
قصف الدوحة… هل بدأت “إسرائيل” تنفيذ ما بشّر به المبعوث الأميركي باراك؟
مقال تحليلي صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري
مقدمة:
صرح المبعوث الأمريكي الخاص توم باراك مؤخراً تصريحاً يستحق الوقوف عنده للتأمل، حيث أشار إلى أن “إسرائيل” قد تغيرت بعد هجمات 7 أكتوبر، ولم تعد تعترف بالحدود التقليدية التي رسمتها سايكس بيكو، حيث لم يعد لتلك الحدود معنى وفق الرؤية “الإسرائيلية”، مؤكداً أن “إسرائيل” ستتخذ أي إجراءات تراها ضرورية لحماية أمنها ومنع تكرار الهجمات، بما في ذلك الذهاب إلى أي مكان وفي أي وقت، في دلالة واضحة على تجاوز الحدود لمختلف البلدان في المنطقة[1].
يُعد هذا التصريح ذا أهمية بالغة ويستحق التوقف عنده، لما يحمله من اعتراف صريح من ممثل أميركي رفيع المستوى بطبيعة السلوك الذي تمارسه “إسرائيل” في المنطقة، والذي يتجلى كعربدة إقليمية لا تعترف بالحدود أو السيادة. خطورة هذا التصريح تكمن في ما يعنيه من تهديد مباشر لأمن سوريا الجديدة تحديداً، ولأمن المنطقة عموماً، خاصة في ظل تصريحات نتنياهو المتكررة عمّا يُسمى بـ”إسرائيل الكبرى”، وانخراط “إسرائيل” النشط في دعم أطراف داخل سوريا بما يخدم هذه الرؤية التوسّعية.
سنحاول في هذا المقال التحليلي الوقوف على هذا التصريح وما ينطوي عليه من دلالات، واستشراف الآفاق والانعكاسات المحتملة لهذه السياسة “الإسرائيلية” الجديدة، كما سنسعى إلى فهم مدى انسجامها مع التوجهات الأميركية، واستقراء جدواها وإمكانية تحقُّقها في ضوء المعادلات الإقليمية والدولية الراهنة، خاصة بعد الهجوم “الإسرائيلي” الأخير على الدوحة، والذي يُعتبر تجلياً واضحاً للتصريحات المذكورة (الذهاب إلى أي مكان وفي أي وقت)، ودون خطوط حمراء[2].
من بوش ورايس إلى باراك ونتنياهو؛ استمرارية خطاب الشرق الأوسط الجديد:
في الحقيقة، الحديث عن تغييرات في الحدود في المنطقة ليس جديداً، بل هو تقديم جديد لخطاب قديم. نتذكر ذلك الكلام قبل وأثناء الحرب الأميركية على العراق، والتي جاءت مدفوعة بعوامل متعددة؛ أبرزها الدافع الديني المستند إلى “المسيحية الصهيونية Christian Zionism” التي كانت ذات نفوذ واسع خلال عهد الرئيس الجمهوري جورج دبليو بوش، ويُشير باحثون مثل جون ميرشايمر إلى أن هذه الحرب تأثرت بشكل كبير بالضغط الذي مارسه اللوبي المؤيد لـ”إسرائيل”، على حساب المصلحة الأميركية[3].
ولا يمكن نسيان تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك، كوندوليزا رايس، التي تكلّمت عن “الشرق الأوسط الجديد (New Middle East)”، مختارة التعبير “الإسرائيلي” الشائع الاستخدام لدى عدد من السياسيين والمفكرين “الإسرائيليين”، أبرزهم شمعون بيريز، الذي ألّف كتاباً يحمل العنوان نفسه: “الشرق الأوسط الجديد”، وصدر عام 1996[4].
والجدير بالذكر أن باراك مبعوث الرئيس الجمهوري ترامب، يأتي كممثل لإدارة يتزعمها الحزب الجمهوري، المعروف بعلاقته الوثيقة بالعقائد الدينية، وخاصة المسيحية الإنجيلية الداعمة لـ”إسرائيل”[5]، في انسجام واضح مع وجود حكومة دينية متطرفة في “إسرائيل” نفسها.
