
قوى السلطة وقوى المجتمع؛ جدلية التعاضُد والتعارُض
تقرير صادر عن وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري
مقدمة:
مع سيطرة البعث على السلطة في سوريا عام 1963م كرّس معادلة جديدة في الحياة السياسية والاجتماعية السورية، تقوم على تضخيم سلطة الدولة في مختلف النواحي، وعلى سحق قوى المجتمع السياسية والاجتماعية؛ ليزداد الطين بلة مع انقلاب الأسد الأب عام 1970 وتوريث الابن عام 2000، فيصبح المشهد أكثر كارثية؛ فلم تكتفِ السلطة بتغوُّلها على قوى المجتمع، وإنما جيّرتْ ما تبقى منها لمصلحتها وربطتْها بها.
بانتصار الثورة السورية عسكرياً أُزيحت قوى السلطة القديمة عن المشهد السياسي بقوى سلطة جديدة، ورثت حطام دولةٍ وقوى مجتمع غائبة ومجتمع مُتغوّل عليه حتى الرُّهاب والعجز المطلق.
وفي هذه الأجواء يتم إحياء كل شيء من جديد؛ قوى السلطة، وقوى المجتمع، وهيكلية الدولة وروحها المُتعبة؛ وهي لحظة فارقة لتأسيس جدلية العلاقة بين قوى السلطة وقوى المجتمع:
- فهل ثمّة فرصة ملائمة لإحياء قوى المجتمع؟
- وما طبيعة العلاقة التي ستتشكل بين القوتَين: تعاضُد أم تعارُض؟
- وهل أنهت الثورة السورية احتمالات سيناريو عودة تغوُّل السلطة وتقزُّم المجتمع؟
الدولة؛ قوى السلطة وقوى المجتمع:
الدولة عقد اجتماعي/ سياسي بين المجتمع وجماعة تُمارس سلطتها على شعبٍ في مجتمع، قد يكون منحها الشرعية لتحقيق مصلحته، أو أنها تجمّعٌ سياسي بهدف تأسيس كيانٍ ذي اختصاصٍ سياديٍّ ضمن نطاقٍ إقليميٍّ محدّد، يقوم بممارسة السلطة عبر منظومةٍ من مؤسساتٍ دائمة.
تتشكّل الدولة من عددٍ من العناصر الأساسيّة، وهي: السلطة، والإقليم، والشعب، إضافةً إلى السيادة أو الشرعية (الداخلية – الخارجية) التي تُكسبها شخصيّة قانونيّة دوليّة. ويبدو جليّاً أن السلطة جزءٌ من الدولة، والتطابق بينهما (اتحاد الأمير بالدولة) حالة اعتلال إداري ووظيفي وسياسي؛ فإذا سقطت الأولى سقطت الثانية، واستقلالهما عن بعضهما مؤشر إيجابي في سياق بناء الدولة وأدائها وظائفها.
سنذهب إلى تصنيف قوى الدولة على غير المألوف وغير ما ذهب إليه المفكر السياسي الفرنسي مونتسكيو (1689-1755)، في اجتراحه مصطلح ومبدأ “فصل سلطات الدولة” في كتابه “روح القوانين”، وهو أحد مبادئ الديمقراطية ونموذج للحكم الديمقراطي للدول، فنرى أن القوى التي تتألف منها الدولة يمكن أن نحددها على النحو الآتي:
- قوى السلطة: السلطة هي قوة التأثير المباشر أو الرمزي في الآخرين، استناداً إلى شرعية العُرف أو القانون، أو القهر والاستعباد المفروض؛ سواءٌ أكانت سلطة الشخص، أم سلطة الجماعة، أو السلطة في الدولة.
وتتفرّع السلطة في الدولة إلى: القوى الأمنية، والقوى العسكرية، والقوى البيروقراطية للمؤسسات الإدارية والخدمية الحكومية، من رئيس الحكومة والمستشارين، مروراً بالمحافظين ورؤساء الدوائر …إلخ، بالإضافة إلى الهيئات والمديريات العامة والبرلمان والمجالس البلدية، أي: هي القوى التي تعمل في مجالات لا يمكن لأية قوى أخرى غير السلطة أن تعمل فيها.
- قوى المجتمع: هي تنظيمات ومؤسسات اجتماعية أهلية أو مدنية (بحسب مستوى تطور الدولة والسلطة)، بالإضافة إلى قادةٍ محليين مؤثرين، شكّلت في تنظيمها ومأسستها ورُؤاها وخططها قوى لازمة لمساندة السلطة في تحقيق مراد الدولة، وتعمل على خدمة أعضائها وأفراد المجتمع، حيث ولدت تلك التنظيمات الاجتماعية من أحشاء المجتمع وإرادته.
تتجلى قوى المجتمع في آليات بناء النقابات والاتحادات ومؤسسات الإعلام، والأحزاب والجمعيات المختلفة والتنظيمات الاجتماعية القبلية ما قبل مدنية، وطرق تداول إدارتها، ومدى العمل على تحقيق الوظائف المناطة بها في خدمة أعضائها وفئات المجتمع التي لا تصل إليها وظائف السلطة العامة.
- قوة القضاء: هي إحدى السلطات المكوّنة للدولة التقليدية عند الحديث عن سلطات الدولة والفصل فيما بينها، والسلطة القضائية مختصة بالفصل في المنازعات المعروضة، وشرعيتها تأتي من الكفاءة المهنية المرموقة للقضاة وأخلاقهم العالية وسمعتهم الحسنة، ومن تجسيد العدالة في فضّ النزعات.
إن استقلال السلطة القضائية يضمن إنشاء دولة القانون؛ فالقضاة يجب أن يكونوا مستقلين عن أية قوة وسلطة خارج سلطة الشرع أو القانون والضمير الحي، والقاضي يحكم بين الناس ويفضّ منازعاتهم ويزوّج ويفرّق ويحاكم السلطان، ويدير البلاد نيابةً عنه في حال غيابه. وعندما يضعف القضاء تهلك الدولة؛ حيث يُقام الحدّ على الضعيف، ويُعفى من ذلك الشريف. وسلطة القضاء وقوته سلطة رمزية قبل أن تكون سلطة تنفيذية.
- قوى العلماء والمدارس الفكرية والدينية وقوة الإعلام: لا قوة في وجه الحاكم إلا قوة العالِم؛ فالعلماء سلاطين المعرفة، والدولة القوية هي التي يقف فيها سلطان الحكم خلف سلطان العلم، أو يقفان معاً. والأمثلة كثيرة على قوة العلماء في مواجهة السلاطين، أو في دعم العادلين منهم من أجل دولةٍ قويةٍ. كحال أحمد بن حنبل والمأمون في فتنة خلق القرآن، وحال عمر بن عبد العزيز مع سالم بن عبد الله، نماذج لعلماء حفظوا للعلم سُلطانه ونصحوا السلطان بعلمهم دون مواربة. ولم تكن قوة العالم في شخصه، وإنما تعدّته إلى أن شكّل مذهباً فقهياً أو تياراً فكرياً أو مدرسة في الاتجاه، لها روّادها وآليات استمرارها وقوة تأثيرها في السلطة والمجتمع.
وتتلاشى قيمة العلماء في نفوس الحكّام والعوام كلما تخلَّوا عن مسؤولياتهم، وباتوا مطية في يد الحاكم، أو كانوا منعزلين عن الشأن العام منشغلين بذواتهم.
والأصل في العلم الحرية، وفي العالِم التقوى والمسؤولية، وفي التعليم أن يكون حراً وفق ضوابط الدولة، لا اشتراطات السلطة لإنتاج مداجن/ مدارس تربوية وتعليمية، أو مدارس فكرية مُؤطّرة، لتأمين وإنتاج كهنة السلطان وعبيده المقيّدين بنظرية العلم من أجل الوظيفة.
وفي هذا السياق بات الإعلام المشتق من العلم سلطة ذات تأثير كبير في سلوك الآخرين وأنماط حياتهم ورسم خرائطهم الذهنية، حتى غدا المؤسسة الأهم في التربية والتعليم، وفي تغيير القيم والمفاهيم، وتكوين الاتجاهات، وتغير الأنظمة الحاكمة؛ ففي عام 2012 اندمجت أكبر الشركات الإعلامية الأمريكية والعالمية، لتشكّل 6 امبراطوريات إعلامية تسيطر على 90% أو أكثر من صناعة الإعلام في العالم[1]، وتحكم عقول البشر وتشكّل رأيهم العام وتصنع دولاً وسياسات وثقافات، وتوحِّد أنماط عيشهم.
