قمة بغداد، ملامح لترتيبات جديدة في المنطقة في عهد بايدن
إضاءات تحليلية ضمن مسار الراصد تصدر عن وحدة تحليل السياسات
منذ بداية أفول عهد الرئيس الأمريكي ترامب وقدوم الإدارة الديمقراطية بقيادة الرئيس بايدن، بدا واضحاً أن المنطقة اتجهت نحو إعادة ترتيب الأوراق؛ عنوانها الأساسي التوافقات الهشة وحل الخلافات على عجل؛ فشهدنا انهاء الأزمة الخليجية واستعادة العلاقات القطرية مع السعودية ومصر والامارات والبحرين، وتحسناً في العلاقات المصرية التركية والتركية الإماراتية، ووساطة عراقية لتخفيف التوتر بين السعودية وإيران، ورافق ذلك تغير في الخطاب السعودي تجاه طهران، فيما بدا محاولة من العراق للعب دور وسيط ضمن هوامش ضئيلة تسمح بها الهيمنة الإيرانية الواضحة عليه، مما يجعل من دوره أقرب ليكون قناة خلفية للإيرانيين؛ الذين يحاولون استثمار عصر الانسحاب الأمريكي المقبل فيما يبدو على المنطقة باعتباره فرصة ذهبية لإعادة ترتيب موازين القوى لصالحهم، وتربعهم على عرش المنطقة وفرض أجنداتهم الخاصة، في ظل تراخ عربي مع إيران.
يذكر بأن تخفيف الأعباء الأمريكية كان قد بدأه أوباما عند وصوله إلى السلطة في العام 2009م، ويعمل على إتمامه بايدن بإعلانه الانسحاب الأمريكي الكامل من أفغانستان وتحديده موعد الانسحاب من العراق بعد زيارة رئيس الوزراء العراقي “مصطفى الكاظمي” لواشنطن في تموز الماضي،
من الواضح أنَّ تراجع الانخراط العسكري الأمريكي في المنطقة قد كان عاملاً ضاغطاً على الفرقاء الإقليمين المعنيين بدرجات متفاوتة لإيجاد آلية معينة للتعامل وتنظيم الخلافات فيما بينها، لكن يبدو أنّه من المبكر الحديث عن انفراج عميق الأثر في العلاقات البينية بين الأطراف المتنافسة نتيجة لعدد من العقبات الجوهرية والخلافات العميقة والمصالح المتضاربة بين بعض الدول المشاركة، لا سيما فيما يخص العلاقة مع إيران التي بات نفوذها المتداخل في العديد من البلدان العربية عبر ميليشيات ووكلاء تابعين لها مصدر قلق وتهديد لأمن الأطراف الفاعلة الأخرى، لا سيما الدول الخليجية، وهو ما يمكن تلمّسه من كلمة وزير الخارجية السعودية؛ الذي دعا إلى “ضرورة السيطرة على السلاح المنفلت في أيدي الميليشيات المسلحة” في إشارة إلى وكلاء إيران في المنطقة. في الوقت الذي تتجه فيه إيران بعد صعود المحافظين فيها إلى مزيد من الهيمنة عبر مشاريعها التوسعية وطموحاتها في الحصول على دور القيادة الإقليمية”، لاسيما بعد تحقيق جزء من طموحاتها التوسعية في سوريا والعراق ولبنان واليمن (خاصة مع التماهي الأمريكي نسبياً مع هذا الهدف)، وهو الأمر الذي حاولت إيران التأكيد عليه خلال مشاركتها في قمة بغداد، ولعل في حديث وزير الخارجية الإيراني باللغة العربية ما يدلل على ذلك، وهو وإن بدا نوعاً من محاولة التقارب مع المحيط العربي، لكنه من جانب آخر يجسد الهيمنة الإيرانية على “العراق الجديد” كما وصفه، الذي أسهمت إيران بتشكليه بالدرجة الأولى، ولا يبدو أن وقوفه لاحقاً بجانب رؤساء الدول إلا تأكيداً على حقيقة التموضع الإيراني الجديد المهيمن في المنطقة، بغض النظر عن كون تلك الحادثة مجرد خطأ بروتوكولي أم تعمداً هادفاً لتجسيد الواقع الإيراني[1].
في المقابل، لا يبدو أنَّ الولايات المتحدة رغم عزمها العودة إلى الاتفاق النووي وسلوك المسار الدبلوماسي مع إيران ستغض النظر بشكل تام عن التمدد الإقليمي الإيراني في المنطقة؛ الذي تصر إدارة بايدن الديمقراطية على تضمين الاتفاق النووي لملفات إقليمية أخرى[2]، ومن المرجح أنَّ الولايات المتحدة تسعى لإعداد المنطقة لمرحلة ما بعد انسحابها من خلال الاعتماد على حلفائها الإقليمين والدوليين الفاعلين، وعلى رأسهم السعودية ومصر وفرنسا في محاولة لموازنة الحضور الإيراني، وتأطير نفوذ طهران في المنطقة، وربما إشراكها لاحقاً في تسوية إقليمية، وهو ما يمكن قراءته من الموقف الإيجابي الأمريكي عموماً من قمة بغداد[3]، ومن الحضور العربي والفرنسي اللافت، حيث تدلُّ المشاركة الفرنسية عالية المستوى في قمة بغداد (حضور الرئيس الفرنسي ماكرون القمة)، وزيارات ماكرون السابقة لبغداد على مدى الاهتمام الفرنسي بالعراق لما يمثله من كونه ساحة تزاحم بها فرنسا القوى الاقليمية المتنفذة كإيران وتركيا، فضلاً عن سعيها للحصول على مشاريع اقتصادية في العراق.
في المحصلة، لا يمكن التعويل فيما يبدو على قمة بغداد في التأسيس لبناء قواعد شراكة وتعاون دائمين بين الأطراف المشاركة لأسباب داخلية؛ تتعلق بالمشهد الداخلي العراقي الذي يعاني من انقسامات وتدخلات خارجية وتجاذبات إقليمية حادة، لا تسمح له بلعب دور مركزي في الساحة الإقليمية، ولأسباب خارجية أيضاً؛ مرتبطة بجدّية الأطراف المشاركة في التنازل عن بعض مصالحها مقابل إيجاد مقاربة توفق بين المصالح السياسية المتضاربة، ولكن مجرد لقاء هذه القوى المتنافسة على طاولة واحدة يمكن اعتباره خطوة أولية قد تؤدي لخطوات أخرى متتابعة تساهم في بناء مستقبل المنطقة، ورسم قواعد اللعب فيها.
وعلى الرغم من الحضور الإيراني الأبرز في القمة، لم تتم دعوة نظام الأسد لها، لأسباب تتعلق برفض الرئيس الفرنسي لحضوره وعدم إحراج الزعماء الآخرين بحسب ما تم تسريبه، الأمر الذي يشير إلى رغبة إيران باسترضاء فرنسا الحاضرة الأبرز من خارج دول المنطقة، والتي كانت من أكثر الدول التي تضررت مصالحها إلى جانب شركائها الأوربيين من الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، والتي تعد من الدول الأكثر حماساً للعودة إلى الاتفاق النووي، وهو ما يعني أن استعادة شرعية نظام الأسد من خلال دعوته لمثل هذه القمة – على الرغم من شكليتها- ليست ذات أهمية أو أولوية عالية لدى الفاعلين في المنطقة، الأمر الذي شكل نكسة وضربة معنوية لنظام الأسد من أقرب حلفائه، مما حدا به للرد بشكل غير مباشر من خلال إعلامه الذي قلل من أهمية القمة.
في ذات السياق، برزت حالة التمزق الداخلي في “العراق الجديد” الذي أرسته إيران من خلال المليشيات التي تزاحم الحكومة في تأثيرها[4]، عندما تضاربت الأنباء حول رغبة الحشد الشعبي بدعوة نظام الأسد للقمة وتوجيهه الدعوة له في الوقت الذي نفت الحكومة العراقية تلك الدعوة، وهو التمظهر الأبرز لتأثير المليشيات الإيرانية في صنع دولة داخل دولة سواء كان ذلك في لبنان أو اليمن أو العراق.
لمشاركة المقال: https://sydialogue.org/8cyf
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة