركات الكهرباء مع قضية “زيادة الأسعار”: غياب الشفافية
نتيجة انخفاض أسعار صرف الليرة التركية، وزيادة أسعار الكهرباء في تركيا مصدر الكهرباء لشمال سوريا بمختلف مناطقه “إدلب، غصن الزيتون، درع الفرات، نبع السلام فقد كان من المتوقع زيادة أسعار الكهرباء في هذه المناطق؛ غير أن طريقة تعاطي شركات الكهرباء مع هذا الأمر المتوقع وزيادتها الأسعار تشير إلى عدة نقاط، من أهمها:
- غياب الشفافية: على الرغم من أهمية قطاع الكهرباء، واتصاله بحياة الناس ومعاشهم وأعمالهم، وعلى اعتبار اتصال قطاع الكهرباء بمرفق عام لم يكن ثمّة شفافية من قبل هذه الشركات في تعاطيها مع قضية زيادة الأسعار، وقبلها في أساس علاقة هذه الشركات مع المجالس المحلية والمعلومات الخاصة بالشركات ومالكيها ومديريها؛ حيث بقيت أسئلة كثيرة تتردد على لسان الحاضنة دون إجابة واضحة من الشركات[10].
وقد شهدت الفترة الحالية ضعفاً في البيانات والتصريحات الرسمية أو الوسائل الأخرى للتواصل مع الجمهور[11]، يُضاف إلى ذلك عدم وجود تقارير دورية (مالية أو إدارية)، على الرغم من اتباع آليات عديدة لوضع المستفيدين بصورة الأعطال أو الانقطاعات التي تحصل، ووجود منشورات حول التوسع واللقاءات وبعض الخدمات[12]، أو تقديم بعض إداريي هذه الشركات تصريحات حول أسباب رفع الأسعار، من دون تفاصيل وافية[13].
- التخبُّط وضعف التنسيق مع المجالس المحلية: قامت بعض الشركات برفع الأسعار عبر إجراءات وقرارات أولى ومن ثم تغييرها بنشرة أخرى بعد الاحتجاجات أو اعتراض المجالس المحلية[14].
لقد أرسل تغيير الأسعار من قبل الشركات خلال بضعة أيام برسالة غير مباشرة للحاضنة أنّ رفع الأسعار يخضع لتقديرات القائمين على الشركات، وليس بناء على معايير واضحة، فضلاً عن أن جميع الإجراءات والمفاوضات المعلنة التي قامت بها الشركات مع المجالس المحلية كانت بعد قرارها رفع أسعار الكهرباء، وبعد خروج عدة مظاهرات ضدها. وبالتالي كان من المستغرب عدم القيام بهذه الخطوات قبل اتخاذ هذا القرار؛ إذ كان بإمكان هذه الشركات تشكيل فريق من قبلها للتفاوض والتشاور مع المجالس المحلية واتخاذ القرار بعدها.
- الاستجابة لضغوط الشارع: بغضّ النظر عن السلبيات السابقة إلا أنه يُحسب للشركات أنها خضعت بصورة أو بأخرى لضغوط الشارع، باستثناء شركة (green energy) مستثمر الكهرباء في إدلب التي لم تتعرض أساساً لهذه الضغوط.
دور المجالس المحلية بين الشركة والحاضنة: بين تمثيل المجتمع والوساطة مع الشركات[15]
مثّلت قضية رفع أسعار الكهرباء الامتحان الأبرز للمجالس المحلية العاملة في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، والذي لم تنجح فيه حتى الآن كما يبدو؛ إذ إنه ظهر فيها ضعف المجالس في التعامل مع مثل هذه الاحتجاجات من جهة مخاطبة الرأي العام، والذي برز في عدم استجابة الحاضنة الشعبية لبيانات وتصريحات المجالس، بل على العكس من ذلك حمّلتها المسؤولية الرئيسة.
إلى جانب ذلك كانت الظاهرة الأبرز في تعامل المجالس المحلية مع هذه الاحتجاجات هي انعدام الشفافية؛ فعلى الرغم من أنها الجهة الإدارية التي أبرمت العقود مع الشركات بطريقة “التعاقد بالتراضي” التي تعد طريقة استثنائية لإبرام العقود العامة[16]، وهي من الناحية القانونية تمثل السكان وتُساءل أمامهم؛ إلا أنها لم تعمد إلى نشر العقود المبرمة، أو حتى الإشارة إلى مضامينها أو توضح الملاحق التي تم الاتفاق عليها لاحقاً طيلة الفترات الماضية، في مشهدٍ ذكّر الحاضنة بقضية عقود اتصالات الخليوي التي حازها رامي مخلوف في بداية عام 2000[17].
كذلك كان هناك تجاهل واضح من قبل المجالس المحلية لمنظمات المجتمع المدني بمختلف مكوناتها؛ فعلى الرغم من وجود عشرات التجمعات المدنية الناشئة في تلك المناطق خصوصاً في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون من نقابات وتجمعات شبابية ومنظمات توعية وتمكين سياسي ونوادٍ حوارية…إلخ، فإن المجالس المحلية لم تلجأ إليها من أجل محاولة تهدئة الشارع أو نقل وجهات نظرها من خلالها؛ ولعل ذلك يعود إلى تعويل المجالس المحلية على التجمعات الوجاهية والعشائرية والأسرية -إن صح التعبير- بحكم حضورها وفعاليتها[18]، مقارنة بمنظمات المجتمع المدني التي ما تزال فعاليتها وتأثيرها المجتمعي محل نظر بالنسبة إليها[19].
في المقابل مثّلت استقالة المجلس المحلي في مارع نموذجاً استثنائياً لتفضيل المجلس الانسحاب من المشهد كأحد المؤشرات على عدم القدرة على تلبية مطالب الحاضنة[20].
احتجاجات الحاضنة ومضامينها: فقدان الثقة بالجميع
أشارت الاحتجاجات الشعبية على ارتفاع أسعار الكهرباء في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام “تل أبيض فقط”[21]، في نطاقها وحجمها إلى كسر السوريين النمط الذي كان سائداً في عهد دولة الاستبداد، من جهة عدم سكوتهم على القرارات التي يرون أنها جائرة وتمسّ حياتهم ومعاشهم. على عكس الوضع في كل من: إدلب التي لم تشهد أية احتجاجات شعبية ضد “حكومة الإنقاذ”، على الرغم من رفعها أسعار الكهرباء بنسب أكبر من المناطق المذكورة، مما يشير إلى القبضة الأمنية لهيئة تحرير الشام “هتش” داخل المنطقة، ومنطقة رأس العين التي قد تكون التوازنات الدينية والعرقية فيها هي السبب الرئيس.
والجانب الأخر الذي أشارت إليه هذه الاحتجاجات هو ضعف ثقة الحاضنة بالمجالس المحلية؛ حيث إنها لم تستجب لجميع نداءات القائمين على هذه المجالس، واستمرت في الاحتجاج والمظاهرات[22]، ولعل ضعف الثقة يعود إلى أسباب متعددة منها عدم وجود آليات قانونية وإدارية لإشراك المجتمع المحلي في صنع القرار، وعدم شعور الأهالي بتمثيل المجالس لهم على اعتبار أن غالبيتها تشكلت وفق مبدأ التوافق بين الفاعلين المدنيين والعسكريين.
في المقابل يبدو أن الحاضنة لم تعتد بعد على نمط تحرير القطاع الخدمي وعدم دعمه من قبل مؤسسات الحكم القائمة، وهذه نقطة جوهرية يفترض التوعية بها؛ فقطاع الكهرباء حالياً هو بيد شركات خاصة تسعى للربح[23]. إلى جانب استمرار “الثقافة الثورية” التي تميل إلى الهدم أكثر من البناء[24]، وهو ما يتطلب بذل جهود كبيرة لتغيير هذه النظرة لدى الحاضنة الشعبية.
ماذا بعد؟ أهم الدروس المستفادة
تعبّر الاحتجاجات بوضوح عن وجود نظرة سلبية تزداد يوماً بعد آخر للحاضنة الشعبية تجاه المجالس المحلية بالدرجة الأولى؛ كونها لا تثق -كما يبدو- بتصريحات هذه المجالس وأعمالها وأنشطتها، وهو ما يعيد قضية حوكمة المناطق المحررة إلى الواجهة مجدداً مع كل استحقاق، وجدوى نموذج المجالس المحلية المستقلة برمّته.