- القوى الاقتصادية والوقف: هي قدرة الشركات والمؤسسات والمنشآت الاقتصادية المختلفة (الصناعية والتجارية والإنشائية والزراعية والسياحية والخدمية) غير الحكومية _إذ الحكومة مستثمر فاشل_ على تحقيق معدلات نمو اقتصادي على المستوى الذاتي للمنشأة، وتحقيق التنمية الاقتصادية على المستوى الوطني. تضمن تشغيل أعداد كبيرة من القوى العاملة، والتأثير في أنماط استهلاك الجماهير وسلوكياتهم في الإنفاق وتكوين الاتجاهات المادية العامة، في أجواء من الحرية الاقتصادية غير المُقيّدة إلا بموانع الاعتداء على ممتلكات الآخرين وحقوقهم، والاعتداء على البيئة.
ويُعد التأثير في تأمين مصادر عيش الناس والقوة الشرائية لهم وأنماط استهلاكهم، والتحكّم في أنماط الحياة وتكوين الاتجاهات من أبرز عناصر القوة الاقتصادية المومأ إليها.
أما الوقف ومقارباته فيُمكن عدّه إحدى القوى الاقتصادية؛ لأنه يؤدّي ما تؤدّيه المنشآت الاقتصادية غير الحكومية في المجتمع، ويعرف عن مدينة إسطنبول انتشار واسع للأوقاف الإسلامية التي تملك نسبة كبيرة من الأملاك العقارية فيها[2]. وقد بلغ الوقف مداه في المدن الإسلامية والمجتمع المسلم؛ فأرض معرض دمشق الدولي كانت وقفاً منذ زمن الدولة الأيوبية[3]، وقد أنشأ أهل الخير وقفاً للزبادي المكسورة بين يدي الأطفال، فيذهب الطفل بالزبدية المكسورة إلى مركز الوقف في سوق حلب القديم ويأتي بزبدية جديدة، كي لا ينكسر خاطره، ويؤدي مهمته التي كلّفه الأهل بها.[4]
يبدو المشهد أوضح لخريطة قوى الدولة بعد تفنيد قواها الأساسية العامة، وأن إضعاف إحدى القوى أو أكثر أو اعتلالها يُضعف قوة الدولة على المستوى الداخلي والخارجي، كما أن تضخُّم إحدى القوى وتورُّمها يكون على حساب قوى أخرى مرتبطة بها، وعلى حساب قوة الدولة أيضاً.
وإعادة تصنيف تلك القوى يقودنا إلى تصنيفها تحت قوتَين أساسيتَين: قوى ذات طابع حكومي رسمي (قوى السلطة)، وقوى ذات طابع اجتماعي غير رسمي (قوى المجتمع الكثيرة)، وهذا التصنيف الجديد يُبرز القوة الهائلة للمجتمع مقابل القوة الفاعلة للسلطة، وأن الدولة القوية والمتوازنة تتحرك بتفاعلٍ وتوازنٍ بين هاتَين القوتَين معاً وبتكاملهما.
تحليل عناصر السيناريوهات؛ الوقائع والقوى:
بانتصار الثورة السورية عسكرياً في 8/12/2024 أُزيحت قوى السلطة القديمة المفعمة بالفساد والاستبداد والآلهة الحاكمة المتعددة عن المشهد السياسي وصنع القرار، لتحلّ محلّها قوى سلطة جديدة بُرعُمية، ورثت حطام دولةٍ وقوى مجتمع ناشئة في مناطق سيطرتها، ومتقزّمة متغوّل عليها حتى الرُّهاب والعجز المطلق في المناطق المنزوعة من سلطة الأسد.
إن بناء السلطة وتوفير إجراءات ملائمة لتأسيس قواها وفق معايير الحوكمة السياسية والإدارة الرشيدة هو نقطة البداية ومحور الحركة، ولرسم لوحة سيناريوهات ممكنة لنمط السلطة البُرعُمية الناشئة في سورية الجديدة، ومن ثم تحديد علاقتها بقوى المجتمع لابدّ من الإحاطة بـ(الوقائع الراهنة -والقوى الفاعلة) المؤثّرة في تشكيل تلك السيناريوهات.
تحليل الواقع؛ واقع مأساوي:
في إطار تحليل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والسياسية والمؤثرات الخارجية يمكن توضيح الواقع الاقتصادي من خلال الأرقام التي تشير إليها هيئات الأمم المتحدة، فعلى سبيل المثال: تبيّن تقديرات الأمم المتحدة أن كلفة إعادة الإعمار في سوريا 400 مليار دولار[5]، كما أن أكثر من 70% من البنى التحتية للبلاد قد دُمرت، فضلاً عن تدمير ما يُقارب 3 مليون مبنى سكني ومحل تجاري و مؤسسة أو منشأة إنتاجية أو خدمية أو سياحية[6].
ووفقاً لتقارير المنظمات الدولية فإن أكثر من 2.4 مليون طفل داخل سوريا هم خارج المدرسة بسبب تداعيات الحرب المدمرة على المدارس والنزوح والفقر وعمالة الأطفال[7]، وقد تعرضت أكثر من 7000 مدرسة لأضرار مباشرة أو جزئية أو خرجت عن الخدمة تماماً بسبب القصف أو الاستخدام لأغراض غير تعليمية[8]، كما أن ما بين 40 و50% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و15 عاماً لا يذهبون إلى المدرسة[9].
كذلك فإن ثلاثة من كل أربعة أشخاص يعتمدون على المساعدات الإنسانية، ويحتاجون إلى دعم في المجالات الأساسية للصحة والتعليم[10]، مع ضعف الدخل والبطالة وانعدام الأمن الغذائي والمياه والصرف الصحي والطاقة والإسكان، كما تضاعف معدل الفقر ثلاث مرات تقريباً من 33% قبل “الصراع” إلى 90% اليوم، وتضاعف الفقر المدقع ستة أضعاف من 11% إلى 66%. كذلك تم تدمير ما يقرب من ثلث وحدات الإسكان أو تضررت بشدة خلال سنوات “الصراع”؛ مما ترك 5.7 مليون شخص في سوريا في حاجة إلى دعم المأوى. كما تضررت أكثر من نصف محطات معالجة المياه وأنظمة الصرف الصحي أو أصبحت غير صالحة للعمل، مما ترك ما يقرب من 14 مليون شخص – أي نصف السكان – دون مياه نظيفة وصرف صحي ونظافة. كذلك انخفض إنتاج الطاقة بنسبة 80%، مع تضرر أكثر من 70% من محطات الطاقة وخطوط النقل، مما أدى إلى تقليص قدرة الشبكة الوطنية بأكثر من ثلاثة أرباع.[11]
أما من الناحية الاجتماعية فقد أدت الحرب التي شنّها نظام الأسد البائد إلى قتل نحو نصف مليون سوري على أقل تقدير، إضافة إلى عشرات آلاف من الجرحى والمعتقلين والمفقودين، رأينا رفاتهم في المقابر الجماعية وفي معتقلات صيدنايا وأخواتها.
وبحلول عام 2015 تم تسجيل أكثر من 8 مليون لاجئ سوري في دول الجوار والعالم، كالأردن ولبنان وتركيا والعراق وألمانيا…إلخ، وذكرت تقارير حديثة عائدة لعام2023 أن أكثر من نصف سكان سوريا قد غادروها لاجئين أو مهاجرين.
وتتكامل صورة المأساة السورية عندما تتكشّف أرقام التهجير القسري والنزوح الجماعي الداخلي؛ فأرقام المنظمات الدولية والمحلية العاملة في مجال خدمة المهجّرين قسرياً من أوطانهم تذهب إلى أن عدد مخيمات النازحين داخلياً 1500 مخيم ومركز إيواء ومستوطنات عشوائية، وأن عدد النازحين ضمن المخيمات قد بلغ أكثر من 2 مليون نازح، أما خارجها فيقدرون بمليون؛ مما جعلهم يشكّلون نسبة تقارب 44% من مجموع سكان المنطقة التي نزحوا إليها[12].
وفي الإطار الاجتماعي بات المجتمع السوري جزراً معزولة، وخليطاً غير متجانس لجموع بشرية: إمّا أنها كانت مهدورة بسبب حجم عنف السلطة المركزية وما استجلبت من احتلالات وشذّاذ آفاق، تسبّبت في فقدان الأصول الإنتاجية والتهجير والهجرة وانتهاك الكرامة وألوان العذاب. وإمّا أنها كانت فئاتٍ مجبرة على العيش تحت ظل سلطات أمر واقع، فاضطرت للاحتماء بانتماءات تقليدية دينية أو قومية أو طائفية أو مناطقية، أو للانزياح إلى الظل والانشغال بتأمين لقمة العيش العزيزة.
تحليل القوى الفاعلة:
تعني القوى الفاعلة: القوى المؤثرة في تشكيل الأحداث؛ سواءٌ بالفعل أو بردّ الفعل، وسواءٌ كانت داخلية أو خارجية.
مع سقوط نظام الأسد شكّلت هيئة تحرير الشام _وهي فصيل عسكري مركّب قاد باقي الفصائل العسكرية القريبة منه والبعيدة نحو التحرير_ نوعاً من المشاركة في السلطة، كما أنها جاءت منتصرة عسكرياً على نظام الأسد وحلفائه بعد أن جرت محاولات دولية عديدة لتأهيله عربياً وإقليمياً ودولياً، وكاد أن يُعلن انتصاره؛ لذا أصبحت الهيئة النواة الصلبة للسلطة الجديدة.
تحقيق الكتلة الصلبة الانتصار ووصول هيئة تحرير الشام للسلطة بهذه الطريقة الدراماتيكية، سواءٌ جاء بإرادة دولية غير مُعلنة ولا معروفة، أم بجهود عسكرية وتنظيم حربي وتكتيك عالي المهنية، في ظل (وقائع سياسية واقتصادية واجتماعية وخدمية مُزرية – وقوى عسكرية عالمية وإقليمية كبرى مهزومة أو منسحبة أو حيادية)؛ يجعل بناء السلطة وبناء قوى المجتمع، وطبيعة العلاقة بينهما بحسب نمط الانتصار العسكري الذي تحقق؛ حيث إن طبيعة الانتصار تمثّل العامل الرئيس في تحديد شكل العلاقة بين قوى السلطة وقوى المجتمع:
على مستوى السلطة:
إذا كان الانتصار بجهود عسكرية ذاتية خالصة وتنظيم حربي دقيق، وتكتيك عالي المهنية لإدارة العلميات العسكرية ومَن لحق بها، بقيادة نواتها الصلبة (هيئة تحرير الشام)، وحيث إن التحرير لم يكتمل والسيادة ناقصة لناحية الاحتلال والاختلال الفصائلي؛ فإن بناء السلطة لذاتها وفق معايير الحوكمة الرشيدة (ترسيخ سيادة القانون والعمل المؤسساتي، واحترام الحريات، وتوفير تكافؤ الفرص، وتوفير بيئة ملائمة لانتخابات حرة وفضاءات سياسية نظيفة…إلخ) سيذهب لناحية الحوكمة العسكرية أولاً، من حيث التركيز على المؤسسات الرئيسة “الجيش والأمن والخارجية”، باستكمال بناء العقيدة القتالية، والاعتماد على الموارد الذاتية، لاستكمال معركة التحرير والحرية ووحدة الأرض وتحقيق السيادة، مع تأجيل مشاريع بناء الدولة والفضاءات السياسية والاجتماعية، وإعادة الإعمار وتحقيق مؤشرات التنمية إلى مرحلة قادمة؛ وهذا هو السيناريو الأرجح[13].
