الإصداراتالتقارير الموضوعيةوحدة تحليل السياسات

قراءة في التطورات الأخيرة بالسويداء وتداعياتها والسيناريوهات المتوقعة

تقرير صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري

مقدمة:

شهدت محافظة السويداء تطورات متلاحقة  منذ اندلاع الاشتباكات العنيفة فيها يوم 13 تموز الجاري، وما تخللها من اتفاقات عديدة تم التوصُّل لها بين الحكومة السورية ومشيخة العقل في السويداء دون أن تُترجم مخرجاتها على أرض الواقع بشكل كامل.

آخر هذه الاتفاقات -لحين الشروع في إعداد هذا التقرير- هو الذي تم التوصل له في 19 تموز الجاري، وأعلن عنه المبعوث الأمريكي إلى سوريا توماس باراك، قائلاً إن سوريا و”إسرائيل” وافقتا بدعم من الولايات المتحدة على وقف إطلاق نار “تبنته تركيا والأردن وجيرانهما”[1]، حيث جاء إعلان “باراك” بالتزامن مع معارك عنيفة في السويداء بعد شن قوات العشائر هجمات مكثفة رداً على الانتهاكات التي قامت بها المليشيات المسلحة بحق عشائر البدو في السويداء[2]، وذلك بعد انسحاب قوات وزارة الدفاع من المدينة مساء 16 تموز 2025 عَقِبَ إعلان التوصُّل إلى اتفاق بين الحكومة السورية ومشيخة العقل ممثلة بالشيخ يوسف جربوع[3]، ليكون الاتفاق  الثاني الذي يتم التوصل له خلال أقل من يومين بعد الاتفاق الأول في 15 تموز الذي تم بين الرئاسة الروحية للموحّدين الدروز والحكومة السورية لإدماج المحافظة الحقيقي في الدولة السورية عبر انخراطها في المؤسسات الأمنية والعسكرية ودعوة جميع الفصائل المسلحة في محافظة السويداء لتسليم سلاحها لوزارة الداخلية[4].

تخلل الاتفاقان الرئيسان بين الحكومة ومشيخة العقل اشتباكات عنيفة بين القوات الحكومية والمليشيات المسلحة الموالية لشيخ العقل “حكمت الهجري” الذي أعلن رفض أي اتفاقات مع الحكومة السورية وأصر على استمرار القتال “حتى تحرير آخر شبر من تراب السويداء”[5] بحسب وصفه، باستثناء وحيد جاء  مع الاتفاق الذي تم برعاية أمريكية، حيث أعلن الموافقة عليه خاصة مع الضغط العسكري الذي كانت تعاني منه المليشيات المسلحة في السويداء بعد التقدم النوعي للعشائر[6].

أعاد “الهجري” في معظم خطاباته تكرار سرديات “الإبادة”، ووجّه نداءءات عديدة بطلب الحماية الدولية بما فيها مناشدة “إسرائيل” مباشرة[7]، ما وفّر لـ “إسرائيل” غطاءً دعائياً لتبرير تدخلها العسكري لاحقاً، والذي تُوّج بسلسلة من الضربات الجوية استهدفت مبنى رئاسة الأركان السورية ومحيط قصر الشعب في دمشق، تزامناً مع ضربات طالت قوات وزارة الدفاع في السويداء ودرعا[8].

كل ما سبق يطرح تساؤلات رئيسة حول مصير الاتفاق الجديد والأطراف المستفيدة منه والسيناريوهات المتوقعة، لاسيما في ظل الأجواء المتوترة في محيط المحافظة خصوصاً مع احتجاز المليشيات المسلحة في السويداء المئات من المدنيين منهم أطفال ونساء من البدو[9].

وعليه يسعى هذا التقرير إلى محاولة فهم أبعاد المشهد الراهن، حيث يركز على الانطلاق بشكل موجز من توصيف جذور حالة الاستعصاء التي تشهدها السويداء منذ أكثر من 6 أشهر، وتحليل تفاصيل الاتفاق الجديد مع تقديم مقارنة لكيفية قراءة الأطراف المحلية له في ظل الاختلاف في التفسير ومدى قابليته للتنفيذ، ثم يستعرض أبرز التداعيات التي خلّفتها التطورات الأخيرة في السويداء، ومن جانب آخر يحاول استشراف السيناريوهات المحتملة ويقدم ختاماً مجموعة من التوصيات العملية التي قد تسهم في خفض حدة التصعيد، وتقويض المشاريع التي تهدد وحدة الجغرافيا والسيادة السورية.

