الإصداراتالتقارير الموضوعيةوحدة تحليل السياسات

قراءة في تغطيات منصّات إعلامية أجنبية لتوترات صحنايا والسويداء

تقرير صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري

شهد الجنوب السوري في نهاية شهر أبريل/نيسان 2025 تصاعداً في حدة التوتر بين الحكومة السورية وفصائل درزية، ضمن سياق من الاحتقان السياسي والأمني الذي كان يتراكم منذ أشهر بسبب تعنُّت بعض الفصائل الدرزية ومناصبتها العداء للحكومة الجديدة التي استلمت البلاد بعد إسقاط نظام الأسد، فلم تأتِ هذه الجولة الجديدة من التصعيد من فراغ، بل كانت نتيجة مسار طويل من الخلافات، وقد تخلّلتها تطورات وتقلُّبات كثيرة، بدءاً من اشتباكات عنيفة انتهت بدخول القوات الحكومية إلى جرمانا وأشرفية صحنايا، إلى قصف “إسرائيلي” استهدف مواقع داخل الأراضي السورية، وصولاً إلى توقيع اتفاق جديد يتعلق بمحافظة السويداء، ما قد يُمهّد إلى انطلاق مرحلة جديدة من إعادة ترتيب القوى في الجنوب السوري.

لم يقف الاهتمام بهذه التطورات على الداخل السوري أو المحيط العربي، بل إنها لاقت  تفاعلاً عالمياً وإقليمياً كبيراً كونها تطال جزءاً من الأقليات في سوريا، تجلّى ذلك في التصريحات الرسمية من دول عربية وأجنبية، وتوارد الأخبار والمقالات عن الوضع في سوريا في الصحف العالمية، وكثرة التسريبات، والتوقعات والتحليلات.

يسعى هذا التقرير إلى رصد تفاعل الإعلام الغربي و”الإسرائيلي” والتركي تجاه أحداث جنوب سوريا، وذلك بهدف تقديم صورة مجملة عن التوجهات المحتملة لهذه الدول والجهات تجاه سوريا بعد انقضاء هذه الأزمة، وذلك باستخدام الأسلوب الوصفي التحليلي عبر رصد المواد المنشورة في المصادر المفتوحة.

ملخص الأحداث ونظرة على المشهد العام:

بين افتعال العنف في الساحل وطموح “قسد” وتكريس الفوضى كأداة ضغط:

لا يمكن فصل أحداث صحنايا وجرمانا عن المشهد العام الذي تشهده بعض مناطق “الأقليّات” في سوريا، حيث تتكرر المحاولات لعرقلة مسار نهوض الدولة السورية الجديدة نحو الاستقرار، وكانت أبرز هذه المحاولات وأخطرها في الساحل السوري في آذار الماضي عندما شنّ فلول النظام البائد هجمات عنيفة على قوى الأمن العام[1]، وما تبع ذلك من تصعيد.

تزامن ذلك مع استمرار “قسد” في سعيها لتحصيل مكاسب سياسية خاصة، رغم توقيعها اتفاقاً مع دمشق في آذار تضمّن بنوداً بقيت غامضة في تفاصيلها، وهو ما فُسّر على أنه محاولة لترك المجال للمناورة السياسية لاحقاً، وهذا ما تجلّى بوضوح في مهاجمتها للإعلان الدستوري[2] والتشكيلة الحكومية الجديدة[3]، ثم تنظيم مؤتمر يُروّج للفدرالية والحكم الذاتي[4].

يُضاف هذا المشهد عموماً للهجمات المتكررة من قبل شيخ عقل الدروز حكمت الهجري على الحكومة الجديدة في سوريا واتهامها بـ”الإرهاب والتطرف”[5]، وهذا ما يثير مخاوف من توجّه مقلق تقوده بعض القوى داخل “الأقليات” بهدف التشويش على أي صيغة وطنية جامعة، وتكريس الفوضى كوسيلة تفاوض وفرض أمر واقع.

ومع أن هذا المسار يبدو واضحاً في بعض تحركات القوى ضمن “الأقليات”؛ إلا أنه من الخطأ وضع جميع أبناء هذه المكونات في سلة واحدة، أو اختزال مواقفهم بمواقف قياداتها ذات المواقف المتقلبة[6]، أو المرتبطة ربما بأجندات خارجية[7]، فقد برزت في موازاة هذه التحركات أصوات عديدة من أبناء “الأقليات” من دروز وأكراد وغيرهم، عبّرت عن دعمها لمسار الدولة السورية الجديدة[8]، ورفضت مشاريع التقسيم والتدخل الخارجي، وأكدت التزامها بالهوية الوطنية الجامعة.