أما إذا كان انتصارها باحتمال “طبخة دولية” غير مُعلنة وغير معروفة للسوريين، توافق عليها الجميع وصمت عنها البعض؛ فإن السلطة المحلية الناشئة أمام الواقع السوري المرير، وإرث حطام الدولة والمجتمع الذي يحتاج إلى إعادة الإعمار وتأهيل البنى التحتية وتدوير عجلة الاقتصاد المنهار، وإلى إعادة بناء مؤسسات الدولة الغائبة بدعم دولي أيضاً، وأمام تأثير القوى الدولية الفاعلة في الملف السوري وحجمها الدولي وتاريخها السياسي، وهي التي أسهمت في مشروع التغيير السياسي؛ فإن السلطة الناشئة ستخضع لمطالب الداعمين الدوليين ومرادهم، ولذا سيتم بناء السلطة السورية الجديدة وفق التوازنات الدولية؛ حيث ستكون المؤسسات عرضة لتقاسم النفوذ، خصوصاً فيما يتعلق بالمؤسسات السيادية، وسيكون سلوك الأخيرة عاكساً للتوازنات الخارجية أكثر منه تلبية للمصالح الوطنية؛ فقد نشهد تصعيداً باتجاه فكرة “محاربة الإرهاب” والتطبيع مع “إسرائيل” أو على الأقل عدم استعدائها، وستضطر السلطة الفتية لتحمّل الضغوط الدولية. وقد تقود هذه الضغوط إلى التشتت بين قوى دولية متشاكسة، وضياع الهوية وإهمال الداخل وفقدان الحاضنة، وربما نسبة السيطرة على الأرض؛ والنتيجة النهائية لهذا السيناريو: قليل من الجدوى، وكثير من القيود، واعتداء على السيادة الوطنية.
على مستوى قوى المجتمع:
في سورية الثورة وما قبلها لم يكن هناك مجتمع سياسي (دولة) ولا مجتمع مدني، ولا قوى مجتمعية ذاتية الإرادة والقرار، باستثناءات بسيطة؛ فلم يتذوق المجتمع السوري طعم الدولة ولا طعم المجتمع المدني إلا قليلاً قبيل وصول عائلة الأسد إلى السلطة، ثم تلاشت، وكل ما كان يُطلق عليه دولة سورية قبل الثورة كان سلطة قوية مُبتلِعة للدولة والمجتمع.
وفي حالتَي الانتصار (ترتيب دولي غير معلن، أو جهد عسكري للنواة الصلبة لقيادة العمليات) تتقدّم قاعدة: “مَن يُحرِّر يُقرِّر”، وأمام واقعية القاعدة بنظر البعض فإن قوى المجتمع وتنظيماته الغائبة التي لم تُصنع بالشكل المباشر أو لم تُشارك في الانتصار لن يكون لها القرار في إعادة البناء والتنظيم وإدارة الدولة.
وفي كلا الحالتَين السابقتَين قد تتعالى السلطة عن مشاركتها في التقرير وتقدير قيمتها في بناء الدولة، وتحديد العلاقة معها تعاضُداً؛ لاسيما وأن قوى المجتمع ينظر إليها من قبل السلطة على أنها قوى مقزَّمة إلى حد العجز، وهي تنظيمات بعضها في مرحلة النشوء وبعضها الآخر مشوَّه عن الحالة المدنية. وهذا ما يفتح الاحتمال بقوة لسيناريو بروز السلطة، وغياب المجتمع وقواه المدنية.
ولكنّ الروح الثورية التي أبداها السوريون منذ انطلاق الاحتجاجات الشعبية في 2011 حتى الآن قد توفّر الوقود اللازم لاستمرار إحياء المجتمع وإعادة بناء تنظيماته المدنية، في ظل حالةٍ تطورية عالمية له مشفوعة بتطور وسائل الاتصال والإعلام، لاسيما عندما تتفاعل تلك الروح مع المشروعية الثورية للقيادة الجديدة التي على الأرجح ستُجيد قراءة خريطة الدولة ومكامن قوتها ومكانتها الإقليمية والعالمية، فتعمل على المسارات المتوازية لكسب القوّة والشرعية (الدولية والمحلية)؛ إذ إنها تنشط في مسار الدبلوماسية وإقامة العلاقات الدولية المتوازنة لكسب الشرعية الدولية وجلب الدعم المالي والسياسي والقانوني من جهة، وفي الوقت نفسه تعمل جاهدةً على مسار دعم بناء قوى المجتمع وتجلياته المدنية، فتنظر إلى رأس المال الاجتماعي بوصفه أعلى قيمة ووزناً من رأس المال المادي، وتغدو تقوية الجبهة الداخلية واكتساب الشرعية الشعبية بوابةً للولوج إلى عالم الشرعية الدولية، وأداةً لاختراق جدران النظام الدولي والقوى الدولية الموجودة على الأرض السورية؛ وهذا هو السيناريو الثاني في الترتيب.
خاتمة:
الوقائع والقوى التي تحكم الدولة السورية الجديدة _من حيث إعادة بناء قوى السلطة وقوى المجتمع والعلاقة بينهما_ تعزّز بناء سيناريو حضور السلطة وغياب المجتمع المدني، مع طبيعة تعاضدية للعلاقة بين السلطة ومجتمع ضعيف تستحوذ عليه سلطة تُهندسه لمواجهة التحديات الراهنة. وقد لا يولّد هذا السيناريو مخاطر كثيرة على المدى القريب، إلا أنه استراتيجياً سيكون مدمّراً للدولة السورية؛ لأن بقاء المجتمع ضعيفاً مع تضخُّم السلطة سيعيد الأمور إلى المربع الأول من جهة توليد مسبّبات عدم الاستقرار.
إلا أن تقوية بنيان المجتمع الضعيف، وإعادة بناء المجتمع المدني شرطٌ لازمٌ غير كافٍ لعون السلطة السورية وبناء الدولة القوية وتحقيق النهضة. وإذا لم تُسهم السلطة في ذلك فلا يُعفى قادة المجتمع السوري من كبار العلماء والمفكرين والأكاديميين، ورجال المال والأعمال، وقادات المجتمعات المحلية من الوجهاء وشيوخ العشائر…إلخ، من السعي الحثيث لبناء المجتمع المدني وتقوية دعائمه وتجلياته. وذلك من خلال ما يلي:
- تأكيد ضرورة أن ينصّ القانون الناظم للجمعيات والنقابات على عدم الحاجة للترخيص والارتهان لإرادة السلطة، والاكتفاء بالإعلام الخطي للجهات المعنية بالتأسيس لأي تنظيم مدني، شريطة عدم مخالفة النظام والآداب العامة.
- إنشاء اتحادات ونقابات مهنية وعلمية، بعيداً عن وِصاية السلطة، تُديرها مجالس نقابية تنفيذية منتخبة، يتحكم غالبية أعضاء الأمانة العامة في وصولهم أو إزاحتهم عن قيادتها.
- إقامة المبادرات المختلفة على المستوى المحلي (بلدة أو حي أو مدينة) وعلى المستوى الوطني لتجسير الروابط بين المكونات الاجتماعية والقومية والدينية والجغرافية، المُشكّلة للتركيبة الاجتماعية والتنظيمية للمجتمع السوري.
- أن يعمل الشباب على صناعة الرموز الاجتماعية من كبار المفكرين ورجال الأعمال والمال والسياسة، ليكونوا قادة الرأي والتأثير في عموم الناس.
- إحياء فريضة الزكاة والوقف والتصدُّق.
- تعزيز ثقافة احترام القوانين والأنظمة، والحفاظ على الممتلكات العامة، وحماية البيئة، ونسج شبكة الأمان الاجتماعي، عبر سلوك فردي وجماعي ترسّخه الندوات والمحاضرات وحملات التوعية والمبادرات والسلوك الإيماني.
- احترام آراء الآخرين وانتماءاتهم، وتفعيل دور التنظيمات التقليدية (الطائفية والعشائرية) في خدمة المجتمع وشرائحه المهمّشة.
وعند تحقيق البناء الاجتماعي المتين في سوريا الجديدة، وبناء قوى المجتمع على أساس الحوكمة ستتخذ طبيعة علاقته مع السلطة مسار التعارض حيث يفرض المجتمع المدني نفسه خارج إرادة السلطة أو في غفلةٍ منها، فتختلف الإرادتان في شرعية الوصول والأداء والبقاء، وفي الحيّز المُتاح لكلٍّ منهما في قيادة الدولة، وتقييد تمادي الآخر في صلاحياته وعسفه.
وإن كان التعاضُد حالةً نمطيةً لطبيعة علاقة السلطة بالمجتمع والمجتمع المدني من أجل دولةٍ قوية؛ إلا أن حالة التعارض بينهما تُمثّل أقل الإيمان لحالة صحية، تعكس حيوية الطرفين لامتناع طرفٍ من التغوّل على الطرف الآخر وتهميشه والاستئثار بسلطة عميقة ودولة هشّة.
دكتور في علم الاجتماع، عميد كلية الآداب في جامعة الشمال