أولاً: ستة أشهر من المراوحة: جذور الاستعصاء بين الحكومة وتيار الهجري

منذ نحو ستة أشهر دخلت الحكومة السورية الجديدة في مفاوضات مستمرة مع ممثلين عن الطائفة الدرزية في السويداء بهدف التوصل إلى تفاهمات تُخفّف من التوترات الأمنية المتصاعدة في المحافظة ومحيطها وتضبط فوضى السلاح وغياب المؤسسات[10]، حيث تُوِّجت هذه المفاوضات باتفاق مبدئي في أيار الماضي تضمّن بنوداً أبرزها تفعيل قوى الأمن الداخلي من أبناء المحافظة حصراً وإعادة العمل بالضابطة العدلية بكوادر محلية[11]، بالإضافة إلى تأكيد مسؤولية الدولة السورية عن تأمين طريق دمشق–السويداء.

رغم الطابع الإيجابي للاتفاق حينها بوصفه داعماً للاستقرار في سوريا، إلا أن تطبيقه على الأرض تعثّر بسبب تعنُّت بعض الفصائل المحلية مدعومة بشيخ العقل حكمت الهجري الذي بدأ باستخدام بعض الحجج آنذاك لتبرير عرقلة تنفيذ الاتفاق وعدم الالتزام به وتذرعه بأن الإعلان الدستوري “استبدادي” داعياً إلى تطبيق اللامركزية[12]، ورافق ذلك تطورات أشد خطورة، حيث تصاعدت أنشطة العصابات المسلحة والخارجة عن القانون، وبلغ التصعيد ذروته عندما جرى احتجاز محافظ السويداء مصطفى البكور والاعتداء عليه من قبل مجموعات محلية، ما دفع المحافظ إلى مغادرة المحافظة وتقديم استقالته[13]، قبل أن يتراجع عنها ويعود إلى المشهد بلقاء معلن مع شيخ العقل حكمت الهجري[14]، فيما بدا أنه استمرار لنهج “النّفس الطويل” الذي تتبعه الحكومة مع وجهاء السويداء رغم مواقف بعضهم المتصلبة وخاصة “الهجري” الذي حاول أكثر من مرة قطع أصر التواصل واستفزاز الحكومة باتهامها بأنها “تنشر الموت عبر أذرعها التكفيرية”[15].

وفي ظل غياب فعلي لمؤسسات الدولة، استمرت حوادث الخطف والسرقة، وتفاقم الانفلات الأمني، إلى أن جاءت الحادثة المفصلية التي سبقت بدء العمليات العسكرية، حين اعترض مسلحون مجهولون شاحنة خضار أثناء عودتها من ريف دمشق إلى السويداء يوم 13 تموز[16]، ما أدى إلى اندلاع اشتباكات بين فصائل محلية من السويداء وأخرى من البدو، أدت لوقوع عشرات القتلى والجرحى مع حصار للأهالي في بعض الأحياء التي يقطنها البدو قبل أن تتدخل قوات من وزارتي الدفاع والداخلية لضبط الموقف تحت شعار “فض النزاع” بقوة عسكرية محدودة ما أدى لوقوعها في كمائن للمليشيات التابعة للهجري التي نكّلت بالجثامين[17]، الأمر الذي دفع وزارة الدفاع السورية لبدء عمليات عسكرية تحت عنوان “بسط سيطرة الدولة ومؤسساتها” تمكنت خلالها بالفعل من بسط السيطرة بشكل تدريجي على القرى والبلدات في محيط السويداء حتى الوصول إلى مركز المدينة في صباح الثلاثاء 15 تموز ثم الإعلان عن وقف إطلاق النار[18].

لم يستمر المشهد طويلاً على هذا النحو، إذ عادت أنشطة الفصائل الخارجة عن القانون ضد القوات الحكومية مترافقة مع قصف “إسرائيلي” مكثف يستهدف تحركات قوات وزارة الدفاع داخل السويداء اتبع بقصف استهدف مبنى رئاسة الأركان ومحيط القصر الرئاسي بدمشق، وهي أجواء مهّدت بشكل عام لإعلان اتفاق 16 تموز والذي أدى لانسحاب الجيش والقوى الأمنية بشكل كامل من مدينة السويداء، ليستغل ذلك الهجري مجدداً لتعزيز سلطته في السويداء فشنت المليشيات الموالية له هجمات ضد السكان من البدو في المنطقة[19]، ما خلق حالة توتر استنفرت على إثرها العشائر العربية وبدأت عملياتها في السويداء محققة مكاسب ميدانية واسعة قبل أن تضطر للخروج بعد الاتفاق الأخير[20].