في السياق نفسه، تتقاطع قراءة هذا التصريح مع الخطاب التوسعي المتجدد الذي أعاد رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو إبرازه مؤخراً؛ في دلالة صريحة على تبنّي رؤية توسعية لـ”إسرائيل”[6]. وقد قوبلت هذه التصريحات بإدانات عربية وإسلامية واسعة؛ إذ أدانت السعودية «بأشدّ العبارات» ما سمّاه نتنياهو «رؤية إسرائيل الكبرى»[7]، كما صدر بيانٌ عربي–إسلامي مشترك اعتبرها تهديداً مباشراً للأمن القومي العربي وللسلم الإقليمي[8]. علاوة على ذلك، شهدنا في الآونة الأخيرة تكثيفاً ملحوظاً في الخطاب “الإسرائيلي” حول الوضع في سوريا، لا سيما بالتسويق لما يُسمّى بـ”ممر داوود” وضرورة إعادة هيكلة سوريا على أسس فيدرالية[9]، وإعطاء مكونات معينة الحكم الذاتي، لنشهد بعد ذلك مطالبة واضحة لأول مرة من أطراف سورية، ليس بالحكم الذاتي فقط، بل بالانفصال الكامل والاستقلال عن سوريا، مع توجيه شكر لنتنياهو، في تماهٍ واضح مع الأجندات “الإسرائيلية”[10].
الجدير بالذكر أن تصريحات باراك الأخيرة ليست الأولى من نوعها في هذا السياق؛ فقد سبق أن أدلى بتصريحات داعمة بشكل أو بآخر لهذه التصورات. على سبيل المثال، تحدّث عن احتمال عودة لبنان إلى بلاد الشام مجدداً، وذلك في سياق تلويحه بضرورة تحرُّك الحكومة اللبنانية لاحتواء سلاح “حزب الله”[11].
وفق ما تم إيضاحه من السياق السابق، يصبح كلام المبعوث الأميركي جزءاً من مشهدٍ أوسع تُعاد فيه صياغة العقائد الأمنية وخطط إعادة تشكيل المشرق، وتبرز فيه أخطار مباشرة على سوريا وبيئتها الإقليمية.
انكسار وهم السيطرة؛ فشل الضربات الاستباقية من واشنطن إلى تل أبيب:
ربما يشبه سلوك “إسرائيل” بعد 7 أكتوبر سلوكَ «النمر الجريح»: اندفاعٌ لاستثمار الصدمة في توسيع «الهامش الأمني»، وشرعنة الضربات الاستباقية، وفرض إيقاعٍ إقليميّ بالقوة. ويُذكّرنا هذا بتجربة الولايات المتحدة بعد 11 أيلول عام 2001، وهي مثال حاضر يُحذّر “إسرائيل” من كِلفة هذا النهج وحدوده[12]، فمبدأ «الضربة الاستباقية» قاد إلى حربي أفغانستان والعراق وما تلاهما من استنزافٍ بشري ومالي هائل، ما جعل باراك أوباما يصعد إلى الرئاسة على وعد بإنهاء تلك الحروب[13]، وهي إشارة سياسية صريحة إلى أن تلك المقاربة أرهقت الناخب والاقتصاد الأميركيين. فوق ذلك، لم تعد الولايات المتحدة اليوم عند ذروة الهيمنة المنفردة التي تلت سقوط الاتحاد السوفييتي، فيما تتزايد مؤشرات التنافس الدولي وتراجع القابلية لتحمّل مغامرات طويلة ومفتوحة، وهو ما يؤثر على قدرات “إسرائيل” على اعتبار أن الولايات المتحدة تعتبر الداعم الأبرز لها.
على الأرض، تُواجَه مقاربة “إسرائيل” بعقبات بنيوية مماثلة، فقد أظهرت جولة التصعيد المباشر مع إيران في الحرب الأخيرة ضعف قدرة “إسرائيل” على الحسم لجهة أهدافها المعلنة حينها، ولم تستطع منع وصول الصواريخ الإيرانية إليها وتحقيقها لآثار تدميرية رغم كثافة الضربات الجوية على المنصات الصاروخية[14]، ووجود الدروع الصاروخية، كما بقي هدف «القضاء على حماس» عصيًّا على الحسم رغم الوعود المتكررة واستمرار العمليات في غزة.
سياسيًا، تتآكل كفاءة النفوذ التقليدي للوبي المؤيد لـ”إسرائيل” في واشنطن، إلى حدّ أن دونالد ترامب نفسه تحدّث علناً عن أن “السيطرة الكاملة” على الكونغرس من قبل “إيباك” لم تعد قائمة[15]، مما يعني لدى البعض تراجعاً تدريجياً للدعم الأمريكي المطلق لـ”إسرائيل”.
علاوة على ذلك، لدى “إسرائيل” نفسها تجارب سابقة، فقد اضطرت للانسحاب من جنوب لبنان عام 2000، وفكّ الارتباط عن غزة عام 2005. في المحصلة قد تحاول”إسرائيل” اجتراح نسخةٍ محدثة من «عقيدة ما بعد 11 أيلول»، لكنّ شروط الإقليم والنظام الدولي اليوم تجعل احتمال تكرار مسارٍ توسعيّ ناجز أقلّ ترجيحاً وأكثر كلفةً ومخاطرة.