توترات صحنايا وجرمانا وصولاً لاتفاق السويداء:

شهدت سوريا خلال الأسبوع الأخير من شهر أبريل/نيسان والأسبوع الأول من شهر مايو/أيار 2025 مجموعة من الأحداث المتسارعة في الجنوب السوري، بدأت بعد انتشار مقطع صوتي منسوب لشخص درزي فيه إساءة للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، تبعه توتر شعبي تجلى على شكل مظاهرات غاضبة في عدد من المدن، وتزامن هذا التوتر أيضاً باستفزازات من فصائل درزية حاولت قطع طريق مطار دمشق[9]، وهاجمت نقاطاً للأمن العام، وانتشرت مقاطع على وسائل التواصل الاجتماعي تُظهِر سحل جثث عناصر الأمن العام الذين قُتِلوا في هذه الهجمات[10]، وتطوّرت هذه التوترات إلى اشتباكات عنيفة في منطقتي جرمانا وأشرفية صحنايا في ريف دمشق، ثم تدخل الأمن العام للقضاء على المجموعات الإجرامية التي تتخذ من أشرفية صحنايا مقراً لها[11]، ونجح في ذلك بالإضافة إلى عقد اتفاق يقضي بتسليم السلاح الثقيل في جرمانا أيضاً[12].

لم تتوقف التوترات رغم هذا الاتفاق، إذ اندلعت اشتباكات جديدة بين فصائل درزية وعشائر بدوية في محافظة السويداء، وكانت بلدة الصورة الكبيرة من أكثر المناطق التي شهدت اشتباكات عنيفة، وسيطرت خلالها عشائر البدو على البلدة لعدة ساعات ودمرت ضريح الضابط في جيش نظام الأسد البائد، عصام زهر الدين، قبل أن تنسحب لتسيطر قوى الأمن العام على البلدة وتعيد الاستقرار إليها[13].

وفي غمرة هذه التطورات، تظاهر الدروز في “إسرائيل” ضد حكومتهم مطالبين الجيش “الإسرائيلي” بالتدخُّل في سوريا لحماية أبناء طائفتهم مما وصفوها “المجازر”[14]، ورد الجيش “الإسرائيلي” بقصف بعض المواقع في سوريا، بينها جوار قصر الشعب، في تطور جديد عده مسؤولو الاحتلال بأنه “رسالة تحذير للنظام السوري الجديد”[15]، كما أرسلوا مساعدات لفصائل درزية في السويداء عبر إنزال مروحي، ونقلوا عدداً من جرحاهم إلى داخل فلسطين المحتلة[16].

لم يكن موقف الدروز في سوريا موحَّداً، بل كان هناك تيار داعم للاتفاق مع الدولة السورية الجديدة والاندماج في مؤسساتها ورفض التقسيم والتدخل الخارجي، وهو التيار الذي يقوده مشايخ العقل حمود الحناوي ويوسف الجربوع، بالإضافة إلى قادة فصائل مسلحة مثل التابعة لليث البلعوس وسليمان عبدالباقي[17]، وعقب العديد من الاجتماعات والمشاورات بين الدولة وهذه الأطراف تم التعديل على الاتفاق بين الحكومة والفصائل الدرزية، يقضي بتطبيق المواد التالية:

  • تفعيل قوى الأمن الداخلي (الشرطة) من أفراد سلك الأمن الداخلي سابقاً، وتفعيل الضابطة العدلية من كوادر أبناء محافظة السويداء حصراً، وبشكل فوري.
  • رفع “الحصار” عن مناطق السويداء، جرمانا، صحنايا، وأشرفية صحنايا، وإعادة الحياة إلى طبيعتها فوراً.
  • تأمين طريق دمشق – السويداء وضمان سلامته وأمنه، تحت مسؤولية السلطة، وبشكل فوري.
  • وقف إطلاق النار في جميع المناطق.
  • اعتبار أي إعلان يخالف هذه البنود أو يتجاوزها إعلاناً أحادي الجانب.

وبدأ تطبيق هذه البنود بشكل تدريجي في الأيام التالية، وسط توتر وهدوء حذر وحدوث خروقات بين الفينة والأخرى من قبل بعض الأطراف[18].

يذكر أن هذا الاتفاق لا يُعدّ نهاية لكل الخلافات، وإنما امتداد لموقف سابق تبنته مجموعة من الدروز عندما رفض حكمت الهجري أحد شيوخ عقل الطائفة الدرزية وغالبية الفصائل الدرزية الاندماج مع الدولة السورية الجديدة ووصفها بـ”التطرف والإرهاب”[19]، إلى جانب إطلاقه لتصريحات استفزازية متكررة تفتح الطريق أمام التدخلات “الإسرائيلية” في سوريا[20]، فيما رفعت بعض الجهات  العلم “الإسرائيلي” في محافظة السويداء في إحدى المرات[21]، ورفضت إزالة رموز النظام البائد، والتي كان من أبرزها ضريح عصام زهر الدين[22]، كما زار عدد من رجال الدين الدروز فلسطين المحتلة والتقوا مع مسؤولين “إسرائيليين”[23]؛ حيث راكمت هذه الأحداث الاحتقان والاستقطاب الشعبي، والذي انفجر مع تسريب المقطع الصوتي، كما يمكن أن يعود الوضع للانفجار في المستقبل القريب ما لم يحدث تغيير جذري في موقف التيار الذي يقوده حكمت الهجري بشكل رئيسي.

الإعلام الغربي.. ما بين “الحياد” والتحيز:

ركّز الإعلام الغربي في معظم الأخبار التي تناولت ملف الاشتباكات مع الدروز على توصيف الوضع بشكل واضح في المقام الأول وبيان أسبابه الآنية وتفاصيل الأحداث وتسلسلها، مع إغفال التراكمات السابقة التي حدثت خلال الأشهر الماضية، لكن لم تخلُ هذه الاخبار من بعض التلميحات أو المصطلحات أو المصادر التي تدل على موقف معيّن اتخذته هذه الصحف تجاه الأطراف المتنازعة.

فعلى سبيل المثال، نشر موقع قناة CNN الأمريكية خبراً مفصَّلاً شرح فيه أسباب الاشتباكات الأخيرة بين الفصائل الدرزية والقوات الحكومية بعد ارتفاع مستوى التوتر المجتمعي بسبب التسجيل الصوتي المسيء للرسول -صلى الله عليه وسلم-، ونقلت تصريحات جميع الأطراف من طرف الحكومة ومن طرف الدروز، بالإضافة لتصريحات مفتي الجمهورية الشيخ أسامة الرفاعي، وتصريحات شيخ عقل الدروز حكمت الهجري، بالإضافة لنقل خبر الهجمات “الإسرائيلية” وتبريرات قادة الاحتلال “الإسرائيلي” وردّ المسؤولين السوريين عليها، في تغطية يمكن وصفها بالحيادية والمهنية للأحداث[24].

وبشكل مشابه، نشرت وكالة رويترز الخبر بتفصيل كبير، مع ذكر تصريحات ومواقف جميع الأطراف، وبيان خلفية الأحداث والتعريف بالأطراف المشتبكة، لكنها أيضاً استخدمت مصطلحات مثل “الشرع المنتمي سابقاً للقاعدة”، و”الحكم الإسلامي الجديد في سوريا” التي ترمي بظلال تُعطي انطباعاً سلبياً للقارئ، كما اعتمدت على أرقام “المرصد السوري لحقوق الإنسان” الذي يُعرف بمواقفه المتحيّزة ضد الحكومة السورية ومبالغته في أرقام الضحايا دون دليل[25].

أما صحيفة الواشنطن بوست؛ فقد ذكرت تفاصيل الأحداث وتسلسلها بشكل يمكن اعتباره محايداً بنقل وجهة نظر الطرفين، فيما ركّزت على الجانب الإنساني للاشتباكات عبر إجراء مقابلات مع المصابين من الطرفين وسؤالهم عن آرائهم ودوافعهم تجاه ما حدث[26]، لكن عادت الواشنطن بوست في الأسبوع التالي وأجرت مقابلة مع رجل الدين الدرزي حكمت الهجري الذي صرّح للصحيفة قائلاً إن الدروز يتعرّضون للعنف وإنه لا يمانع أن تدعمه “إسرائيل”، كما أبرزت الصحيفة في هذا التقرير الانقسام المجتمعي بين الدروز حول قبول الدعم “الإسرائيلي” أو رفضه، إذ عرضت وجهات نظر مختلفة لعدد من المواطنين، كان بعضهم لا يمانع الدعم “الإسرائيلي” رغم إدراكهم أن “إسرائيل” لا تفعل هذا إلا لمصلحتها، فيما كان يرى البعض أن هذا الدعم يجعل الدروز في حالة عداء مع كافة شرائح الشعب السوري[27]، كما تشابهت تغطية أسوشيتد برس للأحداث، إذ نقلت عن جميع الأطراف، مع التركيز على حادثة الاعتداء “الإسرائيلي” أكثر من الاشتباكات نفسها[28].

وبالنظر إلى الجزيرة الإنجليزية، فقد نشرت الخبر بصيغة داعمة للحكومة السورية، مع إعطاء التصريحات الحكومية مساحة واسعة، ونشر الجمل التي تؤكد رفض سوريا للهجمات “الإسرائيلية” التي تنتهك سيادة البلاد، بالإضافة إلى نقل تصريحات وزارة الخارجية التركية التي أدانت الاعتداءات “الإسرائيلية” وأكدت ضرورة وحدة الأراضي السورية[29].

أما صحيفة الغارديان البريطانية؛ فقد كانت تغطيتها منحازة إلى الفصائل الدرزية، إذ أفردت في خبرها مساحة واسعة لنقل تصريحات طارق الشوفي قائد ما يُسمّى بـ”المجلس العسكري للسويداء”، أحد أكبر الفصائل المسلحة التي رفضت الاتفاق مع الحكومة وتتعاون مع “إسرائيل”، كما وصفت الحكومة السورية بأنها “جماعة إسلامية متمردة سابقاً”[30].

ومن بين المواقع التي كانت تغطيتها متحيّزة للفصائل الدرزية كانت BBC البريطانية، إذ كررت وصف “الحكومة ذات الجذور الجهادية” و”مجموعات متمردة مدعومة من تركيا نجحت بالإطاحة بالأسد”، كما حاولت التلميح إلى أن وضع الأقليات في عهد نظام الأسد البائد كان أفضل بالنسبة لهم[31]، وتبنّي الأرقام المبالغ فيها بشكل كبير بالنسبة لعدد الضحايا، والتي نشرها “المرصد السوري لحقوق الإنسان”[32].

كما انضمت “فرانس 24″ و”ميدل إيست آي” إلى جانب المواقع ذات التغطية المتحيزة، إذ نقلت “فرانس 24” الخبر عن طريق عرض شهادات لمقاتلين ومدنيين دروز داخل أشرفية صحنايا وجرمانا، مُظهِرة إياهم بمظهر “المدافعين عن أرضهم ضد المعتدين”[33]، فيما نقلت “ميدل إيست آي” الخبر بصيغة متعاطفة مع المدنيين الدروز ومظهرة لمخاوفهم، كما أظهرتهم بمظهر المقاومين لنظام الأسد لسنوات، وألمحت إلى أنهم يشعرون بالخذلان بعد الأحداث الأخيرة رغم وقوفهم بوجه نظام الأسد البائد[34].

في العموم، كان توجُّه الإعلام البريطاني والفرنسي مثل BBC والغارديان وفرانس 24 متحيزاً نسبياً ضد الحكومة، مع منح مساحة واسعة لعرض وجهات نظر المجموعات الدرزية المعادية للحكومة، وتكرار سردية شعور الأقليات بالتهديد في ظل حكم “حكومة ذات جذور جهادية”، فيما كانت مواقف المواقع والصحف الأمريكية معتدلة نسبياً وتستعرض الأحداث الأخيرة بشكل يُعتبر حيادياً بالنظر إلى الأولى، وهو ما يشير إلى أولويات الإعلام الغربي وتوجُّهاته في التركيز على جوانب مُعيّنة تتقاطع في بعض الأحيان مع الإسلاموفوبيا وإهماله لأي جوانب أخرى، وهو ما قد يكون مُشجّعاً لفئات من السوريين للتركيز على هذه المخاوف من أجل استدعاء تدخُّل خارجي قد ينتهي بالتقسيم.