ثانياً: اختلاف في التفسير أم موافقة غير معلنة؟.. غموض يحيط باتفاق السويداء الجديد

جاء اتفاق السويداء الحالي الذي تم برعاية أمريكية ليكون الأكثر صموداً من الاتفاقات الأخرى التي تم التوصل لها، خاصة أن الهجري أعلن الموافقة عليه، لكن الإشكالية كانت ولا تزال في تفسير هذا الاتفاق في ظل مواقف متباينة ظهرت من خلاله تشير إلى تصلُّب مستمر في مواقف الهجري وأنه استغل الاتفاق كفرصة لإخراج قوات العشائر والاستمرار بالتنكيل بالسكان البدو.

سريعاً أصبح الغموض يحيط بالمشهد الجديد تبعاً لعدم وضوح بنود الاتفاق وإعلانها كما حصل في اتفاقي 1 أيار و19 تموز، وهذا ما وفّر لكل طرف فرصة لتفسيره وفقاً لرؤيته. فيما يلي جدول المواقف المختلفة من الاتفاق وما يشير إليه ذلك.

المرحلة / البند
وفق المعلن من قبل الحكومة السورية
وفق المعلن من قبل
حكمت الهجري
نقاط التقاطع والاختلاف
الانتشار الأمني

المرحلة الأولى
انتشار قوى الأمن الداخلي كقوات لفض الاشتباك في الريف الغربي والشمالي والطرق الرئيسة خارج المدن
منع دخول أي جهة إلى القرى الحدودية لمدة 48 ساعة من الاتفاق، والسماح لأبناء العشائر بالخروج “الآمن”
كلا الطرفين يوافقان على ضبط الانتشار الأمني ومنع التسلل، لكن الحكومة تركّز على فرض وجود أمني مباشر، بينما الهجري يضع ضوابط مؤقتة ويصر على عدم دخول القوى الأمنية إلى القرى الحدودية
المعابر الإنسانية

المرحلة الثانية
فتح معابر إنسانية بين درعا والسويداء لخروج المدنيين والجرحى ومن يرغب
تحديد ممرات إنسانية عبر بصرى الشام وبصرى الحرير، ضمن ترتيبات “محلية محددة”
اتفاق مبدئي على ضرورة الممرات الإنسانية؛ لكن الهجري يشدد على ضبطها محلياً أي عبر المليشيات المحلية بالسويداء، فيما تسعى الحكومة لتنظيمها مباشرة
عودة الدولة
المرحلة الثالثة
تفعيل مؤسسات الدولة تدريجياً وانتشار الأمن الداخلي في المحافظة تدريجيا
دعوة لالتزام “المجموعات الأهلية” بالبقاء ضمن حدود المحافظة
تباين واسع وجوهري؛ فالحكومة تركّز على إعادة بسط سلطتها ومؤسساتها تدريجياً، بينما الهجري يؤكد على ضبط الأمن محلياً ضمن حدود السويداء، أي عبر المليشيات المحلية.
ضبط التوترات المستقبلية
منع الاحتكاك عبر الانتشار على الطرق الرئيسية خارج المدن
التأكيد على أن الأمن العام سينتشر خارج الحدود الإدارية للسويداء لمنع التسلل داخلها
تقاطع نسبي بأهداف مختلفة؛ فالطرفان يسعيان لتقليل الاحتكاك لكن الهجري يرغب باستثمار الوجود الأمني للحكومة السورية خارج حدود السويداء لمنع تكرار مشهد الانهيار الميداني لمليشياته أمام قوات العشائر.

جدول رقم 1 يوضح مواقف الأطراف من الاتفاق الأخير ومدى توافقها

مع استعراض الملامح الرئيسة للاتفاق يتضح وجود اختلاف في التفسير، فالحكومة السورية سعت من خلاله إلى الهدوء واستعادة المؤسسات تدريجياً، بينما الهجري استغل الاتفاق كفرصة لإخراج قوات العشائر، بل واستثمار انتشار الأمن العام لمنع دخول العشائر إلى السويداءـ خاصة بعدما أثبتت قدرتها على قلب المشهد ميدانياً ودخول المدينة، وهو سيناريو يبدو الهجري حريصاً على عدم تكراره من خلال إدراج بند الوجود الأمني للحكومة السورية خارج الحدود الإدارية للسويداء لضمان عدم دخول أي قوى عسكرية للمدينة وريفها مما يحولها بحسب مراقبين إلى جهة حراسة لا أكثر، وليس للتمهيد لدخولها لاحقاً من قبل الأمن الداخلي كما أعلنت الحكومة السورية[21].

بالانتقال من النصوص والتصريحات إلى ما تكشفه التطبيقات العملية على أرض الواقع؛ فقد برز تصلّب الهجري في أوضح صوره من خلال رفضه السماح بدخول سيارات الوفد الحكومي المحمّلة بالمساعدات، رغم انتظارها لساعات على مشارف السويداء، إذ أصرّ على منع أي دخول للقوات الحكومية أو حتى المؤسسات التابعة لها لتقديم الدعم الإنساني، في مقابل ترحيبه بدخول المساعدات حصراً عبر “الجهات الدولية”[22].

الإشكال الإضافي هو أن الاتفاق بشكل عام أغفل الحديث عن قضايا تفصيلية أخرى كثيراً ما تم الحديث عنها في الاتفاقات السابقة، خاصة اتفاق أيار المبدئي في 1 أيار، أو اتفاق 16 تموز الذي تم التوصل له بين الحكومة السورية ومشيخة العقل ممثلة بشيخ العقل يوسف جربوع، (جدول 2).

المحور
اتفاق 1 أيار
اتفاق 16  تموز
التقاطع / الاختلاف
دور الدولة السورية
دعوة لبسط الأمن وتفعيل الدولة
تأكيد على السيادة الكاملة للدولة واستعادة مؤسساتها
تقاطع
تأمين طريق السويداء – دمشق
تتولى السلطة مسؤولية تأمين الطريق
تتولى السلطة مسؤولية تأمين الطريق وضمان سلامة المسافرين
تقاطع
الجانب الأمني
تفعيل قوى الأمن الداخلي من أفراد سلك الأمن الداخلي سابقاً وتفعيل الضابطة العدلية من كوادر أبناء محافظة السويداء حصراً
نشر حواجز أمن داخلي وشرطة من أبناء السويداء
حصراً في جميع أنحاء السويداء والمناطق المجاورة
تقاطع
رفض التقسيم
رفض واضح للدعوات الانفصالية
تأكيد على وحدة سوريا وبقاء السويداء جزءًا منها
تقاطع
ملف المعتقلين
غير مذكور
إطلاق سراح المعتقلين وكشف مصير المغيبين
اختلاف بناء على أحداث مستجدة في تموز
تقصي الحقائق
غير مذكور
لجنة تقصي للانتهاكات وتعويض المتضررين
اختلاف بناء على أحداث مستجدة في تموز
الخدمات الأساسية
غير مذكور
توفير الماء والكهرباء والمحروقات والصحة
اختلاف بناء على أحداث مستجدة في تموز[23]
تنظيم السلاح
غير مذكور
آلية لتنظيم السلاح الثقيل بالتعاون مع الداخلية والدفاع
اختلاف
آليات التنفيذ
لا توجد آليات تنفيذ
تشكيل لجان مراقبة، لجان تقصي حقائق، لجان تنفيذ
اختلاف بناء على أحداث مستجدة في تموز

جدول رقم 2 (مقارنة بين اتفاقي 16 تموز و1 أيار بين الحكومة ومشايخ العقل)

يُظهِر الاستعراض السابق أن الاتفاقات السابقة كانت تحاول تنظيم آلية لضبط السلاح الثقيل بالتعاون مع وزارة الداخلية وإنهاء مظاهر السلاح خارج إطار مؤسسات الدولة، لكن الواقع الجديد يكشف عن غياب الحديث تماماً عن هذه النقاط المهمة خاصة بعد خروج قوات وزارة الدفاع من السويداء وتعزيز مواقف المليشيات المسلحة التي ترفض أي التزامات خارج دائرة الهجري.

أما في الجانب السياسي والإداري، فركّزت الاتفاقات السابقة على الاندماج الكامل للسويداء ضمن الدولة السورية، مع إعادة تفعيل المؤسسات الرسمية وتشكيل لجنة مشتركة لتقصي الحقائق في الجرائم والانتهاكات التي رافقت المواجهات الأخيرة، لكن خطاب الهجري بعد تصاعد المواجهات بات أكثر انعزالاً ولم تعد هذه البنود ضمن قائمة الأولويات.

على العكس من ذلك، كانت الحكومة السورية أكثر التزاماً بمحاولة الوصول إلى التوافقات وتحييد العامل الخارجي، لكن الهجري عمل على إخراجها من المشهد عبر رفضه دخول أي وفد أو مساعدات حكومية إلى السويداء، في الوقت الذي يدعو فيه “إسرائيل” إلى التدخل المباشر في سوريا[24]، وهو ما استغلته الأخيرة معلنة إرسال طائرات تحمل مساعدات للسويداء وتخصيص 780 ألف دولار للمساعدات[25].

ثالثاً: تداعيات ما حصل على المشهد الحالي

في ضوء انسحاب القوات الحكومية من السويداء، وما تبعه من تصعيد “إسرائيلي” يدخل الجنوب السوري مرحلة جديدة من التعقيد ومشهد متعدد التداعيات؛ لعلّ من أبرزها:

1- السيطرة الأحادية لحكمت الهجري على السويداء: اختطاف القرار 

بعد التطورات الأخيرة بات موقف شيخي العقل حمود الحنادي ويوسف جربوع اللذين طالما فتحا قنوات تواصل مع الحكومة ضعيفاً، وأصبح حكمت الهجري طرفاً محورياً يتحكم فعلياً في الأرض، بعد أن فرض منطق المليشيا والاحتكام للسلاح والاستقواء بالخارج، ما عزز نزعة الزعامة المنفصلة عن الدولة، وفتح الباب واسعاً أمام طرح مشاريع انفصالية بغطاء “اللامركزية”، وهنا يبرز السيناريو الأخطر وهو محاولة الهجري فتح خطوط تواصل مع مناطق “قسد” ومطالبه بإيجاد معبر مع الأردن، حيث شجعته التطورات الأخيرة على إثارة تلك المطالب[26]، ما يعيد للأذهان مشروع “ممر داوود” الذي طالما كثر الحديث عنه والذي يُتيح لـ “إسرائيل” الوصول البري إلى شمال شرقي سوريا[27].

2- توسُّع انتهاكات الميليشيات الخارجة عن القانون:

الانفلات الأمني الذي رافق انسحاب قوات وزارة الدفاع، أدى لزيادة أنشطة المليشيات الخارجة عن القانون، ولعل هذا ما ظهر سريعاً بالمشاهد القادمة من ريف المحافظة والتي توثّق عمليات إجرامية من قتل وتهجير طالت سكاناً محليين أغلبهم من البدو[28].

3- تهجير طائفي بغطاء “إنساني”:

تُعتبر التطورات الأخيرة في السويداء وما تم التوصل له من اتفاق على توفير “الممر الآمن” لمن يرغب بالخروج من المدنيين والبدو من السويداء صيغة غير معلنة لعملية تهجير طائفية، ومما يعزز من ذلك عدم وجود رادع يمنع المليشيات المنفلتة في السويداء من ممارسة الانتهاكات بحق المدنيين الرافضين لممارساتها أو حتى من الذين وقفوا على الحياد، ما يشير لعملية هندسة ديمغرافية جديدة في المنطقة برعاية “إسرائيلية” غير مباشرة.

4- تعزيز المخاوف من تكرار النموذج بمناطق أخرى: 

طالما سعت الحكومة السورية إلى إدارة ملف السويداء والأقليات عموماً بحذر، خشية من الانزلاق للفوضى والوصول إلى مثل ما جرى في السويداء، ولذلك فإن فشل الحسم العسكري السريع بعد التدخل “الإسرائيلي” قد يُنظر إليه من قبل أطراف أخرى كنموذج قابل للتكرار.

وفي هذا السياق، تُبدي “قسد” مواقف متعاطفة مع المليشيات المسلحة في السويداء، بذريعة وقوع انتهاكات بحق المدنيين، ما يفتح الباب أمام احتمالات تصاعد خطاب اللامركزية الموسعة أو الحكم الذاتي، بذات الطريقة التي تم فيها تبرير بقاء السلاح خارج سلطة الدولة، وخاصة أن الظروف لدى “قسد” مهيأة بشكل أكبر مع وجود موارد النفط والغاز بعكس السويداء التي تفتقر للموارد الاقتصادية.

5-  تصاعد الحساسيات الطائفية والمناطقية:

يظهر هذا بشكل واضح من خلال تتبُّع المزاج الشعبي على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال حملات تحريض متبادلة وخطابات كراهية غذّتها مشاهد الانتهاكات المتبادلة خلال العمليات العسكرية، حيث استُثمرت هذه الانتهاكات بشكل مباشر في تأجيج الانقسام، ما يهدد بتفجر الأوضاع في مناطق أخرى لاسيما في صحنايا وجرمانا ذات الغالبية الدرزية.

6- تآكل الثقة الشعبية:

أثّر المشهد الأخير في السويداء بشكل واضح على الرأي العام في سوريا، خاصة بعد تتابع مشاهد مواطنين من البدو يُقتلون أو يُهجّرون دون تدخل أو محاولات إنقاذ رسمية، ما يهدد بخلق انطباع بأن الدولة لم تُناصر مواطنيها بما يكفي في وجه المليشيات المسلحة والعصابات.

وزاد من حجم النقمة الشعبية سقوط عدد كبير من عناصر الجيش وقوات الأمن في معركة اتسمت بـ”الصفرية” بعدما أُعلِن الانسحاب دون تحقيق إنجاز ميداني، ما جعل كثيرين يشعرون بأن التضحيات ذهبت “سدى”، وزاد من هذه النقمة الشعبية إخراج العشائر من السويداء بعدما حققت مكاسب ميدانية واستطاعت التقدم في مركز مدينة السويداء، خاصة أن إخراج العشائر لم يُستثمر -وفق نظر البعض- سياسياً، بل كان الكاسب الأكبر في هذه العملية هو الهجري الذي تعزز نفوذه من جديد بينما خسرت العشائر كافة التضحيات التي قدمتها لقلب موازين المعركة.

رابعاً: السيناريوهات المتوقعة: ماذا بعد؟

في ضوء الوقائع الميدانية التي شهدتها السويداء خلال الأيام الأخيرة، يمكن استشراف عدد من المسارات المحتملة التي قد يتجه إليها المشهد في المحافظة خلال المرحلة المقبلة ومنها:

1- استمرار سيطرة الهجري على السويداء:

تشير المعطيات الحالية إلى أن الفصائل المسلحة المقرّبة من شيخ العقل حكمت الهجري باتت الطرف الأكثر حضوراً وتأثيراً في الشارع، خاصة بعد انسحاب قوات وزارة الدفاع وفشل الاتفاقات المتكررة في إعادة فرض حضور الدولة الفعلي، وإذا استمر هذا المسار فقد يتكرّس نموذج “الأمر الواقع” في السويداء، ما يعني عملياً بقاء الهجري كمرجعية وحيدة حاكمة، مع تراجع دور الدولة على المستويين الأمني والإداري وفتح المجال لسيناريوهات أكثر خطورة تتعلق بتوسيع شبكة تحالفاته المحلية خارج حدود المحافظة، أو الخارجية مع “إسرائيل” ما يمنحها الفرصة لمواصلة التدخل في سوريا وعلى نطاق أوسع.

2- العودة التدريجية للدولة:

رغم المشهد الذي تطعى عليه السلبية والحالة المليشياوية، إلا أنه لا يزال هناك احتمال لعودة تدريجية للدولة السورية إلى المشهد في السويداء، لكن ذلك مشروط بتوافر ثلاثة عوامل متضافرة:

أولاً: نجاح الوساطات العربية والغربية والتركية في تخفيف التدخلات الإسرائيلية في سوريا ووقف دعمها لفصائل السويداء بما يشكل ضغطا مباشراً على الهجري.

ثانياً: تمكُّن الحكومة من فتح قنوات تواصل مع مشايخ العقل والقوى المجتمعية الرافضة للنهج الانفصالي والاستعانة بـ “إسرائيل”، تثمر نتائج تراكمية ملموسة على الأرض.

ثالثاً: تحسين بيئة الخدمات والبنية التحتية والواقع الاقتصادي وربطها بعودة المؤسسات، ما قد يجعل الهجري في موقف اضطراري للتفاهمات التدريجية مع الحكومة السورية.

3- صراع داخل البيت الدرزي:

لا يُستبعد أن يشهد الداخل الدرزي نفسه صراعاً بين تيارين: الأول يمثّله الهجري بخطابه الصدامي واستقوائه بالخارج، والثاني تمثله الشخصيات المعتدلة التي ترى مصلحة الطائفة في البقاء ضمن الإطار الوطني السوري، لاسيما أن هذا التيار مدعوم كذلك من قوى درزية وازنة مثل شيخ العقل في لبنان و الزعيم الدرزي  وليد جنبلاط.

وقد يتطور هذا الصراع إلى منافسة على الشرعية الدينية والاجتماعية، وربما الأمنية، وهنا من المهم التنويه إلى أن المجتمع الدرزي في السويداء يغلب عليه الطابع المدني والعلماني، وليس مؤدلجاً دينياً، ما قد يقلّص فرص استمرار التفاف الأهالي حول خطاب الهجري المتصلب.

ويتعزز هذا السيناريو في حال فشل الأطراف المسلحة والدينية في تقديم نموذج حكم محلي مستقر، إذ قد تتجه بعض الفعاليات المدنية والشبابية إلى تفعيل أدوارها كقوة ضغط مجتمعي، تطالب بعودة القانون والمؤسسات، وتناهض خطاب الاستقواء بالخارج.

خاتمة:

في ظل ما شهدته السويداء من تطورات دراماتيكية خلال الأيام الماضية، يتضح أن المشهد بات أكثر تعقيداً، وأن جذب حكمت الهجري إلى طاولة التفاوض أصبح مهمة صعبة، خاصة بعد أن فرض نفسه لاعباً رئيسياً على الأرض عبر دعم ميليشيات مسلحة وخطاب تعبوي يرفض أي تسوية، وفي هذا السياق يبدو الاتفاق الأخير أقرب إلى كونه طوق نجاة للهجري وأتباعه خاصة بعدما كانت العشائر على وشك السيطرة على كامل المدينة، ما يجعل الهجري هو الكاسب الأكبر من الاتفاق، بينما تبدو الحكومة السورية مضطرة إلى الدخول في لعبة التوازنات وتأجيل الحسم خاصة مع الضغوط “الإسرائيلية” بحجة حماية الدروز.

الخطورة لا تكمن ضمن التداعيات داخل السويداء فحسب، بل في استدعاء العامل الخارجي، حيث تسعى “إسرائيل” لاستثمار الفوضى وتعميق الانقسام في سوريا في محاولة منها لإعادة تشكيل معادلات النفوذ جنوب البلاد، وقد وفّرت مواقف الهجري بيئة خصبة لهذا المشروع عبر استعانة علنية بالخارج، ما يمنح “إسرائيل” غطاءً دعائياً وأمنياً للتقدّم نحو عمق الجنوب السوري، وربما السعي لفرض أمر واقع جديد ضمن مشروع أمني أوسع، رغم ما جرى خلال الأشهر الماضية من حديث عن مسار تفاوضي مع الحكومة السورية، غير أن السلوك “الإسرائيلي” الأخير يكشف بوضوح أن “تل أبيب” لا تُبدي اهتماماً حقيقياً بالتوصل إلى اتفاق أمني شامل مع سوريا ما لم يكن وفق شروطها ومصالحها الواسعة.

في هذا المشهد المضطرب، تبدو الحاجة ملحة لاحتواء القوى المحلية التي لا تزال ترى مستقبل السويداء ضمن الإطار الوطني في سوريا، فاستقرار الجنوب السوري لن يتحقق إلا باستعادة زمام المبادرة داخلياً، وقطع الطريق أمام المشاريع التي تسعى لتفكيك الجغرافيا السورية تحت عناوين “الحماية الدولية” وبشكل خاص تيار الهجري الذي يهدد بتفتيت الوحدة السورية في مرحلة حرجة من عمر الدولة وضعف إمكانياتها.

وأمام كل ذلك تبرز الحاجة إلى مقاربة شاملة لا تقتصر على البعد العسكري، بل تُراعي الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المرتبطة بالملف، ومن أبرزها:

1- تخفيف حدة الخطاب المناطقي والطائفي:

من الضروري العمل على تهدئة الخطاب الشعبي الذي بدأ يتصاعد ضد المكوّن الدرزي وعدم وضع جميع أهالي السويداء في سلة واحدة، فاستمرار هذا الخطاب هو ما تسعى له “إسرائيل” بتعزيز الانقسامات التي تهدد وحدة السوريين، ولا يعني ذلك الإنكار على من يُندّد بما حصل من جرائم بحق المدنيين أو قوى الأمن من قبل المليشيات المسلحة، لكن ينبغي الحد من التعميم وإيقاف الشحن الطائفي والدعوات للتحريض، وفي المقابل ينبغي على نخب السويداء القيام بخطوة مماثلة بما يقطع الطريق على “إسرائيل” التي تحاول الاستثمار في هذا الملف لزيادة الشرخ بين السوريين.

2- الضغط على “إسرائيل” عبر القوى الدولية المؤثرة:

ينبغي تفعيل الجهود الدبلوماسية بشكل أكبر عبر قنوات دولية مؤثرة، للحد من التدخلات “الإسرائيلية” في الجنوب السوري، خاصة مع مخاطر تفجر الأوضاع في ظل هذه التدخلات والاستفزازات والانتشار العسكري المتصاعد، ما يهدد الجهود العربية والأوروبية والأمريكية والتركية التي تبدي رغبتها في تخفيف التوترات في سوريا وتعلن مساندتها للنهوض بالواقع السوري عبر مشاريع استثمارية مختلفة.

3- التنسيق مع الشركاء الإقليميين لتطويق آثار الفوضى في السويداء:

هنا يبرز بشكل خاص أهمية تعزيز التنسيق السياسي والأمني مع الأطراف الإقليمية المتضررة من استمرار الفوضى في السويداء خاصة الأردن ودول الخليج العربي، إذ إن تصاعد نفوذ المليشيات المسلحة في السويداء ينذر بإعادة فتح مسارات التهريب وتجارة المخدرات نحو دول الجوار، فضلاً عن إشعال التوترات في المناطق الحدودية مع الأردن، خاصة بعد الانتهاكات التي حصلت بحق أبناء البدو والعشائر من قبل المليشيات المسلحة، والتي أدت إلى هبة عشائرية كبيرة ضمن مشهد أمني غير منضبط.

4- ربط الاستقرار بالتنمية:

من المعلوم أن محافظة السويداء تحتاج كحال معظم المحافظات السورية إلى مشاريع تنموية واستثمارية، ولكن هذا الأمر لا يمكن تحقيقه دون تفعيل مؤسسات الدولة واستعادة سيادتها بشكل فعلي، فاستمرار الفوضى وانتشار السلاح يهددان بحرمان السويداء من فرص التنمية والدعم الحكومي، وستظل السويداء بشكل عام بيئة غير مُحفّزة للاستثمار سواء المحلي أو الخارجي.

5- تفعيل قنوات الحوار مع الفعاليات المحلية والأطراف الفاعلة:

رغم صعوبة التنفيذ في وقت قريب بسبب الاحتقان الحالي وما جرى من توترات، إلا أنه من الأهمية بمكان فتح خطوط تواصل دائمة بين الحكومة والفعاليات المدنية والدينية في السويداء بما يُبقي الباب مفتوحاً أمام التفاهم بشكل تدريجي وتعزيز الثقة، وفي هذا الإطار تبرز أهمية مواصلة خطوط التواصل مع شيخي العقل حمود الحناوي ويوسف جربوع؛ فرغم تأثيرهما المحدود على مشيخة العقل إلا أن لهما أتباعاً ويؤثران بالحاضنة المحيطة بهما.

6- محاسبة العناصر المسيئة:

المشاهد التي ظهرت على مواقع التواصل تحتاج مبادرة عاجلة من الحكومة السورية لمحاسبة العناصر الأمنية غير المنضبطة التي أساءت لرموز السويداء، فمثل مثل هذه التصرفات ساهمت في انفجار الأوضاع داخل السويداء، مع التأكيد على أنه لا يجب في المقابل الردّ بالمثل على الانتهاكات التي ارتكبتها المليشيات غير المنضبطة، بل يجب الاحتكام للقانون وخضوع المتهمين للمساءلة، رغم صعوبة التطبيق لمن فقد ذويه في المواجهات مع المليشيات، وهذا ما يبرز الحاجة لإطلاق برامج تدريبية للعناصر الأمنية تُعنى بالسلوك المهني والانضباط، فضلاً عن أهمية استحضار القيم الإسلامية وتعزيز الوازع الديني في التعامل مع الأسرى.


[3] أشارت ورقة سابقة لمركز الحوار السوري في آذار الماضي إلى وجود انقسامات داخل المرجعية الروحية للدروز وأن العائق الأساسي أمام استقرار التفاهمات هو تقلب مواقف الشيخ حكمت الهجري، فبعد أن حسم كل من الشيخ يوسف الجربوع والشيخ حمود الحناوي موقفهما بوضوح، وعبّر ناشطون في “ساحة الكرامة” عن ميلهم للوطنية السورية إضافة إلى انخراط فصائل وازنة مثل “تجمع رجال الكرامة” في التفاهمات، بات موقف الهجري يمثلاً تحدياً أمام عقد التفاهمات، ينظر:
[6] الصفحة الرسمية لـ”المسلمين الموحدين الدروز” على فيس بوك نشرت تفاصيل الاتفاق من طرفها ودعت إلى الالتزام به، ينظر: رابط فيس بوك، شوهد في: 22/7/2025
[10] لعل من أبرز هذه الجولات هو اتفاق أيار الماضي والذي لم يتكلل بالنجاح وفق ما سيأني، ينظر:
[11] المرجع السابق
[17] انتشرت العديد من الصور التي توثق قيام مليشيات مسلحة في السويداء بالتنكيل بجثامين مقاتلي الجيش السوري، ينظر مثلاً:
https://t.me/AbomosaabSharkea/147042
[19] انتهاكات بحق العشائر البدوية في السويداء بعد اتفاق انسحاب القوات الأمنية، مرجع سابق
[23] من الجدير بالذكر هنا أن الكثير من المرافق المدنية والخدمية تعطلت بسبب الاشتباكات وغياب المؤسسات والخشية من الاستهداف من قبل المليشيات المسلحة، وفي هذا الصدد أعلن الدفاع المدني السوري اختطاف رئيس مركز الاستجابة في السويداء خلال توجهه لإجلاء فريق من الأمم المتحدة في السويداء يوم 16 تموز، ينظر:
اختطاف رئيس مركز للدفاع المدني في السويداء، عنب بلدي، 18/7/2025، شوهد في: 19/7/2025
[24] الهجري يحرض ضد الحكومة السورية ويناشد ترامب ونتنياهو التدخل، مرجع سابق
[27] ما قصة مشروع ممر داود الإسرائيلي؟، الجزيرة نت، 18/4/2025، شوهد في: 17/7/2025

باحث مساعد في مركز الحوار السوري، يعمل ضمن وحدة تحليل السياسات، كتب وشارك في العديد من الأوراق المتعلقة بتحليل سياسات الفاعلين في سوريا، يحمل إجازة في الأدب العربي من جامعة الفرات السورية، عمل كاتباً وصحفياً ومدققاً لغوياً لعدة سنوات في العديد من المواقع والقنوات الإخبارية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى