ماذا بعد اختيار المفتي العام للجمهورية؟
بعيداً عن التجاذبات التي رافقت اختيار الشيخ أسامة الرفاعي مفتياً عاماً للجمهورية العربية السورية، بين من أيّد الخطوة عادها استعادة لمكانة هذا المنصب وخطوة في المحافظة على هوية سوريا، وبين من عارضها واصفاً إياها بردة فعل، وبأنها لن تضيف الكثير في ظل هامشية الصلاحيات التي يحظى بها هذا المنصب. بعيداً عن ذلك كله، قد يكون هذا النقاش مفيداً قبل الإعلان.
أمّا وأن الإعلان قد تم؛ فإن النقطة التي تحتاج إلى مناقشة هي الآليات والخطوات القادمة لإنجاحها، ليس هذا الحرص نابعاً من شخصية من تولى المنصب أو طبيعة هذا المنصب، وإنما رغبة في أهمية السعي الدؤوب لإنجاح بذرة أية مؤسسة سورية يمكن لقوى الثورة والمعارضة إنشاؤها، وبما يساهم في تجاوز الصورة الذهنية التي تشكلت لدى الغالبية عن فشل ذريع يتلو إعلاناً متفائلاً عن تشكيل هياكل وأجسام سياسية وعسكرية وإدارية…إلخ.
لا يخفى على أحد أنه لا يمكن توصيف أي جهاز أو منظمة بأنها مؤسسة إلا بتوفر عدة أركان من أبرزها: الهيكل التنظيمي والنظام القانوني والاستقلال المالي، وقبل كل ذلك هدف ورؤية محددة. إذا كانت بعض هذه الأركان لا تمثل إشكالية في سياق مؤسسات قوى الثورة والمعارضة السورية بشكل عام، فإن بعضها الآخر قد يكون كذلك في حالة مؤسسة الإفتاء خصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التشويه الذي أصابها في ظل حكم البعث وآل الأسد.
هيكلياً، أولى النقاط التي تحتاج لتكريس هي طريقة تشكيل واختيار المفتي العام، ولعل العودة إلى القواعد الأساسية التي تم إرساؤها قبل حكم البعث عبر المرسوم التشريعي رقم 185 لعام 1961 في هذا المجال هي الأولى، بحيث يغلب على تشكيل مجلس الإفتاء مفتو المحافظات أو أبرزهم الذين يُنتخبون من قبل طلبة العلم الشرعي ضمن كل محافظة، بالإضافة إلى القاضي الشرعي الأول. والذين بدورهم يختارون المفتي العام عن طريق الانتخاب من قبل هذا المجلس.
ثمة أسباب متعددة ترجح اتباع هذه القواعد الأساسية من أهمها: تكريس شرعية إدارة الفتوى والمفتي العام بالاستناد إلى قوانين الدولة السورية خصوصاً تلك التي صدرت قبل الاستبداد البعثي؛ والثاني: أنه يحافظ على استقلالها عن السلطة التنفيذية؛ والثالث: أن هذا التوجه في التشكيل يتناسب مع الاختصاصات المحددة لإدارة الإفتاء وموقعها من جهة التخصص.
يتمثل البعد الآخر الذي يجب تكريسه عند تحديد صلاحيات إدارة الإفتاء والمفتي العام، عدم اعتبار هذه المؤسسة جزءاً من السلطة التنفيذية ولا حتى التشريعية والقضائية، فهي أقرب ما تكون إلى هيئة مستقلة تختص بالإشراف على الفتوى والتدريس الديني.
تحديد صلاحيات إدارة الإفتاء وفق المقاربة السابقة يترتب عليه نتائج في غاية الأهمية، أبرزها: ضرورة أن يكون خطاب إدارة الإفتاء خطاباً جامعاً يتجاوز الشروخ السياسية والمناطقية ضمن المسلمين من جهة، ويرسي قواعد التعايش والتآلف مع بقية المكونات والطوائف من جهة ثانية، وكذلك تموضعها هيئة اعتبارية من دون أن تثقل نفسها بمهام تنفيذية خارج قضايا التدريس الديني، خصوصاً وأن هنالك أصوات ظهرت مؤخراً تريد إعطاءها صلاحيات خارج هذه الدائرة، وكأنها هيئة شاملة تنفيذية قضائية وتشريعية.
إلى جانب القضايا الهيكلية والمهام، يبقى الاستحقاق الأبرز هو الإنجاز؛ ولعل المهم حالياً هو البناء على الإنجازات البسيطة. فمثلاً بما أن المجال الأساسي لعمل إدارة الإفتاء هو: التدريس الديني، يفترض السعي لتنظيم هذا المجال في المناطق المحررة وفي بلاد اللجوء حيثما كان هذا متاحاً، كتعيين المدرسين الدينيين والخطباء والإشراف على الخطاب الإسلامي في المناطق المحررة. كذلك يمكن العمل مع المبادرات المحلية والاجتماعية التي تتقاطع مع رؤية إدارة الفتوى في المساعدة في رفع الظلم والوقوف مع المظلوم، فمثل هذه الأعمال تمثل حاجة في المناطق المحررة، وفي الوقت نفسه تزيد من شرعية هذه المؤسسة، وتعود بها إلى دورها التاريخي.
في الختام، لابد أن نتذكر أنه مع ولادة أية مؤسسة في سياقنا السوري، تمثل حالة التفاؤل الإيجابي المؤقتة التي تتشكل لدى مختلف الأوساط بما في ذلك لدى الحاضنة الشعبية فرصة يمكن البناء عليها أسياً في تقوية مركز هذه المؤسسة الفتية وتعزيز دورها وشرعيتها. غير أن هذه الحالة عادة لا تُعمّر طويلاً، وتصبح بعدها جهود تفعيل المؤسسة كمن يحاول جمع الماء المسكوب.
مدير وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري، يحمل شهادة الدكتوراه في القانون العام من جامعة حلب، وحائز على اعتمادية المعهد العالي للحقوق في الشرق الأوسط، وعمل سابقاً مدرساً في كلية الحقوق في جامعة حلب الحرة. يركز في أبحاثه الحالية على دراسة ديناميكيات العلاقة بين المجتمع السوري والنصوص القانونية والدستورية منها على وجه التحديد.