كما كشفت آلية إدارة الأزمة من قبل الشركات والمجالس عن أن غياب الشفافية هو العنوان الأبرز لعلاقة هذه الجهات مع الحاضنة الشعبية، وهو ما يشي مستقبلاً بإمكانية تجدد المظاهرات مع كل قرار يمسّ معيشة الناس وأمنهم، وبأن اللجوء إلى الشارع سيصبح الأداة الرئيسة للضغط على المجالس المحلية بديلاً عن آليات المشاركة في صنع القرار.
كذلك، وعلى الرغم من اتساع نطاق المظاهرات ومشاركة فئات شعبية متعددة فيها إلا أن الغائب الأكبر كانت منظمات المجتمع المدني بمختلف تسمياتها، من نقابات وفرق شبابية ونوادٍ ومنظمات المرأة والتمكين السياسي.. إلخ، وفي مختلف المناطق خصوصاً في إدلب ومنطقة نبع السلام[25]، متخلية بذلك عن أهم الأدوار الذي يمكن أن تقوم بها في مثل هذه الظروف، وهي: الوساطة والرقابة والمشاركة في صنع السياسات، فضلاً عن تقصيرها بدور أساسي طالما قامت به سابقاً، وهو مناصرة موقف الحاضنة الشعبية عبر الحملات الإعلامية[26]؛ وكل ذلك بغضّ النظر عن رغبة المجالس المحلية في قبول هذا الأدوار أو رفضها.
إلى جانب ذلك تشير المقارنة بين إدلب ومناطق درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام إلى وجود فروق جوهرية تتمثل في: أولاً: غياب الاحتجاجات الشعبية في كل من: إدلب؛ بما يشير إلى وجود قبضة أمنية بدأت تترسخ شيئاً فشيئاً وتزرع الخوف في قلوب الناس، مما يمنعهم من التعبير عن آرائهم المعارضة لقرارات السلطة القائمة. ونبع السلام التي نرجح أن التوازنات الدينية والعرقية فيها وطبيعة المنطقة هي الأسباب الرئيسة لعدم خروج الناس فيها. ثانياً: في تغييب دور المجالس المحلية في إدلب لصالح السلطة المركزية ممثلة بالحاكم العسكري الفعلي هيئة تحرير الشام “هتش”، على عكس المناطق الأخرى؛ دون النظر إلى كفاءة هذا النموذج وفعاليته.
في هذا السياق، يمكن الإشارة كذلك إلى غياب أي دور للحكومة السورية المؤقتة داخل المناطق الموجودة فيها “اسمياً”، في مؤشر واضح على انفراد المجالس المحلية بإدارة الشأن الخدمي في مناطقها، كل ذلك على حساب زيادة دور الولايات التركية التي رعت المفاوضات بين الشركات من جهة والمجالس المحلية من جهة أخرى[27].
كما يشير موقف بعض أجهزة الشرطة والفصائل العسكرية التي ساهمت بصورة واضحة في تأمين الحماية للمظاهرات من جهة، وكذلك غالبية مقار الشركات والمجالس المحلية من جهة أخرى[28]، إلى وجود توجهات واضحة -يجب دعمها- لدى هذه المؤسسات للقيام بدورها في حماية الشعب وتحركاته وعدم تدخل العسكر في الحياة المدنية.
بالمجمل يبين ضعف أداء هياكل الحكم القائمة في التعاطي مع الاحتجاجات الشعبية، وفقدان ثقة الحاضنة بهذه الهياكل مؤشر لعدم إمكانية الاعتماد على هذه المؤسسات بوضعها الحالي في استعادة الثقة المجتمعية[29]؛ ففاقد الشيء لا يعطيه.
لقد أوضحت هذه التجربة ضرورة تبنّي مبادئ الشفافية من قبل المجالس المحلية بشكل عام، وفي قضية عقود تزويد المنطقة بالكهرباء بشكل خاص من جهة نشر العقود وملحقاتها، إلى جانب وضع قواعد قانونية من أجل إشراك الحاضنة وممثلين عن المجتمع المدني في صنع القرار؛ كإنشاء آلية للتشاور في القرارات المهمة، وضمّ بعض الأعضاء كمراقبين أثناء اجتماعات المجالس المحلية…إلخ. كما يفترض بالمجتمع المدني تنشيط أدواره في مجال الوساطة والرقابة داخل المناطق المحررة؛ فهو من أبرز الأدوار التي يمكن أن يضطلع بها، بل يجب أن يسعى لها.
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة
3 تعليقات