الإعلام “الإسرائيلي”.. محاولة لتبرير العدوان:

كانت تغطية الإعلام “الإسرائيلي” بشكل عام متعاطفة مع الدروز ومعادية للحكومة السورية، وتبنّى بعضها خطاباً تحريضياً يحض حكومة الاحتلال “الإسرائيلي” على التدخل عسكرياً في سوريا للدفاع عن الدروز، ووصل الأمر ببعض الصحف إلى وصف ما يحدث للدروز في جرمانا وأشرفية صحنايا بأنه “7 أكتوبر جديد”[35]، في محاولة لاستعطاف الرأي العام العالمي وتبرير الاعتداءات “الإسرائيلية” على سوريا.

ومن الأمثلة على هذه التغطية التحريضية المتحيزة، كتبت صحيفة يديعوت أحرونوت قائلة إن الدروز في سوريا يتعرضون للتهميش والاضطهاد، كما يواجهون حالياً تهديدات وجودية بحسب وصف الصحيفة، وشكّكت أيضاً بتصريحات الحكومة السورية حول عدم علاقة الجماعات التي هاجمت المدنيين بالحكومة، ووصفتها بأنها “حكومة ذات جذور جهادية”[36]؛ فيما نقلت خبر احتجاج الدروز في فلسطين المحتلة، ووصفت العلاقة بين اليهود والدروز بأنها “علاقة تاريخية”، وقالت إن الضباط الدروز في الجيش “الإسرائيلي” باتوا يُهدّدون بالذهاب بمفردهم للقتال في سوريا إذا لم يتحرك الجيش لمساعدة الدروز هناك[37].

أما صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، فقد ادعت أن الدروز والأقليات الدينية في سوريا كانوا يشعرون بالحرية في عهد نظام الأسد البائد، بينما يخشون حالياً من التعرُّض للمجازر تحت حكم “الإسلاميين المتطرفين”[38]، كما أجرت مقابلات مع عدد من الدروز السوريين وحاولت إظهارهم بأنهم مُسالمين لم يرفعوا السلاح من قبل، وأنهم تعرضوا لهجوم غادر يستهدف وجودهم[39]، كما نقلت خبراً مفاده أن الضابط في الجيش “الإسرائيلي” غشان عليان، قد زار سوريا سراً مؤخراً والتقى قيادات درزية لمناقشة سبل دعمهم في الجوانب “الإنسانية” والأمنية[40].

أما صحيفة جيروزالم بوست؛ فقد وصفت هذه الأحداث بأنها -7 أكتوبر للدروز-، مدّعية وجود أكثر من 100 قتيل من الدروز، بالإضافة إلى تعرُّضهم للتعذيب والإهانة، ونقلت عن دروز سوريين قولهم: “نخشى من حدوث هولوكوست جديد ضدنا”، مطالبين “إسرائيل” باتخاذ خطوات ملموسة لحمايتهم[41]؛ فيما انتقد كاتب في نفس الصحيفة الحكومة “الإسرائيلية” على مماطلتها في دعم الدروز في سوريا “في الوقت الذي وقف فيه الدروز تاريخياً إلى جانبهم منذ تأسيس دولتهم” وفي ظل وقوعهم بين يدي حكومة “داعشية/طالبانية” على حد وصفه، واصفاً موقف الحكومة “الإسرائيلية” بأنه حكم إعدام على دروز وأقليات سوريا، وقال الكاتب إن “إسرائيل مطالبة أخلاقياً بالتدخُّل في سوريا وحماية المحافظات الجنوبية حتى العاصمة دمشق من أجل حماية الأبرياء والدفاع عن العدالة، لا من أجل التوسع والاحتلال”[42].

فيما ادعى موقع i24 أن العديد من الدروز السوريين نزحوا من جرمانا وأشرفية صحنايا باتجاه المناطق التي يحتلها الجيش “الإسرائيلي” في الجولان المحتل طلباً للحماية، وأشار إلى أن دروز سوريا يشعرون بخيبة أمل من ضعف الرد “الإسرائيلي” على الهجمات التي تعرضوا لها، مذكّرين بالتعاون التاريخي بين الدروز واليهود خلال العقود الماضية[43].