خاتمة:
لا تمثل تصريحات المبعوث الأميركي باراك حول السياسة “الإسرائيلية” الجديدة، ورؤيتها لشرق أوسط يتجاوز حدود سايكس–بيكو، قراءة تحليلية استشرافية للسلوك “الإسرائيلي” فحسب، بل تعكس أيضاً وجود ضوء أخضر أميركي يتيح لهذا السلوك أن يمضي قُدماً، ويتجلى ذلك بصورة واضحة في الغارات “الإسرائيلية” في العاصمة القطرية، والتي تحمل دلالات عملية على ترجمة هذا التوجُّه إلى خطوات ملموسة.
وينتج ذلك عن ردة فعل “إسرائيل” بعد هجمات 7 أكتوبر، والتي ترتبط بعوامل داخلية عديدة، منها وجود بنيامين نتنياهو داخل ائتلاف حكومي مأزوم، وسعيه شخصياً إلى الهروب إلى الأمام من أزماته السياسية والقضائية، كما تستند إلى محاولة استثمار اللحظة بوصفها فرصة لتوسيع هامش الحركة وإعادة تعريف قواعد الاشتباك وإحداث تغييرات في خرائط المنطقة، غير أنّ هذه المقاربة تصطدم بمحددات بنيوية على المستويين الدولي والإقليمي، فالنظام الدولي يتجه تدريجياً إلى تعدُّد الأقطاب مع تراجع القدرة الأميركية على توفير غطاء مفتوح لمغامرات توسعية، فيما تتزايد أدوار قوى إقليمية وازنة مثل تركيا[16]، ويتصاعد وعي الرأي العام العربي الشعبي والرسمي وحساسيته بعد تصريحات نتنياهو حول “إسرائيل الكبرى”، الأمر الذي يُقلّص إمكانية تمرير مشروع تغييري واسع النطاق.
وعلى المستوى العملي، تتكرر المؤشرات على محدودية القدرة “الإسرائيلية” في تحويل التفوق العسكري إلى نتائج سياسية مستقرة، سواء في تجربة الانسحاب من جنوب لبنان وغزة، أو في المواجهات الأخيرة مع إيران، وفي حرب غزة، كما أنّ تراجع نفوذ اللوبي المؤيد لـ”إسرائيل” في الداخل الأميركي، مع إقرار شخصيات بارزة مثل الرئيس دونالد ترامب بأن السيطرة الكاملة على الكونغرس لم تعد قائمة، وهو ما يعكس تقلصاً محتملاً قادماً للدعم الأمريكي غير المحدود، وبناءً عليه فإن محاولة “إسرائيل” اجتراح نسخة محدثة من عقيدة ما بعد 11 أيلول الأمريكية تواجه بيئة مغايرة، تجعل احتمالية تحقيق تغيير جذري ناجح محدودة.
تُشكّل هذه السياسة “الإسرائيلية” عاملاً إضافياً لإطالة الأزمات وتعميق التوترات بدلاً من أن تشكل أساساً لإعادة بناء استقرار إقليمي، وهو ما يشكل عامل تصادم مع مصالح العديد من القوى الإقليمية والدولية.
يؤكد ما سبق أن لسوريا الجديدة أوراق قوة متعددة في مواجهة “إسرائيل” على المدى الطويل، خاصة مع سعيها إلى تموضع يُعزّز استقرار وأمن المنطقة، وهو ما يتقاطع مع مصالح عدد من القوى الإقليمية والدولية، ويأتي هذا في اتجاه معاكس للتوجه “الإسرائيلي” الذي يسعى إلى تصدير نموذج يزعزع الاستقرار، ويكرس مظاهره عبر تهديد الأمن الإقليمي والدولي في ملفات مُعقّدة مثل دعم قوى انفصالية، ومنع سيطرة السلطة السورية على كافة أراضيها، ما يجعل المنطقة معرضة لمخاطر تجارة المخدرات، والهجرة غير النظامية، والسلاح المنفلت، إضافة إلى قضايا أخرى مشابهة.
باحث ومستشار، كتب و شارك في كتابة العديد من الأوراق المتعلقة بالملف السوري. كما عمل مستشاراً وباحثاً في الشأن السوري لدى عدة مراكز سياسات سورية ناشئة، ولدى منظمات دولية. مدرب في مجال أساسيات ريادة الأعمال وأساسيات التحليل السياسي،