حاولت العديد من الصحف ووسائل الإعلام “الإسرائيلية” استغلال التصعيد الأخير في الجنوب لاختراع سردية تخدم مصالح الحكومة “الإسرائيلية” وتوجُّهاتها للتمدد ضمن الأراضي السورية والعمل على زعزعة الاستقرار، فبينما ركزت بعض التقارير على تصوير الحكومة السورية كجهة معادية للأقليات، تعّمدت أخرى تبرير الضربات الجوية التي نفذها جيش الاحتلال “الإسرائيلي” على الأراضي السورية، باعتبارها جزءاً من “الدفاع عن الدروز” أو “الرد على تهديدات ناشئة”، وقد رافق هذا التناول الإعلامي حملة دعائية تهدف إلى امتصاص الغضب المتصاعد بين أوساط الدروز داخل فلسطين المحتلة، والذين عبّروا علناً عن استيائهم مما اعتبروه تخلّياً من السلطات “الإسرائيلية” عن دعم الفصائل الدرزية التي كانت تواجه القوات الحكومية في جرمانا وأشرفية صحنايا، إذ حاول بعض الكتّاب “الإسرائيليين” توظيف الحدث لتجديد النقاش حول “التحالف التاريخي” مع الطائفة الدرزية، والدعوة لتعزيز هذا التحالف عبر دعم مباشر أو غير مباشر لأي توجُّهات انفصالية أو معارضة للحكومة السورية في الجنوب السوري.

الإعلام التركي.. تأكيد على أهمية وحدة سوريا:

لم يدخل الإعلام التركي بشكل كبير في هذه الأحداث، إذ اكتفت معظم المواقع؛ سواء المؤيدة للحكومة أو المعارضة لها بنقل الأخبار بصيغة رسمية نقلاً عن الوكالات الرسمية العالمية أو السورية، دون بيان موقف واضح أو تلميح لترجيح رؤية معيّنة تجاه هذه الأحداث.

نقلت وكالة الأناضول الرسمية خبر الاشتباكات بشكل مفصّل، مع الإشارة إلى أن اندلاع المعارك بدأ بكمين نفّذته المجموعات الدرزية على طريق مطار دمشق الدولي، وكيف تطورت هذه الاشتباكات وانتهت بعقد الاتفاقية المذكورة في الفقرات السابقة، كما ذكرت خبر مطالبة الدروز في فلسطين المحتلة الحكومة “الإسرائيلية” بالتدخل العسكري في سوريا[44].

أما بالنظر للإعلام غير الرسمي المقرب من الحكومة التركية، مثل صحف “يني شفق”، و”حريت”، فقد أكدت على أن الخطوات التي تتخذها الحكومة السورية باتجاه بسط الاستقرار والحفاظ على وحدة الأراضي السورية عبر الاتفاق مع الأكراد والدروز والعلويين تزعج “إسرائيل” التي تريد تفتيت سوريا[45]، ونقلت التصريحات الرسمية من الرئيس التركي أردوغان والخارجية التركية، التي أدانوا فيها الهجمات “الإسرائيلية”، وأشاروا إلى أنها ستتسبب في زعزعة استقرار المنطقة ككل وليس سوريا وحسب[46].

وبالنظر للإعلام التركي المعارض للحكومة، فقد نقلت وكالة الأنباء المعارضة “أنكا” أخبار الاشتباكات عن وكالة الأنباء السورية “سانا” ووكالات الأنباء العالمية، دون بيان أي موقف تجاه هذه الأحداث[47]؛ أما صحيفة “سوزجو” المعارضة، فقد نقلت الخبر عن “المرصد السوري لحقوق الإنسان” المعروف بأخباره المضللة وموقفه المتحيز ضد الحكومة السورية، قائلة إن عدد قتلى المدنيين الدروز قارب المئة، وإن الدروز يطلبون الحماية الدولية، ومن ثم استجابت “إسرائيل” لهذه النداءات عبر دعم الدروز ونقل جرحاهم للعلاج في مستشفياتها[48].

كان الإعلام التركي منشغلاً إلى حدّ كبير بالقضايا الداخلية خلال الأسابيع الماضية، وسط أجواء سياسية متوترة تشهدها البلاد بعد اعتقال رئيس بلدية إسطنبول الكبرى وعزله من منصبه بسبب اتهامات بالفساد، وانعكست هذه الانشغالات بوضوح على التغطية الإعلامية التركية للأحداث في الجنوب السوري، حيث بدت باهتة ومحدودة مقارنة بتغطيات سابقة لقضايا إقليمية مشابهة، فالمزاج العام في تركيا كان ميالاً للتركيز على الملفات الداخلية، وهو ما أضعف إلى حدّ ما المتابعة النشطة للقضايا الخارجية، بما فيها الملف السوري.

ورغم هذا التراجع في الاهتمام، لم تغب تماماً الإشارات السياسية في التغطية الإعلامية التركية، حيث سعت بعض الوسائل، لا سيما المحسوبة على الحكومة، إلى التأكيد على ثوابت الموقف التركي تجاه سوريا، وبرز في هذا السياق خطاب يرفض بشكل قاطع أي مشاريع تقسيم أو تفتيت للدولة السورية، ويُحذّر من محاولات فرض وقائع جديدة على الأرض من خلال صراعات طائفية أو تدخُّلات خارجية، ويعكس هذا الخطاب -وإن جاء في إطار تغطية إعلامية محدودة- حرص أنقرة على تأكيد ثوابتها في علاقتها مع سوريا، التي تنصّ على عدم السماح بأي مشاريع تقسيم أو غزو خارجي، والحفاظ على سيادة سوريا ووحدة أراضيها.

خاتمة:

من خلال تحليل التغطية الإعلامية لبعض المواقع والصحف الغربية و”الإسرائيلية” والتركية للاشتباكات الأخيرة في جنوب سوريا، تتضح وجود معركة في السرديات بين أطراف متعدّدة يسعى كل منها لتشكيل التصوُّر العام عن الوضع الجديد في سوريا بعد سقوط نظام الأسد البائد، وذلك بهدف الدفع لتحقيق مصالح هذه الأطراف الخارجية، ولذا فإن رصد اتجاهات الخطاب الإعلامي يمنحنا فرصة لفهم كيفية توظيف الأحداث في خدمة أجندات سياسية، كما يساعد في استشراف المسارات المحتملة للمواقف الإقليمية والدولية تجاه سوريا في المراحل المقبلة.

وفي ظل تصاعد هذه التحدّيات الإعلامية على الساحة الدولية، ومع الأخذ في الاعتبار أن صراع السرديات الإعلامية أمر طبيعي نظراً لأن كل جهة إعلامية مُشبعة بأيديولوجيات وتوجُّهات قد لا تميل للحيادية بل إلى رؤى السلطة والتمويل.. الخ؛ تبرز هنا الحاجة الملحّة لتعزيز الحضور الإعلامي السوري الموجَّه إلى الخارج، خصوصاً عبر وسائل الإعلام الناطقة باللغات الأجنبية، إذ من المهم أن يكثّف الإعلاميون السوريون المتقنون لهذه اللغات والذين يملكون علاقات مع وسائل الإعلام الأجنبية جهودهم في نقل السردية الوطنية السورية إلى الجمهور العالمي بهدف تصحيح المفاهيم المغلوطة، وكشف التحيزات التي تطغى على التغطيات الغربية أو “الإسرائيلية” أو حتى بعض المنصات الإقليمية الأخرى.

إلى جانب ذلك، فإن أحد أبرز التحديات في هذا السياق يتمثل في تأخر انطلاق وسائل إعلام رسمي سورية ناطقة باللغات الأجنبية تواجه السرديات المعادية وتفنّدها، إذ تتركز معظم الجهود حالياً على عاتق نشطاء وصحفيين أفراد يواجهون وسائل إعلامية ضخمة بإمكانياتهم البسيطة؛ لذلك، فإن المرحلة المقبلة تتطلب وضع استراتيجية إعلامية وطنية متكاملة، تستهدف الخارج بلغات متعددة، وتستند إلى رؤية واضحة لدور الإعلام كأداة من أدوات السيادة الوطنية والدبلوماسية العامة.


[3] سوريا.. الإدارة الذاتية ترفض الحكومة الجديدة وقراراتها، سكاي نيوز عربية، 30 / 3 / 2025، شوهد في: 13 / 5 / 2025
[5] “مطلوبة للعدالة الدولية”.. زعيم دروز سوريا يهاجم حكومة دمشق، العربية، 13/3/2025، شوهد في: 13/5/2025
[6] على سبيل المثال، أشارت ورقة سابقة لمركز الحوار السوري إلى التقلبات الواضحة في مواقف الهجري، مع ميله للتشدد تجاه الحكومة السورية دون تقديم مطالب واضحة للتطبيق، ينظر:
[7] على سبيل المثال: بعض الجهات التي ترفع علم “إسرائيل” في السويداء، أو التي تنسق معها، وقد ظهر ذلك جلياً بالأحداث الأخيرة، حيث أقدمت مروحية إسرائيلية على “إجلاء” بعض الجرحى من السويداء إلى الأراضي المحتلة بحجة الدواعي الإنسانية كما أنزل معدات عسكرية في داخل السويداء.
[8] تحوّلات المشهد في السويداء: قراءة في الديناميات الداخلية وإجراءات بناء الثقة، مرجع سابق
[9] نشرت العديد من الصفحات الإخبارية في مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع للاشتباكات في طريق مطار دمشق الدولي ليلة 26/4/2025.
[10] انتشرت مقاطع وصور سحل عناصر الأمن العام في جرمانا في وسائل التواصل الاجتماعي.
[24] “إسرائيل تنفذ ضربات نادرة قرب دمشق وسط توترات طائفية في سوريا”
[25] “إسرائيل تهاجم سوريا قائلة إنها ضربت مجموعة هاجمت الدروز”
[26] “إسرائيل تنفذ هجمات وتتدخل في اشتباكات طائفية قرب دمشق”
[27] “في الوقت الذي يتعرض له الدروز في سوريا للعنف إسرائيل تحاول إيجاد ثغرة”
[28] الجيش الإسرائيلي يهاجم منطقة قريبة من القصر الرئاسي في سوريا للتحذير بعد هجمات طائفية”
[29] “سوريا تقول إنها ترفض “التدخلات الأجنبية” عقب وقوع هجمات إسرائيلية”
[30] “استمرار الاشتباكات المميتة في أطراف دمشق في سوريا لليوم الثاني على التوالي”
[31] “اشتباكات مميتة في مناطق الدروز في سوريا تثير المخاوف من تفاقم الفوضى”
[32] “إسرائيل تقول إنها قصفت موقعاً قرب القصر الرئاسي في دمشق على خلفية العنف في مناطق الدروز”
[33] “دروز سوريا يتسلحون للدفاع عن مدينتهم ضد الإسلاميين”
[34] “دروز سوريا خائفون بعد هجمات مميتة في ضواحي دمشق”
[35] “”7 أكتوبر الدروز”: الجماعة تكثف طلباتها للحماية في سوريا”
[36] “”إنهم يذبحوننا”: دروز سوريا يطلبون المساعدة مع تصاعد العنف الطائفي”
[37] “”سنذهب بأنفسنا”: جنود دروز في الجيش الإسرائيلي يهددون بالتحرك وسط عنف طائفي في سوريا”
[38] “ما الذي يقف خلف الاشتباكات الأخيرة في سوريا بين الدروز والمسلحين الداعمين للحكومة؟”
[39] “بعض الدروز في سوريا يبدؤون بحمل السلاح مع وصول العنف الطائفي إلى مواطنهم”
[40] “ضابط كبير في الجيش ومسؤولون يزورون سوريا للقاء قادة الدروز-تقرير”
[41] “”7 أكتوبر الدروز”: الجماعة تكثف طلباتها للحماية في سوريا”، مرجع سابق
[42] “يجب على إسرائيل حماية جنوب سوريا حتى دمشق من أجل حماية الدروز-مقالة رأي”
[43] “مئات الدروز ينزحون من ضواحي دمشق إلى مناطق سيطرة الجيش الإسرائيلي”
[44] “استمرار الاشتباكات التي بدأت بنصب مجموعات درزية كميناً لقوات الأمن السورية”
[45] “استقرار سوريا يزعج إسرائيل”
[46] “إسرائيل تدعم التمرد الدرزي… التوترات مستمرة في سوريا”
“تحذير من الرئيس أدوغان إلى إسرائيل: لن نسمح لكم أبداً”
[47] “المجموعات الدرزية تبدأ بتسليم سلاحها الثقيل لوزارة الداخلية السورية”
[48] “اشتداد المعارك في سوريا: العشرات من القتلى”

بكالوريوس في قسم الفلك وعلوم الفضاء من جامعة أنقرة، مهتم بالشأن التركي وعلاقته بقضايا اللاجئين السوريين، ونشر وشارك في إعداد عدد من التقارير والمقالات حول هذا الموضوع ضمن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى